مقدمة

لم يكن آمبروز بيرس وحده مَن نبذ التاريخ باعتباره سردًا لأحداثٍ افتعلها «حكام معظمهم مدلسون وجنود معظمهم حمقى.» وَلْتتأمل كلمات مؤرخ روما القديمة العظيم إدوارد جيبون الذي وصف التاريخ بأنه «ليس أكثر من سجل لجرائم البشرية وحماقاتها وبلاياها.» وأما جين أوستن، فأضافت غياب المرأة إلى هذا المزيج، حيث اشتُهِر عنها تنويهها إلى أن التاريخ كله حروب وكوارث، وصراعات بين الأقوياء، و«رجال لا خير فيهم، وبالكاد يظهر النساء.» فمَنْ ذا الذي اخترع هذا الشيء البغيض؟ ومتى وأين ولماذا؟

ظهر التاريخ — كما نعرفه — إلى الوجود في اليونان في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد؛ أي في زمان ومكان شهدَا وفرةً غير عادية في الإنتاج الثقافي والفكري. وقبل ذلك، كانت تُؤلَّف سرود للأحداث، لكنها — على نحو ما وصلتنا — كانت تُجمع دائمًا لخدمة أجندة معينة؛ إذ كانت تهدف مثلًا إلى تمجيد أيٍّ من ملوك آشور، أو بيان هيمنة الإله يهوه على شئون البشر. وكان إنجازًا رائعًا للمؤرخين الإغريق العظماء الذين عاشوا في القرن الخامس أن حذوا حذو المشتغلين بالعلوم الطبيعية، واضطلعوا ببحوث أطلقوا عليها في لغتهم اسم «هستوريا»؛ بمعنى تاريخ، وكان غرضها الارتقاء بفهمهم للماضي والحاضر، وربما المستقبل، ونَقْل هذا الفهم إلى جمهور عريض. وعلى الرغم من أن الآلهة كان لها دور بكل تأكيد، فإن الهستوريا كان في أغلبه مشروعًا علمانيًّا يهدف إلى بيان الطبيعة البشرية وسلوكياتها. ولقد كان هيرودوت من غير ريب سيؤيد ادعاء آر جي كولنجوود بأن قيمة التاريخ تكمن في «أنه يعلِّمنا ما فعله الرجل، ومن ثَمَّ ماهية الرجل»، لكن ربما كان حريًّا به أن يستبدل كلمة «الإنسانية» بكلمة «الرجل» ليضمن اشتمال المرأة.

عني بهذا المشروع غير العادي مؤرخان يختلف أحدهما عن الآخر تمام الاختلاف، وكان الفاصل بينهما على الأرجح قرنًا من الزمان. ولقد قيل إن هيرودوت، المولود زهاء سنة ٤٨٤ قبل الميلاد، أسال مدامع الشاب ثوسيديديس عندما تلا على مسامعه مقتطفات من عمله. وخلع الأديب الروماني شيشرون على الرائد هيرودوت لقب «أبو التاريخ» على الرغم من إقراره باشتمال «تاريخ هيرودوت» على أساطير لا تُحصَى (وكان محقًّا فيما يخص تلك الأساطير، ولسوف نعود إليها). لكن التاريخ كما تصوَّرَه هيرودوت لم يكن سجِلَّ «الخرائط والأشخاص» ذلك الذي اعترف مفكرون مثل بيرس وجيبون وأوستن بازدرائهم إياه. وعلى الرغم من افتتان هيرودوت يقينًا بكلٍّ من الخرائط والأشخاص، إلا أن عمله اشتمل على ما هو أكثر من ذلك بكثير.

فقد كان هيرودوت أول مَن اضطلع بمهمة فرز الخرافة عن الحقيقة على مشقتها. والواقع أنه هو أول مَن رأى فارقًا بين الاثنتين؛ فباستخدام الاستقصاء والتمحيص والتراث المسموع والذكاء الفطري، أنتج منسوجة نصية مزخرفة تتمحور حول السؤال الجوهري الذي راوده في شبابه: كيف خاض الإغريق والفرس حروبًا ضد بعضهم بعضًا، وما سبب انتصار الإغريق على الرغم من تفوُّق الفرس الملحوظ في العدد والعُدَّة؟ تحدَّث هيرودوت مُعرِبًا عن رأيه كمواطن عادي، فلا ملك أعطاه إذنًا ولا إله، ولم يستلهم وحيَ ربَّات الفنون — على خلاف سلفه في رواية القصص الطويلة جدًّا (وأعني مؤلف، أو مؤلفي، الإلياذة والأوديسة) — بل اعتمد بالكلية على مصادره البشرية وما أُوتِيَ من قدرات بشرية على التحليل. لقد كان بمفرده.

لا ريب أني سأكون مبالِغًا إذا ادَّعَيْتُ أن هيرودوت ذهب بجرأة إلى حيث لم يذهب أحدٌ قبله؛ إذ أُلِّفَت بعض الأعمال التاريخية المصغَّرة من قبلُ، وكانت تتناول التقاليد المحلية في العادة، وتُظهِر الشذراتُ التي وصلتنا أن الإثنوجرافيا (دراسة الأعراق) شكَّلَتْ جزءًا من العمل النثري الذي ألَّفَه هيكاتايوس الملطيُّ قرابة سنة ٥٠٠ قبل الميلاد بعنوان «رحلة حول العالم». لكن لم يكن قد سبق وَضْع أيِّ مصنَّفٍ على مستوى مؤلَّف هيرودوت على الإطلاق؛ إذْ كان يفوق أيًّا من قصيدتي هوميروس في الطول بفارق كبير، وكان هائل النطاق فيما يتعلق بالزمان والمكان على السواء، واعتمد مبدأ تنظيمه على زحف الطاغوت الفارسي، حيث نالت كل أمة اتصل بها الفرس قبل هجومهم على اليونان في القرن الخامس معالجةً إثنوجرافيةً، تطول وتقصر حسب مقدار معلومات هيرودوت أو اهتمام الجمهور الإغريقي كما يتصوره هيرودوت.

يأسرنا راوينا المتجول — وهو مفكِّر ورحَّالة يتميز بفضول لا ينضب — في سرده بشدة تعطشه إلى المعرفة على نحوٍ يصيبنا بالعدوى؛ فهيرودوت «يريد أن يعرف»، سواء أكانت هذه المعرفة تخصُّ القصة الحقيقية لاختطاف هيلين (يقول هيرودوت إنها لم تكن قطُّ في طروادة، لكنها ظلت في مصر طوال الحرب)، أم الطريقة التي دفن بها السكيث ملوكهم (كانوا يدفنون معهم كثيرًا من الخدم والأتباع)، أم كيف استقبل التراوسوي — وهم من التراقيين — ميلادَ الأطفال (كانوا يتفجعون للمعاناة التي سيلاقونها)، أم كيف تقاتَلَ الإغريق والفرس (قصة طويلة جدًّا في حقيقة الأمر). وكان هيرودوت سيوافق الصحفي البولندي ريزارد كابوشنسكي (الذي سافر إلى كل أنحاء العالم مصطحبًا نسخةً من «تاريخ هيرودوت») تمامًا في قوله إننا «لن نفهم أي شيء عن العالم دون محاولة استخدام طرق أخرى للنظر والإدراك والوصف.» وهو، فيما نقرأ، ينقل إلينا رغبته العارمة؛ لأنه لا يريد أن يتعرَّف على شتى التقاليد والقيم في العالم فحسب، بل يريدنا أن نتعرف نحن أيضًا عليها. وقد عضَّدَ الغياب الواضح للتعصب الإغريقي إثنوجرافيةَ هيرودوت ودفَعَها قدمًا، ومع ذلك، وعلى الرغم من كل تسامحه، وعلى الرغم من كل ثنائه على التقاليد الفارسية الفردية (إذ استحسن كثيرًا ممارستهم إبعاد الصبي عن أبيه خلال السنوات الخمس الأولى من عمره؛ خشية أن يكون لوفاة الطفل وقع شديد عليه)، فإنه لا يشير في أي موضع إلى أن الأوتوقراطية الشرقية صالحة — كعُرْف — كصلاحية التشكيلة المتنوعة من أنظمة الحكم عريضة القاعدة التي سادت العالم الإغريقي.

نوَّهَ الصحفي ستيفن شيف ذات مرة قائلًا: «في قلب التاريخ الجيد، يوجد سر صغير ماكر، وهو الحكْي الجيد.» ومما يجعل هيرودوت يأسر قرَّاءه أنه كان حكَّاء من الطراز الأول؛ فسردُهُ الطويل، والذي ربما سمَّاه الإغريق لوجوس (بمعنى حكاية)، يتألَّف من حكايات قصيرة كثيرة موصول إحداها بالأخرى، بعضها طوله بضع مئات من الكلمات، وبعضها بضعة آلاف، وليستْ كلها دائمًا في ترتيبٍ تاريخيٍّ دقيقٍ، حيث تتدفق وتنحسر وتستدير راجعة كنهر يثير مساره الحيرة والبهجة على الدوام. إن مصنَّف هيرودوت صعب، وتمثِّل الحكايات أجناسًا مختلفة تمامًا من أجناس الأدب، حيث تتراوح بين محاولات لسبر أغوار التاريخ السياسي لأثينا وإسبرطة، وبين طُرَف غريبة ذات جذور واضحة في التراث الشعبي أو الحكايات الخرافية، وبعضها له دلالة عميقة في سياق مشروع هيرودوت، وبعضها الآخَر ليس كذلك. وأيضًا فإن الوتيرة ليست متَّسِقة؛ فالمصنَّف الذي قسَّمه الباحثون لاحقًا إلى تسعة «كتب» يتجول عبر قرون التاريخ على مدى عدة كتب — عدة مئات من صفحات عصرنا الحديث — ثم يتخذ محور تركيز أضيق كثيرًا فيما ينقلنا هيرودوت إلى سنوات الحرب التي سبقت هزيمة خشایارشا.

فما الذي نفعله بعمل معقَّد طويل وضعه بغير تأنٍّ رجلٌ يعشق حكي الحكايات من مصادر مسموعة تتفاوت في موثوقيتها؟ هل يمكننا الاستيثاق من أن هيرودوت ذهب إلى كل الأماكن التي قال إنه ذهب إليها؟ غالبًا ما يسعى النقاد المحدثون المعتدلون إلى النأي بأنفسهم عن هيرودوت، بل وفي بعض الأحيان يمضون بعيدًا جدًّا فيحرمونه لقب مؤرِّخ. لقد جمع هيرودوت — الذي كان على دراية بالخرائط والأشخاص — بين الأرانب البرية وأَكَلة لحوم البشر والمومياوات والخنازير والأحلام والدعارة والنمل المنقب عن الذهب والملكات الداهيات والنحل، والنساء اللاتي تعرَّضْنَ للاغتصاب الجماعي حتى الموت، والناس الذين لا يمكنهم حتى النظر إلى حبة باقلاء، وبين بعض التفاهات.

بل والأسوأ من ذلك أن الدِّين متغلغل في «تاريخ هيرودوت»؛ فعلى الرغم من أن هيرودوت يصوِّر مسار الحرب باعتباره مدفوعًا في المقام الأول بأطرافٍ بشرية لديها دوافعها البشرية وشخصياتها البشرية، فإن مصنَّفه يعجُّ بالوحي الإلهي والنبوءات والتعبيرات الصريحة عن الاعتقاد. ففي أي موضع نضع عملًا «تاريخيًّا» يشتمل على حسٍّ ما بالوجود الإلهي في كل معركة كبرى؟

من حسن الحظ — كما تبيَّنَ — أنه فيما ينسج هيرودوت حكايته أو حكاياته، فإنه يخلق مجالًا لا للآلهة فحسب، بل لنا جميعًا: لي ولك، نحن جمهوره. وإقحام نفسه في النص باستمرار يُبقي على الدوام أمام أعيننا حقيقة أنه شخص عادي يصارع مادة عنيدة، وإنْ كنَّا نحن أيضًا مدعوين لمصارعتها بالقدر نفسه. وإذ يُقحِم هيرودوت حوارات في هذا السجل، ويورد ملاحظة شاهد عيان (أو ينكرها)، ويدَّعي الحُجِّية (أو ينفيها)، فإنه يبدي بوجه عام نحوَ خمسمائة ملاحظة تقييمية من نوع أو آخَر (على غرار: أعرف، أعتقد، أظن، لا أعرف، لا يسعني القول، أخمِّن، يبدو على الأرجح أو غير محتمل، بلغني لكني لا أعتقد …) ويضع ثراء هذا المتن الخلَّاب وغموضه تحديات أمام القارئ تجتذبه. وفيما نقرؤه، نجد أنفسنا منهمكين في حوار مستمر مع ما نقرأ، وكثيرًا ما يطرح هيرودوت روايات مختلفة لعدد من الأحداث التاريخية، مؤيدًا أحيانًا إحداها على الأخرى، وتاركًا أحيانًا لنا حرية الاختيار.

إن رجلًا حكيمًا كهيرودوت، اجتاحه الأسى على تفشي الحروب، كان سيفهم نقد بيرس وجيبون، على الرغم من أنه لم يكن يمتلك وسيلة يعرف بها أن خَلَفه سيتمسكون بتصوره لأفرودة الحرب باعتبارها القالب لكتابة التاريخ، لكن يرفضون تضمينه غير المأسوف عليه للنساء. وإجمالًا، كان سيصبح أسعد بمقولة درويسن إن «التاريخ هو معرفة الإنسانية نفسها، أو وعي البشرية بذاتها.» إن هذا الصنف الثري والشامل من أصناف التاريخ هو ما يبدو في العمل الذي يسمِّيه البعض «الحروب الفارسية»، ويسمِّيه آخرون — على نحوٍ أكثر ولاءً للإغريق — «تاريخ هيرودوت»؛ أَلَا وهو «البحوث».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤