الفصل الأول

بين الولاء والحب

  • المكان: جنَّة العريف في حدائق قصر الحمراء بغرناطة العربية.
  • المنظر: ليلة مقمرة، أشجار وأزهار.

المشهد الأول

(أبو عبد الله – علي «متنكَّران»)
أبو عبد الله : أَهنا يجتمع الحبيبان؟ وبين قصوري؟ إِنَّ هذا لا يكاد يُصدَّق!
علي : ثِقْ بي يا مولاي السلطان …
أَبو عبد الله : صَهْ! ولا تلفظ كلمة «سلطان»! أفما ترى في أيِّ موقفٍ نحن؟
علي : طالما رأَيتُهما يا سيدي في هذا المكان، وفي ظلِّ هذه الشجرة، يتناجيان ويتشاكيان.
أبو عبد الله : قَدْكَ تُثير غيرتي وغضبي! الويلُ كلُّ الويلِ لتلك الفتاة!فكم أعربتُ لها بنظراتي عمَّا بي وهي تُعرض عني وتنفر مني!
علي : ما الذنب ذنبُ فتاةٍ لا تميز بين أمسها وغدها، بل ذنب من أغراها وزرع بغضك في قلبها! فأَنت تعرف ابن حامد وتعرف مبلغ عداوته لك. فمتى انتقمتَ منه خلا لكَ الجوُّ بها!
أَبو عبد الله : أَواه! مَن لي بتلك السعادة! …
علي : إذا قتلتَ حبيبها سَلَتْهُ، فقلوبُ النساء في «الهوى» كالريشة يلعب بها «الهَوا»! …
أبو عبد الله : أَراك تذكرُ القتلَ كَأمرٍ غيرِ خطير! ولكن هبْنا تمكنَّا من الإِيقاع بالرجل، فما تكون العاقبة؟ ثورةٌ تُلطِّخ جُدرانَ الحمراءِ بالدمِ، وتُصبحُ للمؤرِّخين من بعدنا موضوعَ طِبَاقٍ بديعيٍّ بديع الحمرة! وهل يُهدَرُ دمُهُ عند قومه بني سراج وهو عميدُهم وفارسُهم، فلا ينتقموا له؟ أما والله إننا أحْوجُ إلى السكينة منا إلى الثورة! كيف لا والإسبان على قاب قوسين من أسوارنا! …
علي : للقتل ضروبٌ يا مولاي، وقد تفعل الحيلة ما لا يفعله الخنجر.
أبو عبد الله : وهل أجعل ابن حامد أشرفَ مني بعد أَن قدَّم سيفَه لنُصرتي وهو من ألدِّ أعدائي؟ أَوَأَنسَى بلاءَه الحسَنَ في الذَّودِ عن عرشي فأناجزه العداءَ لا لشيءٍ إلَّا لحبِّه غادةً أُحبُّها أنا؟
علي :
ليس في الحبِّ — يا مليكي — سلطانٌ
فكلٌّ العباد فيه سَواءُ
إنما السلطةُ الوحيدةُ للحُسْنِ
فيقضي سلطانُه ما يشاءُ
أبو عبد الله : كفى يا علي، فمن العار أَن أُفرِّق بين قلبين جمعهما الحبُّ، وفضلًا عن ذلك فابن حامد أَنقذ والدَ الفتاة من الأَسرِ؛ فهي له وهو لها. وإِن صيانة عرشي تقضي بعدم إغضابه.
علي : إذا كنت تخشاه فذلك أمرٌ آخر … ولكن ليَثقْ مولاي أن بين رجالي أسودًا لا تنام على ضيم، وهي تنتظر إشارةً واحدة لتنقضَّ على بني سراج وتسحقهم.
أبو عبد الله : يا لك من خلٍّ وفيٍّ! أمَّا سحْقُ عرشي في سبيل غرامي فهو تضحيةٌ لا قِبَلَ لي بها …
علي : إنك في غنًى عن هذه التضحية، وحسبك مطارحة تلك الفتاة حبَّك فتفضلك على حبيبها، ولا بد من حضورها هذه الليلة؛ فتكاشفها بما بك.
أبو عبد الله : ولكن … لا بأس فيما قلتَه … فإمَّا قبولٌ — وذاك ما أتمناه — وإمَّا صدودٌ — وذاك ما أَخشاه!
فديتكِ يا دارَ الحبيبة موردًا
يحومُ عليه اليومَ قلبيَ للوِرْدِ
لأَنتِ كمن تحوينَ، إنْ قلتُ: رحمةً
لهذا المُعنَّى، لم تُعيدي ولم تُبدي
فمن علَّم الأَحجارَ أُمثولةَ الجَفَا
سوى ذاتِ قلبٍ قُدَّ من حجَرٍ صَلْدِ
تعلَّقها قلبي لأول نظرةٍ
فهل عندها من لوعة الحبِّ ما عندي
جُننتُ بها، والحسْنُ كم ضيَّع الحجى!
جنونَ هوًى لا ينتهي بي إلى حَدِّ
فسبحان مَن أعطى الهوى كلَّ سلطةٍ
فصارَ به السلطانُ أطوعَ من عَبْدِ
ومَن قسَمَ النارَيْنِ، نارًا بخدِّها
من الحُسنِ والأُخرى بقلبي من الوَجدِ!
علي : على رَسْلِكَ يا مولاي؛ أرى شبحين يتقدَّمان نحونا. هذا ابْنُ حامدٍ وبقربه دُرَيْدة!
أبو عبد الله : فلنذهب قبل أن يشعرا بوجودنا.
علي : بل نختبئ حيث نسمع حديثهما ولا يرانا أحد.
أبو عبد الله (يتردد قليلًا) : حسنًا.

(يختبئان.)

المشهد الثاني

(ابن حامد – دريدة)
ابن حامد : أفترين هذا الليل جميلًا؟ إنكِ لأَجمل منه! ففي غدائِركِ تموُّجٌ لا ألمسه في فحمة سواده، وفي عينيكِ سحرٌ لا أراه في بريق نجومه. وهذا القمر المتسلِّل بخيوطه الفضِّية من خلال الأوراقِ؟ إن نظراته أَقلُّ عمقًا وشعرًا من نظراتكِ …
دريدة : أشعر أن الليل يحبُّني لأنني أُشبهه، أُشبههُ بعُمْقِ عواطفي، وبتأَلُّق حبي! أما الجمال الذي تصف فلم يَهبْنيه غيرُ حبِّك … وكم أتمنَّى لو لبستُ الليلَ رداءً أُوشِّيه بالنجوم، وأُمنْطقُه بالقمر؛ فأزيد جمالًا في عينيك.
ابن حامد : وأنا أتمنى لو كان لي هذا الليل؛ فأنظُمَ من نُجومه لك عقدًا، وأَخلع من قمره عليكِ تاجًا، لا لأزيدكِ جمالًا، فأنتِ فوق الجمال، وإنَّما لأرفعك فوق البشر.
دريدة : إِن حبَّك حسْبي، فبهِ أَحيا وبهِ أَموت. حدِّثْني عن الحبِّ بنغمتك الشعريَّة الساحرة، ففي كلماتك ما يرفعني إِلى عالم السماء.
ابن حامد : الحب؟ ومن يحدد الحب؟ هو أَنتِ، هو أَنا، هو كلُّ شيءٍ نابض فوق هذه الأرض …
هو ثغْرُ المنى فمشربُهُ
عبراتٌ وقوتُهُ قُبَلُ
هو في معرض النوى أَلمٌ
وهو في معرض اللقا أَمَلُ
هو ربٌّ والروحُ هيكلهُ
عرَّفَتْهُ إلى الورى المُقَلُ
مُقَلٌ أَلبسته علَّتَها
فمشَتْ في عبيده العِلَلُ
دريدة : ليت سماءَ حبنا صافية كهذا الأديم! ولكنَّها، أَوَّاه، قاتمةٌ متلبِّدةٌ بالغيوم، فلا أكاد أشعر بالسعادة التي نحن فيها حتى يتراءَى لي شبح الحرب، فأحسَّ بخوفٍ يُعكِّر عليَّ صفائي.
أَوَيُرْدي الإِنسانُ في الحربِ خَلْقَ
اللهِ ظلمًا لكي تعيشَ بلَادُهْ
ابن حامد :
إِن تكُنْ ميتة البسالةِ والمجدِ
فأَكرِمْ بها، ونِعْمَ جهادُهْ
انظُري، إِننا أمام الحمراء. هذا القصر الذي يعانقُ السماءَ بقببه، والرابض على الثرى بأعمدته. إِن هذا القصر بما حوله هو كل ما بقيَ لنا من تراث الجدود، ملوكٌ عزيزو الجانبِ قاموا بتشييده، فاشتركتْ في بنائه عقول ناضجة، وقلوب نبيلة، وسواعد قوية. وها هو تحفة الفن وأعجوبة العصر، ولكن غرناطة صائرة بحمرائها إلى ما صارت إليه طليطلة بمعاهدها، وقرطبةُ بجوامعها، وأشبيليةُ بقلاعها، وذلك إذا لم نَذُدْ عن الحمراءِ بالأَحمر من دمائنا، فلا تقع لقمةً سائغةً في فم أَعدائنا. أَفَلَا يَسوءُكِ أَن تندثر هذه المدنيَّةُ الزاهرة وقد اندثرت قرون وقرون في سبيل ازدهارها؟
دريدة : ولكنك تدافع عن عرش طاغية ظالم لا عن غرناطة! وهل تنسى فسادَ أَبي عبد الله وما يضمرهُ لكَ من ضغينة؟
ابن حامد : أنا أدافع عن عرش وطني لا عن عرش أَبي عبد الله! إن الملوك فانون، أما المبادئ فخالدة، أنا أَعْلَمُ أَن أبا عبد الله طاغية غاشِم، وأشعر بعدائه لي، ولكنَّ الوطن فوق كل عاطفة! إِنني أرى هذه الرياض حولي زاهيةً زاهرة، وأَرى هذه الجوامعَ والمبانيَ قائمةً مُشمَخِرَّة، ولكن … قد يأتي زمنٌ تندثر فيه، وتصبح خرائبَ وَأَطلالًا، فلا يبقى من الحمراء غيرُ بعضِ جدرانها، ومن جنَّةِ العريفِ غيرُ بعض ترابها، فإذا مرَّ بها أَحدُ حَفَدتِنا في المستقبل البعيد، ووقفَ في هذا الموضع، ونظر إلى الأطلال والدمعةُ في عينهِ، والحسرةُ في قلبه، وقال: هنا تأَلَّقَ مجدُ أجدادي وهنا تقلَّص، هنا قامتْ مدينةٌ بناها الشمم وهدمها الفساد، هنا ضاعت أَمجادي وحالَ عِزِّي، فأَصبحتُ من أُمَّةٍ خاملةٍ مُضيَّعة، وأنا سليلُ شعبٍ رفع للمدنيَّةِ منارَها، وكان للوطنيَّة فخارها! هذا الحفيد سيُعلنُ أبا عبد الله مضيِّعَ عرشِ أجداده، ولكنَّه لن يلعنَ من استماتوا في سبيل الذود عن حياضهم. وهذه أَعظم مكافأةٍ لنا عن جهادنا إذا لم يُثْمِرْ دفاعُنا؛ فضاعتْ جهودُنا.
دريدة : لا أعلم، ولكنني خائفةٌ عليك.
ابن حامد : دريدة، إنني واقفٌ الآن بين الحبِّ والمجد، وعليَّ لكلٍّ منهما واجبٌ سأقضيه.
أَنتركُهم طوعًا يَثلُّون عرشَنا
وذا رُكْنُه فوق النجوم مُشَيَّدُ
فيَمحُونَ من أَوربَّةَ اسمَ محمَّدٍ
وَلَيْسَ لَعَمْرُ الحقِّ يُمْحَى مُحَمَّدُ
أَنتركُهُم يسترجعون بلادَهُمْ
ونحن سكوتٌ لا حسامٌ ولا يدُ
دريدة :
إِذَا كنتَ تهواني تجنَّبْ لظى الوغى
وحاذِرْ فإِن الحربَ للموتِ موردُ
وروحُكَ روحي إنْ أُصبتَ بنكبةٍ
أُصبتُ بها فالعيش بعدكَ أَنْكَدُ
ابن حامد :
إذا كنتِ في حبِّي تشكِّينَ فَاسأَلِي
فُؤَادَكِ يُخْبِرْ عَنْهُ والله يشهدُ
ولكنَّ أَوْطَانِي عَلَيَّ عَزِيزَةٌ
وَهَا هِيَ تَدْعُونِي فَحَتَّامَ أَقْعُدُ
سَأنذرُ نَفْسِي لِلْوَغَى غَيْر هائِبٍ
فَرَبِّيَ يَحْمِينِي وَحُبُّكِ يُنْجِدُ
وَإِنْ كَانَ عِزٌّ فِي الحياةِ فحبَّذَا
وَإِنْ كَانَ ذُلٌّ فَالْمَنِيَّةُ أَحْمَدُ
وَإِنْ قَدَّرَ اللهُ وَعِشْنَا أَنْتَشِلْكِ مِنْ هَذَا القَصْرِ ونَذْهَبُ حَيْثُ نَشَاءُ وَيَشَاءُ لَنَا الْهَوَى.
دريدة : ولكن قلبي يحدثني، وهو لم يُخْطِئْ أَبَدًا، أنَّنَا لَنْ نَعِيشَ إلى نهاية هذه الحربِ، بل نموتُ معًا ضحيَّة حُبِّنَا.
ابن حامد : لا تَدَعِي الوساوسَ تستولي عليكِ؛ فَأَنَا بِقُرْبِكِ أفتِكُ بمن يَمَسُّ شَعْرَةً من رأسِكِ.

(يدخل عثمان.)

المشهد الثالث

(ابن حامد – دريدة – عثمان)
عثمان : أَسْعَدَ اللهُ مَسَاءَ سَيِّدِي.
ابن حامد : ما وراءَكَ يا عثمان؟
عثمان : مولاي إبراهيم أَنْفَذَنِي في طلبك.
دريدة : والدي يدعوك إليه؟ وفي مثل هذه الساعة؟ لا بدَّ من حدوث أمرٍ مهمٍّ!
ابن حامد : ابقي هنا يا دريدة بينما أُقَابِلُهُ وَأُوَافيكِ.
دريدة : سأبقى؛ فلا تُبطئْ بالرجوع.

(يخرج ابن حامد وعثمان، وتجلس دريدة على المقعد.)

المشهد الرابع

(دريدة – أبو عبد الله – علي)
أبو عبد الله : أَسْعَدَ اللهُ مساءَ دريدة الحسناء.
دريدة : مَنْ هذا؟
أَبو عبد الله : أسيرُ غرامٍ في يديكِ زِمَامه.
دريدة : كفاكَ هذرًا يا هذا؟ قلْ مَن أنْتَ وإِلَّا أَستنجدُ.
أبو عبد الله :
«تسائلني مَن أَنْتَ وهي عليمةٌ
وهل لفتًى مِثْلِي على حالهِ نكْرُ»١
من أنا؟ أَلَمْ تعرفي بعدُ مَنْ أنا؟

(يكشف قناعه.)

دريدة : مولاي السلطان.
أبو عبد الله : أجل، سلطان غرناطة، ولا تدعيه بمولاكِ؛ فما هو في هذه الساعة غير عبدٍ جاء يطرح قلبَه على أقدام مولاتِه.
دريدة : لا أفهم ما تعنيه يا سيدي.
أبو عبد الله : ألَمْ تفهمي ما أعنيه يا قاسية؟ أوَلَم يدلَّكِ قلبُكِ على أنَّني أُحِبُّكِ ولم أقصدْكِ في جنح هذا الليل إلَّا لأقول لك هذه الكلمةَ السحريَّةَ: أُحِبُّكِ!
دريدة : تُحِبُّنِي، أنا؟
أبو عبد الله : لا لوْمَ عليكِ في تهيُّبِكِ من سلطان غرناطة، وما أَتَيْتُكِ إلَّا لأقدِّمَ لَكِ السعادة؛ فلَا تخاطبيني كسلطان، بل خاطبيني كعاشقٍ أَقْصَى أمانيه أَنْ يراكِ أسعدَ بناتِ حواء.
دريدة (بتهكم) : حاشا لمثلي أنْ تكون غيرَ جاريةٍ من جواري السلطان أبي عبد الله.
أبو عبد الله : وما يمنع أَن تكوني حبيبتي، بل سلطانة غرناطة أَجمع؟
دريدة : لا يمكنني ذلك، وهذا الموقف لا يليق بمثلي.
أبو عبد الله : يا للعجب! أَأَدعوكِ إلى السعادة وأَنْتِ ترفضينها؟ ألَا تعلمين أَنَّ أجملَ فتاةٍ في المملكةِ تتحسَّر على مثل ما أدْعُوكِ إليه؟
دريدة : دعني وشأني يا مولاي؛ فأنْتَ صاحبُ عزٍّ وسلطان، وما أنا غير فتاة مسكينة كلُّ ما لي من حطام هذه الدنيا والدٌ شيخٌ من واجبي ملَاَزمته في زمن شيخوخته.
أبو عبد الله : إنَّه يبقى معكِ في قصري، هاكِ يدي!
دريدة : لا، لا.
أبو عبد الله : إِذَنْ أَنْتِ تفضِّلِين عليَّ ابن حامدٍ وهو ربيبُ نعمتي!
دريدة : كفى يا أبا عبد الله؛ فقد أهَنْتَني بشخص حبيبي! وعَدتُ ابنَ حامدٍ بيدي، وَوَعَدَهُ أبي بي، فلَا سبيلَ إلى نقضِ مَا وَعَدَ شَرِيفَانِ. ليس لي غير قلبٍ واحد، وقد وهبتُهُ فلا تُحَاول المحال.
أبو عبد الله : ولكنَّ العاقل يختارُ الأفضلَ، ولا لوْمَ عليه ولا تثريب؛ فالسعادة تُطرقُ من أبوابها.
دريدة : إن سعادتي بحبيبي وسعادته بي.
أبو عبد الله : وهل ابنُ حامدٍ يا دريدة أحقُّ بكِ مني؟ إنَّكِ لا تزالين حديثة السنِّ، ولولا ذلك لم تفضليهِ عليَّ. ارجعي إلى نفسِكِ واعلمي أن سلطانًا عظيمَ القدرِ يعرضُ عليكِ السلطان والعرش والتاج.
دريدة : لا أبيع حبيبي بكلِّ سلطان الأرض، ولا أبيع قلامة ظفرِهِ بالعرش والتاج.
أبو عبد الله : أَهذا جوابُكِ الأخير؟ ألَا تخافين سطوتي؟
دريدة : يا أبا عبد الله، إِنَّ عرشكَ يخصُّكَ، وقلبي يخصُّني. إِنكَ تقدر أن تقول لأجمل الغادات: أُحبُّكِ فتشجِّعكَ على حبِّك، ولكن ليس هذا شأنك مع حبيبة ابن حامد!
أبو عبد الله : حذار أيتها الفتاة الشامخة! أنتِ قويَّةٌ بنظراتِكِ الفتانة، وابتساماتِكِ الساحرة، ولكنكِ ضعيفةٌ أمام قوتي وسلطاني؛ فلا تنسَيْ أَن حبيبكِ تحت مطلق تصرُّفي أفعل به ما أشاء، فكلما زدت نحوه حبًّا زدتُ عليه حقدًا. أنا لستُ ممَّنْ يخفضون الجناح؛ فلِي إرادةٌ لا تتزعزع، وأنا عزيز الجانب أرفع بكِ إذا شئتُ إلى أسمى الدرجات، وأحط بكِ إِذَا شئتُ إلى أسفلِ الدركات.
دريدة : وهل تظنني جبانةَ القلبِ لئيمةَ العواطف؟ لا؛ فأَنْتَ لا تعرف النساء، إنَّ الحبَّ لا يتطرَّق إليهنَّ عن طريق الخوف، والقلوبُ لا تُؤْخذُ بالقوَّةِ.
أبو عبد الله : سترين كيف أَمْتَلِككِ بالرغم منكِ.
دريدة : ربما تقدر على امتلاك جسمي، ولكنَّكَ عاجزٌ عنِ امتلاك قلْبِي. إنَّ للقلوب سلطانًا يأمرها بما يشاء فتمتثل له، وهذا السلطان هو الحب الذي لا تقدر عليه بكل ما لك من عنفوان.
أبو عبد الله : أما والله لقد تطاولتِ عليَّ، فلا بدَّ لي من الحصولِ عليكِ!
دريدة : ابتعدْ عنِّي وإلَّا أستنجد وأجمع أهل غرناطة وأقول لهم: انْظُرُوا مَنْ وَلَّيْتُموه أمرَكُمْ يَقْتَرِفُ أفظَعَ الذنُوبِ، هاكُمْ مَن سَلَّمْتُموه أعرَاضَكُمْ يَسعَى إلى اغتِصابِها.
علي : دعني أكمُّ فمَها يا مولايَ؛ فلم أشهد قطُّ مثل هذه الوقاحة.
أبو عبد الله : قِفْ! واللهِ لأَتَغَلَّبَنَّ عليكِ وأجعَلَنَّكِ عِبْرَةً لأَمثالِكِ.
دريدةُ قد أعرضتِ عنِّي جهالَةً
عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنْتِ لَا بُدَّ لِي مِنْكِ
فَإِمَّا بذُلٍّ وَهو أَلْيَقُ بِالْهَوَى
وَإِمَّا بِعِزٍّ وَهو أَلْيَقُ بالملْكِ
سِرْ يا علي!

(يخرجان.)

المشهد الخامس

(دريدة وحدها)
سِرْ يَا ظَلُومُ مُهَدِّدًا مُتَوَعِّدًا
مَا أَنْتَ إِلَّا الحاكمُ المتحكِّمُ
وَحيالَ سُدَّتِكَ المنيعةِ عصبةٌ
تعنو لِمَا تَبْغِي وقومٌ نُوَّمُ
لَهُمُ لأمركَ طَاعةٌ عميتْ فَإِنْ
تَفْتُكْ بِهِمْ صَلُّوا عَلَيْكَ وَسَلَّمُوا
أَلِفُوا الخمولَ وَعَوَّدُوا أروَاحَهُمْ
ذُلًّا فَلَا تَشْكُو وَلَا تَتَظَلَّمُ
لَكَ فِي الْوَرَى حَتَّى الْحَرَامُ مُحَلَّلٌ
أَمَّا عَلَيْهِمْ فَالْعَفَافُ مُحَرَّمُ
للهِ من جَورِ الشَّرَائِعِ إِنَّها
نِيرٌ عَلَى عنقِ الضعيفِ مُحَكَّمُ

•••

يَا أنفسًا ثوبُ الصغارةِ ثَوْبُهَا
لَمْ يُخْفِ عَارَكِ قَدْرُكِ الْمُتَجَسِّمُ
وَالْعَرْشُ لَا يُعْلِيكِ شَأْنًا فِي الْوَرَى
وَلَوَ أَنَّ سُدَّتَهُ هناك الأنجُمُ
يَا مَنْ أَتَى تَحْتَ الظَّلَامِ يَقُودُه
أَمَلٌ وَعَادَ وقَلْبُهُ مُتَحَطِّمُ
أَتَظُنُّ أَفْئِدَةَ الْعذَارَى سِلْعَةً
تُشْرَى بِمَالٍ أَوْ بِسَيْفٍ تُغْنَمُ
كذبتْكَ نَفْسُكَ إِن بين ضلوعنا
من غامِضِ النزعاتِ مَا لَا تَعْلَمُ
فَاذهَبْ بِتَاجِكَ إِنَّ عَاطِفَةَ الْهَوَى
عِنْدِي لَأَثْمَنُ مِنْ حلاهُ وَأَعْظَمُ

المشهد السادس

(دريدة – إبراهيم – ابن حامد)
دريدة (تُقَبِّلُ يديْ والدها وتهُمُّ بالركوع فيمنعها) : دعني أَرْكَعُ على قدميكَ يا أبي مستميحةً منك صفحًا.
إبراهيم : وبما أسأتِ إليَّ يا دريدة؟ لا أفْهَمُ ما تقولين.
ابن حامد : ما أصابكِ يا دريدة؟ وعمَّ تطلبين عفوًا؟
دريدة : لم يُصِبْني شيءٌ، وسأقول الحقيقة؛ فاسمعا ما جرى لي: لم تكدْ تفارقني يا ابن حامد حتى دخل السلطان عليَّ وكاشفني بغرامه، وقدَّمَ لي تاجَهُ، وبعد نقاشٍ بيننا وَعدتُهُ بيدي.
إبراهيم : ماذا؟ إِذَا كان ذلك حقًّا؛ فما أَنْتِ ابنتي ولا أنا أبوكِ!
ابن حامد : لا، لا، أَنْتِ تَمْزَحِينَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ!
دريدة : لم أقلْ غيرَ الْحَقِّ، فَعُذْرًا يا أبي إِذَا نقضتُ وعدك، وعفوًا يا ابن حامد إذا خُنتُ عَهْدَك.
إبراهيم : ويحكِ يا بنيَّةُ، أَين شرفُكِ؟ أَيْنَ عِزَّةُ نفسِكِ؟ ليتكِ لم تُخلقي. أتريدين أن تُلَطِّخي شعوري البيضاءَ بوصمة العار؟ أَنْتِ لابن حامدٍ وهو لكِ، ولا يفرِّقُ بينكما غير الموت.
ابن حامد : سيَرى أبو عبد الله أن روحه تُغْتَصَبُ قبل أن يغتصب حبيبتي.

(يقبض على حسامه ويحاول الخروج فتُوقفه دريدة.)

دريدة : قفْ يا ابن حامد فقد عرفتُك، تعالَ إلى ذراعيَّ فلا حبيبَ لِي سواك، وأنتَ يا والدي شكرًا لك على ثباتك.
إبراهيم (بابتسامة تأنيب) : دريدة! …
ابن حامد : قولي الحقيقة، تكلَّمي …
دريدة : لم أقصد بما فعلت غير امتحانكما؛ فإننا مُقدِمون على شرور وفِتَن. إِنَّ أبا عبد الله جاءَنِي عارضًا عرشَهُ فرفضْتُهُ، فتوعَّدني وتوعَّدته، وذهب يائسًا مزمجرًا لا يلوي على شيء.
إبراهيم : حسنًا فعلتِ يا بنيَّة؛ فالموت ولا العار.
ابن حامد : السلطان كان عندكِ؟ ويلٌ له! أَلم يعلم أَن الأعْدَاءَ أَحَاطُوا بالمدينة؟ ألم يعلم أن عرشَهُ على شفيرِ الهاوية؟ تنبَّئُوا أن المملكة ستسقط عن يده، وقد صحَّت النبوءَةُ؛ فسلامٌ يا وطن أجدادي!
إبراهيم : هذه عاقبة الضلال لمن ضلَّ سواءَ السبيل.
ابن حامد : ولكن … هل كان السلطان وحده؟
دريدة : لا، فقد كان عليٌّ برفقته.
ابن حامد : هذه الرواية من تأليف عليٍّ عدوِّنا الألدِّ؛ فويلٌ لهما!
دريدة : إِذا كنت تحبني يا ابن حامد فلَا تتعرَّضْ لهما، دعونا من هذا الحديث الآن (لوالدها) كنت يا أبتِ دعوتَ ابن حامدٍ إليك، فما سبب هذه الدعوة؟
إبراهيم : دعَوْتُهُ يا بنيَّتِي لنفتكر بطريقة نبعدكِ بها عن غرناطة.
دريدة : تبعدوني أنا؟ ولماذا؟
إبراهيم : علمنا يا دريدة أن الأعداءَ طوَّقُوا المدينةَ، ولا بدَّ من سقوطها ما دام أبو عبد الله مُنغمسًا في حمْأَة فساده.
ابن حامد : إِنَّنَا ارْتَأَيْنَا أَنْ نُبعدك لمدًى قريب عن غرناطة، وعندي أنسباء في خارجها تنزلين بينهم على الرحب والسعة، وتكونين في مأمنٍ من بلايا الحرب.
دريدة : وحدي لا أذهب. هيا بنا معًا.
إبراهيم : نحن يا بنيتي رجالٌ يمكننا الدفاعُ إذا هُوجمنا، أمَّا أنْتِ فلا طاقة لك بذلك.
دريدة : لا تخشيا؛ فإِنَّ الحبَّ الذي بين جوانحي يجعل لي ساعدًا أشد من الصخر.
ابن حامد : بربك يا دريدة، اقبلي بما اقترحناه عليك؛ فإِن ذلك آمنُ لكِ وأضمنُ.
إبراهيم : لا تركبي رأسَكِ يا بنيَّة؛ فنحنُ أبصرُ منكِ بالعواقب.
دريدة : هيَّا بنا جميعًا فنأمن كلُّنا. أمَّا إذا أبيتما وكان الموت ينتظرنا؛ فنموت معًا، فما لذَّتِي في العيش بعدكما.
ابن حامد : نحن تقضي علينا الواجباتُ الوطنيَّة بالبقاءِ هنا.
دريدة : وأنا تقضي عليَّ واجباتُ الحبِّ بملازمتكما.
إبراهيم : أهذا جوابك الأخير؟
دريدة : بالله لا تُحرِّجاني على الذهاب؛ فأنا لا يطيب لي عيشٌ في البُعْد عنكما.
إبراهيم : شأنكِ وما تريدين. والآن هيَّا بنا. إِلى اللقاء يا بنيَّ.
دريدة : إِلَى اللقاءِ يا حبيبي.
ابن حامد : مع السلامة يا أبي ويا حبيبتي، وإِلَى الغد.

المشهد السابع

(ابن حامد وحده)
حَيَّاكِ رَبِّيَ يا روحي وريحاني
فأَنْتِ فِي الأرض معبودي وإِيماني
لله عيناكِ هل عيناكِ أدركتا
ما أجَّجتْ في قلوبِ الأُسْدِ عينانِ
لله قلبُكِ إِذْ قلبي يطارحُهُ
وجدي فيخفُقُ ولهانًا لولهانِ
فِي أضْلُعِي من لهيب الحبِّ نارُ جَوًى
مَا زلتُ أسكبُ فيها ماءَ أَجْفَانِي
لَوْلَا دمٌ عربيٌّ في العروق جرى
هجرتُ من أجلِكِ الدنيا وأوطاني
لكنَّ مجدَ جدودي من قبورِهِم
لنصرة الوطن المحبوب ناداني
لبَّيْكُمُ يا أُبَاةَ الضَّيمِ ها أنذا
ما خاب ظنُّكُمُ في ليث قحطانِ
رُوحِي وَمَا مَلَكَتْ كَفِّي فِدَى وَطَنِي
فَلْينْسج الموتُ منذُ اليومِ أَكْفَانِي

وطني، وما أعذب هذه الكلمة! يعزُّ عليَّ أن أراكَ تُبَاعُ رَخِيصًا! لهَفي عليك فأنْتَ على شفيرِ الهاوية.

المجدُ بالعدلِ، فأين عدلُ حُكَّامك؟ القوة بالاتحاد، فأَيْنَ اتِّحَادُ أَبْنَائِك؟

مَرْحَى لعزِّكَ الغابر! عزٌّ تَأَلَّقَ من الشَّرقِ تألُّقَ الشمس، وانبسط نورُه على ما وراء المحيط، وها هو يغيب في الغرب مُتقلِّصًا مُتضائلًا.

نورٌ سطَع من الجزيرةِ فطارت بمشاعيلهِ نسورُ الإسلَامِ حاملةً إلى العالم كلَّ تمدُّنٍ وكلَّ عمران، فجثَم خالدٌ على سفح حرمون، وحوَّم ابن العاص على ضفاف النيل، ورفرف موسى على مجاهل إفريقية، وبسط طارقٌ جناحَيْهِ عَلَى جنَّاتِ الأندلس؛ فازدهرت الصحارى، وعمرت القفار، فيا لك من نُور!

ولكن ماذا يفيد التغني بأمجاد الماضي، والحاضر تختلج فيه الحسرةُ، والغدُ تغشاه الظلمة؟!

أَيْ طارق … لقد شاهدتَ النَّسْرَ العربيَّ يبسط جناحيه على الأندلس، فقمْ وشاهدْهُ الآن محطَّمَ الجناحين.

أنتَ القائل في قومك: العدوُّ أمامكم، والبحر وراءَكم؛ فاختاروا! وقد اقتحموا الموت، فكان لهم مجد الحياة. أمَّا حَفَدَتُهم، حَفَدَةُ أولئكَ الأبطال، أَفتعلم عَلَامَ وقع اختيارُهم؟ إنَّهُمْ فضَّلوا عارَ الهزيمة من وجهِ الموتِ تمسُّكًا بالحياة.

التَّرَفُ قبلةُ نفوسِهِم، والفساد وجهةُ ميولهم، والشقاقُ مطمح زعمائهم، والجَوْرُ شعارُ ملوكهم!

والأندلس، تلك الكأس المترعة بالفخار والمجد، لقد اشتفَّها الفاتحون، ولم يبقَ من خمرتها غيرُ الثُّمالة، وما هذه الثمالةُ إِلَّا غرناطة، وها هي في يد العدوِّ تلتهب شفتاهُ ظمأً إلى ارتشافها.

إِيه يا أبا عبد الله! إنَّ اسمكَ سيظل في صفحات التاريخ ملطَّخًا بالعار، وملعونًا بكل فمٍ؛ فوا خجلةَ الحفَدَة من مُضَيِّعِ أمجادهم!

قمتَ تُزاحمني على حبيبتي، وسأَصْفَح عنك في سبيل الوطن، ولكن حذارِ حذارِ؛ فابن حامد لا يرقُّ ولا يرحم!

دعْ لابْنِ حامدَ مَنْ يُحِبُّ وَلَا تَكُنْ
— أَلَّا تُذَلَّ — عَلَى دُرَيْدَ مُزاحِمِي
دُونَ الْبُلُوغِ إِلَى دُرَيْد حَبِيبَتِي
إِرْعَادُ آسَادٍ وبَرْقُ صَوَارِمِ

(يخرج فيدخل علي.)

المشهد الثامن

(علي وحده)
إِنِّي أُعِدُّ لَكَ انْقِضَاضَ صَوَاعِقٍ
إِنْ كَانَ دُونَ هَوَاكَ بَرْقُ صَوَارِمِ
هَدِّدْ بِكَفَّيْكَ السَّمَا مُتَوَعِّدًا
وَغَدًا تَعَضُّهُمَا بذُلِّ النادِمِ
وَاحلمْ بِتَحْقِيقِ الْمُنَى فَسَتَغْتَدِي
كَسَرَاب قفرٍ أو كخطرةِ حالمِ
إِنِّي وَرَاءَكَ حَيْثُ سِرتَ يَقُودُنِي
حِقْدِي فَجَاهِدْ مَا اسْتَطَعْتَ وَقَاوِمِ
وَغَدًا تَرَى عَكْسَ الذي أَمَّلْتَهُ
وَتَقُولُ: يَا تَعسَ الْمُحِبِّ الْهَائِمِ
(ستار)
١  يستشهد الشاعر بهذا البيت وهو لأبي فراس الحمداني من قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبرُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤