الفصل الرابع

هيرودوت الإثنوجرافي

لا توجد بغال في إليس.
الأطلسيون لا يحلمون قطُّ.
يظن الجيتيون أنهم خالدون.
يطلي السكيث بالذهب جماجم آبائهم الموتى، ويولمون بلحمهم.
تتبول النساء واقفات في مصر، بينما يقعد الرجال القرفصاء.
يقال إن الرجال في القوقاز يجامعن النساء علانية كالحيوانات.
يدفن البابليون موتاهم في العسل.
يأكل الجيزانتيون القرود!

كل هذا تحصَّل عليه هيرودوت من الاستقصاءات التي أجراها أثناء أسفاره؛ ففي الكتاب الأول، يحدِّثنا عن العادات التي تُمارَس في ليديا وبلاد فارس، أما الكتاب الثاني فيكرِّسه بالكلية لمصر، ويتضمن الكتاب الثالث انتهاك قمبيز الأعراف المقبولة في مصر، وتجربة دارا لمعرفة كيف يكون رد فعل الناس تجاه الطرق التي يتبعها بعضهم في التعامل مع الموتى، ومعالجة هيرودوت طرفَي الأرض، ويتناول الكتاب الرابع سكيثيا متطرقًا بإيجاز إلى ليبيا. وبداية من الكتاب الخامس، يتحول التركيز إلى التاريخ السياسي الضيق، وإنْ شابته بعض الانحرافات الإثنوجرافية، ومن ذلك مثلًا عادات الإسبرطيين التي تقدِّم لنا نظائر مدهشة لعادات الشعوب غير الإغريقية.

يمكن النظر إلى الإثنوجرافيا على أنها تتكون من ملمحين أساسيين يمتزجان امتزاجًا وجوديًّا، وهما المنظور والمنهجية. فلا بد أن يكون الإثنوجرافي إنسانيًّا وعالمًا على حدٍّ سواء، فيكون إنسانيًّا في قدرته على التسامي على ثقافته وتقييم المجتمعات الأخرى في إطار لا ينطوي على إصدار أحكام، ويكون عالمًا في جمع الأدلة من خلال المشاهدة والمحاورة. وفي كلا المجالين، نجد أن فضول هيرودوت وطاقته الفطريين قاداه إلى ارتياد مجال جديد سيوسع بدرجة عظيمة أفق إخوانه الإغريق وفهمهم للمجتمع الإنساني، ويضع في نهاية المطاف حجر الأساس للأنثروبولوجيين الأوروبيين العاملين في العالم الجديد.

ومثلما يستخدم مؤلفو الخيال العلمي عوالمهم البديلة لطرح مقولات حول العالم الذي يعيشون فيه، تمثَّل غرض هيرودوت، في جزء منه، في تسليط الضوء على ما كان إغريقيًّا بشكل متمايز باستعراض العادات اللاإغريقية الواضحة. وعلى الرغم من إظهار هيرودوت انفتاحًا عقليًّا غير معهود على عادات الشعوب غير الإغريقية، «المتحضرة» منها كالمصريين والفرس، و«غير المتحضرة» كالسكيث، على السواء، فإنه يميل إلى رؤيتها بأعين إغريقية، وإن لم يكن دائمًا؛ إذ إن خريطة هيرودوت الثقافية ليست متأصلة في مقابلة ثنائية بسيطة. فرجل لا يستطيع التفكير إلا من منظور إما هذا أو ذاك، ما كان بوسعه أن يؤلِّف «تاريخ هيرودوت».

كانت فكرة أن الأعراف الثقافية تختلف باختلاف الزمان والمكان محل خلاف شديد في عصر هيرودوت (على الرغم من أن قليلًا من الإغريق ومنهم هيرودوت كانوا يرون أن بعض الطرق الأجنبية ربما تكون أفضل من طرقهم هم). وكان بعضهم يتساءل: هل الآلهة موجودة فعلًا، أم أنها من اختلاق البشر؟ إذا كان قانون معين لا يروق لك، فهل يمكنك تغييره فحسب، أم أن هناك مبدأ طبيعيًّا أساسيًّا من نوع ما يعارض هذا بشدة؟ كان الأمر كله يُختزَل إلى الناموس مقابل الطبيعة، وكانت كلمة ناموس الإغريقية تنطوي على عدة أفكار مختلفة؛ كالتشريع والعُرْف المعزَّز اجتماعيًّا والقيمة والتقليد والعادة. كان أنصار الطبيعة يرون بعض الأشياء صحيحًا وبعضها الآخَر خاطئًا، ويعتبرون هذا التفريق أزليًّا وغير قابل للتفاوض. أما أنصار الناموس، فكانوا يتبنَّون نظرة مختلفة؛ فالقواعد، بالنسبة لهم، من وضع البشر ويمكن تغييرها أو تجاهلها، ولا ريب أن النواميس هي بالضبط الأشياء التي تثير اهتمام الإثنوجرافيين. فمن يضع القواعد بين هؤلاء الناس؟ وما الجزاءات على انتهاكها؟ وما الذي يحترمونه؟ وكيف يقضون أيامهم؟ وماذا عن الجنس، والزواج، وتربية الأطفال؟ وكيف يتعاملون مع الموت؟ ومَن يأكل ماذا؟ ولماذا؟ ربما تكون الطبيعة موضع بعض الاهتمام أيضًا (فالمناخ على سبيل المثال قد يشكِّل الأفراد والثقافات)، لكن الناموس هو الأهم.

كان الناموس محل اهتمام خاص من جانب السوفسطائيين معاصري هيرودوت الذين كانوا يجدون متعتهم في كشف ما يعتبرونه عشوائية كل شيء، وكانوا يشجعون — مثل بعض محاوري سقراط المزعجين — أتباعهم على الاعتقاد أن القوانين وُضِعت لتُخرَق، لكن هيرودوت اعتنق وجهة النظر المقابلة، حيث يبيِّن لنا في كتابه أولوية احترام مختلف النواميس. يستطيع المرء يقينًا أن يتجاهل النواميس؛ فهي ليست قوانين كقوانين الطبيعة، لكن المرء يفعل هذا متحملًا العاقبة. وأشهر حالة في «تاريخ هيرودوت» هي حالة ابن قوروش، قمبيز، الذي سخر من المصريين لعبادتهم عجلًا يُعرَف باسم أبيس، وألحق في الواقع بأبيس إصابة قاتلة في الفخذ. هذه الفعلة لم تروع المصريين فحسب، بل روعت هيرودوت أيضًا، ويتركنا المؤلف ولدينا اعتقاد أن موت قمبيز متأثرًا بإصابة في الموضع ذاته تمامًا الذي أصاب فيه أبيس من قبلُ ليس من قبيل المصادفة. وفي سياق استخفاف قمبيز الأرعن بالنواميس المحلية، يحكي هيرودوت حكايةً صارت الآن مشهورة عن تجربة أجراها دارا لإثبات تفضيل المرء عمومًا عاداته الأصلية:

دعا دارا بعض الإغريق الذين كانوا حاضرين إلى مؤتمر، وسألهم كم يرضون من المال ليأكلوا أجساد آبائهم الموتى، فأجابوا بقولهم إنهم لن يفعلوا ذلك مهما كان المقابل. وبعد ذلك استدعى الملك بعض أفراد قبيلة كالاتياي الهندية التي يأكل أبناؤها جثامين والديهم الموتى، وسألهم في حضور الإغريق (وكان هناك مترجم حتى يفهموا ما يقال) كم يرضون من المال كي يوافقوا على حرق جثامين آبائهم، فصرخوا مرتاعين وحرَّموا عليه أن يقول مثل هذه الأشياء الشنعاء. وهكذا صارت هذه الممارسات محفوظة كعادات باقية، وأعتقد أن بندار كان على حق أن قال في قصيدته إن العادة سيدة الجميع.

ومع ذلك فإن هيرودوت الإغريقي نفسه قلَّمَا يعبِّر عن اشمئزازه من أيٍّ من التشكيلة الهائلة من العادات غير الإغريقية التي يصادفها. فمثله مثل السفسطائيين، تعامَل مع النواميس في أغلب الأحوال كما هي، وقد طمح — كباحث ميداني بكل معنى الكلمة — إلى دور المسجل لا القاضي. فإلى الشمال يوجد هؤلاء الناس الذين لديهم هذه العادات والنباتات والحيوانات، وعلى الجانب الآخَر من الجبل يوجد هؤلاء الناس الذين لديهم تلك العادات والنباتات والحيوانات، وهم يقولون إن على الجهة الأخرى من الصحراء يوجد هؤلاء الناس الذين لديهم هذه العادات والنباتات والحيوانات. ومثل الأنثروبولوجيين في العصر الحديث، كان مؤمنًا بالنسبية الثقافية، لكن إلى حد معين فحسب، فهو يتوقف دوريًّا للإشادة أو الاستهجان. وفي مرات الشجب القليلة، يظل أرفع مستوًى من بعض مَن أَتَوا بعده، حتى إن باحثًا ميدانيًّا يحظى باحترام شديد مثل برونيسلاف مالينوفسكي قال في مذكراته أشياء أشد قسوةً بكثير عن الأشخاص موضوع بحثه، مقارنةً بأي شيء نقرؤه في عمل هيرودوت.

وبالإضافة إلى فضوله تجاه النواميس المتنوعة، كان هيرودوت مهتمًّا باختلاف النواميس بشأن النواميس؛ فهو يروي لنا أن الفرس يتبنَّون عادات أجنبية أكثر من أي شعب آخَر. ولتقارن بينهم وبين المصريين، الذين يتمسكون بنواميس أسلافهم ولا يقبلون أبدًا أي نواميس جديدة. وهناك قصتان طويلتان جدًّا تحكيان لنا عن أفراد لَقَوا حتفهم نتيجة حماسهم للعادات الأجنبية، وهما أناقارسيس السكيثي، الذي قُتِل من الواضح على يدي شقيقه عندما اكتُشِف انخراطه في طائفة دينية أجنبية، وسايلس، وهو الآخَر سكيثي، الذي بدأ — بعد أن تيَّمَتْه الثقافة الإغريقية — يتجوَّل خلسةً مرتديًا ملابس الإغريق ويعبد آلهتهم، وعندما وشى به واشٍ، أقدَمَ شقيقه هو الآخَر على قتله. ويختم هيرودوت بقوله: «شديدو المحافظة هم السكيث، حتى إنهم يعامِلون مَن يعتنقون عادات أجنبية على هذا النحو.»

اعتبر هيرودوت — مثله مثل معظم الإثنوجرافيين — التفاصيل الثانوية للحياة اليومية جديرة كل الجدارة بالتسجيل، لكننا نجد في عمله أن محض غرابة عادات الآخرين وممارساتهم اليومية يحولها إلى شيء دخيل. وهيرودوت ها هنا يتميز عن إثنوجرافيي وأنثروبولوجيي العصر الحديث المدرَّبين على كبح حماساتهم والاكتفاء بتسجيل ما يرون أو يسمعون، وما يفتقر إليه «تاريخ هيرودوت» هو موقف الباحث الميداني المحترف الواضح والمحكم؛ فملاحظات هيرودوت حول العوالم التي يزورها تتميز بمزجها بالعجب، فنحن نقرأ بين السطور ما مفاده: إنك لن تصدق هذا أبدًا.

كان هيرودوت، الذي اتسم في بعض الأحيان بأنه كاتب رحلات أكثر منه إثنوجرافيًّا، منجذبًا بشدة إلى الأشياء اللافتة للنظر والغريبة وغير المألوفة والعجيبة والمروِّعة؛ إلى أي شيء يختلف اختلافًا مثيرًا عمَّا ألفه هو وإخوانه الإغريق. وكان يستمتع ﺑ «القصيِّ» — بالمعنيين الحرفي والمجازي للكلمة (لقد فتنه ما يوجد على أطراف العالم المعروف، كالنمل الهندي الذي يفوق الثعلب حجمًا وينقب عن الذهب في الأرض) — جزئيًّا بسبب افتتانه الشخصي بما هو غير عادي، وجزئيًّا بسبب التزامه بالدقة والشمولية فيما يرويه، لكن جزئيًّا أيضًا، وبكل تأكيد، بسبب علمه أن تلك مادة كتابة مناسبة.

كان هيرودوت مولعًا ولعًا خاصًّا بالظواهر غير العادية التي كانت تجلي سعة حيلة البشرية. انظر مثلًا إلى براعة السكيث؛ فعندما كانوا يضحُّون بثور، كانوا يواجهون صعوبة في طهيه؛ لعدم وجود حطب في سكيثيا يصنعون به نارًا، ولعدم توافر القدور على الدوام؛ ومن ثَمَّ، فهم يضعون كل اللحم في بطن الثور ويخلطون به بعض الماء ويسلقونه على نار اتخذوها من العظام. عجبًا؛ فيكون ثورًا ذاتي الطهي! وفي شبه الجزيرة العربية، تأتي طيور كبيرة بعيدان القرفة إلى أعشاش على منحدرات جبلية شديدة الارتفاع، لدرجة أنه لا يستطيع إنسان التسلق والحصول عليها؛ لذا طوَّر العرب استراتيجية، حيث يقطِّعون أجسام الدواب قطعًا كبيرة جدًّا ويتركونها بالقرب من الأعشاش، وعندئذٍ تهبط الطيور لحمل قطع اللحم إلى أعشاشها، لكن الأعشاش ليست بالقوة الكافية لتحمُّل الوزن، فتنهار وتسقط على الأرض، وعندها يأتي العرب ويأخذون القرفة، التي يصدِّرونها بعدئذٍ إلى البلدان الأخرى. وهناك ما هو أكثر، فأحد أنواع الضأن في شبه الجزيرة العربية له ذيل مفرطح عرضه ثماني عشرة بوصة، وهو أمر مدهش لكنه لا يمثِّل مشكلة، وأما النوع الآخَر فيشكل تحديًا؛ لأن ذيله طويل جدًّا (أربعة أقدام ونصف القدم أو أكثر) لدرجة أنه سيتقرح لو تُرِكت الشياه تجره على الأرض من ورائها وهي تسير، لكن الرعاة فيما يبدو يعرفون ما يكفي عن النجارة لصنع عربات صغيرة يثبِّتون الواحدة منها تحت ذيل الشاة. مشكلة وحُلَّتْ!

ويُسَرُّ هيرودوت سرورًا واضحًا بالنظام الذي وضعه رجال بابل لضمان تزويج كل نسائهم؛ فالبنات غير المتزوجات مشكلة أشد خطورة بكثير من الذيول الحساسة. ففي كل عام، كان البابليون يعقدون ملتقى تُطرَح فيه الشابات في مزاد بترتيب تنازلي حسب جمالهن، فيزايد الرجال الأعظم ثراءً للفوز بأجمل النساء، ويُستخدَم المال الذي يُجمَع على هذا النحو لتوفير مهور للإناث الأقل جاذبية والمعوَّقات، إنْ وُجِدن، وبالتالي كان كلٌّ يعود إلى بيته متزوجًا ولا يشكو من شيء. مشكلة أخرى وحُلَّتْ! بل والأفضل من ذلك أن التوازن تحقق، وهو شيء بالغ الأهمية بالنسبة لهيرودوت.

وفي المجمل، ملأت مدينة بابل الضخمة والثرية هيرودوت بالعجب، لكنه يقول إنه وجد ثاني أكبر عجيبة هناك، وهي القوارب التي تجوب الفرات إلى المدينة. كان تيار النهر أقوى من أن تبحر فيه القوارب شمالًا، لكن التجار وجدوا مخرجًا؛ فأعلى النهر من بابل، وتحديدًا في أرمينيا، كانوا يبنون قوارب لا قيدوم لها ولا كوثل، فكانت مستديرة كالدرع، مصنوعة من جلود سدودة للماء مشدودة على هيكل من خشب الصفصاف، وبعد تحميلها بالبضائع كانوا يضعون عليها رجلين لتوجيهها بالإضافة إلى حمار أو حمارين على حسب حجم القارب، وعندما يصل الرجلان بابل ويبيعان البضاعة، كانا يبيعان هيكل القارب ويحملان الجلد على ظهر الحمارين ويسوقانهما عائدين شمالًا إلى أرمينيا، وبمجرد وصولهما إلى أرمينيا بالحمارين، يبنون هياكل جديدة ويبدءون عملية بناء القوارب من جديد. وهكذا كانت تتم التجارة دون قوارب تحتاج إلى إبحار ضد التيار. مشكلة أخرى وحُلَّتْ!

إن افتتان هيرودوت بالتنوع يدفعه إلى إطلاعنا على عادات تناوُل الطعام التي تميِّز الشعوب التي درسها؛ فهناك ثلاث عشائر في بابل لا تأكل إلا السمك، ومعظم القبائل التي تسكن القوقاز تقتات على الشجيرات البرية. ويأكل الكاليبيداي الحبوب والبصل والثوم والعدس والدخن. وأما الأرجباي المحبون للسلام، الذين يظلون منذ مولدهم صلعانًا، فيتألف طعامهم بالكلية من ثمار شجرة البونتيكوس، التي يصنعون منها الطعام والشراب على السواء. وأما الإثيوبيون الذين يعيشون في كهوف فيأكلون الثعابين والسحالي. ولا يأكل نساء قورينا لحوم الأبقار تعظيمًا للإلهة المصرية إيزيس التي كان يُرمَز لها بصورة بقرة. وطبعًا، يأكل الجيزانتيون لحوم القردة.

كما هو الحال مع الأعمال الأنثروبولوجية في يومنا هذا، تلقى أدوار الجنسين والزواج بشكل حتمي نصيبًا كبيرًا جدًّا من الاهتمام في «تاريخ هيرودوت». ومثل إثنوجرافيي العصر الحديث، يعترف هيرودوت بالقيمة الصادمة التي تملكها العادات التي تتحدى قيم النظام الأبوي الغربية التقليدية بسيطرته المحتومة على الحياة الجنسية الأنثوية، وما يصاحب ذلك من تقسيم إلى ما هو علني وسري. ومما أثار روع هيرودوت أن المرأة في بابل يجب أن تذهب مرةً في حياتها وتجلس في معبد أفروديت، وتمارس الجنس مع أول رجل يُلقِي إليها بقطعة عملة، وعندئذٍ فقط يجوز لها مواصلة حياتها القائمة على الاحتشام الجنسي الدائم (تعود النساء طويلات القامة حسنات الطلعة إلى بيوتهن بسرعة، لكن بعض النساء الأقل جاذبية يضطررن إلى الاستمرار في المحاولة لما يصل إلى ثلاث سنوات أو أربع). وترتدي الواحدة من نساء الجندانيين خلاخيل بأعداد الرجال الذين مارست معهم الجنس، والمكانة الأرفع لصاحبة أكبر عدد من الخلاخيل؛ لأنها حظيت بحب أكبر عدد من الرجال. وبدلًا من التزاوج مثنى مثنى، يمارس الأوزيون الجنس بشهوانية مع مَن يريدون، وعندما يكبر الأطفال الناتجون عن هذا الوطء، يُحضَرون إلى اجتماع للرجال ويُلحَق كل طفل بأب استنادًا إلى الشبه بينهما.

أما المعالجة الأتم تطورًا فهي معالجة هيرودوت للأمازونيات، التي تختلف اختلافًا جذريًّا عن السرود القديمة الأخرى في تصويرها هؤلاء النساء المحاربات تصويرًا مشرفًا، كما أنها قصة رائعة أيضًا؛ فقد كان الإغريق يصورون الأمازونيات، اللاتي اشتهر عنهن كسر القواعد الجنسانية، دائمًا كأعداء شواذ للحضارة. فنجد على أفاريز البارثينين التي خلَّدت ذكرى الانتصارات الإغريقية في الحروب الفارسية ما يشير إلى قوى الطبيعة الخطيرة، مصوَّرة على هيئة ثنائية مكونة من الأمازونيات وكائنات القنطور التي نصفها رجل ونصفها فرس. وقد تفاخر الخطيب ليسياس، الذي يصغر هيرودوت ببضعة أجيال، بانتصار الأثينيين المبكر عليهن في الحرب. لكننا نجد في «تاريخ هيرودوت» وصفًا مفصَّلًا خلَّابًا لمغازلة الأمازونيات والسكيث التي تبلغ أوجها بزواج هانئ بين الفريقين يتمخض عن السلالة البشرية المعروفة باسم السارماتيين. ولم يرد في سرد هيرودوت ذكر أي شيء من التفاصيل المروعة عن الأمازونيات التي نجدها في أماكن أخرى (مثل عادتهن قتل مواليدهن الذكور).

يذكر هيرودوت أن الحكاية التالية تُحكَى عن السارماتيين؛ فبعد أن تقاتل السكيث مع جنود أشاوس جاءوا إلى شواطئهم على متن سفن، فُوجِئوا عند فحصهم جثثَ مَن تغلَّبوا عليهم أنهم نساء. وبعد التشاور، يقرروا التوقف عن قتالهن وبالأحرى محاولة كسب صداقتهن، وذلك على أمل إنجاب أطفال من مثل هؤلاء الأمهات الرهيبات؛ فيرسل السكيث فرقة من الشباب ومعها تعليمات بالنزول بالقرب من هؤلاء النساء غريبات الشأن، وشيئًا فشيئًا، يقترب معسكرا الأمازونيات والسكيث أحدهما من الآخَر. وكان من عادة الأمازونيات التفرُّق عند منتصف النهار، إما فرادى وإما مثنى مثنى، بغرض استخدام الخلاء على الأرجح (لكن الإغريق لا يدركون ذلك)، ويفعل السكيث الشيء نفسه، محاكين بدقة كل حركة يأتين بها، وهو تصرف غير مألوف في المواعدات الغرامية الأولى، لكن هذا ما يقوله لنا هيرودوت فيما يبدو. وعندما يدنو أحد السكيث من إحدى الأمازونيات بنية مطارحتها الغرام، توافِق المرأة على الفور، بل وتطلب منه بلغة الإشارة أن يأتي في اليوم التالي بصديق وتخبره بأنها ستفعل الشيء نفسه (ويتطور الأمر شيئًا فشيئًا). ولم يمضِ وقت طويل حتى يتزاوج الفريقان تمامًا ويدمجان معسكريهما في معسكر واحد، وبعد فترة قصيرة، يقترح السكيث على الأمازونيات أن يعودوا جميعًا إلى ذويهم حيث آباؤهم وأمهاتهم وأمتعتهم، لكن الأمازونيات الصناديد يرفضن ذلك، ويُجِبْنَ بقولهن: لا يصلح لنا أن نعيش مع نسائكم …

لأننا لا نتَّبِع العادات ذاتها التي يتبعنها؛ نحن نطلق السهام ونرمي الرماح ونركب الخيل، لكننا لم نتعلم القيام بالأعمال المنزلية قطُّ، في حين لا يفعل نساؤكم أيًّا مما نفعل؛ فهن يمكثن داخل العربات ويقمن بأعمال النساء، هن لا يذهبن للصيد، بل وفي الحقيقة لا يذهبن إلى أي مكان. لا يمكننا أبدًا أن نتواءم معهن، لكن إنْ كنتم تريدون أن نكون زوجاتكم، وتريدون حقًّا توخي الإنصاف، فَلْتذهبوا وَلْتأخذوا من آبائكم نصيبكم من ممتلكاتكم، وعندئذٍ سنقيم هنا معًا مجتمعًا خاصًّا بنا.

المدهش أن الشباب يوافقون، وينطلقون في رحلة تستغرق ثلاثة أيام شمالًا ومثلها شرقًا، ويقيمون مجتمعهم الجديد الذي عُرِف باسم السارماتيين. وقد ظلت المرأة السارماتية حتى عهد هيرودوت تمارس القنص على ظهر الخيل وتقاتل في الحروب. علاوةً على ذلك، فإن المرأة السارماتية لا تتزوج حتى تقتل عدوًّا، ولهذا السبب — وفي صورة تعكس بشكل مثير للاهتمام محنة النساء قليلات الجاذبية اللائي يقعدن في المعبد في بابل لسنوات — يموت بعضهن طاعنات في السن دون أن يتزوجن.

معظم البيانات التي يُطلِعنا عليها هيرودوت لا تقتصر على غير الإغريقيين وحسب، ومن ثَمَّ العادات الجديرة بالملاحظة فحسب، لكنها ترسم أيضًا دورة حياتية مميزة للجنس والزواج والطعام والموت. وكل هذه الأشياء تحدث في سياق اجتماعي؛ إذ تفضي التقاليد الجنسية في نهاية المطاف إلى إنجاب الأطفال، ولا بد أن يتبع الإنسان المولود حديثًا أعراف الجماعة في عاداتها المتعلقة بتناول الطعام، وكذلك — من جديد — الحياة الجنسية، وبمرور الوقت ستقام لهذا الإنسان جنازة ويُدفَن (أو لا تقام له جنازة ولا يُدفَن) وفقًا للقواعد المتعارف عليها اجتماعيًّا، وأحيانًا تتمخض تقاليد الجماعة فعلًا عن موت أفرادها، وستقرِّر هذه التقاليد دائمًا ما يُفعَل بالجثامين بعد الموت.

قليلون منَّا كانوا سيجدون في أنفسهم الرغبة في العيش بين هنود الباداي؛ فحتى إذا استطعنا تحمُّل نظامهم الغذائي المشتمل على اللحم النيئ، فربما نفكِّر مرتين إذا كان اللحم المقدَّم لتناوله هو لحم بشري؛ إذ يروي هيرودوت أنه متى مرض الواحد من الباداي، يضع رفاقه المقرَّبون ممَّن ينتمون إلى نوع جنسه نهايةً لحياته؛ خشية أن يفسد لحمه ويفقد صلاحيته لأكله، ولذلك ينفي المريض بشدة أنه مريض (كم هو هائل الحس الكوميدي هنا، فلنا أن نتخيَّل الباداي وهو ينهض من رقاده محتجًّا ويقول: «كلا، أنا في الحقيقة أشعر بتحسُّن كبير اليوم!») وعلى الرغم من كل إصراره، فإنه يُقتَل ويُوزَّع لحمه في وليمة. وتضحي القبيلة بأي شخص يطعن في السن وتأكل لحمه، لكن قلما يطعن أحد في السن بالتأكيد؛ لأن المرء بقراءته «تاريخ هيرودوت» يتخيَّل أن أصدقاء الباداي وأهليهم ينهون حياتهم لدى إصابتهم بأولى علامات بردٍ.

يربط هيرودوت، في مناقشته الباداي، بين الموت والأكل، وأما في معالجته التراقيين الذين يعيشون شمال كريستونيا، فالربط يكون بين الموت والجنس/الزواج؛ فهم يمارسون على ما يبدو تعدُّد الزوجات، وعندما يموت الرجل منهم، تُخضَع زوجاته لاختبارات دقيقة لتقرير أيهن كانت تحظى بحبه أكثر من غيرها، وبعد سماع الرجال والنساء على السواء يسهبون في تعديد محاسن الفائزة سعيدة الحظ، يُقْدِم أقرب أقاربها على نحرها على قبر زوجها ثم تُدفَن معه. أما الأخريات فيشعرن أنهن أُصِبْنَ بمصيبة كبيرة؛ لأنه لا شيء تستحق عليه إحداهنَّ اللوم أشد من عدم وقوع الاختيار عليها.

من ناحية أخرى، يتمكَّن وصف هيرودوت للماساجيتاي من دمج الجنس/الزواج والموت والأكل في وصف واحد متَّسِق؛ فالماساجيتاي شرَّابون للَّبَن ولا توجد لديهم زراعة، ومن ثَمَّ لا يأكلون إلا اللحوم والأسماك. وعلى الرغم من أن كل رجل ينكح زوجة واحدة، فإنهم جميعًا يتشاطرون زوجاتهم مع بعضهم بعضًا، ويقررون الوقت المناسب للموت على النحو التالي:

عندما يبلغ إنسان سنًّا متقدمة، تقيم الأسرة حفلًا وتجعله ضمن أضحية عامة من البقر، ثم يسلقون لحمه ويأكلونه. وهم يعتبرون أن هذا أفضل أنواع الموت. وأما مَن يموتون متأثرين بالمرض، فلا يُؤكَل لحمهم، بل يُدفَنون، وتُعتبَر مصيبة كبيرة ألَّا يعيش المرء طويلًا بما يكفي للتضحية به.

يفعل الإيسودون شيئًا مماثلًا، لكن فقط بأجساد مَن ماتوا فعلًا؛ فعند موت أبي أحد من رجالهم، يأتي أقاربه كافة بأبقار إلى بيته، وبعد تضحيتهم بالحيوانات وتقطيع اللحم قطعًا، يقومون عندئذٍ أيضًا بتقطيع أبي مضيفهم الميت ويولمون باللحم المختلط. وبالإضافة إلى ذلك، ينتفون الشعر من رأس الرجل المتوفى وينظفونه ويذهِّبونه.

صحيح أن هيرودوت لم يجمِّع بياناته المختلفة بدرجة كافية للوصول إلى صميم ما يجعل مجتمعًا ما يقوم بوظائفه، إذ يحكي لنا الكثير عن طقوس الشعوب التي يناقشها — طقوس الدفن والأضاحي من الحيوانات والأضاحي من البشر من حين إلى آخَر — لكنه لا يكاد يحكي شيئًا عن منظومات اعتقاداتهم، وهو لم يمكث في أي مكان معين فترة طويلة بما يكفي كي يكون خبيرًا بروح هذا المكان؛ ولهذا فإنه غالبًا ما يُنتقَد بأنه لا يمارس إثنوجرافيا «حقيقية»؛ بمعنى أنه لم يكن أكثر من مجرد سائح، فهو لم يتبنَّ بالكامل دور «المراقب المشارك» فيستقر بين شعب ما على مدى الفترة الأنثروبولوجية التقليدية الدنيا، وقوامها سنة، ويسعى إلى الاختلاط بالبيئة المحيطة به فيما يكرِّس نفسه لمحاورة رواة أصليين. يروي لنا كابوشنسكي كيف أنه تعاطى الحشيش مع بعض الأشخاص الذين تعرَّف إليهم في السودان، ويورد هيرودوت أن السكيث ينتشون بتعاطي الحشيش بقوله «يصيحون من اللذة»، لكنه لا يشير في أي موضع إلى مشاركته هو نفسه في تلك التجربة. ولا ريب أن الأنثروبولوجيين المُحْدَثين يخدعون أنفسهم عندما يتوهمون أنهم طمسوا هويتهم وتوحَّدوا مع «شعبهم»، لكنهم على الأقل يتظاهرون بذلك. ولا شك أن هيرودوت تعرَّض — مثله مثل الإثنوجرافيين المُحْدَثين — لرواة كذَّابين يجدون أشد المتعة في تضليل باحث لا يسكر.

لم تتركه محدوديته اللغوية تحت رحمة المترجمين والأقلية الناطقة بالإغريقية من السكان المحليين — وهي زمرة قلما تمثِّل المجتمع كله — فحسب، بل وَسَمتْه على الدوام كشخص أجنبي. ويخطر ببال المرء ملاحظات كابوشنسكي الذي يكتب قائلًا إنه لا بد أنه كان هناك:

شيء في مظهري وإيماءاتي، في طريقة جلوسي وحركتي، فَضَحَ أمري، فأفصح عن العالم الذي أتيت منه وكم هو مختلف. أحسست أنهم اعتبروني أجنبيًّا … بدأت أشعر بالانزعاج والضيق. كنتُ قد غيَّرتُ حلَّتي، لكن فيما يبدو لم أستطع حجب ما كان يقبع تحتها، وهو ما وَسَمني وأظهرني بمظهر الجُسيم الأجنبي.

ولم يكن هذا إلا في روما، التي كانت محطة في طريقه من بولندا إلى الهند! ونعرف أيضًا من كابوشنسكي كيف أن واحدًا من السكان المحليين أخذه إلى أعلى أحد المساجد ليريه الإطلالة، ثم طالبه بتسليم أمواله. فهل مر هيرودوت بتجارب كهذه؟ لا نعرف أبدًا إن كان مرَّ بمثلها. ماذا كان رأي مبحوثيه فيه؟ هل كان يمكث في بيوت الأهالي الخاصة، فيساعد في الأعمال المنزلية؟ أم لم يكن يساعد؟ ليس من الصعب أن نتخيَّل التمتمة: «إنه ظريف، لكن هل سيقتله المنجل لو أمسك به من حين إلى آخَر وساعد في العمل؟»

كان هيرودوت حتمًا عرضة نوعًا ما للسقوط في التعميم، كان يسهل عليه أن يستغل التفاصيل الفردية التي لاحظها ويعمِّمها بشكل مبالغ فيه؛ فيراه المرء في بريطانيا يقول: «إنجلترا بلد شديد البرودة، ويقتات اللندنيون بطعام يسمونه الكاري، فيأكلونه طوال النهار؛ لأنه يبث الدفء في جميع أجزاء أجسامهم، وعندما يعاودهم الشعور بالبرد، يأكلون المزيد منه، وهم يحصلون على هذا الطعام من الهند، حيث يُحمَل من هناك على ظهور الكلاب التي يراها المرء في كل أنحاء بريطانيا. ويبدو لي أن هذا هو سبب المحبة الشديدة التي يكنُّها البريطانيون للكلاب.» لكن إذا كنَّا سنشكو من أن هيرودوت لم يَرْقَ، من كل النواحي، إلى معايير الإثنوجرافيين المحدثين، فينبغي أن نلوم أيضًا ألكسندر جراهام بِل على عدم اختراعه الهاتف المحمول، وتوماس إديسون على عدم اختراعه فرن الميكروويف. وينبغي أن نضع في اعتبارنا الشكوك البالغة المثارة حول إثنوجرافية مارجريت ميد الشهيرة «البلوغ في ساموا»، وهي شكوك اكتسبت مصداقية من حقيقة أنها لم تتعلم اللغة قطُّ، واعتمدت على ناطقين باللغة الإنجليزية من السكان المحليين. والأهم من هذا كله أنه ينبغي علينا أن نتذكر أن هيرودوت لم يُنَحِّ شكوكه قطُّ؛ فهو يعي تمامًا عدم إمكانية تعويله حتى على المعتقدات الراسخة أشد الرسوخ لدى رواته، فهو يحكي لنا أن السكيث يقولون إن كل فرد من النوير يصبح ذئبًا لبضعة أيام كل سنة ثم يعود إلى هيئته الأصلية، فيورد في كتابه: «أنا نفسي لا أصدقهم عندما يقولون هذا، لكنهم يقولونه مع ذلك، بل وفي الحقيقة يقسمون جازمين بصحته.» ويُضحِكه مواطنو مدن أيونيا الاثنتي عشرة الذين زعموا أنهم يتحدرون من أنقى سلالة أيونية، ويجادل بقوله إنه حتى المستوطنون الذين انطلقوا من مجلس مدينة أثينا ذاته لم يصطحبوا معهم أي زوجات، بل تزوَّجوا فتيات كاريات محليات كانوا قد قتلوا آباءهم وأمهاتهم من قبلُ.

على الرغم مما نراه — نحن المحدثين — غيابًا للعمق في الوصول إلى القيم الجوهرية لأي شعب زاره، فإنه يفتتن بصراحة بأوجه الشبه (وأوجه التباين) الكثيرة التي يكتشفها في الطيف الواسع الذي يكوِّن المجتمع الإنساني؛ فترانيم البابليين الجنائزية تُشبِه الترانيم المستخدمة في مصر، وشعب قبرص لديه تقليد شبيه بالممارسة التي أبقت على الفتيات البابليات غير الجذابات جالسات — والأمل يحدوهن — في معبد أفروديت لثلاث سنوات أو أربع، ويشبه الإسبرطيون المصريين من حيث إن الشاب يفسح الطريق إذا رأى رجلًا أكبر منه سنًّا مُقبِلًا. علاوة على ذلك، فإن المهن في كلا المجتمعين تورث من الآباء إلى الأبناء، فنجد عازف المزمار ابن عازف مزمار، والطاهي ابن طاهٍ، والمنادي ابن منادٍ. والممارسات الإسبرطية فيما يخص موت ملوكهم تشبه ممارسات الفرس؛ فعندما يموت ملك وينصَّب آخَر، يبرئ ملك إسبرطة الجديد كل مَن كانوا مدينين للملك أو الدولة، ويبرئ ملك فارس مختلف المدن من أي متأخرات في الجزية تكون مستحقة عليها. ويدفن البدو — باستثناء النسمونيين، الذين يدفنون الجثامين في وضع جالس (مع الحرص على عدم السماح لأحد أن يموت وهو راقد) — موتاهم مثلما يفعل الإغريق.

fig10
شكل ٤-١: لم تكن شهية هيرودوت لكل ما هو مصري تعرف حدودًا.1

إن أوجه التباين أساسية لفكرة الإثنوجرافيا؛ فالممارسات المميزة يمكنها المساعدة على تحديد ما يجعل مجتمعًا ما فريدًا من نوعه، وربما الأهم من هذا كله أن التباينات الشديدة تشكِّل مادة قصصية رائعة. فالإثنوجرافي كما رأينا ليس مجرد متلصص — على الرغم من أن هيرودوت يتبنَّى يقينًا هذا الدور (وهو دور مثار سخرية بالنظر إلى القيمة المضفاة في حكاية جيجس على قَصْرِ المرء نظرَه على ما يخصُّه) — بل هو أيضًا لديه حب للظهور. فعلى الرغم من البروتوكول المهني الذي يدعو إلى النظر إلى العادات الأجنبية باتزان، من الصعب ألَّا يصرخ المرء قائلًا: «انظر ماذا وجدت! انظر إلى هذا! أليس مدهشًا! ليس كأي شيء رأيناه من قبلُ، أليس كذلك؟» وعند تكليف الطلاب بواجبٍ فيما يخص «أعظم نجاحات هيرودوت»، نجد استعراض هيرودوت للعادات «المقلوبة» في مصر — وهي بلد حتى نهره يتدفق عكس الاتجاه — دائمًا من بين العناصر المشمولة.

يحدِّثنا هيرودوت أن معظم الممارسات المصرية هي على العكس مما نجده في كل مكانٍ آخَر في العالم؛ فالنساء يشترين ويبعن في الأسواق، بينما يَقرُّ الرجال في البيوت للقيام بأعمال النسج. ويقف النساء ليتبولن، في حين يقعد الرجال القرفصاء. والأبناء غير ملزمين بمساندة أبويهم (على عكس ما كان قانونًا في أثينا)، لكن البنات ملزمات بذلك. والإغريق يكتبون من اليسار إلى اليمين، أما المصريون فمن اليمين إلى اليسار، ولا نندهش لقول المصريين إن الإغريق هم مَن يكتبون بطريقة معكوسة. ويترك الآخَرون (ما لم يكونوا متأثرين بالمصريين) الأعضاء التناسلية على حالتها الطبيعية، لكن المصريين يمارسون الختان. وفي الأماكن الأخرى يعفي الكهنة شعورهم، لكن الكهنة المصريين يحلقون رءوسهم. وبين معظم الشعوب الأخرى، يحلق الناس رءوسهم أثناء فترات الحداد، لكن المصريين يعفون شعور رءوسهم ولحاهم (أبدى هيرودوت اهتمامًا ملحوظًا بالشعر، فيقول لنا إن البابليين يعفون شعورهم ويلفون رءوسهم بعمائم، وسكان شبه الجزيرة العربية يقصون شعورهم من كل الجوانب على شكل دائرة، حالقين أصداغهم، ويقولون إنهم يحاكون ديونيسوس، والمكاي يحلقون شعورهم تاركين منها خصلة، فيعفون الشعر في المنتصف لكن يحلقونه على الجوانب).

إن الصورة التي يعرضها هيرودوت للمصريين فيها حتمًا مبالغة، ونظن أن بعض رواته لم يكونوا صادقين معه؛ فلم يكن النساء باعة التجزئة الوحيدين في الأسر المصرية، ولم يكن الختان يُمارَس بلا استثناء بين المصريين، وكان الإغريق ومثلهم المصريون يتبولون ويتبرزون في الداخل. لكن تصميم هيرودوت على وجه التحديد على إبراز هذه المقابلات هو الذي يبدي التزامه بالكشف عن التنوع الثقافي الملحوظ للمجتمع الإنساني وإطلاع جمهوره عليه. وليس كلُّ مَن استلهموا من عمل هيرودوت للبحث عن هذا التنوع اشتركوا معه في حماسه، فقد استلهم الكاتب والفنان جيمس فوربز، المولود في لندن سنة ١٧٤٩ والمقيم في الهند من ١٧٦٥ إلى ١٧٨٤، من عمل هيرودوت، وبيَّن أوجه الشبه بين طقوس التطهر لدى البراهميين والمصريين القدماء، لكنه اختلف اختلافًا ملحوظًا عن هيرودوت في المنظور، حيث أطلق نداء سنة ١٨١٠ موجَّهًا إلى الهندوس لاعتناق المسيحية.

ويُعَدُّ بيان الاختلافات بين الإغريق وغير الإغريق جزءًا محوريًّا من أجندة هيرودوت، ومع ذلك فإن أوجه التباين وأوجه الشبه الكثيرة التي يحكي عن تفاصيلها توضِّح أنه لا يرى العالم مقسومًا بأي حال إلى إغريقي وآخَر. ولعل المثال الأشد إثارةً للدهشة يأتينا في غزو دارا الفاشل لسكيثيا في الكتاب الرابع، وهي المناسبة التي يورد فيها هيرودوت وصفه الطويل للتاريخ والعادات السكيثية؛ لأن الفرس الغزاة يبدون، مقارنةً بالسكيث، طبيعيين تمامًا؛ وأعني الفرس أنفسهم الذين يراهم الإغريق شعبًا غريبًا يرتدي ملابس غريبة، وقد تنعَّم بفضل الثروة ولا يجد مشكلة في نظام حكم سخيف يجعل أمة بأكملها عبيدًا وإماءً لملك متقلِّب الأهواء على الأرجح. لكن هؤلاء الفرس أنفسهم لديهم بيوت ثابتة، ويبنون المدن، ويزرعون المحاصيل، أما السكيث فبدو، شعب فقير، دائم التنقل في عربات يتخذونها بديلًا عن المنازل، وحركتهم الدائمة تشتِّت دارا؛ لأنه لا يستطيع إجبارهم على خوض معركة، ويضطر في نهاية المطاف إلى العودة إلى الديار خالي الوفاض. حسنًا، ليس خاليًا تمامًا، إذ تمكن من فتح تراقيا، وهي منطقة مفيدة كجدار واقٍ لشنِّ أي غزو لأوروبا، لكنه وقف أمام سكيثيا عاجزًا؛ فمجرد افتقار السكيث إلى أساليب «متحضرة» يجعل هزيمتهم أمرًا مستحيلًا. وهم محيِّرون حتى في طرق تواصلهم؛ إذ يبعثون إلى الملك بهدية تتألف من طائر وفأر وضفدع وخمس سهام، ويتركون له ومستشاريه مهمة حل شفرة هذه الرسالة الغامضة. وبالنسبة للسكيث التقليديين — لا السكيث الذين يضاجعون النساء الغريبات — لا ريب أن الأمازونيات هنَّ اللائي يمثِّلْنَ الآخَر (تخيَّلْ نساء يمارسن القنص ويخضن الحروب!) لكن بالنسبة للفرس، السكيث هم الآخَر. وعودة بهذه التناقضات إلى نقطة البداية، ربما نقول إن السكيث المراوغين في عرباتهم لا يختلفون بالكلية عن الأثينيين — وكانوا أيضًا في ذلك الحين فقراء — الذين يفرون من الفرس باللواذ إلى أسوارهم الخشبية والرحيل سرًّا قاصدين سلاميس.

انطلق هيرودوت يمجِّد ذكرى أعمال الإغريق وغير الإغريق على السواء، لكن في تعامله مع هاتين الفئتين من الناس، وجد أنهما لا تمثِّلان كتلتين موحدتين؛ فهناك اختلافات مثيرة لم تقسِّم مختلف جماعات «البرابرة» فحسب، بل قسَّمت أيضًا الإغريق أنفسهم، كما يشهد على ذلك الإسبرطيون الذين تُشبِه عاداتُهم أحيانًا عاداتِ البرابرة، ومن ثم فهم حتمًا موضع اهتمام الرجل الذي وصفه كابوشنسكي بأنه «أول قائل بالعالمية». يمزج هيرودوت في كتابه الأفكار الكبيرة — حرمة الناموس، وإمكانية الانحراف عن الأعراف الأبوية، والتعدُّدية المذهلة للمسارات الإنسانية — بثروة من التفاصيل. ولأنه مسحور بهذه التفاصيل، فهو ينقل إلينا سحرها.

هوامش

(1) © Bettmann/Corbis.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤