الفصل الرابع

بين الجامع والنَّطْع

  • المكان: في حي بمدينة غرناطة.
  • المنظر الأول: داخل منزل دريدة.
  • المنظر الثاني: في السجن المظلم.

المنظر الأول

(في منزل دريدة.)

المشهد الأول

(دريدة وحدها)

أين أنت الآن يا أبي؟ وأين تسبح روحُك؟ إنها لا شك في السماء تنظر إلي أنا الشقية ولا تمد يدًا لمساعدتي. أرى الكون من بعدك قاعًا صفصفًا لأنك لست فيه، وأرى الناس كأنني لا أرى أحدًا لأنك لست بينهم.

ابن حامد في غياهب السجن، وأبو عبد الله يريدني فريسةً له. إنما خسِئ الظالمُ؛ فلن يصل إليَّ وفيَّ بقيَّة روح.

(يدخل عثمان.)

عثمان : سيدتي، إن السلطان وعليًّا يطلبان المثول لديك.
دريدة : وماذا يريدان مني؟ إن منظرهما يهيج أحزاني، فهما سبب كل شقاءٍ أصابنا. قل لهما: إنني مريضة (يخرج عثمان) تبًّا لهما من ماكرين (يدخل عثمان).
عثمان : لم يذهبا يا سيدتي، وهما يُلحَّان بالدخول.
دريدة : قل لهما إنني مَغْمِيٌّ عليَّ … ولكن لا، أدخِلْهما إلى هذه الغرفة، ولينتظراني قليلًا؛ فإن بنفسي أشياء لذلك الطاغية.

(تخرج وعثمان، وبعد قليل يدخل أبو عبد الله وعلي.)

المشهد الثاني

(أبو عبد الله – علي)
علي : وأي حرجٍ عليك يا مولاي والقدر كان الحكم بينك وبين ابن حامد؟
أبو عبد الله : لا أدري، وقد تكون في الأمر دسيسة منك أو من قبيلتك.
علي : حلفةُ صادق يا مولاي، فلم يحدث شيءٌ من ذلك؛ فكل ما حدث قضاءٌ وقدر.
أبو عبد الله : وهل يجدر بي الآن محادثتها في شأن الزواج وهي فيما هي عليه من حزنٍ وأسف؟ إن الأولى بي تأجيل هذا الأمر إلى فرصة أخرى.
علي : إن التأجيل قد يُمكِّن العاشقينِ من الفرار.
أبو عبد الله : ولكن دريدة متصلبة الرأي ثابتة على الود، فما أدرانا أنها لا تفضل الانتحار على هذا الزواج، فنكون جنينا جناية لا تغتفر.
علي : فكرت بذلك كله يا مولاي، ووجدت له دواءً ناجعًا، فإنني استحصلتُ من أئمة غرناطة على فتوى بإعدام ابن حامد لفقدانه العلم المقدس، وها هي (يعطيه ورقة)، فتخيرها بين اثنتين؛ إما تنفيذ حكم الإعدام بحبيبها، وإما العفو عن حياته وإبعاده عن غرناطة مقابل زفافها إليك.
أبو عبد الله : تلك سفالةٌ لم يُقدم عليها أحدٌ من أجدادي.
علي : وما ذنبك والله قدَّر ذلك فكتب أن تكون هذه الفتاة من نصيبك؟
ها هي أقبلت يا مولاي، انظر إلى هذا الجمال الفتان، فقد زاده الحزنُ سحرًا. لله ما أجمل عينيها المنكسرتين!

المشهد الثالث

(أبو عبد الله – علي – دريدة)
دريدة : السلام عليكما.
أبو عبد الله : وعليك السلام، أما والله لقد فجعنا مصابك بأبيك كما فجع المملكة أجمع، ولكن هو حكم القضاء ولا مرد لأحكامه، وقد أتيت أعرض عليك مالي ورجالي، فأنا أعتبر نفسي في مقام والدك.
دريدة (ببرود) : أشكرك.
أبو عبد الله : وعليك أن تتدرَّعي بالصبر، ولا تستسلمي إلى أشجانك، فقد مات رحمه الله بشرف كما عاش بشرف.
دريدة : بل قُل مات ضحية مكيدةٍ هائلة دُبِّرت له ولابن حامد.
أبو عبد الله : ومن نقل إليك ذلك؟ إذا كان الخبر يقينًا فويلٌ لمن كاد لهما! فإذا كنت أرسلتهما إلى الحرب فلخير الوطن المجرد، وأقسم على صحة قولي.
دريدة : إن المفسدين حولك كثيرون. طلبت مقابلتي لأمر، فما هو؟
أبو عبد الله : أصغي إليَّ يا دريدة؟ فوالدك مات، وليس من الحكمة بقاؤك وحدك في هذا المكان.
دريدة : وهل نسيت أنَّ لي خطيبًا ولستُ وحيدةً في هذا العالم.
أبو عبد الله : ومن تعنين به؟
دريدة : وهل أعني به غير خطيبي ابن حامد.
أبو عبد الله : يَسوءُني كثيرًا أن أقوض صِرح آمالك؛ فابن حامد خائنٌ لوطنه، وقد سلَّم علمنا المقدَّس إلى الأعداء.
دريدة : بربك يا مولاي، لا تقل لي هذا القول عن خطيبي، أفأفقد الاثنين في يوم واحد؟ إن ذلك لا يحتمل.
أبو عبد الله : هي الحقيقة بأمها وأبيها، فاستعدي للذهاب إلى قصري مكافأةً لخدمات أبيك.
دريدة : إذا كان لأبي عندك من مقامٍ فدعني هنا.
أبو عبد الله : وهل تخالفين أوامري؟
دريدة : بربك يا مولاي، ارفق بي، وارْثَ لدموعي. خذ كل ما أملك ودعني لخطيبي ودعه لي، ألم تخفق جوانحك للحب فتشفق على المحبين؟
أبو عبد الله : قلت ولن أرجع عن قولي.
دريدة : أتريد أن أتبعك إلى القصر وخطيبي في ظلمات السجن يقاسي ضروب العذاب؟ لا، إن تحت هذه الثياب قلبًا كبيرًا يستقبح الخيانة، وفي هذه العروق دمًا حيًّا يعرف كيف يحب.
أبو عبد الله : حذار أن تندمي حين لا ينفع الندم، فمن أشد المصائب يأسٌ بعد أمل.
دريدة : كل كلمةٍ توجهها إلي تذهب أدراج الرياح، فأنت لا تعرف ما هو الحب، وهل تحسب أن المرأة تحب الرجل في السرَّاء فحسب؟ وأن شفتيها لا تبتسمان له ما لم يملأهما بالطيبات؟ وأن صدرها لا يخفق له إلا إذا وشحه بالحرير؟ وأن أذنها لا تصغي إليه إلَّا إذا علق فيهما أقراط اللؤلؤ؟ لا، إننا كلما دهمتنا النوائب زاد فينا الحب.
أبو عبد الله : ولماذا تحبينه هذا الحب؟ أفيقابلك هو بمثله؟ إنه هجرك ساعيًا وراء المجد، فهل تعدين ذلك منه حبًّا؟ أما أنا ففي سبيل الحظوة بحبك لأترك السيف في غمده، وأترك الأعداء يتسلقون أسواري.
دريدة : ربي لك الحمد، فحبيبي لا يحبني مثل هذا الحب، ولا يسعى إلى إلباسي ثوب عاره. إنه يحبني لأجلي أنا، يحبني ليجعلني سعيدةً بسعادته، فخورةً بفخره، أما أنت فتحبني لأجل نفسك، لأجل ميولك.
أبو عبد الله : أنت لي ولن يغتصبك مني أحد.
دريدة : رباه ما هذا الجور! خسئت يا أبا عبد الله! إنك انتظرت هذه النتيجة عندما دبرت تلك المكيدة الشائنة، ولكن ساء فألُك!
أبو عبد الله : لو لم تكوني امرأةً خرقت فؤادك بحسامي.
دريدة : مَن يُقدم على المكايد يُقدم على قتل النساء.
هَاكَ صَدْرِي فَاخْرقْهُ بِالسَّيْفِ وَاقْتُلـْ
ـنِي تُرِحْ مُهْجَتِي مِنَ الْآلَامِ
إِنَّمَا الْمَوْتُ جُلُّ مَا أَشْتَهِيهِ
حَبَّذَا الْمَوْتُ فِي سَبِيلِ الْغَرَامِ
أبو عبد الله : أما وقد أرادت هذه النتيجة، فلا بأس. فارقتني الشفقة عليك؛ فاستعدي لسماع الحقيقة، قضى القضاء بموت أبيك وبفقدان خطيبك العَلَم. وأبوك الآن من أهل القبور، كما أن خطيبك من أهل السجون، ولكنه صائرٌ مصيره؛ فقد حكم عليه أئمة غرناطة بالموت لفقدانه العلم المقدس. وها هي صورة الحكم (يريها الورقة).
دريدة : تبًّا لك من غاشم (تُجرد خنجرًا) إذا كان حُكم على حبيبي بالموت، فأنا أسبقه إلى القبر.
أبو عبد الله (ينتشل الخنجر من يدها) : قفي، فلي اقتراحٌ أقترحه عليك؛ إذا قبلت بي بعلًا لكِ عفوتُ عن حياة ابن حامد، واكتفيت بنفيه عن غرناطة.
دريدة : إنك لن تنال مني غير جثةٍ هامدة.
أبو عبد الله (لعلي) : اذهب وجئني برأس ابن حامد.
علي : سمعًا وطاعةً يا مولاي (يهم بالخروج فتمسكه دريدة).
دريدة : اصبِر قليلًا. إنهم سيقتلونه بسببي. أستحلفك يا أبا عبد الله بكل ما هو عزيزٌ عليك، اعفُ عنه وأنا أفتديه بدمي، اقتلني ودعْ له حياته! ما ذنبُه وهو الذي دافع مرارًا عن عرشكَ، ووقَف حياته على خدمتك.
أبو عبد الله : إنه محبوبٌ منك، وهذا كلُّ ذنبه.
دريدة : أعلى هذا الشكل تتعمد إهانتي؟
أبو عبد الله : أفتعدين حبي لك إهانة؟ حسنًا، اذهب يا عَلِيُّ ولا تَعُدْ إلا برأسه.
دريدة : إن قوَّتي تتلاشى. لا، لا تذهبْ.
أبو عبد الله : اختاري إذن بين الجامع والنَّطْع.١
دريدة : سأقبل بهذه التضحية في سبيلك يا ابن حامد، فعفوًا! سيروا بنا، وإلى الجامع (يخرجان ويبقى علي).

المشهد الرابع

(علي وحده)
سِرْ بِهَا لِلزفَافِ وَانْعَمْ بِحُسْنٍ
لَمْ تَنَلْهُ إِلَّا بِسَعْيِي وَمَكْرِي
يَا فُؤَادِي بُشْرَاك بُشْرَاك أَنِي
نِلْتُ مَا أَبْتَغِي وَأَدْرَكْتُ ثَأْرِي
وَبَلَوْتُ الاثْنَيْنِ بِالْحُزْنِ وَالْبُعْدِ
فَوَيْلُ الاثْنَيْنِ مِنْ نَارِ شَرِّي
هِيَ فِي حَوْزَةِ الْمَلِيكِ تُعَانِي
مَضَضَ الْعَيْشِ فِي مَغَانِي الْقَصْرِ
وهو في وَهْدَةِ السُّجُونِ يُقَاسِي
لَوْعَةَ الْهَجْرِ فِي قُيُودِ الْأَسْرِ

المنظر الثاني

(في السجن: حصير بالٍ، باب حديدي مع قضبان، ظلمة.)

المشهد الخامس

(ابن حامد جالسًا على الحصير يهذي)

خسرت شرفي … أين العلم … خيانة … إليَّ يا بني سراج … فقدتُك يا دريدة …

(يستفيق.)

أين أنا؟ هذا المكان ليس مضربي … وهذه الظلمة … أتراني في السجن؟

(يفكر.)

أوَّاه! لقد تذكرت … ألم أكن في حلم؟ وفقدان العلم، وموت والد دريدة، وتشتُّت رجالي، إذن كل ذلك كان حقيقة.

ليتني بقيت نائمًا إلى الأبد فلم تتأكَّل هذه الحسرةُ فؤادي. تبًّا لتلك الليلة ما أشأمها! لا شك أنني كنت ضحية مكيدةٍ هائلة. مَن دبَّرها؟ وهل يُمكن أن يُدبرها غير أبي عبد الله وعلي؟ فويلٌ لهما من نقمتي!

ولكن ما تراه حل بدريدة بعد موت أبيها وسجني؟ لا شك أنها فريسةٌ لأبي عبد الله جكط فكيف السبيل إلى الخلاص لأحميها؟ ربِّ خلصني من هذا الأسر لأُخلِّص نعجةً طاهرةً وقعتْ بين مخالب ذئاب كاسرة، حطِّم قيودي؛ فإن دريدة بحاجةٍ إليَّ وإلى معونتي.

فِدًى لَكِ سُهْدُ الصَّبِّ يَا مُنْيَةَ الصَّبِّ
وَمَا تذرفُ الْعَيْنَانِ مِنْ مَدْمَعٍ صَبِّ
فِدًى لَكِ قَلْبٌ لَا يُلَاقِي سِوَى الشَّقَا
فَيُضحي عَلَى كربٍ وَيُمْسِي عَلَى كَرْبِ
أُرَانِي أَسِيرًا فِي السُّجُونِ مُعَذَّبًا
وَيَا لعَذَابٍ فِي سَبِيلِ الْهَوَى عَذْبِ
أَلَا نَسَمَاتٌ مِنْ حماكِ عَلِيلَةٌ
أُحَمِّلُهَا مَا بِي مِنَ الشَّوْقِ وَالْحُبِّ
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَلْبِي لَدَيْكِ بَعَثْتُهُ
إِلَيْكِ رَسُولًا ثُمَّ عِشْتُ بِلَا قَلْبِ
حَبِيبَةَ قَلْبِي كَيْفَ حَالُكِ فِي النَّوَى؟
أَأَنْتِ عَلَى بُعْدِي كَمَا كُنْتِ فِي قُرْبِي؟
فَيَا رَبِّيَ اجْعَلْنِي فِدَى مَنْ أُحِبُّهَا
وَلَا تُؤْتِهَا إِلَّا السَّعَادَةَ يَا رَبِّي
وَإِنْ نَحْنُ كُنَّا مُذْنِبَيْنِ فَإِنَّنِي
أُكَفِّرُ عَنْ ذَنْبِ الْحَبِيبِ وَعَنْ ذَنْبِي

(يدخل حمد وبيده قصعة فخار وكسرة خبز.)

المشهد السادس

(ابن حامد – حمد)
حمد : هاك يا سيدي ما تتقوَّتُ به.
ابن حامد : لستُ في حاجةٍ إلى الطعام؛ فاغرب عني.
حمد : ما لسيدي منذ قدومه في حالة هياج؟ قد يضر هذا التصرف بصحتك.
ابن حامد : أنا أدرى بما يضرني؛ فلا تُطل الحديث.
حمد : أظن أن الحب سبب ما بك. ألست عند ظني؟ أنت لا تزال عالقًا بهوى تلك الماكرة دريدة، إيه.
ابن حامد : ما تقول يا رجل؟ صَهْ! فلو لم تكن من الصعاليك لكنت أؤدبك. سِرْ مِن هنا في الحال.
حمد : قلت إنها ماكرةٌ ولا أزال أقول، وإذا شئتَ برهانًا قدَّمته.
ابن حامد : لا يجدر بي أن أصغي إلى كلامك؛ فأنت كاذب.
حمد : وإذا كنت صادقًا؟ إن دريدة بعد أُفول نجمك التجأت إلى السلطان فعُقد له عليها.
ابن حامد : لا أزال أقول لك: إنك كاذب؛ فانصرف من وجهي.
حمد : ولكني أُثبت لك صحة قولي. أصغِ جيدًا، ألا تسمع أصواتًا؟
إنها تقترب … أعرني أذنيك؛ فاليوم يوم الزفاف.
ابن حامد : كذب وبهتان.
حمد : ولكن الأصوات اقتربت، أصغِ …

(يسمع من الخارج هتاف الشعب: لِيَحيَ السلطان، لِتَحيَ الملكة دريدة!)

أسمعت؟ وهل فهمت ما يقولون؟ إنهم يصرخون: لتحيَ الملكة دريدة!
ابن حامد : أسمع كل شيءٍ ولا أصدق، فأنا في حلم.
حمد : أُفرك عينيك جيدًا ترَ أنك في اليقظة.
ابن حامد : لا لا، لا يمكن أن يكون ذلك. إن دريدة لا تُقدم على هذه السفالة.
حمد : ما أجهلكم أيها العشاق! تُسلِّمون زمامكم لفتاةٍ تخدعكم بحُنُوِّها، حتى إذا دارت عليكم الدائرة طرحتكم طرح النواة.
ابن حامد : أيمكن أن يكون ذلك … إنما هي الحقيقة بعينها، إنها كانت تخدعني؛ فتبًّا لها! ولكن ألا يمكن أن أكون ضحيَّة مكيدة جديدة؟
حمد : بلى، إنك ضحية خداع تلك الفتاة.
ابن حامد : ومن يسألك أنت لتجيب؟
حمد : حسبتك موجِّهًا إليَّ السؤال؛ فجاوبت الجواب الحق.
ابن حامد : اخرجْ من هنا يا نذير السوء.

(يهُمُّ بضربه فيهرب من أمامه.)

المشهد السابع

(ابن حامد وحده)

لعلعي يا رعود، والمعي يا بروق، وتدفقي يا سماء بالصواعق، وتمخَّضي يا أرض بالزلازل، ففي البشر أقذارٌ أجدر بها الحرق، وفي القلوب أفاعٍ أولى بها السحق.

اسمعي يا سماء، واشهدي يا كواكب: كل ما في نفسي من عواطف قطَّرته، وكل ما في شبابي من آمال جمَّعته، فسكبت من ذلك الكل حبًّا شريفًا طاهرًا سكبته لدى عذراء حسبتها شريفةً طاهرة، فإذا بها خدَّاعةٌ ماكرة، وها هي تسحق قلبي بيديها، وتدوس حبي بقدميها.

كم نادتني بحبيبها! وكم بكت لفراقي! وكم خفق فؤادها بقربي خفوق فؤادي! حتى إذا ما أفل نجمي نبذتني نبذ النواة.

يا أرض، إن نداك يمتزج بالتراب فيحول وحلًا، ولكن الحب، ذلك الندى السماوي المتفجر من قلب السماء، أيمكن أن تحوله القلوب كما يحول التراب الندى؟ ويلٌ لك أيها الكون! وويلٌ لكم أيها البشر!

ولكن رباه … إنني لا أزال أحبها … ولا يزال قلبي يخفق لذكرها؛ دريدة، دريدة، لقد فقدتك إلى الأبد.

أرى أدمعي تنهلُّ أنا الرجل القوي الذي لم يذرف دمعةً في حياته، وأنا الذي لا يرهبني الموت ولو تجسَّم رجلًا أشعر برعدة الذعر تتمشَّى في عروقي.

لتلعنْك السماء يا من نغَّصت أيامي، لتلعنك السماء يا من خنت عهودي … ولكن لا … ليسامحك الله لقاء أيامٍ سعيدةٍ أوليتنيها، ليغفر لك الله ويملأ حياتك بالهناء؛ فإنني لا أجسر أن أدعو عليك بالشقاء.

وأنت يا مَن تضع ذراعك الآن بذراعها، حذارِ أن تُعذِّبها؛ فجسمها أرقُّ من أن يحتمل عذابًا، حذارِ أن تكون سببًا لبكائها؛ فإن عينها المنكسرة تُقرِّحها الدمعة. كن رفيقًا بها كي لا تتأسف على خيانتي فتصبح صفراء ناحلة. متى وضعت شفتيك على شفتيها فألهها عن تذكُّر قبلتنا الأولى، قبلة الوداع، فلربما بكت وأنا لا أتمنى لها إلا الابتسام!

ولكنني أشعر بألم. أرى دمًا يسيل من جسمي … لقد تفتحت جراحي … إنني من البشر، وهذا العذاب فوق طاقة البشر.

(يقع مغميًّا عليه.)

المشهد الثامن

(ابن حامد – علي – حمد)
علي : أراه جثةً هامدة، وأخشى أن يكون قد انتحر؛ فما انتهيتُ بعدُ من انتقامي.
حمد : لم ينتحر يا سيدي، ولكنني جرحته في قلبه جرحًا قاتلًا.
علي : مرحى لك يا حمد! وسأجزل لك المكافأة إذا كنت أقنعته بخيانة دريدة.
حمد : لو كنتَ حاضرًا يا سيدي لشاهدت عذابه، فإنه لعنها وتوعد السماء بقبضته، وبلغ به اليأس أشده حتى تفتحت جراحه.
علي : ليتني شاهدته وهو على هذه الحالة.
ابن حامد (يهذي) : دريدة، دريدة.
حمد : قف هناك يا سيدي بينما أُنبِئُهُ بقدومك (يبتعد علي) بُشراك يا ابن حامد؛ فقد نجوت. قف؛ فأنت مطلق السراح.
ابن حامد : وبأمرِ مَن يُطلق سراحي.
حمد : بأمر الملكة.
ابن حامد : وأية ملكة هذه؟
حمد : ملكة غرناطة، أفنسيتَ أنَّ دريدة تبوأتِ العرش.
ابن حامد : ألم أكنْ في حلم إذن؟
حمد : وها أنا أطلق سراحك امتثالًا لأوامر سيدتي الملكة، فلا شك أنها ندمتْ على خديعتك؛ فاستحصلت من زوجها على هذا العفو بعد أن حكم عليك بالإعدام لفقدانك العلم.
ابن حامد : وبأي شرطٍ يطلقون سراحي؟
حمد : بشرط أن تبرح غرناطة إلى الأبد. وقد عهدوا إلى سيِّدي عَلِيٍّ بمرافقتك إلى المرية، ومنها تبحر إلى إفريقية. وها هو مَن عنده الخبر اليقين.

(يظهر علي.)

علي : قال لك الحقيقة؛ فاستعد للذهاب معي.
ابن حامد : هه، أراك هنا يا عَلِيُّ، فمرحبًا بك. أنا على أحر من الجمر لأراك، وأقول لك: إنك رجل سافل!
علي : قَهْ! قَهْ! أنت في قبضتي وتتطاول عليَّ؟ أنا لا ألومك؛ فمن فقد مثلك شرفه وحريته وحبيبته، قد يُعذر على فلتات اللسان.
ابن حامد : ما أنت إلَّا ذئب مخاتل، ولو كنت رجلًا ما اعتصمت بالغدر لإدراك مآربك.
علي : قد يكون قصدك أن تدفعني إلى قتلك فأُخلِّصك من عذابك، ولكن ساء فألُك؛ إن حياتك لثمينةٌ عندي؛ فهي آلةٌ لتنفيذ انتقامي. إنك ستحيا، ولكنها حياةٌ أمر من الموت، ستحيا ولكن مرذولًا من قومك، منفيًّا من وطنك، محرومًا من حبيبتك.
ابن حامد : إن قلبًا مثل قلبي لا يتسرَّب إليه اليأس، فالأيام بيننا.
علي : فزتُ عليك يا ابن حامد؛ فلا تُلبس الضعف ثوب القوة.
ابن حامد : عش رجبًا تر عجبًا، فما الفوز إلا الفوز الأخير.
علي : لن أخشاك بعد الآن؛ فرجالك قُتلوا، ومَن نجا منهم جريحٌ في فراشه لن يمد يدًا لنصرتك؛ فلا تعلل نفسك بالأمل. والآن سِرْ معي وإلى إفريقية!
ابن حامد : سأسير إلى إفريقية؛ فإن بين وحوش صحاريها نفوسًا أعز من أبي عبد الله ورجاله، ولكن حذارِ يا عَلِيُّ فسأرجع.
علي : إذا تمكنت من الرجوع فلا تُحجم؛ أنا أنتظرك على باب السجن فلا تتأخر.

(يخرج علي.)

المشهد التاسع

(ابن حامد وحده)
غرناطةٌ لَعِبَ الزَّمَانُ بِشَمْلِنَا
وَقَضى الْقَضَاءُ فَمَا لِعَهْدِكِ مَرْجِعُ
مَا أَنْتِ بَعْدَ دُرَيْدَ إِلَّا مَهْمَهٌ
قَفْرٌ، وَمَا مغنَاكِ إِلَّا بَلْقَعُ
سَأَعُودُ لَكِنْ كَالصَّوَاعِقِ حَامِلًا
نَارًا تُصَبُّ عَلَى بَنِيكِ فَتَصْرَعُ
مُتَحَفِّزًا لِلثَّارِ وَحْشًا ضَارِيًا
يَحْلُو لَهُ كَرْعُ الدِّمَاءِ فَيكْرَعُ
أجل، سأعود يا غرناطة، فوداعًا وإلى اللقاء! (يهم بالخروج ثم يرجع) ولكن وقفةً أيها المودِّع؛ فقد تكون آخر وقفةٍ لك هنا.

هنا عشٌّ كان مأوى عاشقين في مقتبل العمر، هنا جلس وجلست للمرة الأخيرة، وهنا ناجته وناجاها فأقسم لها على تضحية حياته في سبيلها، وحلفت له أن لا تخون عهوده.

وسقط الدهر كالنسر على ذلك العش فحطَّمه. أما هو فما زال أمينًا لعهودها، أما هي فخانته. ويا لها من خيانة!

إيه غرناطة! لقد كنتِ ربيعًا لزهور آمالي. أما الآن فما أنت إلا خريف ذابل الإهاب، خريفٌ تنثر الأيام أوراقه، فتحملها العواصف إلى الوادي، وادي الصدى، وادي الذكرى، حيث تُدفَن إلى الأبد.

هنا انفتح قلبي لحُبِّها كما يَنفتِح كمُّ الزهرة لاقتبال ندَى الفجر، هنا سكبتُ روحي على قدميها، وأحببتها بكل ما في نفسي من الخوالج.

هنا كنا نتخطَّر معًا والمُنى مِلءُ قلبينا، وهناك على تلك الساقية كم جلسنا وتناغينا، وهناك تحت تلك السروة كم هزجنا وابتسمنا! وهناك … وهناك … ويلاه إنني لا أقوى على تذكر تلك الأيام السعيدة! فقلبي يتحطَّم بين ضلوعي. سلام يا غرناطة، سلامٌ يا مهد غرامي، وقبر آمالي! وحذارِ فانتقامي سيكون هائلًا!

(يخرج.)

(ستار)
١  النَّطْع: بساط من الجلد يفرش تحت المحكوم عليه بقطع الرأس. والمعنى أن أبا عبد الله خيَّر دريدة بين أن تذهب معه إلى الجامع لعقد قرانهما، أو أن ترضى بإعدام حبيبها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤