الاعتراف الغريب لأحد أطباء نيويورك: قضية حيَّرت الأخوية الطبية لسنواتٍ كثيرة مضت

على مدار ما يزيد على عشرين عامًا، كان الطبيب جيمس هاروود، الذي تُوفِّي الأسبوع الماضي، قاب قوسين أو أدنى من التربع على عرش مهنة الطب. امتدت شهرته أيضًا إلى الجانب الآخر من المحيط، وحين كان يسافر إلى أوروبا كان مشاهير الأطباء يغتنمون الفرصة لاستشارته. وفي إحدى جولات الطبيب هاروود في أوروبا قدَّم علاجًا بالغ الروعة سرعان ما تداولته الصحف وساعد فعليًّا في ترسيخ سُمعته العالمية؛ فقد نجح في علاج الأمير الروسي ميكالسكوفيتش من نوعٍ شبه ميئوس منه من الهوس الأحادي. وما جعل هذه الحالة تحظى باهتمام الأوساط الطبية هو طرافة وغرابة الأسلوب الذي استخدمه الطبيب في العلاج؛ فقد ادَّعى الطبيب هاروود، شفهيًّا وفي المطبوعات أنه أعاد إلى الأمير عقله السليم من خلال تنويمه مغناطيسيًّا. حدث ذلك قبل عشرين أو ثلاثين عامًا، عندما كان التنويم المغناطيسي في أوج انتشاره، وكان كثير من النابهين يؤمنون تمامًا بكل الأمور الرائعة التي تُروى عن قدراته. بطبيعة الحال، شكَّلت الحالة لفترة طويلة مادة خصبة للنقاش في الأوساط والدوريات الطبية، وبعد فترة، ونظرًا للاحترام الكبير الذي يحظى به الطبيب هاروود والشهادات الداعمة للحالة، أصبحت حالة جنون الأمير وعلاجها العجيب على يد الطبيب هاروود تُعرَض كحقيقة في الدوريات الطبية المختلفة، ووجدتْ في النهاية مكانًا لها في الكتب الدراسية المقرَّرة في كليات الطب.

غير أن العلماء دائمًا ما يكونون متشكِّكين نوعًا ما، وحتى يومنا هذا ما زال بعض الأطباء ينظرون بعين الريبة إلى رواية الطبيب عن العلاج الذي طبَّقه.

منذ ست أو سبع سنوات، زار الأمير نفسُه هذه المدينة، ولم يكد يلقي نظرة على مكان إقامته الجديد في الفندق حتى بلغه أن اثنين من أشهر أطباء نيويورك، وهما أبٌ وابنه، يطلبان شرف مقابلته. وعندما سمح لهما بالدخول، قال أكبرهما إنه بروفيسور في الطب لكنه الآن يعكُف على عملٍ معقَّد يتناول الفسيولوجيا، وإنه سيكون ممتنًّا لو قدَّم له الأمير سردًا مفصَّلًا عن حالته الشهيرة ليضمه إلى الفصل الذي يتناول الجنون. تكرَّم الأمير بالموافقة، وكان يَعْزو كل تفصيلة متعلِّقة بعلاجه إلى آثار التنويم المغناطيسي. وهنا خاطر البروفيسور العجوز وسمح لابتسامة تنمُّ عن عدم التصديق بأن تلوح على وجهه، وما إن رأى الأمير هذه الابتسامة المخادِعة وفسَّرها، حتى وجد الطبيبُ نفسَه يُقتاد من ياقة المعطف ويلقَى به على بساط الممر الناعم أمام باب الأمير، وسرعان ما اندفع وراءه ابنُه متبوعًا بقبَّعته وعصاه. وثمة شائعة في الأوساط الطبية تقول إن هذا هو سبب عدم ورود أي ذكر لحالة الأمير الغريبة في أيٍّ من كتب الفسيولوجيا الأمريكية العظيمة المنشورة مؤخرًا.

أما الرواية الأصلية التي ذكرها الطبيب جيمس هاروود لأول مرة عن العلاج العجيب الذي قدمه للأمير المجنون فهي كالتالي:

«استُدعِيتُ إلى سان بطرسبرج لفحص حالة الأمير ميكالسكوفيتش الذي كان يعاني من مرض عقلي شديد الغرابة. فقد وجدته يهذي بلُغةٍ غير معروفة على الإطلاق، على الأقل للأطباء المعالجين له واللغويين الكثر الذين أحاطوا بسريره. وبعد النجاح في تخفيف الحُمَّى الدماغية التي أصابته، عقدتُ الأمل على أن يستأنف الحديث باللغة الروسية أو الفرنسية أو الإنجليزية، وهي اللغات التي اعتاد التحدث بها، لكنه استمرَّ في استخدام هذه اللغة العبثية غير المفهومة. وبخلاف ذلك كان هادئًا ومسالمًا، بل إن سلوكه مع عبيده وخدمه الكثيرين كان، في الواقع، لطيفًا ومهذَّبًا على نحوٍ رائع، لكنه عندما يعود إليه عقله كان دائمًا ما يُبدِي أشدَّ درجات النَّزَق والحدَّة تجاههم، وعادةً ما يعاملهم معاملةً وحشية وقاسية. وبدأ يُظهر ميلًا غريبًا إلى الملابس الخشنة الرديئة واللحوم الرخيصة. وذات يوم أبدى رغبة في ترك القصر. أمرتُ الخدم بأن يمنحوه أكبر قدرٍ ممكن من الحرية، وأن يتبعوه، ولكن على مسافة منه. وفي مساء ذلك اليوم قال هؤلاء الرجال إن الأمير كان يعمل طوال النهار في حانوت صانع عربات الخيول؛ إذ دخل إلى الحانوت، ودون أن ينطق بكلمةٍ أخذ المطرقة والبلطة وساعد العمال في صنع إحدى العربات. وقال صانع العربات إنه ترك الأمير يفعل ما يحلو له؛ لما لمسه فيه على الفور من مهارة شديدة. وفي الصباح الباكر ذهب الأمير إلى العمل ثانيةً في حانوت صانع العربات، ومكث هناك حتى المساء. وفي غضون أسبوع أو أسبوعين أصبح واضحًا تمامًا أن الأمير مصاب بهَوسٍ أحادي بألا يصبح إلا صانع عربات خيول. حاولتُ في البداية أن أمنعه من الذهاب إلى الحانوت، ولكن عندما رأيتُ أن ذلك لا يزيد عقله إلا تشتُّتًا، وافقتُ على السماح له بالذهاب، وكلِّي ثقة في أن شيئًا ما سيحدث سيعيد عقله إلى صوابه.

كنتُ على وشك تحديد يوم للعودة إلى نيويورك، وعلى وشك أن أجزم أن جنون الأمير لا شفاء منه، عندما وقعت عيناي على فقرة في دورية طبية تتحدث عن حالة عامل باليومية مجنون في تبليسي يتخيل أنه أمير قوي وثري. عاودتُ قراءة الخبر، وتأثرتُ على نحو استثنائي بالصدف الغريبة التي جمعت بين الحالتين؛ فذلك الرجل الفقير كان يعمل في صنع العربات، وعلى الرغم من أن أحدًا لم يسمعه قط يتحدث إلا بإحدى اللهجات الجورجية المغمورة المعروفة باسم مينجروليا، ولم يُعرف إلا فلاحًا رقيق الحال وأُميًّا، فقد سُمع أثناء هذيانه يتحدث بالروسية والألمانية والفرنسية والإنجليزية بطلاقة وتحضُّر، وكان هذا الحديث غير المتوقع بهذه اللغات الأجنبية هو ما جعل قصة العامل تنتشر في الصحف. لم يسعني سوى أن ألاحظ أنها مماثلة لحالة الأمير ميكالسكوفيتش بالضبط ولكن على نحو عكسي؛ فقد أراد الأمير أن يصبح صانع عربات، وأراد صانع العربات أن يصبح أميرًا. فكفَّ أحدهما عن الحديث باللغات المتحضرة، وأخذ يتحدث لغةً غير مفهومة، وكفَّ الآخر عن استخدام لغته الغامضة وتحدث الروسية والإنجليزية وغيرهما من اللغات. بطبيعة الحال اتخذتُ على الفور الخطوات الضرورية لنقل الرجل من تبليسي إلى مصحة سان بطرسبرج للأمراض العقلية. واستدعيته إلى هنا، ووجدت أن التشابُه بين حالته وحالة الأمير ميكالسكوفيتش مدهش للغاية. وبعد التشاور مع أسرة الأمير ميكالسكوفيتش، أخذت الرجل إلى القصر في موكبٍ فخم يليق بأميرٍ — من باب الفضول البحت لمعرفة كيف ستكون التطورات — وأَدهش الرجلُ الجميعَ؛ فقد استحوذ على جناح الأمير الخاص كما لو كان يسكنه طوال حياته، وألقى التحية على والدَي الأمير وأقاربه وأصدقائه كلٍّ باسمه، واستخدم ملابسه، وكان يوَجِّه أوامره إلى الخدم كما لو كان الأميرَ نفسَه. كان حُسن سلوكه، ورقيُّه في التعبير عن نفسه بمختلف اللغات مثار دهشةٍ بالغة، أضف إلى ذلك ما له من سمات الحِرفي الفظِّ في البِنية، وشكل اليدين، والملامح. وضعْتُه في اختبارٍ آخر؛ إذ واجهته بالأمير الحقيقي في ورشة العربات؛ فإذا به يتحدث مع الأمير بلهجة سلطوية، كادت تخلو نوعًا ما من الرسميات، ولكن مع الحفاظ دائمًا على مسافة معينة بينهما وإظهار عجرفة واضحة في بعض الأحيان. ولا يبدو أنه لاحظ أن الأمير لم يردَّ في المقابل على أي شيء مما قال.

مرَّ أسبوعٌ آخر أو أسبوعان، دون أن يطرأ أي تقدم على حالة الأمير، فيما عدا أنني قد صار لديَّ اثنان من المجانين بدلًا من واحد. كنت على وشك ترك الأمير مرةً أخرى عندما زارني في أحد الأيام رجلٌ رثُّ الهيئة، وعرض علاج الأمير على الفور إذا ضمنتُ له الحصول على أجر جيد نظير خدماته. وكان السعر المطلوب هو ألف روبل. عقدتُ معه الصفقة، لكني اشترطت عليه أن أكون حاضرًا في كل خطوة من خطوات العملية.

وفي الموعد المحدد أحضرتُ الأمير والحِرفيَّ في القصر. طلب مني الغريب الغامض أن آمرهما بالجلوس متجاورَين عن قربٍ قدر الإمكان. بعد ذلك مرَّر يديه على وجه كلٍّ منهما في حركة مستمرة ذهابًا وإيابًا كما لو كان ينوِّمهما مغناطيسيًّا، وسرعان ما سقطا في حالة فقدان وعي كامل لم أشهدها من قبلُ، وعند ذلك جرَّدهما من كل قطعة ملابس على جسديهما، مع الاستمرار في ممارسة حيل التنويم المغناطيسي. وفجأةً شعر الأمير والحِرفي بصدمة شديدة، وبعدها رقد جسم كلٍّ منهما متصلِّبًا كما لو كان ميتًا.

قال الغريب بنبرة مفسرة: «لقد جعلت روحيهما تغادرانهما. والآن سآمر روح هذا بأن تدخل في جسد ذاك، وسأجعل روح ذاك تدخل في جسد هذا.»

ومدَّ يديه وقال آمرًا: «الآن!»

وفي اللحظة التي نطق فيها هذه الكلمة اهتز الجسدان وارتجفا.

ثم دنا مني الغريب وقال: «هل جهَّزتَ المال الذي سأحصل عليه؟ أخرجْه من فضلك، وأمسِك به في يدك؛ ففي اللحظة التي سآمر فيها الجسدين بالتحرك، وتسمع الأمير يتحدث الروسية ويتصرف مثل الأمراء، وينظر الصانع حوله في دهشة وخجل مثلما يفعل الفلاحون، ستدرك أنني قدمت العلاج، وعندها يجب أن تضع الألف روبل في يدي. ليس لديَّ وقت لأنتظر لحظة أخرى. هل أنت جاهز؟ حسنًا إذًا. الآن!»

وعلى الفور وقف الأمير وقد استعاد عقله بالكامل، ونادى على الخدم بالروسية، وتقدم نحوي وطلب تفسيرًا للحالة الغريبة التي وُضِع فيها، وكان لا يزال عاريًا. وبدا الحِرفي القادم من تبليسي غير مستوعب ومرتعبًا لأقصى حد. باختصار، لقد قدم الغريب علاجًا مثاليًّا حقًّا، وعاد كلا الرجلين إلى كامل قواه العقلية.

التفتُّ إلى الغريب وسلمته الألف روبل، وأردفتُ أنني أريد رؤيته في الفندق والتحدث معه حول أساليب علاجه الغريبة. لكنه هز رأسه وتسلل من الغرفة في هدوء.»

ثم أردف الطبيب جيمس هاروود في الختام: «وسواء أكان هذا تنويمًا مغناطيسيًّا أم لم يكن، فتلك هي الطريقة التي عولج بها الأمير ميكالسكوفيتش، وهذا كل ما يمكنني قوله في هذا الصدد.»

أحدث الأمر ضجة كبيرة منذ عشرين عامًا؛ فتناولته كل الصحف، وسمع به الجميع، ولم يستطع تفسيره. وبطبيعة الحال، شعر الروحانيون وممارسو التنويم المغناطيسي بالفخر والانتصار. وفي الحقيقة، لم يكن من الممكن إنكار هذه الحالة؛ فالأمير ميكالسكوفيتش كان شخصية معروفة، وكان مرضه المطول والهوس الأحادي الذي أصابه مؤخرًا وجعَله يعتقد أنه صانع عربات خيول بسيط إنما هما من الحقائق الموثقة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الموهبة المفاجئة والعجيبة التي واتت حِرفيًّا تبليسيًّا وجعلته يتحدث لغات عديدة قد شهدها العديد من الأطباء البارزين الذين فحصوه وأشرفوا على علاجه في المراحل الأولى من جنونه.

منذ عدة سنوات، عندما كان الطبيب لا يزال مقيمًا في هذه المدينة، حثَّه أحد الزملاء على الكشف عن الوقائع الحقيقية لهذه الحالة؛ لينقذ شرف مهنته وشرفه أيضًا. ووافق الطبيب على الطلب لدرجة أنه أودع لدى أحد أصدقائه رواية كاملة عن الحالة وقطع عليه عهدًا رسميًّا بألا ينشرها إلا بعد وفاة الأمير ووفاته هو شخصيًّا ودفنهما. والآن أُعلن الاعتراف على العالم، ورغم أن الطريق الذي سلكه الطبيب كان غريبًا وغير متوقَّع، فلا يمكن القول إنه كان طريقًا غير مبرر تمامًا. يقول الطبيب:

«لن يصاب المجتمع الطبي بدهشة بالغة عندما يقرأ اعترافي بأن العلاج الغريب الذي استخدمته مع الأمير والحِرفي كان محض خداع، وأنني كنت أعلم في حينها أنه كان كذلك؛ لأن المشهد برُمَّته كان من اختلاقي. كنت واثقًا منذ البداية أن صفوة الأطباء لن يعجزوا عن إدراك أن استعانتي بساحر في علاج شخص مجنون كانت إحدى الحيل التي يلجأ إليها الطبيب في بعض الأحيان لعلاج المجانين، لا سيما أولئك الذين يئنون تحت وطأة خداع كبير للذات. غير أن السذاجة الهائلة التي وجدتُها عند العوام أذهلتني؛ ففي غضون أسبوعين تداولت كل الصحف الرواية الهزلية المتعلقة بعلاج الأمير، وأصبحتُ فجأةً محاصَرًا بآلاف الخطابات من الأطباء والهيئات الطبية، وأراد كل من أقابله أن أروي له القصة مرة أخرى. ولم يسعني سوى أن أروي القصة نفسها لكل المتسائلين؛ لأنه في حالة علاج الجنون عن طريق الخداع، من الأهمية بمكان ألَّا يعلم المريض مطلقًا أن طبيبه قد خدعه. وإليكم مثالًا على ذلك: ذات مرة كان هناك تاجر يتخيل وجود ساعة يد في رأسه، وأن دقاتها المستمرة تمنعه من التفكير والنوم. وعندما وُضع في إحدى المصحات، قيل له إنه من الضروري أن يخضع لجراحة خطيرة لاستخراج الساعة من رأسه. وخضع للتخدير، وشق الأطباء شقًّا عميقًا في مكانٍ آمِنٍ من رأسه، وعندما أفاق أرَوه أداة صغيرة ملطخة بالدماء وأعطوه إياها مع تأكيدٍ له بأنها استُخرجتْ من رأسه. وصدَّق ذلك وشُفِي، واستأنف أنشطته التجارية وكوَّن ثروة هائلة.

ولكن الآن يأتي الجزء البشع من القصة. ذات يوم، بعد عشر سنوات أو عشرين سنة، التقى الرجل بالطبيب الذي عالجه من جنونه في الشارع، وحاول الطبيب أن يمازحه بشأن هَوسه الأحادي السابق، فقال ضاحكًا: «كم كان تخيلك مضحكًا عندما اعتقدتَ أنك تحمل ساعة في عقلك. ألا تضحك من نفسك أحيانًا عندما تتذكر ذلك؟»

فنظر إليه التاجر في دهشة، وقال: «إذًا أنت لم تخرجْها من رأسي! لقد ظننتُ ذلك. لطالما ظننتُ ذلك، ولم أصدِّق مطلقًا. إنني أسمعها تدقُّ طوال الوقت كما كانت في السابق. ضع يدك هنا الآن. إنها تدق كثيرًا! ألا تسمع دقاتها؟ تك، تك، تك!»

وأصاب الجنونُ الرجلَ مرةً أخرى، وأصبح من غير الممكن أن يشفيه أي شيء؛ فلا أحد يستطيع خداعه ثانيةً.

قررتُ التعامل مع حالتي بطريقة أفضل؛ فعزمتُ على ألا أخبر أحدًا بسرِّي كي أكون متأكدًا من ألا ينشره أحدٌ مرةً أخرى. فلو أن كلمة منه قد تسربت في أي وقت، لوصلتْ إلى الأمير بطريقة أو بأخرى عاجلًا أو آجلًا. ولحُسن الحظ أن اللُّغز قد ازداد تعقيدًا بفعل الصدفة الغريبة المتمثلة في صانع عربات الخيل، وكلما استطعتُ كنت أصرف نظر الأطباء عن حيلة الساحر بالإشارة إلى الحقيقة الواقعية والجيدة التوثيق المتمثلة في التشابُه والتزامن المدهشَين بين جنون الحِرفي وجنون الأمير. لا يمكن إنكار أن هذه الحالة واحدةٌ من أروع الوقائع التي حدثت في مهنة الطب، وسوف أعرضها خالية من كل ما لم يحدث في واقع الأمر:

كانت مرضعة الأمير ميكالسكوفيتش امرأةً جورجية جميلة، لديها ابنٌ كان يرافق الأمير في اللعب، ويتعلَّم معه، إلى أن ناهز الرابعة عشرة. بعد ذلك مضى الأمير في أسفاره، وعاد أخوه في الرضاعة مع أمه إلى منطقة مينجروليا في جورجيا الروسية، وهناك تعلَّم حرفة صناعة عربات الخيل. كان الأمير يحب مرضعته وأخاه من الرضاعة حبًّا جمًّا، وكان يقضي مواسم كثيرة في جبال جنوب القوقاز كي يكون قريبًا منهما. وكان شابًّا مُفعَمًا بالنشاط، ومُولعًا بالقنص والصيد؛ ولما كان يجد بهجة في الأعمال الميكانيكية، فقد كان يقضي أيامًا كثيرة في ورشة صناعة العربات يعمل جنبًا إلى جنب مع أخيه من الرضاعة.

ومع الأسف، وقع الأمير في غرام الفتاة الريفية نفسها التي كان أخوه من الرضاعة على وشك الزواج بها. وعندما اكتشف الحِرفي الشاب خيانة خطيبته، تشاجر مع الأمير شجارًا عنيفًا، وفي اليوم نفسه، شاءت الأقدار أن تموت الفتاة الشابة على نحوٍ مفاجئ وغيرِ متوقَّع. فُجع كلا العاشقَين بالقدر نفسه، وغادر الاثنان مينجروليا؛ فذهب صانع العربات إلى تبليسي وعمل هناك تحت اسمٍ مستعار؛ ليحُول دون عثور الأمير عليه مرةً أخرى، وعاد الأمير إلى سان بطرسبرج، وسرعان ما اكتُشِف أنه يعاني من نوع غريب من أنواع الملنخوليا. لقد أدى حنينه إلى أخيه من الرضاعة، بالإضافة إلى انتهاء قصة حبه على نحوٍ مؤسف، إلى إصابته بنوع الجنون الموصوف سابقًا.

استمر الحِرفيُّ الشاب في العمل في تبليسي، ولم يتحدث إلى أي شخص عن ماضيه القديم ولم يكوِّن صداقاتٍ جديدة مع زملائه الحِرفيين. وعند انتهاء العمل اليومي، كان يعود ليلًا إلى الكوخ الذي كان يقضي فيه بقية اليوم في عُزلة تامة. أصابه الجنون هو الآخر؛ فعلى نحوٍ مفاجئ تخيَّل أنه أصبح الأمير ميكالسكوفيتش، أخاه من الرضاعة. إن اعتبار المرء نفسه شخصًا قويًّا وعظيمًا هو نوع مألوف من أنواع الهوس الأحادي، وما كانت حالة الحِرفي ستجذب الانتباه لو لم تكن مصحوبة باستخدامه المفاجئ للُّغات الأجنبية؛ إذ لم يُعرف عنه التحدث بأي لغة أخرى غير لهجته الريفية، ولم يظن أحد أنه كان رجلًا متعلمًا ومثقفًا. وعلى الفور، أعلن الطبيب الذي عالجه أن حالته معجزة العصر. وانتشرت قصة الموهبة المفاجئة بلغاتٍ أجنبية حول العالم، حتى وصلت إليَّ في نهاية المطاف. تعلمون كيف أرسلتُ في طلب ذلك الشاب وأحضرتُه أخيرًا إلى القصر، وفور وصوله عُرف أنه أخو الأمير من الرضاعة. وذات يومٍ فاجأني بالسؤال عن أخيه بول، وأدركتُ على الفور أن عقله قد بدأ يعود إليه ثانيةً، ومن خلال العلاج الدقيق نجحتُ في إعادته إلى رشده.

عندما أخبرته عن مرض الأمير العقلي وعن تصادُف ذلك مع مرضه أيضًا على نحوٍ مدهش، تجددتْ عاطفة الشاب تجاه الأمير، وصار كله حماسًا لمساعدتي في ترتيب الموقف الذي أملتُ أن يسفر عن شفائه. وفي سياق أحد أحاديثنا أخبرني ذات يوم ببعض الحكايات التي توضِّح مدى إيمان الأمير بالخرافات؛ فذكر، من بين أمورٍ عديدة، أن الأمير يؤمن بقوةٍ بتناسخ الأرواح، وأنه يصدق بشدةٍ مزاعم أشخاص من أمثال كاليوسترو أو جوزيف بالسامو؛ وفورًا رأيت فرصة لتجربة أخرى، وسرعان ما رتبت مع الساحر للمشهد المذكور آنفًا. وعندما عاد الأمير إلى وعيه استمع إلى قصتي عن علاجه العجيب على يد الغريب الغامض وصدَّقها تمامًا، وعندما رأى أخاه من الرضاعة وسمع منه أنه شفي في اللحظة نفسها، أصبح مقتنعًا تمامًا وعاد مرةً أخرى رجلًا عاقلًا كسابق عهده.

أشبعت الشهرة التي نالها من انتشار روايات علاجه العجيب غرور الأمير إلى حدٍّ كبير، وكان إذا ألمح له أي شخص أنه تعرَّض للخداع يَعتبِر ذلك إهانةً بالغة. ويشاع أن أحد أطباء نيويورك قد حلَّ عليه غضب الأمير عندما زاره وأراد أن يُفهمه أن ما فعلتُه لم يكن إلا خداعًا فحسب. وبطبيعة الحال، لو أن أحدهم أخبر الأمير أنه سمعني أقول إن علاجه قد تم عن طريق حيلة طبية فحسب، لكانت العواقب وخيمة للغاية.»

كان هذا هو اعتراف الطبيب جيمس هاروود؛ فهل كان له عذره؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤