الصوت والصدى

أحدثت وفاة فوزي المعلوف وهو لم يكمل الثلاثين من عمره سنة ١٩٣٠ هزة شاملة في لبنان والعالم العربي، لا سيما وأن عبقريته الشعرية ونتاجه الأدبي الرائع كانا قد استأثرا بإعجاب الأوساط الفكرية والثقافية، ليس في شرقنا العربي فقط، بل في مختلف أنحاء العالم، فهو الأديب اللبناني والعربي الوحيد باستثناء جبران خليل جبران، الذي ترجمت آثاره إلى اللغات الحيَّة، وحازت تقدير كبار الأدباء والمستشرقين في مطلع القرن العشرين.

وقد عبَّر أعلام ومفكرون يُحسبون بالمئات في أمم الأرض قاطبة عن أعمق مشاعر الألم والحزن لدى وقوع الفاجعة المريرة، والخسارة الكبرى بفقد شهيد النبوغ الشعري المتجدد «شاعر الطيارة»، الذي اقتحم بروائع خياله، وصخب عاطفته أبعد الآفاق، وسبق أهل زمانه إلى ذلك اللون المبتكر من التصوير الفني، والتألق الوجداني، من خلال حدث عالمي هو الطيران. واعتبرت قصيدته الملحمية «على بساط الريح» بمثابة نبوءة عما بلغه ذلك الإنجاز الخارق في بداية القرن الماضي على صعيد غزو الفضاء، حيث وصل بالإنسان إلى القمر والكواكب بعد أقل من مائة سنة.

ولا بد من التنويه بأن معظم ما نشر وكتب حول فوزي تناوبت صحافة العرب والعالم على إبرازه بُعيد وفاته، وصدرت كتب وأطروحات جامعية متعددة في مختلف العقود الماضية مُنوِّهة بتفوق الشاعر الكبير، وأثره الخالد في الشعر العالمي الحديث، فلم يبقَ ثمة مجال إلى مزيد.

لذلك نكتفي وقد تم إنجاز هذا الكتاب الذي يحتوي معظم آثاره، بأن يكون مسكُ الختامِ الأبياتَ الرائعة التي رثاه بها الأخطل الصغير الشاعر بشارة الخوري، وهي خير تعبير عن شخصية فوزي، وسمو روحه، وأثره الشعري الذي أخرج العبقرية العربية من القوقعة، والانكفاء إلى الآفاق الإنسانية الواسعة.

الشباب الذاوي

عَجِبُوا أَنْ يَمُوتَ فِي ريِّقِ العمـ
ـرِ وَيطوي كَالْبَرْقِ سِفرَ حياتِهْ
أَهُوَ الْعمرُ مَا نعدُّ لَهُ الأيـ
ـام أمْ بالشهيِّ مِنْ ثَمَرَاتِهْ؟
غايَةُ السابقِ الجوادِ من الدنـ
ـيا بلوغُ البعيدِ من غاياتِهْ

•••

أيُلَامُ الوردُ الجنيُّ إِذَا جـ
ـفَّ رَحِيقُ الجمالِ فِي وجنَاتِهْ؟!
وَإِذَا كَانَ عُمرُهُ بَعْضَ يَوْمٍ
وتمشَّى الذُّبُولُ فِي وَرَقَاتِهْ
غَايَةُ الوَردِ أنْ يُضمِّخَ هَذَاالـ
ـجوَّ بالمستحَبِّ من نفحاتِهْ
مَا عليه إِنْ جَازَ غايتَهُ الْقُصـْ
ـوَى وعدَّ الزمانَ مِنْ سَاعَاتِهْ

•••

أَفَذَنْبُ الْهَزارِ إِنْ هَامَتِ الْأَقـ
ـفَاصُ بِالسَّاحِرَاتِ مِنْ آيَاتِهْ؟!
تُوقظُ الروضَ من كَراه وتَجْلُو
بسماتِ الضُّحَى عَلَى زَهرَاتِهْ
غَايَةُ الطَّائِرِ الْمُغَرِّدِ مِنْ دُنـْ
ـيَاه أُنْشُودَةٌ عَلَى هَضَبَاتِهْ
مَا عَلَيْهِ إِذَا تَعَجَّلَ فِي الشَّدْ
وِ وَرَوَّى الْخُلُودَ مِنْ نَغمَاتِهْ

•••

عُطِّلَ السَّبْقُ بَعْدَ «فَوْزِي» وَجَفَّ الـْ
ـعِطْرُ مِنْ بَعْدِ طِرْسِهِ ودَوَاتِهْ
وتَعَرَّى روضُ البيانِ مِنَ السَّجـْ
ـعِ وجَاسَ الخريفُ في جنبَاتِهْ
الأخطل الصغير
بشارة الخوري

تمثال فوزي

أقيم لفوزي المعلوف نصبٌ تذكاري من البرونز في ساحة المنشية بمسقط رأسه زحلة، ومنح وسام الاستحقاق اللبناني المُذهَّب بعد الوفاة. وقد أزيح الستار عن التمثال في ١٢ أيلول (سبتمبر) سنة ١٩٣٧، في احتفال رسمي وشعبي كبير شاركت فيه الشخصيات والمؤسسات الثقافية والأدبية من سوريا والعراق ومصر وفلسطين وسائر البلاد العربية، وممثلو الدول الأجنبية والسلطة الفرنسية المنتدبة.

وقد ألقى شقيقه الشاعر المهجري شفيق عيسى المعلوف الأبيات الآتية التي استأثرت بإعجاب الحضور، وقوبلت بعواصف من التصفيق، وهي إلى اليوم مروية على كل شفة ولسان لروعة معانيها الشعرية المبتكرة، قال شفيق:

فَوْزِي، وَمَا لِي فِي الْخُطُوبِ يَدَانِ
مَا هَكَذا الْأَخَوانِ يَلْتَقِيَانِ
قَرَّبْتُ صدري للعناقِ فَلَمْ أَقَعْ
إِلَّا عَلَى قِطعٍ مِنَ الصَّوَّانِ
هَشَّتْ لَكَ الْأَزْمَانُ قَبْلَ وِلَادِهَا
فَاخْلَعْ زَمَانًا وَاتَّشِحْ بِزَمَانِ
للهِ نُصْبُكَ فَهوَ أَخْلَدُ بُرْدَةٍ
فِي الْأَرْضِ يَنْسجُهَا الْخُلُودُ الْفَانِي
نُصُبٌ خَفضتُ لَهُ الْجُفُون كَأَنَّمَا
نُصِبَتْ حِجَارَتُهُ عَلَى أَجْفَانِي

يَا حيَّ الضريح!

وثمة أبيات رائعة أخرى استوحاها الشاعر رياض المعلوف من ضريح شقيقه فوزي في سان باولو، فوقف عند القبر الذي حفر عليه تمثال إلهة الشعر وهي تكلل رأس أخيه بالغار، وقال في منتهى الحسرة واللوعة:

لَوْلَاكَ لَمْ أَهْوَ الْيراعَ وَكُنْتَ تُلْهِمُنِي وَتُوحِي
فَمَشِيتُ إِثْرَكَ فِي الطَّرِيقِ وَكَانَ رُوحُكَ مِلْء رُوحِي
أَكَفَتْكَ هَذِي الْحفرَةُ السَّوْدَاءُ يَا نَسْرَ الطُّمُوحِ؟
مِنْ بَعْدِ مَا حَلَّقْتَ فِي جَوِّ السَّمَاوَاتِ الْفَسِيحِ
وَاهًا لأُمِّي حُزْنُهَا حُزْنُ الْبَتُولِ عَلَى الْمَسِيحِ
كدَّرتَ فِي عَيْنِي الْوُجُودَ فَمَاتَ مِنْ كدَري طُمُوحِي
وَفَرَرْتُ مِنْ مَوْتَى الحياةِ إِلَيْكَ يَا حَيَّ الضَّريحِ!
رياض المعلوف

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤