الفصل الثاني

بين العرش والجمال

  • المكان: قصر الحمراء في غرناطة.
  • المنظر: قاعة العرش؛ وتبدو فيها السدَّة الملكية محاطة بالمقاعد، ومفروشة بالسجَّاد الثمين. كما تظهر مجمرتان للطيب في مقدمة المسرح.

المشهد الأول

(علي وحده)
بشرارةِ مكرٍ من فكري
أوقدتُ الفتنةَ في القصرِ
فعليُّ انْهَضْ وابطُشْ بَطْشا
أَتَتِ الْفرصةُ فانْهَشْ نَهْشا
وَافتنْ وَافتكْ وانحَرْ وامكرْ
فدَمُ الأعدا خمرٌ أحمَرْ
وَدهاك فهُزَّ بِهِ الْأَرْضا
شَرْقًا غَرْبًا طُولًا عَرْضا

إِيه يا عليُّ، اسرَحْ وامرَحْ؛ فقد خطوت أول خطوة في طريق الانتقام، وهذه شرارة النار التي أوقدتها قد هبَّت، فمن يجسر على إطفائها؟

وأنت يا ابن حامد، حذار حذار؛ فإن الذي استهزأت به وانتصرت عليه معدٌّ لك حبائل الأبالسة، وعذابات الجحيم. خلقك الله محبوبًا، وخلقني مكروهًا، وميَّزك عني بالشجاعة أيضًا، ولكن القوة ليست للسيف ولا للفضائل، وإنما هي للرءوس المملوءة بالحيلة.

سرْ أنت على طريق المجد والشرف، وأنا أسير على طريق المكر والخداع، وسنلتقي فيرى كلٌّ منا مصيره.

الأبالسة معي، وأبو عبد الله بين يدي ألعب به على هواي، فقاوِمْ ما استطعتَ وسنرَى. أوْغرتَ صدر السلطان عليك وعلى حبيبتك فكان ما كان، ولن يرجع عن عدائكما ما دُمتُ بجانبه كلما خمدت جمرة من حقده أوقدتُ نيرانًا.

سأذيقك عذاب الموت، فأنتَشِل دريدة من يديك لأضعها بين ذراعي أبي عبد الله، ثم أُنزلك إلى القبر محمولًا على عواصف انتقامي؛ فاستعد!

يظن السلطان أنني أفعل ما أفعل لأجل مصلحته، ولكنه لا يعلم أن ذلك كله في سبيل انتقامي. وماذا يهمُّني أبو عبد الله إذا تزوج دريدة أو لا، وإن سقط عرشه أم لم يسقط؟ كل شيء أضحِّي به في سبيل غايتي؛ وطني وديني والعرش والسلطان!

هذا السلطان مقبلٌ، فويلٌ لي إذا كان سمِع ما قلتُ …

(يدخل السلطان وأمامه عبدان يقفان على البابين المقابلين، وخلفه أربعة عبيد؛ اثنان بالمراوح يقفان حول العرش، واثنان يوقدان المجامر.)

المشهد الثاني

(أبو عبد الله – علي – العبيد)
علي : أسعد الله صباحَ مولاي السلطان.
أبو عبد الله : وصباحك يا علي. ما أتى بك في هذه الساعة؟
علي : لم يأخذني غمضٌ طول ليلي غيظًا مما جرى لنا البارحة، وقد جئتُ لأشاهد عقابك لمن أهانوك. ويلٌ لتلك الفتاة! فإن الكلام الذي خاطبتك به لا يقال في حضرة سلطانٍ مثلك.
أبو عبد الله : على مَن الحقُّ يا علي؟ ومن بدَأ بالتحرُّش؟ ألسنا نحن؟ لو لم ندخل عليها ونُطارحها الغرام لما خاطبتنا بتلك اللهجة القاسية.
علي : وما أنت صانعٌ إذن؟
أبو عبد الله : سأتركها وشأنها؛ فمن العار على سلطانٍ مثلي أن يعرِّض نفسه للإهانة، فذلك مما يحط من قدري.
علي : أفتصبر إذن على ما نالك من الإهانة؟
أَبُو عبد الله : نعم سأصبرُ، فإن الصبر بالملوك أجدر، والرجل مَن إذا قدَر عفا.
علي : إذا صبرتَ أنت فلا أصبرُ أنا، وإذا عفوتَ فلا أعفو، أهانوا سلطاني ولن أترك لهم هذه الإهانة. نحن نسعى لِنُمكِّن هيبتك من القلوب، فتقوم فتاةٌ كهذه تُهينك في وجهك! إن ذلك لا يحتمل.
أبو عبد الله : ولكننا في موقفٍ يجبرنا على التضحية بكل شيء في سبيل الوطن. إنني أسمع صراخ أُمَّتي متألمةً من حالتها، إنني أرى جدودي في قبورهم ينظرون إليَّ بعين اللوم، فمتى أجليت الأعداء عن أسواري عدت إلى البحث عن ملذاتي.
علي : ذلك لا يرضى به رجالك المخلصون؛ فمرنا بإشارة واحدة نخلِّصك ممن أهانوك ولو قامتْ معهم قوات الأرض بأجمعها.
أبو عبد الله : ويلَاه! إنني أكاد أفقد صوابي، فالحب يدفعني والوطنية ترجعني.
علي : المسألة بسيطةٌ يا سيدي؛ فيكفي الآن أن تدعو إليك ابن حامد ووالد خطيبته فتمنع الأول عن حب دريدة، والثاني عن مصاهرة ابن حامد.
أبو عبد الله : إنما أكون كالكاتب على صفحات الماء، وأعرِّض نفسي للإهانة.
علي : وأية إهانة يا ترى؟ مُرْني بإرسال مَن يدعوهما، وأنا الكفيل بالنجاح. أنا ذاهبٌ لإنفاذ مَن يأمرهما بالمجيء.

(يخرج علي.)

أبو عبد الله (لأحد الحاجبين) : عَلَيَّ بالقهوة.

(يتمشى قليلًا ثم يجلس على العرش فيأتيه الحاجب بالقهوة، فيشربها ثم يعود إلى السير جيئةً وذهابًا.)

المشهد الثالث

(أبو عبد الله – علي)
أبو عبد الله :
وَقَفْتُ بَيْنَ الْهَوَى وَالْعَرْشِ وَالهَفِي
فالقلْبُ يَدْفَعُنِي وَالعقْلُ يَنْهَانِي
إِذَا اشتريْتُ الْهَوَى بِالْعَرْشِ أَفْقَرَنِي
وَإِنْ فديتُ بحُبِّي العرْشَ أَشْقَانِي
يَا قَلْبُ مَا كُنْتَ يَوْمَ الروعِ مُضْطَرِبًا
فَمَا لَكَ الْيَوْمَ؟ جَاوِبْ أَيُّهَا الْعَانِي
يَا وَيْحَ سُلْطَان عَدْلٍ جَارَ قَاتِلُهُ
وَذَلَّلتْهُ بعيدَ العِزِّ عينانِ
أَأَتبعُ الحبَّ؟ إِن الحبَّ أَفْضَلُ لِي
وَإِنْ تحكَّمَ فِي أَمْرِي وَأَضْنَانِي
مُضَحِّيًا تَاجَ أَجْدَادِي وَمَجْدَهُمُ
فَالْحُسْنُ أَثْمَنُ مِنْ مَجْدٍ وَتِيجَان
لَا كَانَ سُلْطَانِيَ الْمَشْئُومُ طَالِعُهُ
إِذَا أَذَلَّ جَمالُ الغيدِ سُلْطَانِي

(يدخل علي.)

علي : أرسلت يا مولاي أستدعي إبراهيم وابن حامد.
أبو عبد الله : حسنًا، ولكن ما عساها تكون نتيجة هذه المقابلة؟
علي : لا تعبأ بنتيجتها ما دمنا ندبر الأمر بالتعقل والدهاء، وخير ما تفعله الآن إرغام أنف ابن حامد؛ فيعرف مقامه أمام سلطانه.
أبو عبد الله : إنني أخجل من إهانته وتحقيره بعد أن بادأني بإخلاص كان عَلَيَّ مقابلته بمثله، فبأيَّة عينٍ أقابله؟
علي : قابله بعين الازدراء، بعين العظمة، بعين سلطانٍ رفيع القدر. ها هو مقبل مع إبراهيم، انظُر إليه؛ فهو يمشي مختالًا كأنه داخلٌ إلى منزله، أهذه هيبتُك من نفسه؟

المشهد الرابع

(أبو عبد الله – علي – ابن حامد – إبراهيم)
إبراهيم : عليك السلام ورحمة الله وبركاته.
ابن حامد : حيَّا الله السلطان.
أبو عبد الله : حياكما الله.
إبراهيم : أرسلتَ يا مولاي في دعوتنا، وقد امتثلنا لأمرك؛ فمُرْ بما تشاء.
أبو عبد الله : أأنت مخلص يا إبراهيم لسلطانٍ غمَرك بنِعَمه مدة سنوات؟
إبراهيم : ما نحن إلا صنيعة السلطان.
أبو عبد الله : وأنت يا ابن حامد، أترضخ لما يقوله لك سلطانك؟
ابن حامد : إذا كان ذلك خاصًّا بالوطن، فأنا أُضحِّي بالروح في سبيلك.
أبو عبد الله : وإذا كان خاصًّا بي أنا؟
ابن حامد : لكل سؤالٍ جواب، فإذا كان لا يمسني فبِكُلِّ طيبة خاطر.
أبو عبد الله : ليس فيه ما يمسُّك، بل جلُّه أن تتخلى لسلطانك عن أمر لا أعلم مكانه من نفسك.
ابن حامد : وما هو ذلك الأمر؟
أبو عبد الله : إنها دريدة يا ابن حامد، فإذا كنت مخلصًا لسلطانك فتخلَّ عنها.
ابن حامد : إنَّ التخلي عنها ليس منوطًا بي وحدي، إنما هو متعلِّقٌ بها وبأبيها. وأنا أقول ما يقولان، وأفعل ما يفعلان.
أبو عبد الله : وأنت يا إبراهيم، ما تقول؟
إبراهيم : مولاي! إن الشيخ الواقف أمامك أصبح على حافة قبره، ولم يُخلَّ قطُّ بشرفه، فإذا كانت شيخوخته وخدماته تشفع لديك به؛ فلا تُجبره على تلطيخ شعوره البيضاء بوصمة العار. إن الشرف آخر ما بقيَ لي من حياتي الذاهبة فلا تسلُبْنيه. وَعدتُ ابن حامد بابنتي، ولن أرجع عن وعدي.
أبو عبد الله : ولكن سلطانك يطلبها منك، وما الرعية إلا ملكٌ حلالٌ للسلاطين!
إبراهيم : أستحلفك بالله الذي تعبده، والوطن الذي تحبه أن لا تجبرني على نكث عهدي.
أبو عبد الله : اقبلْ بالرضى وإلَّا أضطر إلى أخذها بالقوة!
إبراهيم : باستطاعتك ذلك، ولكنَّك لا تصل إليها إلَّا بعد أن نكون أنا وهي جثَّتينِ هامدتينِ!
أبو عبد الله : كفى كفى! فدريدة لي!
إبراهيم (يركع) : بربك يا مولاي …
ابن حامد (ماسكًا بيد إبراهيم) : قف يا أبتي؛ فالركوع أمام الله لا أمام الناس! (للسلطان) أما وقد أبَى فأنا أُدافع الآن عن حقوقي.
أبو عبد الله : وأية حقوقٍ هذه؟ ليس لرجالي إلَّا ما أسمح لهم به! ولولا حرمة الوطن لكنت أؤدبك.
ابن حامد : لو كنتَ ممَّن يُحافظون على حرمة الوطن لما وصل إلى هذه الحالة! إن الوطن بمثابة وديعة استُودِعْتها، فمتى مثلتَ يوم الحشر أمام أجدادك وطالبوك بها فبِمَ تُجيب؟
علي : كفاك يا ابن حامد، أهكذا يخاطب الناس سلطانهم؟
ابن حامد : صه! فما كلَّمتك لتجيب.
أبو عبد الله : وحرمة المصطفى لترينَّ ما يَشيبُ له رأسك.
علي : مُرْني فأعاقبه على وقاحته بما يستحق.
أبو عبد الله : لم يَبْق مجالٌ للصبر؛ فاقبض عليه يا علي.

(يجرد عليٌّ خنجره ويهجم على ابن حامد، فيجرد هذا خنجرَه ويقف إبراهيم بينهما.)

إبراهيم : اقبضوا عَلَيَّ؛ أَنا أَنا المذنب.
ابن حامد : تعال يا أبتي؛ فإن هذا الخنجر يخترق صدر مَن يقترب مني، ولكن لا (يطرح الخنجر من يده) لا حاجة إلى الخناجر؛ فأنت قادرٌ يا أبا عبد الله على قتلي! هاكَ رأسي فاقطعهُ! هاك يديَّ فغلِّلهما بالقيود. إنني لا أدافع، إنني أعزل فاقتلني! ولكن افتكر بالعاقبة، افتكر بالوطن! أنا أضحي بكل شيء في سبيل وطني، ألا تعلم أن ورائي ألوفًا من الرجال، فإذا أصابني مكروهٌ قامت عليك وعلى عرشك؟ وهل نحن الآن في حاجةٍ إلى الثورات أم إلى التكاتف والاتحاد؟ الوطن يدعونا لنصرته فحتَّام نقعد؟ الأمة تئنُّ فإلامَ لا نسمع أنينَها؟
أبو عبد الله : الوطن … إن هذه الكلمة تُغيِّر في لحظةٍ واحدةٍ كل أفكاري، اخرجوا جميعًا ريثما أدعوكم.

(يخرج الجميع ما عدا علي؛ فإنه يبقى منزويًا حيث لا يراه السلطان.)

المشهد الخامس

(أبو عبد الله – علي منزويًا)
أبو عبد الله : يا أشباح أجدادي، ابتعدي عني، ولا ترشقيني بهذه النظرات القاتلة، ابتعدي فإن منظرك مخيفٌ، ونظراتك أحدُّ من السهام. يحق لك أن تُوبِّخيني فقد أسأتُ إليك وإلى وطني، يحقُّ لك أن ترشقيني بهذه النظرات النارية فقد تَهامَلتُ كثيرًا.
ولكن عفوًا يا أجدادي عفوًا، سأكفِّر عمَّا مضى بسلوكي المقبل، سأتركُ الحبَّ وأتفرغ لمصلحة وطني، سأُبعدُ عني كل مفسدٍ، وسأصمُّ أذني عن سماع وشايات علي.

(يلمح عليًّا.)

هه! أراك لا تزال هنا يا علي.
علي : لم أكن هنا يا مولاي، فقد وصلت الساعة لعلَّك بحاجةٍ إليَّ، فما يرى فعلَه مولاي؟
أبو عبد الله : سأفعل ما يوحيه إليَّ ديني ووطني، سأترك هذا الحب فإنه يكلفني كثيرًا.
علي : وهل تترك ابن حامد بلا عقاب. والله لم أرَ قبل اليوم رجلًا تمرَّد على سلطانه، ومتى كان مجلس السلاطين مُعرَّضًا لبذاءة العبيد، ألا تتذكر استخفافه وتهديده؟
أَبُو عبد الله : أتذكر كل شيءٍ، ولكنني سأعفو عنه، بل سأرفع منزلته؛ فهو وطني بطل، وأنا الآن بحاجةٍ إلى أمثاله للوقوف بوجه الأعداء.
علي :
ودُرَيده؟ وهل نسيتَ دريده
وهي في الحسن آيةُ الناظرينا؟
أَفتسلو جمالَها بعد أَنْ كنـ
ـتَ لَهُ عابدًا به مفتونًا؟
ليتَ شعري أَهذهِ شيمةُ العشـ
ـقِ وهذي صبابةُ العاشقينا؟
أبو عبد الله : أجل نسيتُها، وقد مَحَوْتُ حبَّها من قلبي، وصورتَها من فكري، فلا تذكرها لي بعد الآن.
علي : طرَق مخيلتي فكرٌ أظنُّه صوابًا يا مولاي، فهل تريد أَنْ أَذْكُرَهُ لك؟
أبو عبد الله : وما هو؟ قلْ!
علي : ستعفو عن ابن حامد وتسمحُ له بدريدة، أَليس كذلك؟
أبو عبد الله : بلى.
علي : من رأيي يا مولاي أَنْ لا تعفوَ عن ابن حامد بلا مقابل.
أبو عبد الله : وما هو ذلك المقابل؟
علي : هو أَنْ تجعلَ التقاديرَ حكَمًا بينك وبينَهُ، ويكون مهر دريدة علم المملكة المقدَّس.
أبو عبد الله : وكيف ذلك؟
علي : ألم تقلْ إِنَّكَ سترسلُ ابن حامد إلى الحرب؟ إذَنْ سلِّمْهُ عَلَمَنا المقدَّس، فإذا حافظ عليه تكون دريدة نصيبَهُ، وهكذا يكون الله حكَمًا بينكما، ويأخذ الحقُّ مجراه.
أبو عبد الله : حسنًا، ولكن حذارِ أَنْ تكون هناك مكيدةٌ لاغتياله (للحاجب) علَيَّ بإِبراهيم وابن حامد!

(يخرج الحاجب ويجلس السلطان على عرشه.)

علي (على حدة) : رجعتُ فقبضتُ عليك يا ابن حامد، فلن تُفلتَ من يدي!

المشهد السادس

(أبو عبد الله – علي – إبراهيم – ابن حامد)
أبو عبد الله : عفوتُ عنكما تَقْدِيرًا لوفائكما وإِعجابًا بوطنيِّتكما.
إبراهيم : شكرًا لك يا مولاي.
أبو عبد الله : وفضلًا عن ذلك فدريدة تبقى لخطيبها، ولكن بشرط.
ابن حامد : مُرْ بما تشاء؛ فحياتي أُضَحِّي بها في سبيل الحصولِ عليها.
أبو عبد الله : دريدة لك على أَنْ تُؤَدِّي خدمةً للوطن! إِنَّ الأعْدَاءَ حول المدينة فأَرْجعْهم عنا.
ابن حامد : لعينيكِ يا دريدة! وعسى أَن إِخْلَاصِي المقبلَ يُنْسيكَ كلماتٍ دفعني إليها نزَق الشباب. وقد يُعْذَرُ العاشقون.
أبو عبد الله : إنني أصفح عنك، وهاك يدي عربون اتفاق جديدٍ بيننا.
ابن حامد :
هذي يدي وهي تنساني وتجحدني
إِنْ حدتُ عن شرفي أو حدتُ عن وطني
إِذَا حييتُ ستُبدي كلَّ معجزةٍ
أو متُّ تنسج من غارِ العُلَى كفني

(يدخل الحاجب.)

الحاجب : مولاي إن زعماءَ القبائل يستميحون الإِذن لمقابلتكم.
أبو عبد الله : أدخلهم.

(يخرج الحاجب.)

ابن حامد : والآن نستأذنكم بالذهاب.
أبو عبد الله : بل تبقيان هنا لنرى مطالب الأُمَراء.

المشهد السابع

(أبو عبد الله – علي – إبراهيم – ابن حامد – موسى – طرفة – عقبة وغيرهم)
الأمراء : حيَّا اللهُ السلطان.
أبو عبد الله : أهلًا بخيرةِ الأمراءِ والفرسان، خذوا مجالسكم. كيف حالُ الرعيَّةِ في هذه الأَزْمَةِ؟
موسى : إنَّها تدعو ببقاء عزِّكم، أَيَّدَكم الله، لكنَّ أزمة الحصار دفعتها إلى اليأْسِ. وقد أخذ الجوعُ يفتك في الرعاية بسبب انقطاع الزاد عنها.
أبو عبد الله : هذه مشيئَةُ الله. فكيف العملُ والخزائنُ فرَغتْ من المال، وإذا وُجد الْمَالُ تعذَّر عَلَيْنَا مشترى القوت.
موسى : وقد خلعت النساءُ جواهرهنَّ وعهدنَ إليَّ بتسليمها إليكم قائلات: لا يجدر بنا التزيُّنُ بهذه الحلي وبلادنا خرابٌ، وعيالُنَا محتاجةٌ إلى القوتِ الضرورِيِّ؛ بيعوها أَوْ فارهنوها ودافعوا بها عن ديارنا وأولادنا، فإذا انتصرنا لم نحتجْ إلى الزينة لإِظهار فرحنا، وإِذَا سُبِينا فما حاجةُ الأسيرات بالحلي والجواهر.

(يقدم للسلطان حليًّا وجواهر.)

أبو عبد الله : أَإِلى هذه الدرجة بلغت الحالة في البلاد؟
طرفة : لا تتعجبْ يا مولاي، فإِنَّ أهراءَنَا خلتْ من المئونة ولا ننتظر لا واردًا ولا صادرًا، وإن الذي كان واردًا للخيل صار قُوتًا للخيَّالة أنفسهم، وربَّما أكلوا الخيلَ نَفْسَهَا.
عقبة : ناهيكَ بأنَّ من السبعة آلافٍ من رءوس الخيل التي كانت عندنا لم يبقَ سوى ثلاثمائة رأس، وإن في مدينتنا مائتي ألف نسمةٍ كلها تطلب الخبز.
موسى : لقد صدئتْ سيوفُنَا من الانزواءِ في الأَغْماد، وظمئت إلى ارتشاف الدماء.
ابن حامد : وقد آن لنا أن نصقلَ صدَأَها ونروي ظمأَهَا.
علي (يقف) : كيف نحارب وأهل غرناطة على هذه الحالة والجوع يتهدَّدهم؟ وَلِمَ لا نُسلِّم ما دام العدوُّ غيرَ مقلعٍ عنا ولا راضٍ منا إلَّا بالتسليم؟
ابن حامد : أَنُسلِّمُ وَلَا تزال فينا بقيَّة دمٍ يجري؟ إِنَّ وسائلنا لم تنقطعْ بعدُ، ولا يزال عندنا قوة عظيمة هي الاستماتة، فَلْنَسْتَنْصِرَنَّ العامَّة إِلَى الجهاد ونقحمنَّ صفوفَ الأعداءِ، فإِمَّا موتٌ ونحنُ على الحالتين صائرون إليه، وإما نصرٌ والنصرُ بيد الله يُؤتيه مَن يشاء.
موسى : أَحسنت أَحسنت؛ فالموت ولا العار.
الحاجب : في الباب يا مولاي رسولٌ من قِبَل الأعداء.
أبو عبد الله : أَدْخِلْهُ. (يخرج الحاجب) ما شأنُ هذا الرسول؟ لا شك أنه آتٍ يعرض علينا شروط التسليم.
ابن حامد : فلنظهرنَّ أمامه من الضعف قوَّة.

المشهد الثامن

(أشخاص المشهد السابق – رسول إسباني)
الرسول : سلام على سلطان غرناطة.
أبو عبد الله : وعليك السلام، حللتَ على الرحب والسعة، فما وراؤك؟
الرسول : لقد أنفذني صاحبا الجلَالة بهذه الرسالة إليكم.

(يركع أمامه ويقدم إليه الرسالة.)

أبو عبد الله (يأخذ الرسالة ويقدمها إلى علي) : اقرأ يا عليُّ.
علي (يقرأ) : مِنْ إِيزابيلا ملكة قشتالة، وفرديناند ملك الأراغون إلى السلطان أبي عبد الله صاحب غرناطة.
كفى ما أُهرق من دماء رجالنا ورجالكم، فاحقنوا الدماءَ، وسلِّمُوا غرناطةَ؛ فالجوع يتهدَّدُها، وإن لم تسلِّمُوها عاجلًا فآجلًا، وعنوةً إن لم يكُنْ طوعًا، فاختاروا أَخَفَّ الويلين؛ أما شروط التسليم فهي أن يُقسمَ السلطانُ والأمراءُ يمينَ الأمانةِ للملكَيْن، فتتعيَّن لهم إِقْطاعاتٌ معلومةٌ لأجلِ معيشتِهِم، أمَّا سكانُ غرناطةَ فيصبحون رعيَّةً لملوك الإسبانِ يؤدُّون الجزية، وتكون لهم الحرِّيَّة التامَّة في أُمُور دينهم، وتبقى لهم دُورُهم وعقارُهم وأسلحتُهُم ما عدا مدافعهم، ويكون لهم قضاةٌ من أنفسهم يحكمون بمقتضى قواعد دينهم، واعلموا أننا لا نرجع عن حربكم ما دام فينا رجلٌ واحد. هذا ولكم الخيار.
أبو عبد الله (للرسول) : اذهب الآن ريثما نتداول في الأمر ثُمَّ ندعوك (يخرج الرسول) أَتَفَهَّمْتُمُ الشرُوطَ جيِّدًا؟
عقبة : إنها موافقة جدًّا.
علي : بل هي فوق ما كنا نؤمِّل.
طرفة : إن لم يكنْ ما تريد، فأَردْ ما يكون.
أبو عبد الله (بعد التفكُّر) : لقد عوَّلتُ على التسليم، وليس ذلك حَقْنًا لدمي أنا، وإنما ضنًّا بدمائِكم يا أهلَ غرناطة أن تُهدر، وأطفالِكم أن يموتوا جوعًا، ونسائكم وبناتكم أن تنزل بهنَّ معرَّات الحرب.
طرفة : هذا هو الرأي الموافق.
عقبة : إن لم نسلِّمْ عاجلًا فسنُسلِّم آجلًا.
أبو عبد الله : الله أكبر، لا إِلَه إِلَّا اللهُ، ومحمدٌ رسولُ اللهِ!
باطلٌ اجتهادنا في معاكسة الإرادة الإلهية، فقد كُتِبَ عليَّ أن أكون شقيًّا، وأن يذهب هذا الملك عن يدي.
عقبة : والهفي عليكِ يا غرناطة.
ابن حامد : دعوا اليأس للنساء والأطفال؛ فنحن رجالٌ ولنا قلوبٌ لا لذَرْفِ الدموع بل لهدر الدماء. والله لقد بقي علينا أشرفُ الخطَّتين؛ وهي الموتُ، فلنمُتْ إذنْ في سبيل استقلَالِنَا.
موسى : لا قدَّر اللهُ أن أشراف غرناطة أصبحوا يخافون الموت في سبيل الدفاع عنها.
أبو عبد الله : وما الفائدة من الدفاع وغرناطةُ إِن لم تسقط اليوم فستسقط غدًا؟!
عقبة : إذا كنا نقوى على النضال، فالشعب لا يقوى على احتمال الجوع.
طرفة : ونحن لم نعد نقوى على احتمال بكاء الأطفال وشكوى النساء.
علي : فلنُسلِّمْ ونحقنْ دماءَنَا لإنقاذ عيالِنا.
ابن حامد : والله هذا ذلٌّ لا يرضى به من يجول في عروقه الدمُ العربيُّ، فلنُكافح إلى النهاية ويفعل الله ما يشاء.
إبراهيم : يا قوم، لا تغشُّوا أنفسَكم بالمحال، ولا تظنُّوا أن ملوكَ الإِسبان وافون بمواعيدهم لكم. إِنَّ الموت الأحمر أهونُ ما نتوقَّع، وإنما نحن مستقبِلون أمرًا أيسرُه اكتساح الأوطان، وفضيحةُ العيال، وانتهابُ الأموال، وقلْبُ المساجد، وتدميرُ المنازل.
موسى : هذا عدا السَّوط والنار والنَّطْع والنَّفْي إلى غير ذلك ممَّا نحن صائرون إليه.
«فَإِذَا لمْ يَكُنْ مِنَ الْمَوْتِ بُدٌّ
فَمِنَ الْعَجْزِ أَنْ تَكُونَ جَبَانَا»١
أبو عبد الله : كيف العمل؟ رجالُنا يائسة، وخيولُنا نفقت، وخزائننا فرغتْ، فمن منكم يقومُ إلى الأعداء؟
ابن حامد : أنا لها! فإنني على أُهْبَةِ المضيِّ وقبيلتي في هذا السبيل، فخيرٌ لنا مرارًا أن نُعَدَّ فيمن استأكلهم الدفاع عن غرناطة من أن نُعَدَّ في الأحياء مِن بعدها. وغدًا — إن شاء الله — نقوم بالهجوم الأول، فلا نزال نكافح حتى يقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا، فإمَّا الموتُ وَإِمَّا النصر.
موسى : وأنا رفيقُكَ يا ابن حامد.
أبو عبد الله : عاشت همَّتُكَ يا رئيس بني سراج، وبورك في إخْلَاصِكَ!
ابن حامد :
نَادَتْكَ أَنْدَلُسٌ فَلَبِّ نِدَاءَهَا
وَاجْعَلْ طَوَاغِيتَ الْعَدُوِّ فِدَاءَهَا
حَاشَاكَ أَنْ تَفْنَى حَشَاشَتُهَا وَقَدْ
قَصَرَتْ عَلَيْكَ نِدَاءَهَا وَرَجَاءَهَا
جَرِّدْ ظُباكَ لِمَحْوِ أَجْنَادِ الْعدَى
تقتلْ ضَرَاغِمَهَا وَتَسْبِ ظِبَاءَهَا
موسى :
هبُّوا لها يا معشرَ التوحيدِ قد
آنَ الهُبُوبُ وَأَحرزوا عليَاءَهَا
دارَ الجهاد فلا تفتكمْ ساحةٌ
ساوَتْ بِهَا أحيَاؤُهَا شُهَدَاءَهَا
أبو عبد الله :
ألَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ يُمَدُّ لِيَ الْمَدَى
فَأُبْصر شملَ المشركينَ طَرِيدَا
وَهَلْ بَعْدُ يُقْضَى فِي الْأَعَادِي بعثرةٍ
تغادرهُم للمرهفاتِ حَصِيدَا
اذهب يا عليُّ وادْعُ الرسول، واجلبْ علمَ الجهاد (يخرج عليٌّ) فلنتَّكِلْ على الله أيها الفرسان، ونرفض شروط الأعداء، وغدًا يقوم ابن حامد بهجومه.

(يسمع من الخارج صوت المؤذِّن فيقوم الجميع بفروض الصلاة، ثم يدخل عليٌّ والرسول وحمد حاملًا العلم، فينحني الجميع أمام العلم.)

المشهد التاسع

(أشخاص المشهد السابق كلهم – حمد حاملًا العلم)
أبو عبد الله (للرسول) : اذهَبْ وقُل لمليكيك أن ينكفئا على أعقابهما ولا يطمعا بالمحال.
ابن حامد :
غرناطةٌ للمسلمينَ فَقُلْ لَهُمْ:
مَا غير سيفِ المسلمينَ يَسُودُهَا
هِيَ قُبَّةُ الدنيا ونَحْنُ نُجُومُهَا
وهي العَرِينُ وَنَحْنُ نَحْنُ أُسُودُهَا
موسى : قل لهم إنها أمنع من عُقاب الجو ما دام فيها رجلٌ عربيٌّ واحد.
إبراهيم : قل لهم إنه إذا قدر الله وقضى كلُّ شبانها في القتال؛ فإن شيوخها ونساءها يهبون للدفاع عن استقلالها.
أبو عبد الله : إنهم يطلبون الجزيةَ فأخبرهم أنَّ دار سكِّ النقد في غرناطةَ عادتْ لا تضرب فضةً ولا ذهبًا، بل سيوفًا وحرابًا! اذهبْ فأنت في أمان. (للحاجب) خذه إلى دار الأضياف وأكرموا وفادته.

(يخرج الرسول مع الحاجب.)

علي : لقد أخطأنا برفض هذه الشروط؛ فقد كانت على تمام الموافقة.
أبو عبد الله : ليقضِ الله بما يشاء، فلم نفعل غير واجباتنا. والآن هاك يا ابن حامد علم الجهاد (يأخذ العلم من حمد ويُسلِّمه لابن حامد) ولا أوصيك بالاحتراس عليه، فأنت أدرى بما تحكم شريعتنا على من يفقده، وفضلًا عن ذلك فإنه مهرٌ لدريدة إذا فقدته فقدتها. إن آمال الأمة العربية معلقةٌ على بسالتك في موقعة الغد، فإلى الغد!
ابن حامد : لعينيك يا دريدة، وإلى الغد.

(يخرجون وفي مقدمتهم ابن حامد حاملًا العلم، ولا يبقى غير عَلِيٍّ وحمد.)

المشهد العاشر

(علي – حمد)
علي : أعندك للسر موضعٌ يا حمد؟
حمد : بئرٌ عميقة لا تهتدي إليها الأبالسة.
علي : وكيف أنت وابن حامد؟
حمد : على ما يرام، فلو استطعت مزَّقته بأسناني.
علي : وما هي منزلةُ الوطن عندك؟
حمد : له عندي منزلةٌ كبيرة، فهو في عرفي لا شيء.
علي : وكيف أنت وارتكاب الجرائم؟
حمد : لا قلب يرحم، ولا أذن تسمع، ولا ضمير يبكِّت.
علي : أنت الرجل الذي أفتش عنه، وسأعتمد عليك في مهمةٍ خطيرة.
حمد : كلَّما صعبت المهمة كثرت لذَّتي.
علي : ولك مني مكافأة عظيمة.
حمد : ستقلدني منصبًا، إيه؟
علي : أراك تحب المناصب! لا، سأعطيك كيسًا من الذهب الرنان.
حمد : ماذا؟
علي : كيسين من الذهب الرنان.
حمد : كيسين من الذهب الرنان؟ أوه! وما هي هذه المهمة يا ترى؟
علي : هي أولًا أن تقتل الشيخ إبراهيم والد دريدة.
حمد : مسألة بسيطة، أجرُّه من لحيته بين سنابك الخيل حتى أنتزعها من أصلها مع اللحم والدم، وثانيًا؟
علي : أن تسرق العلم المقدَّس.
حمد : أفتدعون تلك الخرقة مقدسةً، بخٍ بخٍ … وثالثًا؟ أنا أقول لك: فأنت تريد مني قتل ابن حامد.
علي : لم تُصِب المرمى، فأنا لا أزال بحاجةٍ إلى حياة ابن حامد لتعذيبه. أريد منك بعد سرقة العلم طرحه في أيدي الأعداء.
حمد : كل ذلك من أهون المهمات على مَن كان مثلي. أعطني ما وعدت به.
علي : هذا كيس من النقود الذهبية، ومتى أتممت مهمتك أعطيتُك الكيس الثاني، ولكن أوصيك بالكتمان التام عن أي كان (يعطيه كيسًا).
حمد : كن براحة بال (يقلب الكيس بين يديه).
علي : والآن هل انتهت المهمة؟
حمد : هذا ما أراه يا سيدي.
علي : إذن تهيأ للغد ولا تنسَ العلم.
عليك سأتَّكِل.
حمد : على إبليس الاتكال.
(ستار)
١  هذا البيت الذي أورده المتكلم هو من شعر المتنبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤