الفصل الثاني

الأصول والمؤرخ

ثمة حكاية شهيرة تتحدث عن مُحاضِر بارز وامرأة صعبة المراس كانت بين جمهوره، حيث تحدَّتْه هذه العجوز — بعد أن نبذت تفسيره للنظام القائل بمركزية الشمس معتبرة إياه هراءً — مؤكِّدةً أن الأرض ما هي إلا لوحة مستوية مرتكزة على ظهر سلحفاة. وحتمًا، وعلى نحوٍ لا يخلو من الاعتداد بالنفس، سأل المحاضر متحديته عَلَامَ تقف هذه السلحفاة في اعتقادها، فأجابت محاورته بأسلوب مشاكس: «إنك لذكي أيها الشاب، ذكي جدًّا، لكنها سلاحف فوق سلاحف وصولًا إلى البداية». يقول بعضهم إن المحاضر هو برتراند راسل، ويقول آخرون إنه ويليام جيمس، ويقول فريق ثالث إن شيئًا من هذا القبيل لم يحدث البتة. ويقال إن مفكرًا هندوسيًّا أعطى صورة بديلة يستند فيها العالم على فيل، ويستند هذا الفيل على سلحفاة، وعندما سُئِل عَمَّا تستند إليه هذه السلحفاة، اقترح … تغيير الموضوع. كان هذا الموضوع ليفتن هيرودوت وهو المولع بجمع مختلف الروايات التي تصوِّر أمرًا ما.

لا تشهد شهرة هذه الحكايات (الملفقة؟) وتنوُّعها على صعوبة الوصول إلى الأصول فحسب، بل أيضًا على الدافع الإنساني الملحِّ للتوصل إلى بدايات الأشياء، وهو ملحٌّ بالنسبة لكل الأشخاص المتأملين، لكنه مثار اهتمام خاص بالنسبة للمؤرخين؛ ذلك أنه من دون فهم الأصول، لا يمكن أن يكون هناك فهم للسببية، ومن دون السببية … حسنًا، من دون الدافع إلى فهم السببية، سيظل هيرودوت جغرافيًّا مثل هيكاتايوس، الذي كتب عن العادات التي صادفها في أسفاره الواسعة، أو شاعرًا مثل سيمونيدس، الذي مجَّد أبطال الحرب الفارسية بأسلوب هوميريٍّ، أو بندار الذي تضمَّنَتْ قصائده الغنائية الاحتفالية حكايات أسطورية، أو قاصًّا مثل عيسوب، الذي سحر الألباب بحكاياته الهادفة المتضمنة الحيوانات. ودون سببية، يصبح مفهوم التاريخ عديم المعنى. لكن على الرغم من كل اهتمامه بالسببية، أدرك هيرودوت أيضًا مدى سهولة أن يضل المرء طريقه وينتهي به الحال مع نموذج بسيط إلى حد السخف. والحقيقة أنه يبدأ برواية أساطير مسلية عن الأصول البعيدة للحرب الكونية بين الشرق والغرب، لينحيها جانبًا في النهاية وينتقل بشكل هادف إلى مجال التاريخ الأكثر جدارة بالثقة بكثير.

وهو يقول إن الفُرْس المثقفين ينحون باللائمة في العداوة بين الإغريق والفُرْس على التجَّار الفينيقيين، الذين أقدموا — أثناء بيعهم بضائعهم في آرجوس في البر الرئيس اليوناني — على اختطاف أيو ابنة الملك، مما دفع بعض الإغريق إلى اختطاف يوروبا من مدينة صُور في فينيقيا، وميديا من كولخيس المطلة على البحر الأسود (وهناك رواية أخرى تقول إن أيو فرَّتْ بملء إرادتها بعد أن حبلت من قبطان السفينة الفينيقية). واختطف الأمير الطروادي باريس بدوره هيلين من إسبرطة، وبالتالي تسبَّب في غزو الإغريق طروادة. ويقول هيرودوت إن الاستيلاء على طروادة هو — من وجهة نظر الفُرْس — الذي أثار عداوتهم للإغريق؛ لأن «الفرس يعتبرون آسيا والشعوب البرابرة التي تسكنها منطقة نفوذ لهم، على اعتبار أن أوروبا واليونان منفصلتان.» ويواصل هيرودوت قائلًا: حسنًا، بعد أن تسلينا بهذه الحكايات الشهوانية، لا سبيل لديَّ إلى معرفة ما إذا كان أي من هذا صحيحًا:

بدلًا من ذلك، أفضِّل أن أتمسَّك بما أعرفه، وأن أبيِّن بالضبط مَن سَبق إلى إيذاء الإغريق، ثم سأمضي في قصتي، مقدمًا أوصافًا مفصَّلة لمدن صغيرة ومدن كبيرة على السواء. ولا ننسَ أن كثيرًا من المدن التي كانت عظيمة فيما مضى صارت صغيرة، وكثيرًا مما كانت عظيمة في زماني كانت صغيرة في أزمنة سابقة؛ ومن ثَمَّ فسأناقش كليهما على السواء، مدركًا أن الازدهار البشري لا يدوم طويلًا في المكان ذاته أبدًا.

(تعليقًا على هذا السطر، ينوِّه أولماشي — شخصية الروائي أونداتجي الخيالية — إلى أنه وزملاءه الجغرافيين، كانوا — وهم يجتازون الصحراء حاملين نسخةً من «تاريخ هيرودوت» — يعرفون أن «السلطان العظيم والمال الوفير إلى زوال. لقد عشنا جميعًا مع هيرودوت».) فتبرز من هذا النص القصير حدود المعرفة الإنسانية، والانشغال بالأوائل، وتمييز نفسه كمؤلف كتاب، وتقلب المصائر؛ وكل هذه العناصر أساسية في «تاريخ هيرودوت».

إذن فمَن ذا الذي ألحق الأذى أول مرة بالإغريق؟ وماذا كانت الدرجة الأولى في سُلَّم السببية الذي أدى إلى الحروب الفارسية؟ يقول هيرودوت إن كرويسوس، حاكم ليديا، كان أول أجنبي على ما بلغنا اتصل بالإغريق، حيث كان يجبي الجزية من بعضهم ويعقد تحالفات مع آخَرين. وسرعان ما ستتبين أهمية هذا الأمر؛ لأنه عندما يغلب قوروش وأتباعه الميديون كرويسوس والليديين، ستجد المدن الإغريقية الدافعة للجزية نفسها ترزح تحت نير سيد أشد قسوةً.

تتكرر عبارة «الأول على ما بلغنا» تكرارًا ملحوظًا في «تاريخ هيرودوت»، مما يشير إلى انبهار هيرودوت بالأوائل، وكذلك إدراكه لمحدودية نطاق المعرفة البشرية. فيروي هيرودوت أن بوليقراط الساموسي:

كان أول إغريقي على ما بلغنا خطَّط مناطق السيادة البحرية، إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار مينوس الكنوسوسي أو أي شخص آخَر ربما حكم البحر في أي تاريخ سابق. أما في التاريخ البشري العادي، فقد كان بوليقراط هو الأول.

كان جيجس على ما بلغنا أول أجنبي، بعد ميداس ملك فريجيا، يقدِّم قرابين في دلفي. وكان الليديون على ما بلغنا أول من ضرب العملة الذهبية والفضية واستخدمها. وكان أريون على ما بلغنا أول مَن ألَّف الشعر المعروف باسم الأناشيد الحماسية وأطلق عليه هذا الاسم. ويمتلئ القسم الذي يتناول مصر — ويشكل الكتاب الثاني — بالأوائل؛ لأن قِدم مصر ذاته هو الذي أسر خيال هيرودوت إلى حد كبير. يقول هيرودوت إن المصريين أول مَن استخدم أسماء الآلهة الاثني عشر الذين اتخذهم الإغريق فيما بعدُ، وأول مَن تنبَّأ بطالع المرء من يوم ميلاده، وأول مَن استحدث لقاءات ومسيرات احتفالية وعلَّم الإغريق إياها. بل إن الفرعون بسماتيك أجرى تجربة هيرودوتية لتقرير ما إذا كان المصريون هم فعلًا — كما كانوا يظنون من قبل — أقدم سلالة بشرية في العالم، فعزل وليدين لا يرافقهما أحد غير راعٍ وقطعانه، وانتظر الراعي كي يخبره بالكلمة الأولى التي نطق بها الطفلان، وعندما بدآ يهتفان «بيكوس» وهما يركضان نحوه مادين أيديهما، أبلغ الراعي بسماتيك بهذا، وبالاستقصاء علم الفرعون أن هذه الكلمة كلمة فريجية تعني خبزًا. وبذلك فإن المصريين — في غفلتهم عن احتمال كون الطفلين يحاكيان ثغاء رفاقهما الحملان فحسب — سلَّموا بأن الفريجيين هم أقدم سلالة بشرية في العالم، وأنهم هم ثاني أقدم عِرْق (ولم يصلهم قطعًا نبأ التجربة التي أجراها فيما بعدُ الملك جيمس الخامس، ملك اسكتلندا، وأثبتت أن الأطفال الصغار إذا تُرِكوا وشأنهم سيتحدثون العبرية).

كفانا من أوائل المصريين والفريجيين. فكيف صار كرويسوس، وهو «على ما بلغنا أول» مَن اتصل بالإغريق، ملكًا على ليديا؟

يبدو أن كرويسوس دان بالفضل في بلوغه منصبه لجده الأكبر جيجس، وهذا هو الموضع الذي سيبدأ فيه هيرودوت في الحقيقة قصته؛ لأن قصة جيجس أثرى من أن تُهمَل؛ إذ تتيح لهيرودوت فرصة للاعتماد على كامل قدراته على المسرحة، وتوضح العديد من أفكاره المحورية، وتقوده إلى قصة كرويسوس، التي بدورها تصب في سيرة قوروش وتأسيس الإمبراطورية الفارسية، التي من دونها ما كانت لتوجد حروب فارسية. ونحن نرى هنا سمة دائمة لأسلوب هيرودوت، الذي يورد فيه عبارة إيضاحية ثم يعدلها فورًا برأي مغاير يعيد تشكيل سرده، حيث نراه يقول: سأستهل بكرويسوس … لكن كلا، أظن أنه ينبغي أن نستهل بجيجس.

إننا نعلم أن كاندوليس ملك ليديا كان مقدَّرًا له أن ينتهي نهاية سيئة؛ ونظرًا لهذا المصير، ولأنه يكن لزوجته (من دون كل الناس!) عاطفة جامحة تثير العجب، دأب على الإكثار من الحديث عن جمالهما مع حارسه الأثير (عند هذه المرحلة نجد هيرودوت يستخدم أسلوبًا دراميًّا بكل معنى الكلمة)، ولما يوقن كاندوليس أن حارسه — وهو تحديدًا جيجس، جد كرويسوس الأكبر — غير مقتنع قناعة كافية بجمال الملكة، يقترح عليه رؤيتها عارية، مبرِّرًا ذلك بقوله إن الناس دأبوا على الثقة في أعينهم أكثر من ثقتهم في آذانهم (هذا أيضًا تعليق على مناهج هيرودوت في البحث التاريخي التي يعطي فيها شهادات الشهود الأولوية)، فيصيح جيجس مرعوبًا: سيدي! هذا غريب! أنا أصدِّق تمامًا كل شيء تقوله عن جمال زوجتك، وأتوسل إليك ألَّا تجعلني أفعل هذا الشيء المخالف تمامًا للعُرْف.

لا يقتنع كاندوليس، ويجبِر جيجس على مشاهدة الملكة وهي تخلع ثيابها استعدادًا للنوم، فتمسك به وتخيِّره — وقد لُوِّثت سمعتها بفعلته هذه — بين مواجهة الإعدام أو اغتيال كاندوليس وحكم المملكة بجانبها. وكما يقول هيرودوت في جملة قصيرة قاطعة: «اختار أن يحيا.» وبعد مقتل الملك، أقَرَّتْ كاهنة دلفي جيجس في منصبه، وإن كانت الكاهنة نبَّهت إلى أن الثأر من أفعاله سيأتي في الجيل الخامس. وكما هو الحال غالبًا في «تاريخ هيرودوت»، لم تُعَرْ هذه النبوءة اهتمامًا حتى تحقَّقت، وقد تحققت، ولم يكن الرجل الذي دفع ثمن أفعال جيجس سوى كرويسوس. وبذلك فإن الدافع إلى رؤية كرويسوس كبشير لخشایارشا، وإلى رؤية قصة حياته كأنها تعرض برنامج «تاريخ هيرودوت» ككل دافع لا يقاوم، لكن من المهم أن ندرك أن كرويسوس هيرودوت هو في الحقيقة شخصية هامشية؛ إذ كانت ليديا في أقصى الغرب من بين الأوتوقراطيات الشرقية التي يناقشها هيرودوت، وقد اهتم كرويسوس اهتمامًا شديدًا بالعالم الإغريقي، ملتمسًا حلفاء بين الإغريق، وكان كجده الأعلى جيجس يقدم القرابين — شديدة السخاء في حقيقة الأمر — في دلفي.

على الرغم من أن التأريخ للقائهما مشكوك فيه، فمن الواضح أن المجال كان متاحًا للِّقَاء بين كرويسوس وسولون، الذي عُرِف بأسفاره الكثيرة في القرن السادس بعد إصلاح نظام أثينا القانوني والاقتصادي. وبعد أن حرص الملك الليدي على قيام سولون بجولة في خزانته، يسأله عمَّن يعتبره أعظم الرجال حظًّا، أخطأ كرويسوس بطرحه سؤالًا لا يريد في حقيقة الأمر سماع إجابة عنه، بل كل ما يريده هو أن يقول له سولون إنه هو، كرويسوس ملك ليديا، الأوفر حظًّا وبفارق كبير. وبكل تأكيد، لم يكن مثل هذا الرد ليصبح مؤثرًا من الناحية الفنية، أو إغريقيًّا من الناحية الفلسفية، وبدلًا منه، يذكر سولون اسم رجل أثيني من أصل عريق لكنه غير أرستقراطي، وأعني تيلوس، وهو مواطن يملك أموالًا كافية «وفق معاييرنا» (تأويل: ثروة الملوك الشرقيين ليست ضرورية للسعادة) وله أولاد وأحفاد، ومات مقاتلًا دفاعًا عن المدينة ويُجلُّه الجميع. وكما هو متوقع، تخيِّب هذه الحكاية — بما فيها من عظة — كرويسوس، فيسأل بنبرة حادة عمَّن قد يكون ثاني أسعد شخص رآه سولون.

ما من فائدة. يذكر سولون اسم شابين من آرجوس ربَطَا نفسيهما موضع الثيران من عربة العائلة، وجرَّا أمهما نحو ستة أميال إلى معبد هيرا لحضور مهرجان الربة عندما تأخَّرت الثيران في عودتها من الحقول. واستجابةً لصلوات أمهما، نال الشابان أعظم بركة يمكن أن ينالها بشري، حيث خرَّا نائمين في المعبد (ولا شك أنهما كانا منهكين) ولم يستيقظا قطُّ.

إن إخفاق كرويسوس التام في استيعاب رسالة سولون يقود الأثيني إلى شرحها له، فيقول: أيا كرويسوس، البشر جميعهم مخلوقات الصدفة، ولا يمكنني أن أخبرك بما إذا كنتَ محظوظًا أم لا ريثما أعرف أنك مت سعيدًا؛ لأن «الإله يهَبُ في أغلب الأحيان الإنسانَ لمحةً من السعادة، لا لشيء إلا ليمحقه تمامًا في النهاية.» لذا ينبذ كرويسوس سولون بوصفه جاهلًا، لكن سرعان ما تأخذ الربة نيميسيس ملكَ ليديا بغتة؛ إذ يثير بغروره غضب الآلهة، فيفقد ابنه الحبيب آطيس، الذي يقتله عرَضًا — من دون كل الناس — مستجيرٌ تكرَّم كرويسوس بقبوله في جواره؛ يقتله بينما يحاول اصطياد خنزيرًا بريًّا (ربما يكون كرويسوس نسيًّا بعض الشيء، لكنه ليس سيئًا بالكلية). ظل حزينًا لمدة سنتين بعد ذلك إلى أن أخرجته من أحزانه هذه أنباءٌ مزعجة واردة من الشرق؛ فقد بدا أن قوروش المتَّقِد بالحيوية شرع في تحويل فارس إلى قوة يحسب لها حساب، فدفع هذا التطور كرويسوس إلى طلب النصح من كهنة اليونان وليبيا بغرض توجيه ضربة استباقية (فكرويسوس، مثله مثل هيرودوت، أشبه بباحث)، والبقية يحكيها لنا التاريخ. وبعد أن دفعه كلام كاهنة دلفي إلى اعتقاد أن إمبراطورية عظمى ستنهار لو خاض حربًا ضد قوروش، ولا ريب أنه أخطأ في فهم النبوءة. ونظرًا إلى خطأ شخصيات هيرودوت عادةً في فهم النبوءات كل مرة، لا نكاد نتوقع شيئًا آخَر. فكانت القوة التي دمَّرها كرويسوس قوته، وضُمَّتْ ليديا إلى الإمبراطورية الفارسية، وأفلت كرويسوس من الموت على يدي قوروش بأعجوبة.

لا يسير سرد هيرودوت دائمًا بأسلوب خطي؛ إذ لا نسمع عن أصول قوروش مثلًا إلا بعد مرور بعض الوقت على اقتتاله هو وكرويسوس، وعندما نكتشف في النهاية كيف بلغ قوروش المكانة التي بلغها وأسس الإمبراطورية الفارسية، نعلم أن خططًا قد وُضِعت قبل ميلاده لضمان ألَّا يتجاوز سنين عمره الأولى. كان أستياجس ملك ميديا قد رأى حلمًا يخصُّ سبطه أثار خوفه؛ إذ رأى في المنام ابنته الشابة مانداني تتبول في عموم آسيا، فزوَّجها بدافع القلق من رجل فارسي متوسط الحال، وفيما بعدُ رأى في المنام كَرْمة تنبت من مهبلها وتغطي الإقليم ذاته، فقرَّر أن يتخلص من الطفل الذي كانت تحمله، لكن كما هو معهود في هذه الحكايات التي تتناول نجاة الزعيم المستقبلي بأعجوبة (موسى، رومولوس، إلى آخِره)، كان الحظ حليف قوروش؛ إذ يدفع هارباجوس — تابع أستياجس الأمين — في الواقع بالوليد، بعد أن أُمِر بالتخلص منه، إلى راعي غنم كي يقتله، لكن راعي الغنم — طبعًا لأن الطفل وُلِد كي يصير ملكًا — يتخذ هو وزوجه سليلَ الملوك ولدًا ويربِّيانه.

عندما يبلغ قوروش مبلغ الرجال وقد علم بهويته الحقيقية، يحشد الفرس للاصطفاف خلفه والإطاحة بأستياجس، حيث يستدعي رجالًا من أقوى القبائل، ويأمرهم بتطهير بقعة معينة من الأرض الوعرة المليئة بالأشواك تقارب مساحتها ثمانية عشر أو عشرين فرسخًا مربعًا، وبعد إنجاز العمل، يذبح أعدادًا هائلة من المعز والضأن والثيران استعدادًا لمأدبة سخية، مضيفًا إلى الخليط النبيذ الفاخر والخبز. وعندما يرى الفرس في اليوم التالي، يسألهم عمَّا يفضِّلون: كدح يومهم السابق أم مباهج يومهم الحالي. وبعد سماع قوروش الإجابة المتوقعة، يعدهم بأنهم لو تمرَّدوا على أستياجس، فسيتمكنون من التمتع بألف ملذة تتساوى في فخامتها مع المأدبة التي أمامهم، لكنهم إذا رفضوا فإن العمل البائس الذي كُلِّفوا به اليوم السابق سيشكل نموذجًا لكثير من المهام الرهيبة التي ستأتي. ثم يقول: «أنا الرجل الذي شاءت العناية الإلهية أن أضطلع بتحريركم. أعتقد أنكم صنو للميديين في كل شيء بما في ذلك الحرب. الحق أقول. لا تتمهلوا، بل ثوروا على أستياجس في هذه اللحظة.» وهكذا فإن قوروش، الذي لم يَنْسَ قطُّ أصوله والأذى الذي كاد يكلفه حياته كطفل رضيع، يطيح بأستياجس ويحكم لسنوات طويلة، فاتحًا ليديا وعددًا كبيرًا من الأقاليم الأخرى، ويخلفه على العرش ابنه مثار الجدل قمبيز الذي يخلفه في نهاية المطاف دارا. وبولاية دارا، تبدأ المواجهات المفتوحة بين الإغريق والفرس.

لكن مَن هؤلاء الإغريق؟ وما أصولهم؟ يكشف انخراط هيرودوت في الإجابة عن هذا السؤال — في الحقيقة استعداده الشديد للانخراط في الإجابة عنه — عن هيرودوت مختلف عن هيرودوت القاص الذي روى الحكايات الشائقة التي تتناول جيجس وكرويسوس وقوروش؛ ففي فقرة شهيرة في الكتاب الثامن، يؤكِّد الأثينيون للإسبرطيين أنهم لن يبرموا أبدًا اتفاقًا مع بلاد فارس؛ لأن في ذلك خيانة ﻟ «إغريقيتنا»، فنحن «عرق واحد يتحدث بلغة واحدة ويشترك في الأضرحة والقرابين، ويجمعه منهج حياة متماثل.» وقبل أن يمضي على ذلك وقت طويل، يهدِّدون بإبرام مثل هذا الاتفاق بالضبط، والواقع أن هيرودوت يقوِّض في مراحل مختلفة فكرة أن الإغريق كانت تجمعهم ثقافة فريدة وموحَّدة.

يبيِّن هيرودوت أن اليونان كلها كانت مأهولة في الأساس بالشعب البربري المسمى بيلاسجيان، الذي تحدَّر منه أثينيو ذاك العصر مباشرةً. وقد استقبل بسخرية الادعاء القائل بأن سكان المدن الأيونية الاثنتي عشرة بآسيا الصغرى هم بطريقة أو بأخرى من أصل أيوني أنقى وأشرف من الآخرين؛ لأن عددًا ضخمًا من المستوطنين الأصليين جاءوا من مدن غير أيونية، بل ومن بعض المدن التي لم تكن حتى إغريقية! كذلك يشدِّد أيضًا على النفوذ الفينيقي؛ إذ يقول إن البطلين الأثينيين المبجلين هارموديوس وأريستوجيتون كانا ينتميان إلى عشيرة ليست — كما زعَمَا — من مدينة إريتريا الواقعة شمال أثينا، بل في الحقيقة من أصل فينيقي مثلما كانت الألفبائية من فينيقيا، حسب تأكيده. وهيرودوت لا يرحم الإغريق أبدًا في تشديده على المصادر المتنوعة التي استعاروا منها، فمن الليديين استعاروا معظم ألعابهم، ومن الكاريين استعاروا ريش الخوذات وشعارات الدروع ومقابضها، ومن الليبيين استعاروا الملابس التي كان الأثينيون يُصوَّرون عادة وهم يرتدونها، وأكَّد أنهم تعلَّموا هويات الآلهة كلها من غير الإغريق؛ ولا سيما المصريين، فمقارنةً بالمصريين، لم يتوصل الإغريق إلى معرفتهم بالآلهة «إلا أمس أو أول أمس إذا جاز التعبير.» وهو يقول إنه يستطيع تقديم قدر لا بأس به من الأدلة التي تؤيِّد فكرة أن الإغريق استعاروا اسم هرقل من مصر وليس العكس. ويعزو هيرودوت — وهو في العادة، لكن ليس دائمًا، من القائلين بالانتشار الثقافي — اختراع المذابح والمعابد والتماثيل والمواكب الدينية وعقيدة تناسُخ الأرواح إلى المصريين، وفي معظم الأحيان يؤكِّد أن الإغريق استعاروا هذه العادات، بل وفي حالة تناسُخ الأرواح، نجده في واقع الأمر يتهم المستعيرين الإغريق بالسرقة الصريحة (يقول علماء المصريات إنه مخطئ في هذه النقطة، لكن تفكيره يتباين تباينًا صارخًا مع تفكير هيكاتايوس الأكثر منه تعصبًا لوطنيته، والذي كان مقتنعًا بأن التأثير سار في الاتجاه المعاكس).

إذن فهيرودوت يُظهِر، في أسلوبه القصصي وفي أسلوبه الإثنوجرافي، اعتقادًا قويًّا بأن المرء كي يفهم التاريخ يجب أن يفهم الأصول؛ فهو على دراية بأن الكبرياء الوطني يقود الناس إلى طرح روايات مجمِّلة لأصولهم تقلِّل من قيمة المزيج العرقي والاستعارة الثقافية. وعلى امتداد صفحات «تاريخ هيرودوت»، يتعامل المؤلف مع أصول الأصول، منوِّهًا إلى أن التقاليد السائدة حيال التقاليد إنما هي محل شك، وأنه يجب علينا أن نأخذ المصدر بعين الاعتبار. وكان ينبغي أن يتذكر مَن ينتقدون هيرودوت بسبب بعض الحكايات غير المعقولة الواردة في كتابه دورَه في تأسيس نقد المصدر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤