الفصل الأول

التغلغل الأمريكي في عقولنا

على عكس ما يقول الكثيرون، أعتقد أن العالم يشهد في السنوات الأخيرة مدًّا أمريكيًّا واسع النطاق. فهزيمة أمريكا في فيتنام قد تقادم عهدها، والضربة التي تلقتها أمريكا في أفغانستان ثم إيران ضربة موجعة بلا شك. ولكن في مقابل ذلك أحرزت أمريكا انتصارين على أعظم جانب من الخطورة: أحدهما في الصين، مفتاح الشرق الأقصى، حيث أصبحت السياسة الصينية — في الآونة الأخيرة — ذيلًا للسياسة الأمريكية، بل أصبحت أشد منها تحمُّسًا في محاربة جميع خصوم أمريكا، ووصلت إلى حد محاربة حركات التحرُّر الوطني أينما كانت، والآخر في مصر، مفتاح الشرق الأوسط، حيث تسير السياسة الرسمية في اتِّجاه التحالف الصريح مع أمريكا على جميع الجبهات، وحيث يتوقَّع الأمريكيون من المعاهدة المصرية الإسرائيلية أن تكون الخطوة الأولى في طريق السيطرة الشاملة على المنطقة، والقضاء على الحركات المعارضة لنفوذهم في المناطق الأخرى المحيطة بالشرق الأوسط.

وربما قيل إن الأحداث الأخيرة قد أفقدت أمريكا الصداقة التقليدية المطلقة التي كانت تحملها لها بعض الدول العربية المحافظة، وإن هذا يدخل في باب الخسارة بالنسبة إلى النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط. ولكن ينبغي أن نتنبه إلى أن السبب الذي تُعلنه هذه الدول صراحةً لغضبها من أمريكا هو أنها لا تحمي أصدقاءها بحزم كافٍ، كما أثبتت الأحداث الإيرانية بوضوح. وأبسط تحليل لهذا السبب يدلُّنا على أن الغضب في هذه الحالة لا يرجع إلى نزعة تحرُّرية لدى هذه الدول، بقدر ما يرجع إلى خيبة أملها في تساهُل أمريكا أو سلبيتها. وبعبارة أخرى، فلو كانت أمريكا قد أظهرت مزيدًا من الحزم في إيران (وكلنا نفهم ماذا يعنيه «الحزم» في هذه الحالة)، وتمكَّنت من حماية «أصدقائها» في ذلك البلد، لما غضب منها أحد. وهكذا فإن الصداقة المفقودة لا تُحسَب، في الواقع، ضمن خسائر أمريكا، لأنها تُعبِّر عن وجهة نظر أولئك الذين كانوا يتوقَّعون من أمريكا أن تكون أشد بطشًا، وكانوا يتمنَّوْن أن تكون قبضتها أكثر إحكامًا — أي كانوا يريدون من أمريكا أن تكون أكثر «تأمرُكًا» بالمعنى التقليدي لهذا اللفظ.

هناك، إذن، حركة توسُّع أمريكية في الشرق الأوسط. ولكنني أودُّ أن أُركِّز حديثي على منطقتنا، ومن هذه الزاوية أستطيع أن أقول إن آمال أمريكا في المنطقة قد انتعشت إلى أبعد حدٍّ في السنوات الأخيرة، إن لم يكن بسبب انتصاراتها الذاتية فعلى الأقل بسبب هزيمة القوى المناوئة لها.

ولكن الأهم من ذلك أن هناك مَدًّا أمريكيًّا داخل عقولنا ونفوسنا: فالنموذج الأمريكي يفرض نفسه علينا بقوة متزايدة، والأسلوب الأمريكي في الحياة، الذي قد يرفضه الكثيرون في العلن، يُقابَل في السر بإعجاب متزايد، والقوة الأمريكية العسكرية والاقتصادية والإعلامية تُبهر أعدادًا متزايدة من العرب، بل إن أجهزة الإعلام في أكبر دولة عربية، وهي مصر، أصبح يسيطر عليها أشخاص لا هدف لهم سوى تجميل صورة أمريكا وعرضها بأزهى الألوان، ولن أكون مبالغًا إذا قلت إن هذه الأجهزة قد نجحت بالفعل في إقناع الكثيرين بروعة هذه الصورة. ووصل هذا الاقتناع إلى حد الاقتناع السائد على أعلى المستويات بأن محاكاة النموذج الأمريكي يمكن أن يحل جميع مشكلات بلد كمصر ويدفعها بخطوات سريعة إلى الأمام ما دام هذا النموذج قد جعل من أمريكا ذاتها أعظم وأقوى دول العالم في مائتي سنة فقط.

لقد أصبحت «الوصفة» غاية في البساطة: أمريكا بَنَت نفسها في قرنين من الزمان، فأصبحت أعظم بلاد العالم. إذن فاتِّباعُنا للنموذج الأمريكي سيجعلنا بدورنا عظماء مُتقدِّمين، وسينقلنا من الفقر إلى الغنى، ومن الضعف إلى القوة.

هذه هي العقيدة الجديدة التي لا توجد فقط في عقول بعض الزعماء، بل تتسرب بشتَّى الوسائل إلى عقول الناس العاديين. ولو تأملنا المحيطين بنا من الناس، لوجدنا نسبة كبيرة منهم تُؤمن، داخليًّا على الأقل، بفاعلية هذه «الوصفة» وتقف مشدوهةً أمام عظمة النموذج الأمريكي، وتتمنَّى في قرارة نفسها لو استطعنا أن نُحاكيه في مجتمعاتنا.

هذا المَدُّ الأمريكي الزاحف، على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، وعلى المستوى الفردي في عقول الناس ونفوسهم، هو الذي أقنعني بضرورة الكتابة من أجل تحليل النموذج الأمريكي تحليلًا موضوعيًّا، وإيضاح أبعاده للإنسان العربي حتى يتَّخذ موقفه من هذه المسألة الحيوية بوعي وتبصُّر، دون أن ينجرف في تيار الدعاية أو يغرق في خضم التضليلات.

•••

وليعذرني القارئ إذا بدأتُ هذا التحليل بتقديم نفسي من الزاوية المطروحة في صفحات هذا الكتاب، أعني من حيث علاقتي الشخصية بأمريكا. فكاتب هذه السطور قضى في الولايات المتحدة خمس سنوات من أخصب فترات حياته، وفيها أنجب اثنين من أبنائه الثلاثة، وألَّف اثنين من أعزِّ كتبه إليه. وفي أمريكا يعيش شقيق له مهاجر حصل على جنسيتها، وما زالت علاقاته الشخصية بكثير من الأصدقاء الأمريكيين تحمل كل سمات الوُد والوفاء. وليس في تاريخ كاتب هذه السطور أي انتماء إلى أية هيئة أو حزب معادٍ بطبيعته، وبحكم أيديولوجيته، لأمريكا.

هذا التقديم الشخصي بدا لي ضروريًّا حتى يُدرك القارئ الروح التي أكتب بها هذا التحليل. ذلك لأن من السهل الاعتراض على شهادة من يحكم على أمريكا من منطلق عدائي، ومن يرفض أيديولوجيتها رفضًا مبدئيًّا دون أن يعايشها أو ينغمس في دروب حياتها. لكني أردت أن أُطمئن القارئ، منذ البداية، إلى أني لن أتَّخذ وجهة نظر معادية بلا تفاهم، وإلى أنني عرفت أمريكا عن قُرب، ومن حقي أن أُدلي عنها بشهادتي في هذه الأيام التي يطرح فيها النموذج الأمريكي نفسه علينا بقوة والحاح.

من طبيعة أمريكا أنها بلد يدعو إلى الانبهار. إنها بلد جمع في داخله أكبر كمية من «أفعل التفضيل»: فهي أقوى، وأغنى، وأحدث من كل بلاد العالم. كل شيء فيها أضخم، وأسبق، وأعظم مما تجده في أي بلد آخر. إنها البلد الذي وصلت فيه سيطرة الإنسان على الطبيعة، وتسخيرها لخدمته، وتأكيد سيادة العقل البشري على العالم المادي وقدرته على تشكيله وفقًا لغاياته، إلى حدٍّ يفوق ما كان يحلم به الفلاسفة والأدباء وأصحاب «المدن الفاضلة» على مرِّ التاريخ. هذه حقيقة لا يقدر على إنكارها من عالمنا المعاصر أحد.

ولكن القضية التي أودُّ أن أُدافع عنها، في هذه الدراسة هي:
  • أولًا: أن النموذج الأمريكي فريد في نوعه، حدث مرة واحدة ولا يقبل التكرار.
  • ثانيًا: أن هذا النموذج الأمريكي، الذي يدعو حقًّا إلى الانبهار، مليء بالعيوب الذاتية.
  • ثالثًا: أن هذا النموذج لا يصلح لأي بلد في العالم الثالث، ولا لأي بلد في العالم العربي بوجه خاص.

قُلت من قبل إن المد الأمريكي يزحف، لا إلى سياستنا واقتصادنا فحسب، بل إلى عقولنا أيضًا. قد نحمل على أمريكا حين ينكشف دورها في مساندة إسرائيل بصورة مفضوحة، ولكن في عقول الكثيرين منا إعجابًا صامتًا بها، مقرونًا بالرهبة والانبهار.

وفي اعتقادي أن الإعجاب المفرط بأمريكا يظهر، في عالمنا العربي (وربما في جميع بلاد العالم الثالث) بين الفئات الآتية:
  • (١)

    هناك أولًا أصحاب المصالح المباشرة. ولا أعني بذلك فقط أولئك الذين ترتبط مكاسبهم الاقتصادية بأمريكا، كأصحاب التوكيلات والشركات المتعاملة مع أمريكا، بل أعني أيضًا أولئك الذين يؤمنون بأن أعمالهم، حتى ولو لم تكن ترتبط مباشرة بأمريكا، لا تزدهر إلا في جوٍّ يسوده الوُد والوئام مع هذا البلد.

    فهؤلاء يعتقدون أن ارتباط بلادهم بأمريكا يُهيئ لهم أفضل مناخ يستطيعون فيه أن يمارسوا نشاطهم الاقتصادي — الذي هو عادة نشاط حر ذو طبيعة رأسمالية — وهم آمنون على مصالحهم وكثيرًا ما تجد هؤلاء يُبرِّرون مواقفهم بشتَّى التبريرات التي قد تُغلَّف بقشرة معنوية أو أخلاقية أو حتى دينية، ولكن من وراء هذا كله توجد المصالح المباشرة.

    هذه الفئة تتَّخذ موقفًا صريحًا، واضحًا، لا يستطيع أحد أن يلومها عليه، ما دام ينسجم مع أهداف الحياة التي اختارتها لنفسها.

  • (٢)

    أما الفئة الثانية فينتمي إليها أشخاص يتَّسمون بانحراف الوعي الاجتماعي والأخلاقي، فتُغطي مشاعرهم ورغباتهم الأنانية على تقييمهم للنمط الأمريكي في الحياة. هؤلاء قد لا يكونون أصحاب مصالح مباشرة مع الأمريكيين، كالفئة السابقة، ولكنهم ينظرون إلى أمريكا على أنها مرادفة للترف، والمتعة الاستهلاكية، والمستوى المعيشي المرتفع، والسيارات الفارهة، والأجهزة الإلكترونية الراقية. ومعظم أفراد هذه الفئة من المِهنيِّين، ولكننا قد نجد بينهم عمالًا فنيِّين، أو حتى مجموعات تنتمي إلى فئات أدنى. هؤلاء جميعًا تتَّجه أمانيهم وتطلعاتهم إلى تحقيق النموذج الأمريكي في حياتهم الخاصة، وينفرون من أي نموذج آخر باعتباره مرادفًا للتقشُّف والاقتصار على الضروريات والحرمان من متع «الحياة اللذيذة».

    وتتَّسم هذه الفئة بأنها لا تطرح على نفسها أسئلة من نوع: هل هذا الرخاء الاستهلاكي الذي قد يجلبه النموذج الأمريكي لهم، يمكن أن يصل إلى الجميع، حتى الفقراء من الناس؟ ألن يغدو الفقراء أشد فقرًا، ويزداد حرمانهم بقدر ما يزداد استمتاع الفئة المميزة في المجتمع؟ هل ينجح النمط الأمريكي في الحياة، حين يُطبَّق على بلد متخلف أو محدود الموارد، في حل مشكلات فئات المجتمع كلها، أم أنه يُرضي فئة محدودة إلى أقصى حدٍّ، على حساب أوسع فئات المجتمع؟ هذه أسئلة لا تطرحها الفئة التي نتحدث عنها من المعجبين بالنمط الأمريكي. وليس معنى عدم طرحها لهذه الأسئلة أنها دائمًا غير واعية بها، بل إنني أعرف — من تجربتي الشخصية — حالات كثيرة لأشخاص لديهم إدراك كامل للتمييز الصارخ الذي يجلبه الأخذ بالنموذج الأمريكي، ومع ذلك فإنهم يتعلَّقون به أشد التعلق لأنهم، ببساطة، لا يكترثون بمصير الفئات الأخرى ولا يضيرهم على الإطلاق أن ينعموا على حساب غيرهم. إن لسان حال كل منهم يقول: ما دامت مشكلتي الشخصية قد حُلَّت، ففيمَ يهمني الآخرون؟

  • (٣)

    وتأتي بعد ذلك فئة أولئك الذين ارتبطت حياتهم، في وقت ما بأمريكا، أعنى أولئك الذين تلقَّوْا العلم فيها، أو قاموا بزيارات لها، وهؤلاء تعود نسبة كبيرة منهم إلى بلادها وقد انطبعت بالطابع الأمريكي في تعاملها مع الناس، وأخذت تستخدم التعبيرات الأمريكية في لغتها والحركات الأمريكية في سلوكها، بل إن أعدادًا منهم تعود حاملة معها تحيُّزات الأمريكيين المريضة ذاتها. فقد عرفتُ من العرب المقيمين في أمريكا أناسًا كانوا يُغيِّرون المبنى الذي يُقيمون فيه لو سكنه زنجي، حتى لو كان ذا مركز اجتماعي محترم، وكان عدد منهم يُردِّد نفس الحُجج التي يُردِّدها غلاة المتعصبين الأمريكيين عن «الملوَّنين».

    ولحسن الحظ أن بلادنا تضم عددًا غير قليل من خريجي الجامعات والمعاهد الأمريكية، ممن لا يكتفون بالمشاهدات السطحية ولا ينجرفون وراء التحيُّزات الضيقة، وإنما تنفذ بصيرتهم إلى ما وراء المظهر السطحي البرَّاق، ومن ثَمَّ فإنهم يحتفظون بموضوعيتهم طوال إقامتهم وبعد عودتهم. والعامل الذي يُحدِّد الفارق بين هؤلاء وأولئك هو مدى الوعي الذي يكون الدارس في أمريكا أو الزائر لها مُسلَّحًا به. ومن هنا كنا نجد نسبة كبيرة ممَّن دخلوا أمريكا في مقتبل أعمارهم، بغير وعي سياسي واجتماعي متماسك، يجرفهم التيار في طيَّاته، ويعودون إلينا بمظهر أمريكي وعادات وحركات وإيماءات أمريكية، ويحملون معهم، قبل هذا وذاك، إعجابًا غير مشروط، مُتغلغلًا في أعمق تلافيف أمخاخهم، بالنموذج الأمريكي في جميع المجالات.

  • (٤)

    أما الفئة الأخيرة فهم أولئك الذين يتأثرون بالصورة الإعلامية البرَّاقة للحياة الأمريكية. ففي «الثقافة العالمية» التي تولَّدت عن الثورة المعاصرة في وسائل الإعلام، تحتلُّ نواتج الإعلام الأمريكي موقع الصدارة. وهكذا تُصدِّر أمريكا إلى بلاد العالم — وبخاصة العالم الثالث — أفلامها السينمائية ومسلسلاتها التلفزيونية وأسطواناتها ورقصاتها وأزياءها. وفي هذه النواتج الإعلامية والثقافية تندسُّ — بطريقة قد لا تكون مقصودة أحيانًا، ولكنني أرجح أنها مقصودة في أغلب الأحيان — صورة برَّاقة للحياة الأمريكية، تمر في الفيلم أو الحلقة التلفزيونية مرورًا عابرًا، ولكنها تُؤثِّر تأثيرًا بالغًا — على المستوى الشعوري واللاشعوري — في المشاهدين، ولا سيما إذا كان الطابع الغالب على حياتهم هو الحرمان. وبمضي الوقت تترسَّب في أذهانهم صورة أمريكا الضخمة، الفخمة، المُترفة، القادرة على كل شيء، والتي لا يقف في وجهها شيء، ويكون لهذه الصورة حتمًا تأثيرها في وعيهم الاجتماعي واختياراتهم السياسية.

    هذه الفئة الأخيرة، الخاضعة للتضليل الإعلامي المنهجي المدروس، تُؤلِّف الشطر الأكبر من أنصار أمريكا في بلادنا، ولكنها فئة يستطيع المرء أن يتفاهم معها دون أن يخشى من أن تطغى عليها مصالحها أو أنانيتها أو تحيُّزاتها. ومن ثَم فإن حديثي مُوجَّه أساسًا إلى أفراد هذه الفئة، وإن كنت آمل بطبيعة الحال أن يُمعن النظر فيه بعض أفراد الفئات الأخرى على الأقل. ففي اعتقادي أن عرض الصورة كاملة، ومن كافة جوانبها، يمكن أن يفتح أمام الكثيرين أبوابًا للتفكير ولمراجعة آرائهم السابقة. وهذا أقصى ما آمل فيه: أن يُعيد المعجبون المفتونون بالنمط الأمريكي النظر في أفكارهم، وأن يُراجعوا موقفهم في إطار ما سيُقدم إليهم من حقائق آمل أن تكون موضوعية بقدر ما أستطيع، حتى يتبيَّنوا بأنفسهم، في النهاية، إن كان هذا النمط هو الذي يصلح لمجتمعاتنا، أم أنه سيكون عائقًا في وجه تقدمنا، فيما لو أصبح هو السائد بيننا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤