الفصل الأربعون

تصرفات المصريين في سوريا، بضع كلمات عن محمد علي
تنبَّأ السيد لامرتين عندما قال منذ سنوات خلت: «غزا الإسكندر آسيا بثلاثين ألف جندي إغريقي ومقدوني، ودكَّ إبراهيم باشا المملكة التركية بثلاثين أو أربعين ألف فتًى مصريٍّ يعرفون كيف يحشون البندقية ويمشون مشية عسكرية. إن مغامرًا أوروبيًّا يستطيع بسهولة، إذا ما اصطحب خمسة أو ستة آلاف جندي أوروبي، أن يتغلب على إبراهيم باشا … شرط الاعتماد على موارنة لبنان في أعمالهم الحربية.»١
وهذا بالواقع ما حدث. تغافل السلطان عما يلاقيه الشعب السوري من اضطهاد؛ فرمى بنفسه بين يدي محمد علي. كانوا يمتدحون محمد علي في سوريا، أما في أوروبا فقد أثنوا عليه منذ أمد بعيد … استبدَّت دولة نائب الملك بهذا الشعب الذي حاول مرارًا إلقاء نيره الثقيل، فكان يتهافت على كل محرر يرجو عنده الخير. فالموارنة هم الذين هيَّئُوا — وحدهم — أو عجلوا دك النفوذ المصري. وذلك أمر طبيعي لسببين؛ الأول: لأنهم كانوا يريدون أن يستغفروا السلطان إذ أذنبوا في نظره عندما فتحوا أبواب سوريا بوجه إبراهيم باشا،٢ والثاني لأنهم كانوا يريدون أن يثأروا لأنفسهم من المعاملات السيئة التي عاملهم بها حُماتهم بعد أن ضحَّوْا كل شيء في سبيلهم …

قلت إن المسيحيين هم الذين ثاروا وحدهم على الوضع الحاضر، ومع ذلك لا بد من القول إن الدروز أيضًا كانوا مضطهدين كالموارنة أنفسهم حين فُرض عليهم التجنيد ونُزع سلاحهم. وزيادة على ما تقدم نقول: إذا كانت ثورة الدروز في «اللجاه» قد أقلقت الجيش المصري مدة عشرة أشهر كاملة، واضطرت إبراهيم باشا إلى أن يستقدم مصطفى باشا من «كاندي» مصطحبًا ألفَي ألباني، وأن يستنجد الموارنة لينتهيَ من حملة خطرة تقوم بها حفنة من الرجال تحصنت وراء صخور، فهذه الثورة أقلقت أيضًا — إلى حدٍّ بعيد — القائد العام، وأثارت بغضه للدروز. كان يجب عليه إذنْ أن لا ينال الموارنة — الذين أخلصوا دائمًا له — ذلك البغض العام وتلك التدابير التي اتُّخذت تجاههم بعد أن اضطُهدوا كفاية.

ولما كنت لا أكتب إلا عن مدينة بيروت وقسم من لبنان، فيجب عليَّ أن لا أتناول في حديثي هنا إلا الحكومة المصرية في علاقاتها مع الفرنسيين والأتراك وسكان لبنان.

اضطُررت في غضون ثماني سنوات متواصلة أن أدفع وأطالب؛ فبوسعي التأكيد أنني أصبحت مطَّلعًا تمام الاطلاع على ما تكنُّه لنا السلطات المصرية من شعور.

أما مشاكل لبنان فقد كانت دائمًا موضوع اهتمامي، وما من شكٍّ أن بوسعي أن أحكم عليها حكمًا صحيحًا؛ لأنني قمت أثناء الاحتلال المصري، عام ١٨٣٥، برحلة بين بيروت والقدس بطريق البر، ثم طُفت عام ١٨٣٨ و١٨٤٠ في البلدان الواقعة بين اللاذقية وحلب والبلدان الواقعة بين اللاذقية وأنطاكية وحلب، وأثناء وجودي هناك وقعت معركة نيزيب الشهيرة التي ربحها المصريون واضطُر القائدان التركيان أن ينسحبا على إثرها.

وبما أن في هذا الحديث خروجًا عن الموضوع، فسأقف ها هنا هنيهة لأنقل ما كتبته في حلب بتاريخ ٣ حزيران عام ١٨٣٩، حول ما علمته عن حالة جيش السلطان وتهدُّم معنويات الجيش المصري.

قلت: «إن نتائج اصطدام هذين الجيشين تعود في رأيي إلى القضاء والقدر، وهي «قدرية» بحتة.» ولكي أعود إلى موضوعي وأثبت ما قلته عن الحكومة المصرية في معاملة المسلمين، وأوروبيي بيروت، والشعوب الأخرى القاطنة لبنان — تلك الناحية المنوط بي الاهتمام بها — فسأبدأ كلامي بذكر بعض معلومات عن الإدارة المصرية التي هي — في نظري — أساس كل المساوئ التي ظهرت. سأهتم بالتكلم عن المظالم التي ارتُكبت، وسأدوِّن على حدةٍ استغاثات الأوروبيين وسكان لبنان.

يعجبون في أوروبا بالدور الذي يلعبه محمد علي؛ ولهذا يعتقدون أنه وُهب مقدرة غريبة. بَيْدَ أن الواقع يدل على أن ما قام به في هذه البلدان كان طبيعيًّا. لقد قلَّد سابقيه واتبع أثرهم، إلا أنه نعم بسعادة هي أكبر مما نعموا به؛ ولذلك نظروا إليه نظرة إعجاب.

جاء محمد علي إلى مصر بعد أن قوض الفرنسيون سلطان المماليك؛ فكان من السهل عليه إذنْ أن يُنشئ فيها حكومة جديدة. إنه زعيم حزب كبير، ولم يكن يخشى يومذاك من منافس إلا علي باشا الذي سمَّوْه «البرغل»؛ لما اتصف به من البخل الشديد؛ لأنه لم يكن يُطعم جنوده إلا قمحًا مسلوقًا؛ وهكذا تذللت العقبات أمام محمد علي فتغلب عليه.

واستغل محمد علي ضعف المملكة العثمانية وبُعدها عن البلاد التي تسيطر عليها؛ فوطد فيها نفوذه. كان يحفظ عن ظهر قلب ما قيل في مصر: «إن أرضها من ذهب، ونيلها عجيب، وأثمارها لذيذة، ونساؤها دمى يتمتع بها القوي.»

شرع محمد علي يعمل على إنماء دخله؛ فهو يعلم حق العلم أنه الطريقة الوحيدة التي تحقق أمانيَه وتوصله إلى ما يبتغيه. أوَلم يكن يعرف جيدًا تاريخ الجزَّار الذي استطاع بماله أن يصلح أمره ويسهل جميع أعماله في القسطنطينية؟!

وعندما أدرك الغنى أراد أن يستغل ثروته؛ فكان من السهل عليه أن يعد جيشًا صغيرًا في بلاد واسعة كمصر.

وُهب محمد علي فكرًا وقَّادًا وميلًا شديدًا إلى التجديد؛ فطفق يدرب جنوده تدريبًا أوروبيًّا، متبعًا الأساليب الحديثة؛ فكان يستعرض — على التوالي — جيوشه، ويقوم بعمليات حربية، لا بل بحروب صغيرة يستحيل على الجيش العادي أن يقوم بها لما تتطلب من وحدة في العمل وانسجام في الحركة.

ثم رأى أن تكون له بوارج مسلحة؛ فجهز بالسلاح جميع مراكبه حتى أصغرها. وليس هذا بغريب؛ فكثيرًا ما أتيح للباشوات والوجهاء الذين كان لهم بعض الشأن أن يجمعوا رجالًا ويعدوا بواخر حربية، بقدر ما تسمح لهم أعمالهم وتمكنهم ثروتهم من ذلك.

وليس علينا إلا أن نعرف الشرق لنعتقد أن محمد علي كان الرجل الوحيد الذي اعتمد هذين الأسلوبين ليوطد نفوذه،٣ بل نقول إنه عمل في نطاق أوسع من النطاق الذي عمل فيه سابقوه وبطريق أكثر جدوى؛ فقد مكنه موقفه من الحصول على إمكانيات لم يحصل عليها الغزاة الذين هم من الطبقة الثانية.

نعلم أنه كان في حوزة جميع الباشوات جيوش يقومون بنفقاتها على حسابهم الخاص؛ فكانوا يشهرون الحروب فيما بينهم، أو يغزون البلدان التي يبغونها دون أن يتمكَّن السلطان من ردعهم أو قمعهم، حتى إذا ما غضب جلالته بسطوا لأعتابه أسبابًا مبرِّرة لغزواتهم، وإذا لم تقنعه براهينهم ولم تفِ حججهم بالمرام استعانوا بالمال الذي كان يُفهِم القسطنطينية كل غرض ويُنهي كل شيء.

كان تصرف الباشوات، لا بل المتسلمين بوارج حربية يستخدمونها أينما شاءوا ومتى شاءوا، أمرًا عاديًّا ينظر إليه الناس بلا عجب، حتى إنه كان في حوزة والي رودس سفن حربية ضخمة.

اشتُهر محمد علي في سوريا بعظمته، وعلى الأخص بكرمه — والكرم في الشرق صفة ملازمة للقوة والسلطان — وكان متسامحًا إلى حدٍّ بعيد، حتى كان يعيش من يتزلف له في نعمة مثالية.

استهل المصريون مآثرهم الطيبة في غزوهم سوريا بعملين يدلان بالحقيقة على مدنيتهما، إلا أنهما حملا الشعوب السورية على التقزز نظرًا لجهالتهم وتعصبهم؛ فالحانات فتحت أبوابها في المدن والجبال، فعسكرت «العوالم» في مدخل المدينة، وحَوْل الطرق العامة التي يطرقها أكثر الناس؛ فكان يقصد خيامهنَّ من يجتذبهم هذا التجديد. أما الآخرون فكانوا يقتربون من أنديتهنَّ فقط ليسمعوا أصوات الموسيقى، ويرَوْا حركاتهن المطربة المغرية وهن يعملن. فهؤلاء الغانيات كنَّ يرقصن بعض الأحيان ليجتذبن الهواة، وكأنهن يقلن لهم: «ادخلوا، لا تكتفوا بالتُّرَّهات التي تجدونها عند الباب.»

فإباء العائلات الذين خافوا مغبة هذا العمل الذي أتى به الغزاة المصريون من ضفاف النيل، سعَوْا حثيثًا لدى السلطات لإقفال هذه البيوت. إلا أن هؤلاء النساء أظهرن للملأ ما يحملن من رخص وإجازات؛ وعند ذلك تساءل الناس عما إذا كان يجوز للحكومة أن تجيز مثل هذه الأعمال المخزية، لا بل هذا الفجور!

سمحت لي الظروف أن أجيب ضابطًا مصريًّا زعم أنه يتشبه بنا — نحن الفرنسيين — في جميع ما يعمله، فقلت له: «أشكر لك هذا الإطراء، ولكن اعلم أنك إذا قلدتنا فإنما يكون ذلك على طريقة القرود التي تقوم دائمًا بأعمال مقلوبة رديئة.»

سبق لي أن تكلمت عن اتِّباع الفرنسيين عادات هذه البلاد وتقيُّدهم بها، وعن السخط الذي يظهرونه لنا ها هنا إذا خالفنا مصطلحهم وعاداتهم وتقاليدهم.

ما زلت عند رأيي في طريقة حكم محمد علي لسوريا؛ لقد عرفته عن كثب في جميع تصرفاته وفي جميع الأوقات التي بسط سلطانه خلالها على هذا القطر.

إن الشقة بعيدة بين ما رأيناه منه وبين ما كنا نأمل أن نراه؛ فالمصريون لم يهتموا إلا بأساليب تنمية دخلهم، ولم يلتفتوا قط إلا لما تقضي به عليهم مصالحهم الخاصة، غير ناظرين إلى ما ألحقوه من أضرار بالذين انتزعوا منهم جميع ما يملكونه ليتنعموا به.

ففي بلاد سُخر فيها كل شيء لمطامع الحكام، وضُرب عرض الحائط بمبادئ الإدارة، وحقوق الشعب؛ يكون لهذه الإجراءات في نفس من لم ينتظرها أبشعُ الأثر وأسوَؤُه.

فأكبر مساوئ هذه الحكومة هو أنها لا تتمشَّى على قانون مقرر، وأن تكون مفتقرة إلى بُعد النظر. ولكن مهما يكن من أمر، فهذه البلاد لم تكن محكومة بطريقة أفضل من هذه أثناء العهد العثماني، فالدسائس هي التي لاقت نجاحًا أكثر مما لاقته قديمًا.

كانت السلطة العليا تجعل أهمية المراقبة والمحاسبة؛ وهذا عمل ضروري لا بد من تطبيقه على موظفين لا يعنيهم إلا خدع رؤسائهم وسرق الرعية عندما تسنح الفرصة. وإذا وجدنا أشخاصًا يُخلصون لنائب الملك ولأولاده، وبصورةٍ خاصة لإبراهيم باشا، فهؤلاء هم الشراكسة والجيورجيون؛ لأنهم تربَّوْا جميعًا في سرايات مصر. وهؤلاء هم الذين بلغوا مراتب رفيعة في الجيش، وهم يؤلفون القوة المعنوية الحقيقية في الجيش المصري. أما فيما يتعلق بالطرق والأساليب الحربية، فجميعهم سواء؛ فهم لا يتدرَّبون إلا تدرُّبًا بسيطًا، ويكون ذلك على الغالب مراضاة ومجاراة؛ فالشجاعة — في عرفهم — يجب أن لا تُقيَّد في انطلاقها.

وهؤلاء الضباط يتزوجون جميعهم تقريبًا من سراري يرسلهن إليهم الباشا ومعهن بائنتهن. وهذه مكافأة كبيرة ولفتة كريمة. وهم يطلقون على هذا الصهر في تركيا لقب «الداماد».

كانت الحكومة ترتضي — في وضعها الموقت — بجميع العروض التي تجد فيها بعض المنفعة. وهذه السهولة في قضاء جميع الحاجات لم تُبحث بطريقة جدية؛ فأدت بعض الأحيان إلى اتخاذ إجراءات لا تتفق البتة مع مصالحها الحقيقية.

قيل إن السلطات المصرية لم تكن لتحمرَّ خجلًا من الوعد والتخلص منه وعدم الوفاء به، لا بل إنها كانت مثال الطيش والتقلب في الرأي؛ فما إن تُصدر قرارًا وتأمر بتنفيذه حتى ترجع عنه بعد بضعة أيام، ثم لا يلبث أن يُنسى.

إن المحكمة (المجلس البلدي) التي أنشأها المصريون لم تكن تعطي الحق صاحبه إلا بعد وساطات فعَّالة؛ فأعضاؤها — الذين لم يكونوا قط منصفين — لم يعبئوا بقوانين العدالة الحقة، واجترءوا على التلفظ بأحكام جائرة، دون أن يعوقهم عائق. كانت قاعدتهم الوحيدة هي الحكم في جميع الدعاوى التي فصل بها الديوان دونما نقض؛ لكيلا يقال فيما بعدُ إن السلطة أخطأت في حكمها. أما فيما يتعلق بالعامة فهاكم الطريقة التي تمشَّى عليها المصريون: كان يربح دعواه من استطاع أن يؤيِّد وقائعها بأقوال شهود. أما الحقيقة التي تفتقر إلى شهود فلا يُلتفت إليها. فكيفية وقوع القضية، والظروف الملابسة لها، والاستنتاجات الشخصية؛ هي أمور تافهة في نظرهم ولا يؤبه لها؛ فالشكل عندهم هو أساس كل شيء.

ويُزاد على ما تقدم أن الطريقة التي تتبعها الإدارة المصرية تنحصر في عدم إنهاء قضية، وعدم مراعاة أيٍّ كان، وتلافي إعطاء الأوامر الصريحة بجميع الطرق والأساليب، أو التنحي عنها إذا ما أُعطيت، وعدم إلحاق أي ضرر بمصالح الخزينة مهما كلف الأمر، ومسامحة موظفيها ومأموريها وحمايتهم.

إن الفوضى العظمى التي نتجت عن هذه الأساليب الإدارية قد سببت مظالم تذمر منها أبناء البلاد ثم الأوروبيون. كان يهم السلطات الاستمرار عليها لأنها كانت مورد ربح ملموس؛ فعند كل طلوع شمس كنا نجد تدبيرًا إداريًّا يخلق ويموت، والإجراءات — الأكثر ما تكون أهمية — لم تكن إلا بنت يومها. وكثيرًا ما اضطُر القناصل إلى أن يقفوا بوجه السلطة حينما كانت تضر أو تتعب. وكثيرًا ما كانوا يطالبون بعنف وشدة لكيما ينالوا حقوقهم.

فالضرر ناتج بوجهٍ خاص عن ثقة محمد علي برجال يميلون بطبيعتهم إلى الأذى، ومزيتهم الحميدة الوحيدة هي خيانتهم السلطان المعظم؛ فأكثر المتسلمين الذين عُيِّنوا في الأساكل حتى عام ١٨٣٧، لم يكونوا مصريين، أو لم يرَوْا مصر قط.

وإذا كان نائب الملك يمتاز بأسلوب خاص في حكمه أو أنه كان حليمًا — بوجهٍ عام — تجاه رعيته، ومتسامحًا متساهلًا لا يكره من لم يكونوا على دينه، فهذا الأمر يجهله الحكام الذين نصَّبهم كل الجهل. فولاة سوريا لم يكونوا صنيعة محمد علي ولم يتأثروا به في تفكيرهم أو أساليبهم.

توالى في أثناء الاحتلال المصري أربعة حكام على مدينة بيروت لم نأسف على أحدٍ منهم إلا على الحاكم المصري.٤ كانوا يحاولون — وهذا ملا يلامون عليه — إذكاء نار التعصب؛ هذا التعصب الراسخ في قلوب الأخصاء، والذي انتقل بسهولة إلى الجنود؛ لأنهم لم يلمسوا روح التسامح والتساهل في رؤسائهم.

تساءل السيد ميشو، عندما اطلع على عدة مؤلفات مطبوعة في القاهرة، وبينها الموجز في أسلوب الرسائل، وفيه حث على مناضلة الكافرين: «لماذا تصدر مطابع الباشا الآن (١٨٣١) هذه المؤلفات التي تحث على الحرب المقدسة؟»

وبعدُ، فإنه يحق للسيد ميشو أن يعجب، ولكن لا أدري لماذا عزا إلى محمد علي نية تحريض جنوده على الوهابيين؟

إن الضباط الشراكسة يلتهبون تعصبًا، وهم أشبه منهم بغيرهم. أما الباقون فإنهم يعيشون على هواهم لأنهم من شاربي الكحول الكبار؛ ولهذا نستطيع القول، مع الكونت ليفربول: «إذا لم تعلم الحضارة التي أتينا بها إلى مصر غير شرب خمرتنا وعرقنا، فإنه نجاح باهر لصناعة المشروبات الفرنسية.»

إن الاحتكارات والضمانات شملت جميع الحاصلات والأعمال الصناعية، حتى إن رجلًا خفيف الروح صرخ ذات يوم، على إثر مشادة حصلت بينه وبين عدة جباة: «سوف لن نستطيع عما قليل أن نتكلم دون أن نجد واحدًا يطلب منا دفع ضريبة على الكلمات التي تلفظنا بها.»

كانت قفة الأرز تباع بتسعين قرشًا في بدء الاحتلال المصري، ثم ما لبث أن ارتفع ثمنها إلى مائة وثمانين قرشًا. احتكرته الحكومة في الأساكل لتبيعه من المستهلكين والذين يشترونه جملة في مصر بثمن فاحش.

كانت تزعم، حين تحتكر الحبوب، أو تفرض ضرائب ضخمة على ما لا يوافقها احتكاره، أنها تضع بذلك حدًّا للتعديات والبلصات.

قدمتُ في بدء هذا الكتاب بيانًا بالأرباح التي جنتها السلطة من تأجيرها الضرائب على اختلاف أنواعها؛ فالتنافس في المزايدة بين الملتزمين قد أدَّى إلى خراب بيوتهم، فاختلاسهم أموال الشعب بقحة متناهية. والأوروبيون أنفسهم لم يستطيعوا التفلت من قبضة هؤلاء إلا بعد مشادات عنيفة حصلت بينهم وبين القناصل.

وختامًا لهذه المعلومات التي تقدَّمتُ بها بصورة موجزة أقول أخيرًا: لم تكن القوة المسلحة تتدخل في المنازعات العامة بقصد أن تَحُول دون وقوع الأضرار أو تهدئ من روع المتخاصمين، بل لتشترك هي شخصيًّا بالمعركة مستخدمة سلاحها، ولا سيما إذا كان الخلاف بين المسلمين والمسيحيين والفرنسيين؛ فهؤلاء هم الذين كانوا يتلقَّوْن الضربات. لم تكن القوة المسلحة تحجم عن أن تفرض العقوبات اللازمة وتنفذها بنفسها.

هوامش

(١) رحلة، ج٣، ص٢٣.
(٢) توجَّه الأمير بشير بنفسه إلى عكا، فاستقبله إبراهيم باشا استقبال رجل محالف وأبقاه قربه رهينة؛ فبقاء الأمير بشير عند إبراهيم باشا يعني وضع سوريا بين يدي مصر.
(٣) زعموا أيضًا أن نائب الملك اخترع لباسًا خاصًّا لجنوده. إنه لم يقلد إلا بذلة البحَّارة العثمانيين التي كانت في الوقت نفسه بذلة جنود الجزائر.
وقد نقل السيد بوكافيل نموذجًا عن لباس الجندي المصري في مستهل كتابه الذي كتبه عن رحلته، ونشره قبل الإصلاحات التي أدخلها محمد علي.
(٤) هو تركي أو شركسي رُبِّي في مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤