ملحق

الأمير بشير

هذه مقتطفات من مقال شائق كتبه السيد أوجين بوريه عن الأمير بشير، ننقلها هنا لأنها تتمِّم وتؤيد أحكامنا على الأمير بشير الشهير، وما جرى في عهده من أحداثٍ جسام كانت له في توجيهها اليد الطولى.

***

لا مشاحة في أن الأمير بشيرًا هو إحدى الشخصيات التي تهم تاريخ الشرق المعاصر أكثر من سواها؛ فما من رحالة طاف في أنحاء سوريا — منذ نصف قرن خلا — إلا تناول بتفصيلٍ أو باقتضابٍ حياة شيخ الجبل الذي جعلته حوادث عام ١٨٤٠ شهيرًا كل الشهرة في أوروبا. قد يكون تكرار ما قيل حول القضايا الخاصة التي تخللت حياته الطويلة المضطربة أمرًا تافهًا، ولكن بعض الغموض الذي يحيط في الشرق بالأشخاص والأشياء قد اكتنف قسمًا كبيرًا منها، فدعانا إلى ذكرها لنطَّلع بدقة على حقيقة هذه الشخصية التي تنازعها إعجاب البعض ولوم البعض الآخر؛ فأدى الأمر إلى إصدار أحكام متناقضة عليها.

إن التناقض وعدم الاستقرار في الرأي العام هما نصيب أولئك الرجال المفارد الذين ينجمون في بلاد تمزقها المنازعات والثورات الأهلية، فمؤيدو الأمير يرفعون قدره مندفعين بالحماسة عينها التي يحط بها أخصامه من مقامه، فالمؤيدون يرَوْن في الأمير بشير بطلًا عظيمًا، والمعارضون يرون فيه سفاحًا زنيمًا.

ولعل ما يقرب من الحقيقة هو التوسط والاعتدال بين هذين الرأيين اللذين هما على طرفَي نقيض. فإذا شئنا أن نحكم على الأمير منصفين وجب علينا — قبل كل شيء — أن نراعيَ طبيعة المكان، وحرج موقفه في الساعة التي كان فيها سيد الموقف بين شعب مختلف الميول والأهواء.

ما أبعدَ الفرقَ بين الشرق الذي يضم شعوبًا وطوائف مختلفة، وبين البلدان الأوروبية التي تخضع لنظام واحد! فما يعدونه هنالك تسامحًا وحلمًا يعد ها هنا ضعفًا وجبنًا. والعنف الذي يرَوْنه في أوروبا ظلمًا قد كان — منذ بضع سنوات في الشرق — عدالة مثلى تطبق وفقًا للعرف والتقليد.

وبعد هذا فلست أخشى أن ينسب إليَّ التحامل أو التحيُّز؛ إذ إن أبهة السلطة وهالة جلالها قد فارقتا أمير الموارنة، ولم يعد يحيط به اليوم شيء منهما؛ فزوالُ نفوذه وانهيارُ مكانته ونفيُه أظهرت جليًّا كل ما يزين هذا الأمير من صفات طيبة وما يشينه من مساوئ. أجل، لم يبقَ له إلا مصائب ذنوبه، أو رونق خصاله الحميدة.

إن الأمير شريف النسب وهو ابن بيت عتيق مجده؛ فأسلافه كانوا سادة قبيلة كثيرة الرجال، خرجت هذه القبيلة من الحجاز (مقاطعة من جزيرة بلاد العرب) واستقرت في حوران في فترة يصعب علينا تعيينها بالضبط. ليس لدينا عن أصل الأمير إلا معلومات غامضة مبهمة جمَّلها خيال الشعراء الذين يتقرَّبون من الأمراء الشرقيين، ويقومون في بلاطهم بما كان يقوم به شعراؤنا الجوَّالون.

فقصائدهم التي تغنَّوْا فيها بمدح الأمير تشير إلى أن هذه القبيلة — قبيلة بني مخزوم — قد هاجمت الفرنسيين، وانتزعت من أيديهم حاصبيا. كان ذلك — بلا ريب — حين كان الصليبيون يسيطرون على سوريا. وقد امتاز أحد شيوخ بني مخزوم بوجهٍ وسيم وضَّاء، وكان عظيم المهابة، فلُقب بالشهاب، ثم ما لبثت القبيلة أن لُقبت بهذا الاسم الذي تُعرف به أسرة الأمير. وهنالك أناس آخرون يردُّون أصل هذا الاسم إلى عصور قديمة جدًّا، فيزعمون أن كلمة شهاب لُقب بها رجل يُدعى عبد الله، حين أبلى بلاءً حسنًا على عهد الخليفة أبي بكر في أثناء حصار دمشق.١

ومهما يكن من أمر فبوسعنا التأكيد أن آل شهاب كانوا في الأصل مسلمين، وأن الفرع الذي تتحدر منه أسرة الأمير اعتنق الدين المسيحي بعد زمن طويل.

كان آل شهاب — منذ قرنين — أصحاب السيادة المطلقة في الجبل. انتقل إليهم هذا الحق بالوراثة عن المعنيِّين. فأحد أمراء هذه العائلة — وهو فخر الدين — استطاع قديمًا أن يكتسب شهرة أوروبية نظرًا لتصرفاته المهذبة، وروح التساهل التي ساس بها رعاياه المسيحيين، حتى حمل هذا التسامح أحد المؤرخين المسلمين على اتهامه بدعوة الناس سرًّا إلى اعتناق الدين المسيحي. وزعم أحدهم أن فخر الدين قُتل — بِناءً على هذه التهمة — بأمر من مراد الرابع (نيرون السلاطين) الذي قُتل بيده، أو ذُبح أمام عينيه — خلال السبعة عشر عامًا التي ولي فيها الحكم — أربعة عشر ألف رجل وامرأة.

خلف فخر الدين الأميرُ أحمد — ابن أخيه لا ابنه كما روى بعضهم — لأن أبا هذا الأخير هو الأمير يونس شقيق فخر الدين، فكان آخر أمير معنيٍّ. ثم دُعي إلى تولِّي الأحكام في الجبل زعيم شهابي اسمه بشير؛ لأنه أقرب الناس إلى أسرة معن المنقرضة. وبعد انقضاء تسع سنوات خلفه الأمير حيدر الشهابي، فدامت ولايته أربعة وعشرين عامًا، ثم انتقلت إلى ابنه ملحم فلم ينعم بالسلطة إلا سنة واحدة، ثم قُسمت بين أخويه أحمد ومنصور. بَيْدَ أن أحمد ما لبث أن نُحِّي، فاستقل منصور بالحكم طوال سبعة عشر عامًا لا ينازعه فيه منازع.

كان لملحم ولدٌ لا يستطيع أن يخلفه لصغر سنه، ولكن صفات هذا الفتى الطيبة كانت تؤهِّله لتولِّي الحكم، فانتظر رجاله الأقوياء المخلصون الساعة التي يخلو له فيها المكان الذي يشغله عمه ليحملوا الناس على الاعتراف بحقوقه.

وخلال هذه الفترة ولد في غزير — في كانون الثاني ١٧٦٧ — الأمير بشير الذي نتكلم عنه ها هنا؛ فهو ابن الأمير قاسم المسيحي، وقد قبل بشير نفسه سر العماد المقدس في تلك القصبة، وعمَّده فيها مرسل لاتيني من الآباء الكبوشيين. وهذا الحدث يضع حدًّا لمن يشك بمعتقد الأمير، لا بل للذين زعموا أنه لم يكن مسيحيًّا قط. ونرى لزامًا علينا هنا أن ننزع عنه هذه الصيغة المخزية، وهي التلبس بجميع الأديان، وانتحال جميع المذاهب. إن ذلك لم يكن غير قناع سياسي يُظهر للملأ من خلاله أنه يدين بكل المعتقدات، بينا هو في الواقع براء منها جميعًا.

إذا عدَّ غيرنا هذا العمل مهارةً ودهاءً، فنحن لا نرى فيه إلا التستر بالرياء الشائن، والخبث المخجل؛ فالقلب هو الذي يصنع الرجال، والقلب لا يكون كبيرًا إلا بإيمانه، أو بقوة معتقده الديني، مهما يكن شعار ذلك الدين. إن اللامبالاة الفلسفية لم تكن بعدُ قد تسرَّبت إلى المجتمع الشرقي؛ فما من أحد كان يجرؤ فيه على التباهي والافتخار بأنه يعيش دون مبدأ أو هدف وسط الأوهام وخرافات الجحود الغامضة؛ فالشرق مهبط الوحي يفاخر بأنه كان دائمًا مهد الرسل وموطن الأنبياء؛ ولهذا كان لا بد من مذهب لكل شرقي، فيتبعه ويعمل بتعاليم النبي الذي هو على دينه. أما مذهب اختيار الآراء المستحسنة ونبذ الأخرى فلم يكن قد تسرب بعدُ إلى الشرق. فلو كان الأمير — على حد قول لامرتين٢ — يدين بجميع ديانات بلاده؛ أي إنه مسلم أمام المسلمين، ودرزي أمام الدروز، ومسيحي أمام المسيحيين، لَمَا كان تمكَّن من حكم المسلمين والدروز والمسيحيين في وقتٍ معًا؛ لأن جميع هؤلاء كانوا يُظهرون له احتقارًا واحدًا.

إنه لم يأتِ عملًا يحمل على الشك بدينه الحقيقي إلا مرة واحدة في حياته، ولكن حسن نيته يحملنا على أن نغفر له ذلك. وإذا قلنا هذا فلا يعني ذلك أننا نريد إقناع المؤمنين بأنه كان مثالًا يُقتدى به في حرارة تقواه حين كان سيد الجبل، أو أن جميع تصرفاته السياسية يمكن تبريرها من الوجهة الدينية المسيحية. فمن منا يجهل الفتور والبذخ والأهوال وجميع الشئون التي يتطلبها التنعم بالحكم؟ من يمكنه أن يوفِّق بين تعاليم الإنجيل وما تبشر به من بساطةٍ ورحمة، وبين ما يتطلبه فن الحكم من تصرفات عنيفة قاسية تشكك الناس؟

ثم إننا نعلم أن أحد مرشديه الروحيين قد عنَّفه وبكَّته على ظلمه وبغيه، وأبى أن يظل مرشدًا روحيًّا له. جرى هذا الحادث يوم كان الأمير قد بلغ ذروة مجده؛ وهذا يدلنا على أنه لم يكن يؤمن بديانته فقط — كما يُظن لسوء الحظ — كثير من المسيحيين، بل كان أيضًا مسيحيًّا ممارسًا، والمقربون منه لم يكونوا يشكُّون بذلك قط، والموارنة لم ينظروا إليه كزعيم وطني، بل عَدُّوه أميرًا كاثوليكيًّا؛ وهذا ما جعلهم يَثبتون على التعلق به وبأسرته. وهذه الميزة التي تحلَّى بها الأمير تدلنا على سبب معارضة هؤلاء وكراهيتهم الدول المسيحية التي قوَّضت سلطان الأمير.

إن حكم لامرتين المخطئ هو نتيجة إحساس شخصي أعرب عنه حين نشر كتابه رحلة إلى لبنان …

•••

وفي الخامس من شهر نوار، في السنة نفسها التي وُلد فيها الأمير بشير، تُوفِّي والده الأمير قاسم فأصبح بشير يتيمًا منذ ولادته؛ لأن أمه تزوجت بعد انقضاء بضع سنوات من أحد أفراد أسرة شهاب. ومتى عرفنا هذا، سهل علينا الحكم على قيمة تربيته الأولى المهملة تقريبًا. إن النشأة الأولى تتصل اتصالًا وثيقًا بحياتنا، فللتوجيه الأَوَّلي أثر فعَّال في مستقبل الرجال. أجل، إذا عرفنا أن الفتى بشيرًا كان مهملًا تقريبًا، سهل علينا أن ندرك مقدار طموح من استطاع بباعه وذراعه أن يبلغ قمة المجد.

تلك هي حقيقة الأمير بشير. كان هذا الرجل العصامي لا يحتاج إلى أحد، وكان واثقًا من نفسه، يدرك مدى مقدرتها الغريبة؛ فما إن بلغ من عمره العام الثالث عشر حتى عزم على مغادرة البيت الذي رأى فيه النور، وقد آلمه جدًّا فراقه لشقيقه حسن وأخته الحبيبة إليه.

إن موت أبيه المبكر جعل أثاث البيت زهيدًا جدًّا، فعندما طالب بما يصيبه من إرث، كانت حصته سريرًا وبضع أوانٍ تكاد لا تكون حمل جمل! سار على بركة الله واستصحب خادمته، وهي عبدة عجوز، وبهذه العدة مشى ينشد الثروة.

وتشاء إحدى الصدف الغريبة أن تقوده — بادئ ذي بدء — إلى بتدين، إلى المكان الذي انقلب فيه البيت الحقير الذي استأجره إلى قصر مغربي كبير، ذي أبراج تخترقها القناطر، وأروقة، ودُور مزينة بالأعمدة، وقاعات مبلطة بالرخام، ونوافير مياه صاخبة، وإسطبلات تضم المئات من الخيول العربية، وخدم وحشم يرتدون أفخر الثياب وأغلاها؛ إنه قصر بيت الدين.

وفي تلك الفترة التي كان يتقدم بها نابليون على رأس جيشه إلى عكا، حاول القائد الفرنسي محالفة الأمير لأنه كان يقدِّر قيمة المساعدة التي يسعه أن يقدمها له إذا ما وُفِّق إلى استمالته إليه.

لاموا الأمير لأنه لم يُعِرْ هذه التمهيدات أذنًا صاغية. بَيْدَ أن الحكمة كانت تقضي عليه بالتريُّث، منتظرًا ما ستسفر عنه المعركة النابليونية الأولى. فلو استولى بونابرت على قلعة عكا لكان أصبح سيد الجبل؛ لأن جميع المسيحيين كانوا يؤيدونه سرًّا؛ فتظاهرهم كان يعرِّضهم لأشد المظالم تُلحقها بهم السلطات التركية لو درت بذلك؛ ولهذا حافظ الأمير على الحياد التام، وتقبل — بامتنان وعرفان الجميل — البندقية التي حملها إليه الكولونيل ساباستياني الشاب. أما الرسائل الموجَّهة من الأمير بشير إلى القائد العام (نابليون)، فهي من صنع جرجس باز، وقد كتبها بدون علم الأمير، فأقام دليلًا جديدًا على ما اتَّصف به من رياء، ولكنه دفع غاليًا ثمن هذه الخطيئة وثمن الأخطاء الأخرى التي ارتكبها شخصيًّا.

وحوالي تلك الفترة نفسها تزوَّج الأمير من أرملة أمير مسلم، وكانت ذات ثروة ضخمة. وإذا شئنا أن نصدق بعض ما يشاع ويذاع،٣ قلنا إن شائبة مخزية تشوب هذا الزواج الأثيم؛ لأن الزوج — حسبما قيل — قتل في ساعة ثار بها الهوى الجشع، وأسفر عن اغتصاب المرأة وثروتها، بعد أن أُكرهت على التنصُّر لحجب هذه الجريمة تحت ستار ديني باطل.
إن الوقائع تنفي هذه الافتراضات وتكذِّبها، فالست حبوس،٤ وهذا هو اسم الأرملة، وُلدت مسيحية، فأجبرها زوجها الأول — واسمه بشير — على الارتداد عن النصرانية لأنه كان مسلمًا. وإذا كان قد سبق لها أن ساهمت — مدفوعة بكرم نفسها — في دفع فدية هذا الأمير الذي سجنه الباشا، فما كان ذلك إلا بِناءً على توسُّلات الشيخ بشير (جنبلاط)، وزير الأمير بشير واسترحامه.

فالأمير بشير قاسم لم يكن قد عرفها من قبلُ؛ وهكذا وقع الالتباس في الأسماء. وعندما كُلف بمصادرة أموال زوجها بعد أن قتله الباشا، تسنَّى له أن يرى هذه الأرملة ويحادثها. كانت تبلغ من العمر ثلاثين سنة تقريبًا، ولها ابنتان اعتنقتا الدين المسيحي. وعندما أدهشته صفاتها الشخصية، وقد زادها روعةً وجمالًا وقعُ المصاب، عرض عليها أن يتزوج منها، فكان الجواب أن بسطت أحد أطراف فسطانها، وسمحت للأمير أن يقوم، وهو راكع، بصلاته. إنه شبه اعتراف ديني يتمِّمون به وعدًا بالزواج في هذه البلدان؛ حيث لا يزالون يحافظون على عادات عهد التوراة (!)، أو لم تقل راعوث لبوغز: «أنا راعوث أمتك، فابسط ذيل ثوبك على أمتك لأنك ولي»؟ وبهذا المعنى أيضًا يكلم الرب أورشليم بلسان نبيِّه: «فبسطت ذيل ثوبي عليك وسترت عورتك، وحلفت لك، ودخلت معك في عهد، فصرت لي.»

إن الست حبوس التي تزوجت من كاثوليكي رجعت من تلقاء نفسها إلى ممارسة الديانة التي أُكرهت على تركها. ومنها رُزق الأمير أولاده الثلاثة: أمين، وخليل، وقاسم.

وكان أن بعث أولاد الأمير يوسف ومدبِّرهم جرجس باز بوشايات كاذبة، أوقعت الريبة في نفس الباشا، فغضب على الأمير غضبًا شديدًا، فأخذ الأمير ينتظر نفيًا جديدًا يشبه بقساوته النفي الذي لاقى آلامه في سجن قلعة عكا.

وكان الأميرال سيدني سميث يرابط حينذاك بأسطوله أمام شواطئ سوريا، فطلب منه الأمير أن ينقله إلى مصر، فقابل طلبه بلطف متناهٍ واقتاده — بادئ ذي بدء — إلى مالطة.

ما أغربَ الشبهَ بين هذا النفي الاختياري الذي كان سبب نجاته؛ نظرًا لما اتصف به هذا الأميرال الإنكليزي من صدق وإخلاص، وذلك النفي القسري الذي دفعه نحو تلك الجزيرة نفسها بعد أربعين سنة من ذلك التاريخ، وقد ضعضعته وهدمته خيانة ستوبفورد!

ولما جاء مصر أضافه محمد علي برحابة صدر. وبعد أن أبقاه إلى جانبه مدة طويلة، ليعرفه حق المعرفة، بعث به على ظهر باخرة إنكليزية إلى عكا وحمَّله كتابًا إلى الجزار. كان هذا الكتاب يبرر تصرفات الأمير ويقضي على الباشا نوعًا ما أن يعيد إليه حكم الجبل. فمحمد علي كان يفكر حينذاك ببسط نفوذه ذات يوم على هذه الأقطار، وقد أخذ يفتش عن عضد، تدفعه رابطة مزدوجة هي رابطة المصلحة وعرفان الجميل على مؤازرته والعمل في سبيل قضيته. إنه لم يخطئ فيما كان يرمي إليه، بَيْدَ أن هذا التعلق بباشا مصر آنذاك استحال — فيما بعدُ — حجة على الأمير لدك سلطانه وتقويضه.

اهتمَّ الجزار باشا بتوصية محمد علي، فأعاد الأمير إلى إدارة الشئون، فبرهن بشير عن كثير من المهارة والدهاء والحكمة، فهدأت جميع الخواطر، وساد الجبل أمان عميق؛ فالمنازعات المتواصلة التي كانت تفرقه، والاضطرابات التي كانت تدميه، لم تكن إلا دليلًا على المصاعب الناتجة عن إدارة بلاد كتلت فيها الثورات شعوبًا مختلفة يتنازعها تنافس المعتقدات واختلاف المصالح. ثم ما لبث أن مات الجزار، فحل محله سليمان باشا، وهو رجل معتدل بذل جهودًا كبيرة في سبيل استتباب الهدوء والسكينة بين شعوب لبنان.

إن الولد الذي تركه الأمير رهينة عند الجزار أُعيدَ إليه. ولما كانت عائلته قد أخذت تزداد عددًا باشر حينذاك القيام بأعمال بناء واسعة النطاق جعلت من بيت الدين مقرًّا يليق حقًّا بأمير. شيد فيها القصور له ولأولاده ولأولاد أخيه، وكان البناء بديعًا للغاية. إن هذه البقعة القاحلة بطبيعتها — لأن شمسًا حادة تكويها — لم تفتقر إلا إلى مياه لتكتسب طراوة وتخصب أرضها، وينعم أهلوها ببعض الرفاه، ناهيك بأن الأسرة الأميرية قد تعوَّدت الإكثار من الاستحمام، وهذا يتطلب مياهًا وافرة، فجرَّها إليها من الباروك٥ التي تبعد عنها حوالي ست ساعات.

جُرَّت هذه المياه العذبة في مجارٍ وأقنية تمر في أراضٍ كان قد سبق له أن اشتراها ليَحُول دون المنازعات. بكى الملاكون عقاراتهم التي اخترقتها الأقنية، ولكنهم فرحوا بعدئذٍ وسُرُّوا بما جرَّته إليهم من نفْع عندما رأَوُا الأرض القاحلة تستحيل بساتين وكرومًا، وتحل محل الأودية ذات الحصى أراضٍ صالحة للزراعة، زاد في غلتها وريعها نشاط الأهلين الذين لا يعرفون الكلل.

لم نكن نجد حينذاك طاحونًا ما تفضل طاحونة مدينة دير القمر الصغيرة. وازدهرت تجارة الحرير فغرست تلك الجبال توتًا حين استطاع الشعب أن يسقيَه.

ولكن خميرة الثورة والفتنة لم تبارح قط نفس ابنَيْ عمه حسين وسعد الدين — ولدَيِ الأمير يوسف — فحاول هذان الأميران الشابان العِصيانَ مرة أخرى. إلا أن الأمير بشيرًا تمكَّن من القبض عليهما، ففقأ أعينهما، وهذه هي إحدى الجرائم الفظيعة التي لاموا الأمير عليها، وحق لهم اللوم. بَيْدَ أن هذه هي العادة البربرية المتبعة للتخلص من نفوذ خصم سياسي، أو من طامح إلى الحكم، لم تكن حينذاك لتثير — في هذه البقعة من الشرق — التقزز والهلع اللذين تثيرهما اليوم بعد أن تسربت مبادئ المدينة الإنسانية إلى الشرق، وأخذ يعمل على تعديل نظمه.

كان ذلك النوع من العقوبة نوعًا أَلِفه إمبراطرة بيزنطة، وما زال يُعمل به في بلاد العجم، وهم يعتبرونه دون عقوبة الموت عنفًا من الوجهة الإنسانية. فما من شكٍّ في أن الأمير بسلوكه هذا المسلك مع منافسيه قد ظن أنه يقدِّم برهانًا على حلمه ورحمته، ولكنه كان أشد قسوة تجاه جرجس باز وصيهما الذي تبيَّن أنه كان أعظم ذنبًا منهما — كما تدل الظواهر — فحكم عليه بالموت.

لا جدال في أن الأمير قد أساء إلى سمعته حين نفَّذ مثل هذا الحكم في بلد تجتمع فيه السلطة التنفيذية والسلطات الأخرى في يدٍ واحدة؛ فالحكم الذي يصدر في غير هذه الربوع تهتم بتنظيمه محكمة خاصة، فيكون محترمًا لأنه يظل قابلًا للطعن فيه، ومعرَّضًا للنقض أيضًا.

وفي الفترة التي تلت ذلك من حكمه وقف الأمير منا موقف جفاء، وهذا ما حمل بعضهم على أن يصوِّروه لنا سفاحًا صغيرًا لا يعنيه إلا تنظيم جدول بأسماء من سيقتلهم بدون محاكمة، تاركًا المكان خاليًا خاويًا حوله.٦

لنكن عادلين، أو ليس علينا أن ننحيَ باللائمة على فساد طريقة الحكم أكثر من لومنا القائمين به؟ فهذه السلطة المطلقة غير المراقبة التي تلعب كيفما شاءت بحياة الرجال، كانت — حتى هذه السنوات الأخيرة — السبب الأساسي لكثير من المظالم التي أساءت إلى سُمعة الشرق.

إن بونًا شاسعًا كان يفصل الباشوات والحكام الأتراك عن الرعية. كانوا ينظرون إليهم نظرتهم إلى رجال سفلة يمكنهم أن يظلموهم وفقًا لرغبتهم ومشيئتهم؛ فرجالات الحكم لم يكونوا قد استقَوْا بعدُ — من احتكاكهم بأوروبا — هذه المبادئ الإنسانية التي حوَّرت تفكيرهم، فيما بعد — لحسن الحظ — وجعلتهم يتقيدون بشريعة العدالة المسيحية الأولى، لم يكن بوسعهم أن يوحوا إلى ممثليهم اتباع إدارة ملائمة. ثم إن البخار لم يكن قد ربط بعدُ بين مختلِف أطراف هذه المملكة الشاسعة، فيمكن موافاتها أو تزويدها بالمعلومات بأسرع ما يمكن وبدقة كلية.

إن دور الطباعة السياسية لم تكن قد وُجدت بعدُ لتفضح المظالم، والحاكم الذي يريد أن يتحرَّى الحقيقة كانت تحف به حاشية قابلة للرشوة، فخدعته وأبقته في جهل لا يقهر. أضف إلى ذلك نشوة التنعم بالسلطة، وعلى الأخص حين تُدرَك بعد التنازع عليها طويلًا. فإذا ما نظرنا إلى كل هذه الأسباب أمكننا عند ذاك أن نفهم بسهولةٍ كيف اقتيد الأمير إلى منحدر قلق المجاز، سريع المزالق.

جاء في هذه المناسبة أحد مرسلينا — وهو إفرنسي عازاري — ليقوم برسالته في هذه البقعة. ورسالته — كما هي في جميع بقاع العالم — رسالة مدنية ومحبة. ولما رأى ما رأى من جور أعمال الأمير، والقساوة البالغة الحد، تجرَّأ ولامه على عمله، ولكن إرشادات هذا المرسل ذهبت عبثًا، فأحجم عن القيام برسالته في بلد الأمير لئلا يلصق الشعب بالدين تلك الأخطاء التي يرتكبها الأمير، مع أن دينه يشجبها ويستنكرها.

وحدث ذات مرة أن بعث باشا دمشق أحد الجباة ليستوفيَ الضرائب والعشر. فما دخل إحدى القرى الخاضعة للأمير حتى أخذ يعامل أهليها بقساوة وعنف؛ فشكا الأمير إلى عبد الله باشا هذا التعديَ الفظيع، فطلب عبد الله باشا التعويضات من باشا دمشق، ولما أبطأ عليه في أدائها قرر أن يجبره على ذلك بقوة السلاح مدفوعًا بطموحه إلى بسط سلطانه على سوريا، فاقتضت الحال أن لا يعتزل أمير لبنان هذه الحرب.

مشى الأمير على رأس عشرة ألاف رجل إلى دمشق، مخدوعًا بالفرمان الذي زوَّره عبد الله باشا، ومصدِّقًا أن باشا دمشق معزول من رتبته وولايته. ولولا هذه الخدعة لما انقاد سيد الجبل المسيحي لهذه الأعمال الطائشة التي كادت تؤدي به إلى محاربة الباب العالي نفسه. إلا أن باشا دمشق عرف كيف يحافظ على سلطانه ومقامه أمام أعضاء الديوان الملكي الذين كانوا آنذاك يتصرفون بجميع مراكز المملكة؛ فاستطاع أن يُثبت لهم براءته، وجاء الفرمان الذي يُثبِّته في ولايته حين كان الموارنة على أهبة أن يحاصروا المدينة، فوقفوا وقد انجلت لهم الحقيقة.

عرف الأمير أن عبد الله لعب به وأنه جرَّ على نفسه نقمة السلطان بعد أن خلع عن حكم ولايته. أما عبد الله باشا فظن أنه يستطيع الثبات والمقاومة، فأعلن ثورته وحاصر في عكا التي حصنتها الطبيعة قبل الإنسان، ودعا للقتال قوى الولاية البحرية والبرية. ولما كانت جيوش الباب العالي المنظمة على أسوأ ما يكون، ولم تتعوَّد بعدُ اتباع أساليب الحروب الأوروبية، فقد حاصرت — على غير جدوى — ذلك المكان مدة تسعة أشهر، فكبَّدت المحاصرين فيه خسائر لا طائل تحتها. وفي هذا الظرف العصيب آثر الأمير أن يعتزل الحكم ويغادر الجبل خوفًا من أن يقوده عبد الله باشا إلى عصيان يسيء إلى شرفه وضميره. وكانت ولاية بيروت تحظر عليه دخول أرضها؛ فاتجه فكره مرة أخرى نحو مصر، واستطاع أن يبحر على مركب تجاري إفرنسي إلى مصر، ويلجأ إلى محمد علي.

استقبل محمد علي الأمير بشيرًا بالحفاوة عينها التي استقبله بها منذ عشرين سنة خلت. فهذا الباشا الذي يتميز بمهاراته وعناده كان لا يزال يطمح إلى الاستيلاء على سوريا، فلم يدعْ مناسبة تمر دون أن يقدِّم خدماته التي يبرهن بها عن قوته ونفوذه. لقد عمل جميع ما في وسعه لدى الباب العالي لحمله على العفو عن عبد الله والأمير. والباب العالي الذي أحرجت موقفه حرب «المورة» لم يشأ أن يغضب سيد إحدى مقاطعاته الهامة الذي يمكنه — ساعة يشاء — أن يسلمها للثوار؛ وبِناءً على هذا غفر لعبد الله باشا فعلته بعد تغريمه بدفع نفقات الحرب.

وفي الوقت نفسه عاد الأمير إلى مقره في بيت الدين حيث استقبله جميع الشعب بعلامات الابتهاج والتعلُّق اللذين لا شبهة فيهما …

إن الأمير الذي شغلته قضاياه الخاصة وأحداث حياته، لم تكن تنقصه الثقافة؛ فمعلوماته لا تتجاوز — في الواقع — نطاق معرفة اللغة العربية وآدابها. بَيْدَ أن هذه الناحية الأساسية في الثقافة الشرقية التي تشغل حياة عالم مخصص لها قد ألفها الأمير، فانقادت له بسهولة. وهذه المزية قلما نجدها عند المسيحيين الذين يكتفون عادةً بمعرفة قراءة التعاليم الدينية البسيطة، متغافلين عن كل ما له علاقة بالتاريخ والفقه والشعر.

والآن فلنتكلم عن الأمير، في ساعات فراغه ببيت الدين، كسيِّد يعترف به جميع الزعماء، فيقيم بينهم حكومة ذات أبهة ملكية لا كسيِّد تربَّى تربية قاسية، وعاش عيشة شبه عسكرية. كان في هذا الموقف — موقف الأمير والزعيم الأكبر — صديق العلوم والمعارف، وحاميَ الثقافة والشعراء. كان الشعراء — وهم عنوان ثقافة دولته — ينظمون له القصائد متغنين بانتصاراته، ويعيشون من هباته وعطاياه.

ثم فكر في تحسين حالة الثقافة التي أُهملت تمامًا في أثناء اضطرابات الحروب الأهلية، ففتح على نفقته الخاصة عدة مدارس مخصصة لرجال الإكليروس؛ فكان لهذا العمل أحسن وقْع في قلوب جميع الإكليريكيين؛ فاكتسب محبتهم، وحاز على عطف البطريرك، فأصبح غرضهما السياسي واحدًا؛ فكلاهما يرغب في وضع حدٍّ لهذه الفوضى الإقطاعية التي قسمت الجبل إلى عدة شعاب. كان الأول (الأمير) يطمع في وحدة التنظيم الإداري، وكان الآخر (البطريرك يوسف حبيش) يريد وحدة الإدارة الدينية.

ولما أخذ باشا مصر — بعد أن بسط سيطرته على سوريا — يطمح هو أيضًا إلى إخضاع كل شيء لسلطانه، نشأ عن ذلك اختلاف بين مصالحه ومصالح الأمير. إلا أن الأمير كان على جانب كبير من الدهاء واللباقة، فتمكَّن من كظم غيظه. فتعهداته التي قام بها لنائب الملك حين هرب إلى مصر ملتجئًا إليه، كانت تريه مجاملة هذا الحليف القوي فرضًا واجبًا عليه، ولا سيما بعدما رأى أن قوته تزداد ازديادًا عجيبًا حتى كادت تهدد، بل هددت السلطان نفسه سيد البلاد ومولاها.

ومن المؤكد أن الأمير لم يُنقَدِ انقيادًا أعمى إلى محمد علي؛ فقوة هذا الأخير لم تكن تملأ عينه، وهو — قبل وبعد — لم يلق عنه نير حاكم تركي ليخضع إلى آخر مصري يرجح أنه أكثر قساوةً من ذاك؛ فهدف الأمير وأمنيته الوحيدة كانا خلق ولاية مستقلة بحكمها، وأن يكون حليفًا مخلصًا وأمينًا عند الحاجة، لا تابعًا كسائر أبناء الرعية الذين يُساسون بظلم وتعنت.

ولم تكن قوة الباب العالي إلا اسمًا بلا مُسمًّى؛ فظن الأمير أنه مرتبط بمن كان سيد البلاد بالفعل؛ أي محمد علي؛ ولهذا قبل بارتياحٍ تام مساعدة ابنه إبراهيم باشا، ففتح أمام جيشه الغازي أبواب أهم مدن سوريا، ولكن بقدر ما كان يرى طريقة الحكم المصرية تزداد عنفًا في البلاد وتنتقص من حقوق أبناء الجبل وحرياتهم، كان هو يلزم الحياد ضمن حدود دائرة سياسية حذرة، ورزانة يقظة لم يستطع نائب الملك أن يخترق حجبها إلا بعد انقضاء زمن طويل.

فالاحتكار التجاري الذي حاول أن يفرضه سيد سوريا الجديد كما هو مفروض في مصر، حمل الأهاليَ على الخوف من أن يقاسموا فلاحي ذلك البلد نصيبهم المشئوم. كانت هذه الحالة سبب ثورة عكار واللاذقية التي أحدثت استياءً عامًّا أحسنت استغلاله سياسة أوروبية؛ فكثيرًا ما كان يهم الإنكليز أن يَحُولوا دون تنفيذ قانون كهذا يسد عليهم منفذ رواج منتوجاتهم؛ ومن هنا جاءت معارضتهم لمحمد علي، وللأمير الذي ظنوه متعلقًا به تعلقًا أعمى لنصرة قضيته.

وعند ذاك انتشر مندوبوهم السياسيون في الجبل يمثل بعضهم ولا يزال يمثل دور المبشرين. حاولوا أن يستميلوا إلى البروتستانتية الشعب المسيحي الكاثوليكي، ولكن هؤلاء لم يستقبلوا البروتستانت استقبالًا طيبًا ولا كتبهم المقدسة التي كانوا يوزعونها عوضًا عن إلقاء المواعظ؛ لأنهم لا يعرفون اللغة كفاية، فأُحرقت هذه الكتب في الساحات العامة. أما الروم والسريان المنشقون فلم يكونوا أضعف من أولئك ميلًا إلى هذه الديانة الجديدة التي سُميت «المذهب الإنكليزي»، هذا الاسم الذي لا تزال تحتفظ به في داخل بلاد الأناضول وبلاد العجم.

لم يغفر الإنكليز لهؤلاء ولا لأولئك عنادهم وثباتهم في عقيدتهم وإيمانهم؛ فحركت بغضاء قديمة كانت تضمرها للمسيحيين الشعوبُ غير المسيحية، كالمتاولة والنصيريين والدروز. فمنذ ذلك اليوم أصبح الجبل فريسة للفتن والثورات الأهلية التي لا تزال تدمره دون أن نستطيع التنبؤ بنهاية الحرائق والمذابح …

جدير بنا أن نلاحظ بأن خلع الأمير بشير كان يُخفي تحت الظواهر السياسية فكرة دينية: كان يؤمل بهذا العمل دك الكثلكة، وهدم نفوذ فرنسا القديم العهد في وقتٍ معًا، ولم يكن هذا المشهد أقل غرابة من الرواية السياسية التي مُثلت عام ١٨٤٠. هبت إنكلترا وروسيا وبروسيا والنمسا لتعمل وتأخذ كلٌّ منها نصيبها من الإرث المنازع عليه بنفس المحسدة. فروسيا استغلت الضغن الذي يُكنُّه الناس للمذهب البروتستانتي فأنمته في هذه البقعة من الأرض. إلا أن النجاح تعدَّى آمالها فرأت اللوثرية البروسية تتصالح بسهولة مع الإنكليكانيكية، وتتنازل عن امتيازها في تعيين أسقف كقنصل للقدس يكلف إدارة رعية لم تكن موجودة أو يرجى وجودها، وذلك في مقابل اثني عشر ألف ليرة إسترلينية. والنمسا على الرغم من أنها كاثوليكية المعتقد مدت لهما يد المعونة وهي ترجو أخيرًا تحقيق تلك الخرافة الحلوة لسياستها الشرقية.

الحق يقال إن روسيا كانت أكثر هذه الدول لباقة حين شاءت أن تنتهز الفرصة فتربط الروم والسريان والأرمن المنشقين عن الكنيسة بروابط جديدة. أما ما يؤسَف له حقًّا فهو نتائج أعمال هذه الرابطة اللاكاثوليكية؛ فإنكلترا اعتمدت على الدروز حين افتقرت إلى بروتستانت تحميهم، بعد أن خُدعت بتقارير مغرضة حملتها على الظن بأن الدروز يميلون إلى المعتقد الإنجيلي. فمندوبوها السياسيون الذين انضموا إلى المرسلين البروتستانت سلكوا طريقًا تركت وراءها على كل قدم لطخة من الدم. إنها مسئولية جسيمة لا تقع على عاتق بعض الرجال فحسب، بل على الحكومة نفسها التي يدَّعون تمثيلها.

والأمير الذي نُقل إلى القسطنطينية عومل أولًا ببعض اللطف والرعاية، وتشاء الصدف الغريبة أن يفقد الجبل الهدوء والأمان لدى مغادرة السيد بلاده؛ فخيل للدولة التركية أنه كان هو المحرِّض على ذلك سرًّا. ثم كبر هذا الظن وصار يقينًا عندما طلب جمهور من الشعب عودة الأمير، والتُمس ذلك من الباب العالي. بنَوْا هذا الالتماس على أن عودة الأمير إلى الحكم تعيد مياه السلام إلى مجاريها، فيستتب الأمن ويستقر النظام. وعند ذلك أخذ الأمير ومشايعوه يذوقون لذع الحرمان، وتضاعف ظلم النفي من كل جانب رويدًا رويدًا.

قالوا إن الأمير نُقل معه ثروات طائلة عندما غادر سوريا، ولكن هذا القول صعب التصديق على ما يرجَّح؛ فالنكبات المتعددة التي لاقاها في حياته لم تمكِّنه من ادخار شيء. وهب أنه عرف كيف ينمي دخْله إبَّان الفترة الأخيرة من حكمه، فحاشية قصره في بيت الدين والتجميلات التي كلفته مبالغ ضخمة، وميله الطبيعي إلى الأعطيات، تلك الفضيلة الشرقية التي تستحيل عادةً إلى تيهٍ وفخر، تبيِّن لنا أنه أنفق جميع ما ملكت يداه.

وإذا أضفنا إلى ذلك حوادث عام ١٨٤٠ التي داهمته بسرعة، علمنا أن شأنًا جليلًا كهذا يَحُول دون جمع المال، بل يقتضي الإنفاق، وخصوصًا ممن كان مثل الأمير الذي تعوَّد فيما مضى أن يسترد خسائره بعد تشريده. أفلا يحق له الاعتقاد أيضًا بأنه يمكنه أن يستعيد ثروته حين تسنح له فرصة جديدة؟ ثم كيف كان يمكنه أن يتنبَّأ عن رحلة يتبيَّن منها أنها كانت رحلة الأبد!

هنالك بعض أشخاص من الذين عرفوا حالة الأمير حق المعرفة ورأَوْها بأم العين، قد أكَّدوا لنا أنه لم يكن يصطحب — حينما نزل إلى البحر — إلا مبلغ مائتين وخمسين ألف فرنك. كان هذا المبلغ كافيًا لسد حاجاته بلا شك. غير أنه كان مقضيًّا عليه — ابتداءً من عام ١٨٤٠ — أن يعول عائلة كبيرة، ويقوم بسد نفقات حاشية تكدَّس بعضها فوق بعض. وقد سبق هذا الحادث بأيام قليلة أن اضطُرت المرأة التي تزوجها ثانية — وهي سُرِّيَّة شركسية اعتنقت فيما بعدُ الديانة الكاثوليكية — إلى أن تبيع من جوهري أرمني قسمًا من حلاها بثمن عشرة آلاف فرنك.

كان يليق بالوسطاء السياسيين الذين سلَّموه أن يأخذوا جميع الضمانات ليكفلوا له — على الأقل — نفقات العيش الضرورية. فبلوغه سنًّا متقدمة من العمر كان يحمل على الظن بأن هذه المدة لن تطول، والإنسانية توجب هذا العمل الذي تتطلبه العدالة.

يظهر أن العناية الإلهية شاءت أن تزويَ الأمير في هذه الضاحية لتلمع فضيلة قلَّما نجدها اليوم، وتثأر لاسمه من جميع الشكوك والريب التي حامت حول إيمانه الصادق؛ فجميع الذين يتكلمون عنه يمثلونه — بوجهٍ عام — رجلًا ينشد الثروة، ويريد بلوغ قمة المجد غير عابئ بشيء، يبدل ديانته حسب الظروف، فهو مسيحي أو كاثوليكي حين تقتضي ذلك المنفعة السياسية.

قد برأنا من هذه التهمة الأمير الذي وُلد في حضن الكنيسة الجامعة، وآمن بتعاليمها بحرارة لا تفتر. فالذين ضعضعتهم الشكوك في فضاء النظريات المذهبية يرَوْن أن السيطرة في بقعةٍ تعيش فيها عدة ديانات متنازعة تقريبًا توجب التخليَ عن الاعتراف بالمذهب الديني. ولكن إذا أمكن تحقيق هذه المخادعة بين شعوبٍ بلغ عندها الانحطاط الأخلاقي — كالفضيلة نفسها — أبعد مداه، فالشرق حيث لم تبلغ فيه الرذيلة والفضيلة هذا الحد، براء من هذه الأعمال المريبة؛ فالإيمان لا يزال يحافظ هنا على جذوته الأولى، وهو الحاجة الضرورية التي يحتاجها القلب والفكر. ومن لا يعبأ به أو يلعب بقدسيته لا يمكنه أن يبلغ أبدًا كرسي الحكم.

كان الأمير بشير — منذ ولادته — ابن الكنيسة التي اعتنق هو وعدد كبير من أسلافه ديانتها، فلم يخرج من حضنها قط. وإذا وجدناه في بعض فترات حياته — وقد حرَّكته الحروب وحافز الطمع — لا يتقيد بواجباته تقيدًا دقيقًا كما كان في شيخوخته، فليرجم الأمير بحجر من لم تمر عليه في ماضيه فترة لم يتخللها هذا النسيان والإهمال!

يجب علينا القول إن هذه الديانة المقدسة هي اليوم عضده وعزاؤه، فمن ممارستها البسيطة الصحيحة كان يستقي القوة اللازمة لينهض بعبء الأمة الثقيل. وهل يمكننا أن نفتش في مكانٍ غير هذا عن سر احتماله هذا الحرمان الموجع بعد حياة رفاهية وثراء؟ وبماذا نعلل صبره على غل يديه عن العمل بعد نصف قرن جهاد مستمر؟ وأخيرًا أي افتراض يحل لنا معضلة إحساسه بالخيانة، ولمسه نسيان الأصدقاء له، بعد أن حفَّ به عدد كبير من المشايعين المخلصين؟ إن تذكُّره الأخطاء السياسية التي كان يسعه تلافيها، ورؤيته مشهد الحروب التي خاضها، كان يمكنهما أن ينتزعا من شيخوخته بقية الهمة لو لم يبادر إلى مداواتها بصلاته فيجد — وهو يستغفر اليد التي لطمته — اللذة المجهولة التي نجدها في التوبة.

فبيته — الذي رأيناه كما هو — كان كأنه بيت بطريرك هرم ينتظر العذاب والمنفى. فمن بين افتقار هذا البيت إلى المفروشات، وتشويش وتبعثر ما فيه من أمتعة لا تتجاوز ماعون خيمة يمكن أن ترفع في الغد، وبين فرح الصغار الذين تنقصهم قوة إدراك المصيبة التي حلَّت بهم، وبين فقر الخدام الأمناء في بلواهم ومذلتهم، كان وجه الأمير يبدو لنا أكثر تلك الوجوه هرمًا وهيبة، حين يجلس على كرسي بسيط بأبهة من تعوَّد أن يكون سيد الموقف.

هذا هو المشهد المؤلم الذي يراه من يحاول أن يدخل مقر هذه العظمة الهاوية. إننا نُحسُّ بؤسًا تصعب مؤالفته يختبئ ها هنا، ولكننا نلمس في استسلام جميع هؤلاء وهدوئهم عاطفة دينية تقويهم وتعزيهم. فإلى جانب الأمير كان يقوم مرشد ديني جدير بالاحترام — وهو تلميذ قديم للمجمع المقدس الروماني — وقد نذر نفسه ووقف جميع رسالته على الأمير وعائلة الأمير؛ ففي كل صباح كان يقيم له الذبيحة الإلهية في غرفته التي هي كنيسته أيضًا، فيقف جميع هؤلاء أمام المذبح ليجددوا قواهم ويقوَوْا على احتمال تجارب النهار وويلاته التي تنتظرهم.

إن لحية الأمير وشاربيه الكبيرين الأبيضين كانا يدلان على هيبته الطبيعية التي تزيد في جلالها عيناه المختبئتان تحت حاجبين كثيفين عريضين. كانت تصرفاته على جانبٍ كبير من اللياقة والتهذيب، وشد ما كان يؤثر بهما من يزورونه في دار غربته. فأسئلته أو أجوبته — وهي بالعربية دائمًا — متزنة واضحة ملقاة بتحفظ الرجل الذي يشعر أنهم يتجسسون عليه.

كان في بعض المرات يستنيب عن التفوُّه بالكلمة المرجوة نفثة من دخان يرسلها في الفضاء من غليونه الكبير الذي لم يكن يفارقه قط. فهذا الغليون — الذي لا بد منه عند الشرقيين — ليس بدون نفع، وعلى الأخص في مقابلات أو زيارات ذات طابع سياسي. إنه يمكِّن من الهدوء والسلوى، ويَحُول دون التلفظ بكثير من كلمات قد تقع في غير محلها؛ إذ تكون الشفاه مشغولة في الالتصاق بعوده الثمين. ولكم اكتفى الأمير، بدلًا من أن يتوغل في تفصيلات طويلة، برواية بيت من الشعر، أو إرسال مثل كله معنًى يفي بالمرام.

وفي السابع من حزيران الفائت أبلغوا الأمير أن الحكومة قررت نفيَه إلى قلب مقاطعة الأناضول، إلى فيرانشهر من سنجق بولي. فاسم هذا المكان المنزوي الوحشي — وهو يعني المدينة المهدمة — ليليق بمن لم يعد إلا دمارًا محترمًا عن الماضي. وبدون أن يعطى الوقت الكافيَ ليهيئ جميع ما يحتاج إليه في سفرة كهذه، نقل مع سائر أفراد عائلته إلى ظهر باخرة صغيرة قطعت به البحر الأسود حتى وصلت إلى مدينة هيراكله القديمة.

كان فصل الصيف قد أخذ يخفف من حدته. وعلينا هنا أن نفكر بالأخطار التي تحدق بالأمير في هذه الرحلة التي جعلها هواء الشمال طويلة متعبة. وإذا كنا قد رثينا لحال الأمير البائس حينما كان في قلب العاصمة، تحت سمع الحكومة وبصرها، فما عسى أن تكون حاله في مكانٍ قَصِيٍّ يفتقر فيه إلى أسباب المعيشة ولا يشعر بشيء من العطف الذي هو عزاء التعس الوحيد؟ أتُراه قد أذنب فعلًا بتدبيره إحدى المؤامرات السرية؟

كان يتوجب — في وقت ينبذ به رجال الأمة المثقفون تقاليد الحكم المطلق — محاكمة الأمير وإثبات ذنبه، ثم تطبَّق عليه العقوبة. هذا ما كان يجب أن تعلمه وزارة رضا قبل أن تتعرَّض لخطأ هذه القساوة غير المجدية.

والأشخاص الذين تبعوا الأمير إلى فيرانشهر يبلغ عددهم ستة وخمسين نفسًا: تسعة أمراء وثماني نساء وتسعة وثلاثين خادمًا، ما عدا الأب الفاضل الخوري إسطفان حبيش الذي كرَّس نفسه لهذه القضية الدينية الوطنية.

وشاع — بعد سفرهم — خبر مفاده أن إحدى العصابات التي تعبث بداخل بلاد الأناضول قد هاجمت قسمًا كبيرًا من هؤلاء فذبحتهم. إلا أن الحكومة كذبت بصورة رسمية هذا النبأ.

ما أنا بمادح الأمير أو وكيل دفاع عنه. لقد رويت ببساطة تفاصيل حياته التي يعرفها الجميع، وتحاشيت أن أوجِّه إليه نقدًا لاذعًا، أو أن أبالغ بالتملُّق له فأطنب في الثناء عليه. فانتصارات الأمير وانكساراته التي لاقاها في حياته وحروبه الهدامة، وفترات حكمه الهادئة المحلية، وعدله وانتقامه العنيف، ورقته المتناهية وأخطاؤه، والهمة الوثابة التي كانت تنقصه بغتة عندما يكون استعمالها ملائمًا، والاستسلام ظاهرًا لمصابه، في حين أنه لا يخلو في الواقع من مكائد ومناورات كاذبة؛ تلك كانت مميزات هذه الشخصية.

لم تستطع الدول التي جمعتها محالفة عام ١٨٤٠ أن تقدره حق قدره؛ فنحته جانبًا كما يُنحَّى الممثل الذي يفرغ من تمثيل دوره، أو كالشيخ الذي هدَّمته السنون. كثيرة هي المناسبات التي تبيَّن منها أن قضية إحلال رجل محله يقوم بعبئه ليست بالقضية الهيِّنة، وأن الهدم أسهل من البناء.

إنه ليستحيل فرض رأي أو إرادة على شعبٍ كامل — وعلى الأخص حين يتعرض ذلك الرأي المفروض لمعتقد الشعب وإيمانه — دون أن يلاقيَ ذلك رد فعل عنيف. فعدم مقدرة الذين حلُّوا محل الأمير أبدت للملأ جليًّا كفاءته الشخصية، وغير واحد من الذين رغبوا في دك عرشه وتقويضه أخذوا يتمنَّوْن اليوم عودته. فسوء الحالة الذي ازداد على التوالي حمل على الظن أن رجوعه يكون الدواء الوحيد، فالتأسفات على نفيه، والرغبات في عودته جعلت قضيته قضية وطنية حتى طلب بعضهم اعتبار بيت الأمير سلالة لها حق الاحتفاظ بحق الحكم عدة قرون. إنه رأي مبالَغ فيه، ولا يقوم إلا في خيال شعراء العرب المدَّاحين.

رأينا في مكان آخر أن الأمير لم يرث الحكم عن أبيه، وأنه كان يعود إلى كرسيه — عندما يُخلع عنه — بقوة دهائه ومقدرته الشخصية، وحظه الذي يساعده على ذلك. فكفاءته رفعته إلى المحل الأرفع أكثر مما رفعه إليه بيته؛ فنحن إذنْ في غنًى عن الاستشهاد بهذا العنصر الأخير.

سبق لنا أن تكلمنا عن الموفدين البروتستانت الذين جاءوا سوريا، حوالي عام ١٨٣٠، وحاولوا أن ينشروا فيها رسالتهم. فنحن — أصدقاء حرية المعتقد — لا ننازعهم أبدًا هذا الحق، حينما تدار المهمة التي كُلفوا بها بأمانة ووفقًا لنظم المحبة الإنجيلية الحقيقية. فالموارنة هم كجميع كاثوليكيي الشرق متمسكون بدينهم. ولما بدا لهم أن مذهب هؤلاء الأسياد خاطئ ومخطر أبعدوهم عن تخومهم بأساليب لا نودُّ هنا أن نبرر صيغتها لما فيها من قساوة وغلاظة وخشونة؛ فالكاثوليك ينبغي لهم أن يواجهوا أعداءهم بسلام واعتدال تفرضهما معرفتهم الحقيقة معرفة كاملة، وهذه القوة الهادئة الرزينة هي طريق النصر المؤكَّد.

إن هؤلاء الدوَّارين المهذبين (الجنتلمان) الذين طُردوا من المدن والقرى، ولم يوفَّقوا إلا بمقدار إلى نشر مذهبهم بين الروم أو السريان المنشقِّين، ثم لم يلبث توفيقهم أن انقلب إخفاقًا، قد حولوا وجوههم صوب الدروز، فكانت النتيجة نشوب ثورات وفتن وإحداث مذابح متواصلة.

والباب العالي الذي وجد نفسه عاجزًا — وحده — عن وضع حدٍّ لهذه الفوضى فكَّر في أن يعتاض عن ذلك بمنافع سياسية. فالسلطة التي كانت تهدف دائمًا لبسط شبكة الوحدة الإدارية على جميع أطراف المملكة وجدت الفرصة مؤاتية لتبسطها حتى على هذه الولاية التي تكاد تكون مستقلة.

وهكذا استطاع الباب العالي أن يلعب بتكتل الدول عام ١٨٤٠. وهذا التكتل الذي ما أراد تبديل الحالة في لبنان إلا لتحسينها وضمانة احتفاظ الجبل بامتيازاته، قد شهد جميع فصول مأساة ستنتهي بفناء شعبين كاملين — الدروز والنصارى — فناءً كليًّا في حرب أُثيرت بينهما، حتى إذا تعبا من القتال جرَّا إلى وضع رقابهم في متناول مناجل التنظيمات.٧

سيصبح لبنان ولاية كبغداد وأرضروم، ومن يسعه أن يلوم الباب العالي؟! فهل تكون معارضة الدول هي التي منعته من قبول عروض فرنسا الحكيمة؟!

هوامش

(١) لامرتين، رحلة إلى الشرق، معلومات عن الأمير بشير.
(٢) رحلة إلى الشرق، مجموعة المؤلفات، ص٦٦، بروكسل ١٨٣٦.
(٣) رحلة إلى الشرق، مجموعة المؤلفات، ص٦٨، بروكسل ١٨٣٦.
(٤) أما زوجة الأمير بشير الأولى التي يعنيها الكاتب هنا فاسمها الحقيقي شمس. (المعرب).
(٥) الواقع أن مياه قصر بيت الدين هي من نبع الصفا. (المعرب).
(٦) ميشو وبوجولا، رسائل شرقية، ج٧، ص٣٥٢.
(٧) التنظيم الإداري الجديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤