الفصل الحادي والأربعون

معاملة المصريين للمسلمين

إن الغبطة التي شعر بها أبناء سوريا عندما احتل المصريون هذا البلد لم تعمر طويلًا؛ فهي لم تلبث أن زالت عندما أدركوا أن سيدهم الجديد لم يكن يهتم إلا بمصالحه الشخصية، وأن سياسة عماله لا تقل ظلمًا وتعسفًا عن سياسة الدولة التي ظنوا أنهم لن يأسفوا عليها.

فشعوب سوريا لم تكن تتذمر إلا من تعسفات باشوات الباب العالي، واحتكارهم الحبوب، وتسخيرهم الرعية، وسواد الشعب، أو على الأقل، الطبقة العامة من الناس التي تعيش من شغلها اليومي، ولم تشعر بثقل وطأة تلك المظالم إلا بعد أن تألم منها الميسورون الذين كانوا عرضة لها أكثر من سواهم. ولما زال الفرح الذي ملأ قلوب السوريين عندما تقلص ظل الدولة، حلت محله الكراهية للفاتحين، فأضمروها لهؤلاء الذين ظنوا أنهم محرروهم. وسنرى عما قريب أن الانقلاب الذي حصل لم يكن إلا نتيجة دوافع قوية هامة.

فأثناء محاصرة عكا، حين كان المصريون لا يحتلون إلا بعض أساكل سوريا الجنوبية، أُلغيت ضريبة الحبوب التي كان عبد الله باشا قد فرضها؛ فكان هذا الإلغاء سبب ارتياح عام؛ فاطمأنَّ الأهلون إلى مصيرهم لأن هذه الضريبة كانت توازي خمس القيمة الحقيقية، وقد تبلغ أحيانًا ربعها، ولكن هذه الضريبة ظلت مفروضة على الحبوب التي تُستورد من الخارج، ثم ما لبثت الدولة المصرية أن فرضتها ثانية على جميع الحبوب والطحين، سواءٌ أكانت من إنتاج البلاد أو كانت مستوردة من غيرها، ثم خفَّضتها بعد حين فاستوفت نصفها فقط.

و«الفردة» كانت أول ضريبة فُرضت على الأهلين عمومًا، فأحدثت استياءً عامًّا. ولم يغفر المسلمون لنائب الملك خطيئة المساواة بينهم وبين المسيحيين.

لم تجرح الفردة كبرياء مشايخ الإسلام وعاطفتهم فحسب، بل ألحقت بهم أضرارًا بالغة من جرَّاء كيفية جبايتها. كانت هذه الضريبة ثقيلة الوطأة على الفقراء والعمال، لا بل على الأغنياء أنفسهم؛ إذ كان على المستطيعين أن يسدِّدوا الرصيد المطلوب إذا ما نقص منه شيء. أحصَوُا الناس جميعًا وجعلوهم فئات، وابتدأت الضريبة بخمسة عشر قرشًا وانتهت بخمسماية. وإذا لم تفِ هذه الطريقة بالمرام جعلوها على مجموع المتكلفين وقالوا لأعيان كل شعب: «إنكم تعدون كذا، فيجب أن تدفعوا كذا، فتدبروا الأمر بأنفسكم لأن صاحب البيت أدرى بالذي فيه.» فقضى هذا الأسلوب على العمال بدفع أكثر مما يستطيعون؛ لأنه لا بد من جباية الكمية المطلوبة. لم يدفع الأغنياء أكثر من خمسماية قرش، وهذا هو الحد الأقصى لما يدفعه الفرد؛ وهكذا عمَّت الضريبة جميع الطبقات، فكان يدفع الفقير من أربعين إلى خمسين قرشًا. أما ما بقي من رصيد هذه الضريبة فعلى الميسورين تسديده.

عرفت أوروبا قديمًا أب العائلة الذي كان يدفع ضريبة الفردة عن أولاده الثلاثة، أو الأربعة، ويجبَر على الدفع عنهم ولو ماتوا ميتة طبيعية، أو صُرعوا في حرب، أو كانوا بعيدين يحاربون في بلدان قصيَّة.١

فالمكلَّف لا يموت فعلًا في نظر الحكومة المصرية إلا بعد انقضاء سنتين أو ثلاث على موته الحقيقي، ناهيك بأنه لا يستطيع أن يموت إلا إذا أرادت السلطة فأصدرت بذلك المراسيم التي يقتضي إصدارها وقتًا طويلًا؛ فشعار الحكومة هنا: العجلة من الشيطان.

ذكر السيد بوجولا — في هذه المناسبة — مصيبة أخرى أتى بها محمد علي من مصر إلى سوريا: «إذا قلَّت موارد القرية وأصبحت لا تستطيع أن تقوم بدفع الضرائب، بسبب جفاف الموسم وانتشار وباء الطاعون، والتجنيد الذي يستأثر بالأيدي العاملة، فعلى القرية المجاورة لها أن تؤديَ تلك الضرائب عنها، وإذا عجزت هذه الأخيرة بدورها فعلى جارتها الأخرى، وإن عجزت القرى جميعًا فالمدينة، وأخيرًا الولاية. إن هذا التضامن بين الشعوب في سبيل إنعاش الخزينة هو اختراع مخيف كان يصعب علينا تصديقه لو لم نشاهد بأُم أعيننا هذه الحقيقة المؤلمة.»

رأيت بعيني تنفيذ هذا القانون في ولاية حلب، فترك الفلاحون مواشيَهم وتخلَّوْا عن مزروعاتهم. وقد اضطُر بعض الأشخاص — في اللاذقية — إلى بيع بناتهم. لم يصدِّق بعض القناصل هذه الأخبار، ولكنها ثبتت لهم أخيرًا.

وما انتهت جباية ضريبة الفردة حتى تبعها جمع السلاح؛ فكان سبب عدة مظالم. لم يجرؤ أحد على القول بأن لا سلاح لديه؛ فاليهود وبعض المسيحيين الذين لا سلاح عندهم اضطُروا إلى شرائها وتقديمها ليبرهنوا للسلطة أنها لم تخطئ في رأيها.

استذلت الحكومة المصرية — بهذه المناسبة — مسلمي بيروت حين عهدت بجمع أسلحتهم إلى الأمير أمين المشهور بمسيحيته؛ فآلمهم هذا العمل وعدُّوه جناية لا تُغتفر.

ومع ذلك لم يكن هذا التصرف أبشع ما نزل بهم؛ فذات يوم — يوم جمعة — بينما كان المسلمون يقيمون صلاة الظهر، طوقت الجوامع شراذم من الجنود وقبضت على جميع المسلمين دونما تفريق بين أسنانهم، واقتادتهم إلى السرايا.

وهكذا قُبض على جميع المسلمين، ثم دُعي الأطباء فباشروا معاينتهم، فما خرج من ذلك الحصار غير المعوَّهين أو المصابين بأمراض مزمنة.

ففي كل سنة كانت تنزل بالشعب الإسلامي في بيروت كارثة كهذه، حتى أمست الأعياد الإسلامية مدعاة خشية وهلع، فيتدبرها كل شخص بالفرار خوفًا من أن يُقبض عليه ويساق إلى الجبهة سَوْقَ النعاج. إنه لا يسعنا أن نصف اضطراب هؤلاء الأهالي البؤساء في هذه الفترات الرهيبة؛ فجميعهم يتراكضون ويتسابقون إلى أولياء الأمر حيث تُقضى الخدمة لقاء دفع مبلغ من المال. وقد لا يكفي ذلك فيُضطر الرجل إلى شراء نفسه مرة ومرتين، ولا بد له من أن يلجأ إلى كنف أشخاص عديدين ذوي نفوذ ليكون أكثر اطمئنانًا.

كان التجنيد سبب ألوف من الرزايا؛ فالعائلات كانت تفقد أعز أعضائها إما بانتزاعهم قسرًا من بينها، أو بالفرار والتواري من وجه السلطة. كانت الأسرة معرضة لأعمال عنيفة جدًّا تعاني بسببها مخاوف عظيمة، وتصعد تأوهات طويلة كلما تذكَّرت نكبتها؛ فهي لا تعرف الأمن والاستقرار؛ فالدولة لم تكن تتأخر عن القبض على فريستها، وإن ظنت هذه الفريسة أنها نجت لأنها دفعت مبلغًا لرجلٍ ما، كان التجنيد شر الوسائل لإثقال كاهل الشعب المسكين وإرهاقه. فلا يكاد المال يُدفع لمشايخ الأحياء والضباط والأطباء ليعفوا أشخاصًا من الجندية، حتى تهب السلطة متحرية حين يبلغها الخبر. بَيْدَ أن الأساليب الفعالة كانت تنقصها؛ فالموظفون الذين ارتشَوْا كان يستميلون إليهم رؤساءهم؛ وهكذا كانت تظل الإجراءات الأكثر حكمة بدون مفعول.

فجشع الموظفين الضروري تذليله كان يزداد شيئًا فشيئًا. تمشَّوْا على طريقة واحدة واعتبروا أن الحق للقوي؛ ولهذا كان المال أجدى الأساليب؛ فهو الذي يوصل وحده إلى النتيجة المرجوَّة. فقدت الأرامل والأيتام عضدهم الوحيد؛ فأُهملت الأعمال الصناعية وبقيت الحقول جرداء لا تُحرث، وأقفرت القرى؛ وكل ذلك لأجل تجنيد بضع مئات من الناس يتأوَّهون تحت سلاحهم الثقيل لأنهم أُجبروا على القتال مكرهين.

ويا ليتنا نرى العناية بهؤلاء الجنود! كانوا ينقلونهم إلى المستشفيات خوفًا من أن يموتوا في ثكناتهم. علمت من عدة أطباء أن الحكومة المصرية لم تكن تُحسن خدمة هؤلاء؛ فالمرضى المكدسون في حجر، أبوابها كوى صغيرة ضيقة، كانوا ينتظرون شفاءً لا رجاء فيه. كان أملهم الوحيد ببنيتهم القوية أو إحدى الفرص المؤاتية؛ فالعلاجات لم تُستعمل، وكثرة المرضى لم تكن تسمح دائمًا بالقيام بتعليمات الأطباء.

إن التعليمات منعت مَن هم في طور النقاهة عن أكل اللحوم؛ وهكذا يجب أن يُشفَوْا إذا كان الله قد مَنَّ عليهم بقوة بدنية.

لم تكن الدولة تجهل ذلك. كان يتوجب عليها أن تستعلم عن الأنظمة وتأمر بتبديلها ولا ترتضي أبدًا إدارة باغية كهذه. كانت تقضي فقط بالحكم على المذنبين الذين تتمكَّن من القبض عليهم، بإرسالهم إلى لومانات عكا أو أبي قير تبعًا لخطورة الجريمة. فكل ما أنشأه المصريون ليس سوى خيال للأعمال التي كان يتوجب عليهم أن يقوموا بها ويمثلوها.

زعم إبراهيم باشا — وكان بوسعه أن يكون رجلًا إداريًّا أكثر منه عسكريًّا — أنه كان يهتم بإدارة جميع شئون الحكم. أجل، كان يدير كل شيء بنية طيبة، إلا أنه كان يفتقر إلى أساليب مجدية؛ فكل شيء كان يسير من سيئ إلى أسوأ رغم تخوُّف مأموريه منه ومحبة جيشه له لأن لاسمه شيئًا من تأثير السحر.

قلت له ذات يوم إنه كان له أن يستفيد من أمثولة عبد الله باشا، وإن الرجال الذين استخدمهم والمبالغ التي أضاعها في سوريا كانت كافية لازدهار مصر ورفاهيتها، وإن مصر هي أكثر البلدان غِنًى، وحكمه يثبت فيها أكثر منه في جميع البلدان التي يحاول امتلاكها.

تبيَّن لي أنه فهم ما قلته له تمامًا، وكان يود لو يقول لي إني كنت على صواب، ولكن تلك مشيئة القدر.

إن التضحيات التي قام بها المصريون في سوريا كثيرة لا تُحصى؛ فمحاولتهم امتلاكها أضرت كثيرًا بازدهار مصر، والسلالة الحاكمة فيها.

إن الأخطاء تكلف دائمًا بالنسبة لجسامتها وخطورتها.

هوامش

(١) السيد بوجولا، الصحافة الدورية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤