المرأة في التاريخ، والمرأة في «تاريخ هيرودوت»
في ضوء المكانة البارزة التي تمتعت بها النساء في الإثنوجرافيات، ليس من المفاجئ أنهن تلعبن أيضًا أدوارًا كبيرة في مواضع أخرى في السرد. ولا نَنْسَ أن النساء كن في قلب الحكايات الملحمية التي لعبت دورًا كبيرًا في تشكيل عمل هيرودوت؛ ففي الإلياذة، نجد أن هيلين هي السبب المباشر في الحرب، وأن الفتاتين الأسيرتين كريسيس وبريسيس هما ألعوبتا الحرب، أما أندروماخي وهيكوبه فهما زوجة هكتور القوية وأمه. وتضم الأوديسة مجموعة متنوعة من السيدات البارزات اللاتي يساعدن البطل بالتناوب، ويعرقلن عودته إلى زوجته المخلصة بينيلوبي؛ وأعني الحورية كاليبسو التي تبقيه لسبع سنوات على جزيرتها، والساحرة سيرسي التي تحوِّل رجاله إلى خنازير، والسيرانات المغريات، لكن هناك أيضًا الأميرة المُعِينة نوسيكيا، وأخيرًا الإلهة أثينا التي تنقذ أوديسيوس عندما تحس بالخطر. وتنتهي الملحمة بموت الخادمات التعيسات اللائي ضاجعهن خُطَّاب بينيلوبي سيئي السمعة قسرًا، حيث يشنقهن أوديسيوس لدى عودته عقابًا لهن على ذلك.
تحظى النساء بحضور واسع في «تاريخ هيرودوت» كذلك، حيث عدَّدتِ الأكاديميةُ المتخصِّصة في أعمال هيرودوت، كارولين ديوالد، ٣٧٥ موضعًا ذُكِرت فيه النساء أو الأنوثة في عمل هيرودوت. وأدوار السيدات في «تاريخ هيرودوت» متنوعة على نحو يفوق العادة؛ إذ يتراوحن بين طاعنات بالسلاح وضحايا اختطاف، وملكات وإماء، ومهندسات هيدروليكيات وفتيات مبكرات النضج. والنساء يجمِّعن الرجال في تحالفات قائمة على الزواج، ويفرِّقن بينهم في الصراعات العائلية. وهن يَقْتُلْنَ ويُقْتَلْنَ، وينقذن بعض الأقارب ويقضين على بعضهم الآخَر، ولا يمكن أن نتوقع ما هو أدنى من هذا؛ فلا ننسَ أن هيرودوت أعلن في بداية عمله عن هدفه؛ وهو تخليد ذكرى ما فعله الناس، ذكرى أعظم الأشياء التي حدثت، وعلى وجه أكثر تحديدًا، ذكرى كل شيء حدث فيما يخص الحرب بين الإغريق والفرس. ولم يكن ثمة سبيل أمامه كي يفعل هذا دون نطاق رؤية يشمل كلا الجنسين، ويتحرَّى كلَّ جنس منهما في تشكيلة واسعة من الوظائف.
تظهر النساء لأول مرة في مستهل «تاريخ هيرودوت» عندما يبدأ هيرودوت في سرد سلسلة من الاختطافات المزعومة التي بلغت — وفقًا للفرس — أوجها في حرب طروادة، وفي الحقيقة في العداء الطويل بين الشرق والغرب. لكن هيرودوت يروي هذا التفسير الثأري للتاريخ نائيًا بنفسه عن الجانبين، موازنًا الرواية الفارسية برواية فينيقية، ومقدمًا رواية إغريقية أيضًا. وهو فيما يبدو يقول إن النساء كن محلًّا للكثير من الحكايات المدغدغة للمشاعر التي يرويها رجال، ويستمتع الناس يقينًا بالإنصات إلى هذه القصص، لكن هذا ليس بتاريخ؛ لأن المرء لا يستطيع الحكم على كون هذه القصص التي تعود إلى أزمنة الأساطير صحيحة أم لا. بالأحرى، سيبدأ وصفه في الأزمنة التاريخية بعهد كرويسوس، ملك ليديا، وهو أول رجل على ما بلغه أساء إلى الإغريق دون استفزاز، أو هكذا يزعم. والحقيقة أنه بتحديثنا عن كرويسوس، سيخبرنا بأمر جيجس سلف كرويسوس، الذي اغتصب العرش بعد أن أمره سيده كاندوليس بالنظر إلى الملكة وهي عارية. إنها قصة مؤثرة تقدم منطلقًا للصلة بين «تاريخ هيرودوت» و«المريض الإنجليزي»؛ لأن أولماشي يصير متيَّمًا حتى الموت بزوجة رفيقٍ له رسَّام خرائط، عندما تتلو قصة جيجس على مسامع الزمرة المجتمعة حول نار مضرمة في الصحراء. لقد نظرنا إلى هذه القصة من قبلُ من حيث تعلُّقها بمسألة الأصل، وهي تستحق التمحيص من جديد لرؤية كيف يوظِّفها هيرودوت كنموذج لكثير مما سيأتي في «تاريخ هيرودوت».
تكشف حكاية كاندوليس وجيجس والملكة غير المسماة بعمق عن كلٍّ من رؤية هيرودوت للتاريخ وانطباعه عن ملوك الشرق؛ ففي مطلع القصة، يحكم كاندوليس ليديا في هناء، متمتعًا لا بعطاءات المُلك فحسب، بل أيضًا باقترانه بامرأة مفتتن بها كل الافتتان؛ فهو لا يشبع من النظر إليها، أو — فيما يبدو — من التباهي بمظهرها، مُنشئًا وثاقًا غريبًا مع ساعده الأيمن جيجس بضغطه عليه للتفرس فيها بنفسه، على أن يفعل ذلك وهي عارية. ويتصاعد العنصر البصري هنا بفعل وصف كاندوليس عملية التعري التدريجية المطوَّلة التي تمارسها زوجته ليلًا، فيشرح قائلًا إن هناك كرسيًّا في المخدع الملكي تضع عليه ثيابها قطعةً قطعةً أثناء تجرُّدها، ويصر كاندوليس على تلصُّص جيجس عليها بصورة لا تليق أبدًا؛ إذ سيضعه خلف باب المخدع كي يراقبها، وعندما يرى الملكة العارية، عليه أن يخرج خلسة دون أن تراه وهي تسير عارية من الكرسي إلى الفراش مولية ظهرها شطره. ولا نستطيع — نحن الجمهور — أن نقاوم المشاركة في هذا التلصُّص أيضًا، حيث نتخيَّل نحن أنفسنا الملكةَ العارية وهي تتحرك من ناحية إلى أخرى في الغرفة، فنتساءل كم طولها، وما عرض ردفيها، وما إذا كان شَعْرها مسترسلًا أم ملمومًا إلى رأسها.
لكن الملكة ترى جيجس وهو يخرج من المخدع الملكي، فتستجيب برباطة جأش تستحق الإعجاب. فهل يحتمل أن يكون شيء كهذا قد حدث من قبلُ؟ هل قالت لنفسها: «حسنًا، هذا يكفي، هذه آخِر مرة أسمح لزوجي بهذا الأمر»؟ غريب أنها لا تفترض أن هناك انقلابًا يُنفَّذ، ولا تصرخ طالبةً النجدة. إنها تعرف زوجها جيدًا، تعرفه أكثر مما يعرفها، وما كان يراه وهو يستمتع بجمالها الخارجي كان في الحقيقة مضلِّلا؛ فهي تهديد أكثر منها كنزًا. وبدلًا من أن تفضح انفعالاتها أثناء الليل، تستدعي بهدوء شديد جيجس في الصباح وتبيِّن له أنه هو وكاندوليس رأياها عارية، ولا بد أن يرحل أحدهما، وعندما يُخيَّر جيجس بين قتل الملك أو الموت، يختار قتل كاندوليس ويتزوج الملكة ويؤسِّس سلالةً حاكمةً جديدةً.
لم تحافظ هذه الملكة مجهولة الاسم، بعزيمتها القوية، على شرفها فحسب (فالآن هناك رجل واحد فقط على قيد الحياة رآها عارية)، وعاقبت من انتهك حرمتها، بل أعادت أيضًا تأكيد أعراف مجتمعها، فالعار كل العار في ليديا — كما يبيِّن هيرودوت — أن يُرَى الإنسان عاريًا حتى ولو كان رجلًا، وهو شيء أدهش يقينًا القرَّاء في العالم الإغريقي الذي أدَّى فيه تمجيد الجسد الرجولي الشاب إلى العُرْي في كلٍّ من المنافسات الرياضية والتصوير الفني. وقد أبدى جيجس بالتأكيد إدراكه أن خطة كاندوليس الحمقاء تنتهك الأعراف الاجتماعية بتوسُّله إلى الملك «ألَّا تجعلني أفعل هذا الشيء المخالف تمامًا للعرف.» وأشار إلى ضرورة أن يستفيد الناس من منظومة الحقائق الأساسية القديمة التي تشمل مبدأ محوريًّا يقضي بأن «يقصر كل شخص نظره على ما هو له.» لا تئول الأمور إلى خير بالنسبة لكاندوليس، الذي استهل سلسلة الأحداث المشهودة هذه، لكن الملكة تضمن استقرار ليديا، التي ستكون على الأرجح أحسن حالًا تحت حكم جيجس منها تحت حكم كاندوليس — الذي كان ألعوبة لشبقه الجامح — وتؤسس هي وجيجس سلالةً حاكمةً تدوم أجيالًا.
يقدِّم هيرودوت هذا المشهد في مرحلة مبكرة من كتابه؛ لأنه — أيِ المشهد — يحكي لنا الكثير بالتأكيد عن أخطار تجاوز الحدود، مثلما يفعل خشایارشا عندما يبني جسرًا عبر الهلسبونت، وعن نزعات الأوتوقراطيين المحفوفة بالمخاطر، وعن دور النساء كفاعلات على الساحة الإنسانية، وعن الطبيعة الشَّرْطية للتاريخ؛ فجيجس ما كان ليصبح قطُّ ملكًا على ليديا لو لم يكن كاندوليس غريب الأطوار، ولو لم يصبح جيجس ملكًا، ما كان سليله كرويسوس ليحكم أبدًا ولا ليخوض حربًا مع قوروش، وذلك بعبوره نهر هاليس.
نكتشف خلال قراءة الكتاب أن الأوتوقراطيين يسيئون معاملة النساء، ومن هذا تجري العواقب الدرامية؛ فبعد موت قوروش وابنه المجنون قمبيز، والقضاء على مَن اغتصبوا العرش من بعدهم، دارت مناقشة بين ثلاثة من أعيان الفرس حول نوع نظام الحكم الذي ينبغي أن يقيمونه. يقول هيرودوت إن بعض الإغريق ليسوا مقتنعين بصحة هذه المناقشة، لكنه يؤكِّد أنه جرَتْ فعلًا. فأوتانس — الذي يتحدَّث أولًا — يؤيِّد الديمقراطية، مؤكِّدًا أنها تحمل أجمل اسم من بين كل أسماء أنظمة الحكم، أَلَا وهو «المساواة أمام القانون». وليس هذا فحسب، فهو يهاجم الملَكية على أساس أن الرجل الذي يحكم بمفرده يقوض تقاليد البلد الراسخة، ويغتصب النساء، ويقتل الرجال دون محاكمة. كل هذه العناصر موجودة في مثلث كاندوليس والملكة غير المسماة وجيجس، حيث ينتهك كاندوليس العُرْف بإجبار جيجس على رؤية زوجته عارية، أما القاتل المتردد جيجس فهو يُقْدِم على قتل كاندوليس دون محاكمةٍ إنقاذًا لحياته (وبالتأكيد لا يقنع أوتانس الآخرين؛ لأن الملكية استمرت في بلاد فارس كما هو معروف).
يعج «تاريخ هيرودوت» بملوك يسيئون إلى النساء، وكذلك بأوتوقراطيين إغريق يفعلون الشيء نفسه، وهم رجال كثيرًا ما يصوِّر هيرودوت سلوكَهم باعتباره مماثلًا لسلوك المستبدين البرابرة؛ فحاكم ميديا أستياجس يدبِّر مكيدةً لقتل وليد ابنته عند ميلاده، بعد أن أخافته رؤيةٌ رآها في المنام، وإن كان الرضيع يفلت من الموت ويكبر ليصبح قوروش، مؤسِّس الإمبراطورية الفارسية. وابن قوروش، قمبيز، الذي تزوَّج باثنتين من أخواته منتهكًا العُرْف الفارسي، يقتل إحداهما في نوبة غضب عندما تتفكر بحزن عميق كيف أنه أضعف منَعَته بقتله الشقيق الذي ربما كان سيقف بجانبه وقت الخطر. ولا يكتفي الحاكم الكورنثي بيرياندر بقتل زوجته ميليسا، بل يمارس الجنس مع جثتها. ويسلك الآسيويون كجماعات سلوكًا مخيفًا أيضًا، حيث يغتصب الجنود الفرس بعض النساء الإغريقيات اغتصابًا جماعيًّا حتى الموت.
أثار عدم سلوك الحكام الشرقيين سلوكًا يوفِّر لهم الحماية الذاتية كما ينبغي (بالضبط كما لم يفعل كاندوليس) اهتمام هيرودوت بدرجة كبيرة، وأتاح له نافذة يطل منها على شخصية وحش الإغريق الفاشل، وهو خشایارشا نفسه؛ لأن هناك في الحقيقة معالجتين متوازيتين لهذا الموضوع تكتنفان «تاريخ هيرودوت»، وهما طيش كاندوليس وطيش ملك الفرس. ويتبيَّن لنا أن خشایارشا لا يفوق كاندوليس حكمةً في أمور الشبق، لكن افتقاره إلى الفطنة يتجلى بشكل مختلف نوعًا ما؛ فهو — على نحوٍ غير لائق — يسعى إلى غواية زوجة شقيقه العزيز ماسيستس، وعندما يخفق في مسعاه يحاول من جديد مع ابنة ماسيستس، أردانيت، فيزوِّجها ابنه ليُبقِيها قريبة منه، وتنجح مغازلاته معها، لكنه نجاح يجلب البلاء لأسرته؛ فهو بالإضافة إلى أن له أخًا وزوجة أخ وابنة أخ، له أيضًا زوجة هي أمستريس.
أمستريس هي الوحيدة في هذه الحكاية البشعة القادرة على التحكم في مصيرها. ويستخدم هيرودوت في هذه الحكاية فكرة الوعد المقدَّر استخدامًا مزدوجًا؛ فخشایارشا مفتون جدًّا بابنة أخيه/عشيقته أردانيت، لدرجة أنه يعرض، دون تبصُّر، مَنْحها أي شيء تريده. ويبيِّن لنا هيرودوت أن أمستريس كانت قد نسجت لخشایارشا وشاحًا جميلًا، طويلًا وغنيًّا بالألوان، وكثيرًا ما كان يرتديه وهو ذاهب لزيارة أردانيت، وهذا هو بالضبط الشيء الذي تطلبه منه أردانيت؛ لأنه «كان مقدَّرًا أن تنتهي هي وأسرتها كلها نهاية سيئة» كما يقول هيرودوت. وقد قال الشيء نفسه تقريبًا عن كاندوليس. فعل خشایارشا كل ما في وسعه للتملص من وعده إدراكًا منه أنه ستقع مشكلات خطيرة إذا وهب أردانيت ما صنعت يَدَا زوجته، فعرض عليها المدن وما تشاء من ذهب، بل وقيادة جيش، لكن بلا طائل، كل ما كانت تريده هو الوشاح، وبمجرد حصولها عليه دأبت على التبختر به هنا وهناك («انظروا ما أعطانيه عشيقي الملك!») ويبدو أن أردانيت الشابة لديها حب الظهور مثلها مثل كاندوليس.
بعد أن تعلم أمستريس بما يجري، تستغل عادة فارسية تقضي بأن يمنح الملك ضيوفه في حفل عيد ميلاده أي هدية يشاءون، فتطلب زوجةَ ماسيستس، فيحتج خشایارشا بقوة تارة أخرى، لكن لا خيار أمامه مجدَّدًا. وبعد أن تصير المرأة التعيسة في حوزة أمستريس، تستعين بحرس خشایارشا الشخصي على قطع ثدييها وأنفها وأذنيها وشفتيها ولسانها، ثم ترسلها إلى بيتها كي يراها ماسيستس، الذي يجن جنونه فيجمع أبناءه ويُعلِن تمرُّدًا، لكن جيش خشایارشا يلحق بهم ويقتلهم. وهكذا فقَدَ خشایارشا أخاه الحبيب، لكن أمستريس دمَّرت الأسرة التي هدَّدتها. لا نعرف إلى أي مدى عاشت هي وخشایارشا معًا في هناء بعد ذلك، لكن من بين كل الشخصيات التي اشتملت عليها هذه الدراما، هي وحدها التي ينتهي بها الحال وهي على القمة؛ إذ سيعرف قرَّاء هيرودوت أن خشایارشا قُتِل بعد ذلك ببضع سنين في مؤامرة اشترك فيها ابنه الذي يخونه أبوه مع زوجته. لقد انتُهِكت أمستريس، مثلها مثل زوجة كاندوليس، على يد زوج مستهتر (لن يكون خشایارشا آخِر سياسي يختار عشيقة مشكوك في فطنتها)، وهي — مثلها أيضًا — توضح أن معرفة المرء كيف يعامل زوجته جزء لا يتجزأ من كونه حاكمًا صالحًا. إنها ليست شخصية محبوبة للغاية، لكنها جريئة وقوية العزيمة.
إذن فأول الحكايات التي تُحكَى في «تاريخ هيرودوت» — وهي بعيدة كل البعد عن كونها مجرد مكيدة من مكائد البلاط — تفتح الباب أمام قضايا أوسع ستلعب أدوارًا أساسية في سرد هيرودوت؛ أَلَا وهي نزوع الأوتوقراطيين (والآخرين ممَّن هم في المجتمعات الأوتوقراطية) إلى إساءة معاملة النساء، وأخطار حب الظهور، والمكانة البارزة لدور المرأة في التاريخ، وضرورة أن يعامل الرجال النساء معاملة كريمة.
يصوِّر «تاريخ هيرودوت» النساء على امتداد صفحاته كمفعولات بهن وفاعلات على السواء، وبما أنه من البديهي أن تجعل الحربُ النساءَ ضحاياها البائسات، فإن دورهن الفعَّال هو الأجدر بالملاحظة. وقليل من نساء هيرودوت يخدمن في الجيش، لكن مَن يخدمن فيه لا يُنْسَين، وأبرزهن تومايريس ملكة الماساجيتاي، وأرتميسيا ملكة هاليكارناسوس. فتومايريس هي التي تُسقِط قوروش، مؤسِّس الإمبراطورية الفارسية المهيب. ويقدِّم موتُه على يدي امرأة صورةً مقلوبةً تمامًا لمولده ونشأته؛ فعندما سعى جده أستياجس إلى التخلص منه، كانت البسيطة سينو، زوجة راعي غنم، هي التي أخذته وربَّته كابنٍ لها، مستعيدةً بذلك التوازن إلى كلٍّ من أسرتها — إذ كان الطفل الذي وضعته لتوها جهيضًا — وإلى الأسرة المالكة التي أيقنت أنه لا ينبغي أن تُحرَم من وريثها الشرعي. وبعد أن يستعيد قوروش ميراثه ويحل محل المتآمِر أستياجس، يمضي ليتمتع بعلو نجمه كحاكم إلى أن يلاقي صنوه على هيئة الماساجيتاي الذين كانوا يعيشون شرق بحر قزوين. يقول هيرودوت إن عوامل عديدة كانت وراء حماسه للهجوم على هذا الشعب، لكن العاملَيْن الرئيسَيْن هما نجاحه الدائم في حملاته السابقة و«إيمانه بالطبيعة الخارقة لمولده». بعبارة أخرى، لولا المرأة التي أنقذته؛ وهي سينو (وكان والداه قد نشرا القصة الإعجازية التي تقول إنه رُبِّيَ على يد كلبة، وهو ما كانت تعنيه كلمة «سينو»)، ما كان قوروش ليمضي قطُّ لمهاجمة امرأة أخرى، وهي المرأة التي دمَّرته في معركة وصفها هيرودوت بأنها «أشرس معركة على الإطلاق تدور رحاها بين طرفين غير إغريقيين»؛ فتومايريس متحجرة القلب ومتعطشة للدماء، وهذا أمر معقول؛ فهي لا تحارب للدفاع عن أرضها فحسب، بل لتثأر لابنها الذي انتحر عندما وقع في أسر قوروش. وعندما تمسك رأس قوروش، تحشرها في زق مليء بدم بشري، موفية بعهدها الذي قطعته له بأن «تروي تعطُّشه للدماء».
وأمَّا أرتميسيا ملكة هاليكارناسوس فهي قصة مختلفة تمامًا، يأتي هيرودوت بأرتميسيا على خشبة المسرح لأول مرة أثناء تعديده ضباط أسطول خشایارشا، فيقول إنه لا حاجة إلى ذِكْر كل الضباط واحدًا واحدًا، لكن ثمة اسمًا واحدًا لا يمكن إغفاله؛ «لأنني أعتبر أن مشاركة أرتميسيا، وهي امرأة، في الحملة ضد اليونان من العجائب.» لا غرو أن هيرودوت كان فخورًا يقينًا بأن فتاة من بلدته الأصلية حقَّقت إنجازًا، لكن اهتمامه بها يتجاوز حدود التفاخر؛ ففي تفسيره، تقوم أرتميسيا، مثلها مثل تومايريس، بدور ملحوظ ككاسرة للقواعد الجنسانية تشكِّك في الأدوار الجنسانية التقليدية في كلٍّ من العالم الإغريقي والعالم البربري. وكما يروي هيرودوت، فعلى الرغم من أنها كان لها ابن ناضج قادر تمامًا على قيادة قوَّاتها المسلحة، كانت متحمسة للمشاركة في الحملة بشجاعة ورجولة، وهما صفتان لا يُنسَبان غالبًا لامرأة. هذه الخصوصية الجنسانية تعاود الظهور بعد موقعة ثيرموبيلاي، وذلك عندما تحذِّر أرتميسيا وحدها من بين قادة خشایارشا من القتال في سلاميس، موضِّحة أن الفرس يمكنهم بسهولة أن يفوزوا بلا منافسة إذا امتنعوا عن قتال الإغريق ضعاف المعنويات. وتقول إن خوض معركة بحرية فكرة مفزعة؛ بما أن «الإغريق متفوقون بشدة على رجالك، فيما يتعلق بالقتال في البحر، كتفوق الرجال على النساء!» وهذه ملاحظة لا تُنسَى جاءت على لسان قائدة بحرية. إن أرتميسيا متماهية بشدة مع الرجال لدرجة أنها تعتنق تنميطهم الجنساني، على الأقل لأغراض خطابية، وعلى الأقل في إعادة هيرودوت بناء الأحداث.
يفتقر مستشارو خشایارشا الآخرون إلى الخيال في التكهن برد فعله بقدر افتقارهم إليه في وضع استراتيجية بحرية، فهم يتوقعون أن يغضب الملك. ولكن الحقيقة أنه يُعجب بها أشد الإعجاب، لكن لأنه خشایارشا، لا يستطيع تصديق أن أرتميسيا على صواب، فلا يقبل نصيحتها. يهتز هيرودوت طربًا بكل تأكيد لإطلاعنا على الحيلة البارعة التي أنقذت بها أرتميسيا نفسها؛ إذ أقدمت لمَّا طاردتها سفينة أثينية — وفي إبانة غير عادية عن سرعة التفكير — على ضرب سفينة أخرى تقاتل في صف الفرس فأغرقتها على الفور، فافترض القبطان الأثيني أنها لا بد أن تكون إما إغريقية وإما فارَّة من القتال في صف الفرس، فتخلَّى عن مطاردتها. أما خشایارشا، ظنًّا منه أن أرتميسيا لا بد وأنها أغرقت سفينة إغريقية (وقائلًا ما هو متوقع أن يقوله عن الجنسين)، هتف قائلًا: «رجالي تحوَّلوا إلى نساء، ونسائي تحوَّلن إلى رجال!»
في النهاية لا تؤثر أرتميسيا على مسار التاريخ؛ إذ لا تكفي بطولاتها على متن السفن للحيلولة دون انتصار الإغريق، لكن هناك نساء أخريات يُصوَّرن باعتبارهن يلعبن أدوارًا كبيرة في تشكيل الأحداث؛ فزوجة كاندوليس تتسبَّب في تحوُّلٍ في السلالات الحاكمة في ليديا، لكنها تضع أيضًا الأساس لإطاحة كرويسوس في الجيل الخامس كانتقام إلهي للجريمة التي حرَّضت عليها جيجس، حيث تنقذ الجارية سينو قوروشَ وتربِّيه، وتتسبَّب الملكة تومايريس في موته. ولا شك أن دارا لديه دوافع كثيرة لغزو اليونان، من بينها التمرد الأيوني، لكن وصف هيرودوت يسلِّط الضوء على تسلسل الأحداث التي بدأت بخرَّاج في ثدي أتوسا زوجة الملك التي — بدافع من عرفانها العميق بالجميل للطبيب اليوناني ديموسيدس — تلبِّي طلبه بأن تلحَّ على دارا للمسير إلى اليونان، وتنجح في مسعاها.
تستحضر حكايةُ النساء الملطيَّات الأمازونياتِ اللائي نقلن — كما رأينا — ثقافتهن إلى أطفالهن. أما لِمنوس فقصة مختلفة، حيث حاول النساء هناك أيضًا أن يفعلن هذا، لكن جهودهن أسفرت عن مقتلهن ومقتل أولادهن. ويروي لنا هيرودوت كيف أنه عندما أسر البيلاسجيان بعض النساء الأثينيات وأجبروهن أن يكن محظيات في جزيرة لِمنوس، دأب هؤلاء النساء في البداية على الحفاظ على ثقافتهن، فلم يعلِّمن بناتهن فحسب، بل أبناءهن أيضًا «أن يتصرفوا مثل الأثينيين وينطقوا بالإغريقية الأتيكية.» لكن بمرور الوقت، بدأ هؤلاء الأطفال يستعلون على ذرية نساء البيلاسجيان، مما أثار قلق البيلاسجيان بشأن ما سيحدث عندما يكبرون، وبالتالي قرَّروا قتل أولادهم من الأثينيات، وكذلك قتل الأمهات.
يعزو هيرودوت إلى هذه الواقعة — «بالإضافة إلى الواقعة السابقة عندما قتلَتْ نساء لِمنوس أزواجهن» — العادة الإغريقية المتمثلة في الإشارة إلى أي جريمة نكراء بقولهم «فعلة لِمنوسية». والتأكيد هنا لافت للنظر؛ فالخرافة القديمة التي تتحدث عن قتل نساء لِمنوس أزواجهن تبدو كملاحظة ثانوية، بينما يُسلَّط الضوء على الرواية التاريخية لجريمة الرجال المروعة بقتلهم محظياتهم وأولادهن بوصفها أصل الفعل الشائع. أجل، النساء في «تاريخ هيرودوت» يفعلن أشياء رهيبة، لكنها ليست أسوأ مما يفعل الرجال، وغالبًا ما تكون رد فعل لوحشية الذكور؛ فهن يفعلن، ويرددن الفعل، ويُفعَل بهن. فيمكنهن أن يقتُلن، لكن يمكنهن أيضًا أن ينشِّئن. وعندما يقتُلن، يورد هيرودوت سياقًا مهمًّا؛ لذا فعندما يقترح الأثيني لسداس بعد موقعة سلاميس أن ينظر إخوانه المواطنون في عرض سلام فارسي، تقصد نساء أثينا بيت لسداس وتَرْجُمن زوجته وأولاده، لكن ليس قبل أن يرجم رجال أثينا لسداس نفسه.
على امتداد صفحات «تاريخ هيرودوت»، يستخدم هيرودوت النساء لتبيان ميول الرجال الخطيرة، لكن النساء تُثِرن في الوقت نفسه اهتمامه كفاعلات في حد ذاتهن. ويحاكي هذا النمط معالجة غير الإغريقيات في الإثنوجرافيات، فوجودهن مفيد لعملية التفكير بفضل الطريقة التي يقدن بها القارئ إلى النظر إلى النواميس الإغريقية من زاوية جديدة، لكن عاداتهن أيضًا تستحق الدراسة بذاتها. والنساء اللاتي يناقشهن هيرودوت متنوعات فوق العادة، مثلهن مثل مختلف الشعوب التي درسها. وهيرودوت ليس من معتنقي فلسفة الجوهرية في أسلوب دراسته النساء؛ ففي نهاية المطاف، تُعَدُّ النظرة الكونية الواسعة — التي ترفض اعتبار النساء عرقًا منفصلًا عن الرجال له سماته المميزة والعامة — واحدةً من الروابط الأساسية بين «تاريخ هيرودوت» والملاحم الهوميرية.