الفصل السادس

قضية الأيديولوجية والتنمية

طوال هذه الدراسة، حاولت بقدر ما أستطيع أن أتجنب الألفاظ والمصطلحات الضخمة، وأن أعرض أفكاري للقارئ من خلال لغة عادية خلت من تلك التعبيرات المُعقَّدة التي اعتادها مثقفونا، والتي قد تصلح في مناقشاتهم الداخلية، ولكنها حين تستخدم في مخاطبة الجماهير العريضة تؤدي إلى فجوة واسعة بين المثقف وجمهوره، لا يملؤها إلا فراغ من عدم التفاهم.

لذلك فإنني حين أستخدم كلمة «أيديولوجيا» في عنوان هذا الفصل الأخير، لا أودُّ من القارئ أن يتصوَّر أنني خرجت أخيرًا عن هذه القاعدة، وخضعت آخر الأمر لعادات المثقفين في استخدام الألفاظ الرنانة. فالأيديولوجيا كما تستخدم هنا، لا تعني أكثر من مجموعة الأفكار الأساسية التي تشكل نظرة المجتمع إلى نفسه وإلى العالم أو الموقف الأساسي الذي يُعبر به المجتمع عن اتجاهاته في الحاضر وأمانيه في المستقبل.

ومن الطبيعي، في هذه الحالة، أن يكون هناك ارتباط وثيق بين الأيديولوجيا — مفهومة بهذا المعنى — وبين قضية التنمية؛ فالتنمية ليست مجرد «نمو»، كما قد يوحي أصل اللفظ ذاته، وإنما هي مسيرة شاملة تسترشد في سعيها إلى التقدُّم بأفكار رئيسية توجهها، ومن واجب كل من يتصدَّى لعملية التنمية في مجتمعه أن يُجيب عن أسئلة أساسية مثل: لمصلحة من تتم هذه التنمية؟ وهل تكون التنمية اقتصادية فحسب، أم تشمل المجال الاجتماعي والثقافي بدوره؟ وما نوع المجتمع الذي نريد أن نحققه عن طريق هذه التنمية؟ ولو أمعن المرء التفكير في هذه الأسئلة، لوجدها كلها أسئلة أيديولوجية، أي أسئلة تتعلق بمجموعة الأفكار التي يرسم بها المجتمع طريقه في الحياة. ومن هنا كانت التنمية التي تقوم على أساس رأسمالي، مثلًا، مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي تهدف إلى إقامة مجتمع اشتراكي؛ لأن الاختيار الأيديولوجي الذي ترتكز عليه التنمية مختلف في الحالتين.

•••

على أساس هذه المقدمة الواضحة، نودُّ أن نعالج الآن آخر الموضوعات التي سنعرض لها في هذه الدراسة، وهو في الوقت نفسه ربما كان أهم موضوعاتها جميعًا؛ فالنموذج الأمريكي مطروح اليوم، بقوة وإلحاح، على العالم العربي بوصفه نموذجًا مثاليًّا للتنمية، وأنصار هذا النموذج يؤمنون بالأيديولوجية الأمريكية، ويعتقدون أن الأُسس التي ترتكز عليها تصلح للانطباق على المجتمعات العربية، بل إنها هي التي تحمل في طياتها إمكانات حل المشكلات المزمنة التي تعاني منها مجتمعاتنا. فما مدى صحة هذا الاعتقاد؟

في معالجتنا لهذا الموضوع الحيوي، لا بدَّ أن ننظر إليه من زاويتين مختلفتين، هما زاويتا البلاد العربية الغنية والفقيرة، لأن مشكلات التنمية في كل منهما تختلف في نواح كثيرة.

(١) الدول الغنية

هناك أسباب كثيرة تجعل الدول الغنية أكثر من غيرها تعرضًا لإغراء النموذج الأمريكي في التنمية، وأكثر من غيرها ميلًا إلى اختيار الأيديولوجيات الأمريكية. ولعل في واقع الثراء ذاته، وارتفاع مستوى الدخل القومي والفردي، ما يُفسر هذه الظاهرة إلى حدٍّ بعيد. فالأيديولوجيات التي تسير أمريكا وفقًا لها تفتح الباب على مصراعيه أمام فرص الإثراء، ولا تضع حدودًا لما يمكن أن يملكه الفرد، على حين أن الأيديولوجية المضادة التي تحاربها أمريكا تحدُّ من فُرص الامتلاك وتضع مصالح المجتمع كضوابط وحدود لما يمكن أن يحرزه الفرد من ثروات.

ومع ذلك فإن من واجبنا أن ننفذ بنظرتنا إلى ما وراء السطح الخارجي للظواهر، وأن نتساءل: هل يصلح نمط التنمية الذي تشجعه أمريكا للانطباق على البلاد العربية الغنية، وهل يؤدي هذا النمط إلى خدمة المصالح الحقيقية لشعوب هذه البلاد؟

لكي نجيب عن هذا السؤال لا بدَّ لنا من الإشارة إلى ثلاث حقائق أساسية:
  • الأولى: هي أن ثروة البلاد العربية، في وضعها الحالي، توظَّف — فيما يتعلق بفوائضها ومُدَّخراتها على الأقل — من أجل خدمة الاقتصاد الغربي، وعلى رأسه الاقتصاد الأمريكي. وعلى الرغم من كل الروابط المتينة، سياسيًّا واقتصاديًّا وتعليميًّا وثقافيًّا … إلخ، بين الدول العربية البترولية وبين أمريكا، فإن هذه الأخيرة لم تُسهم في وضع أي برنامج يساعد الدول الغنية على الانتفاع من أموالها في إرساء دعائم اقتصاد داخلي متين، معتمد على ذاته، قادر على مواجهة الظروف التي ستجدُّ عندما تنضب موارد البترول.

    هذه حقيقة مألوفة، نقرأ عنها في صحفنا كل يوم، ولكنها تظل — بالرغم من ذلك — شيئًا يدعو إلى التأمل العميق؛ فكيف تكون هناك كل تلك الروابط الوثيقة بين البلاد العربية البترولية وبين أمريكا، دون أن تحاول هذه الأخيرة مساعدة الأولى في الإفادة من إمكاناتها الاقتصادية الهائلة؟ أي نوع من النموذج أو من المثل الذي تضربه تلك الدول الكبرى في علاقتها بدول صغيرة تحتاج إلى الإفادة من تجارب الآخرين كيما تشق لنفسها طريقًا مستقلًّا؟ أليس ذلك هو نموذج الاستغلال فحسب — أعني الاستغلال الذي يخدم مصالح الطرف القوي ولا يكترث بالمطالب الحيوية البعيدة الأمد للطرف الضعيف؟ ولماذا لا تساعد أمريكا الدول العربية البترولية على وضع برنامج للتنمية تُوظِّف فيه معظم فوائضها المالية في الداخل بدلًا من أن تودعها في بنوك غربية وأمريكية لخدمة اقتصاد هو أصلًا قوي معتمد على ذاته؟ أليس هذا دليلًا على التعارض بين النموذج الأمريكي وبين أبسط متطلَّبات المستقبل لدى الدول العربية الغنية؟

  • والحقيقة الثانية: هي أن أمريكا لا تكتفي بالإفادة من فوائض الأموال العربية لخدمة مصالحها الخاصة، ولا تكتفي بالامتناع عن الإسهام في أي برنامج شامل يضمن للدول العربية الغنية مستقبلًا مأمونًا، بل إنها تضع نُصب أعينها استنزاف الثروة البترولية العربية في أسرع وقت ممكن، دون أية مراعاة لحاجات البلاد المنتجة، فأية محاولة لخفض إنتاج البترول إلى الحد الذي يتمشَّى مع المطالب الحقيقية للبلد المنتج، تلقى مقاومة من الطرف الأمريكي؛ لأن ما يحرص عليه هذا الطرف هو سد حاجات الاقتصاد الغربي، وليس مراعاة مطالب المُنتجين على الإطلاق.

    ولو قيل إن هذا أمر لا مفر منه، لأن في الغرب مصانع لا بدَّ لها أن تعمل، وهي تحتاج إلى كميات يومية هائلة من البترول — لو قيل هذا لقلنا إن هذه حُجة غير ملزمة على الإطلاق؛ ذلك لأن الغرب لا يريد أن يُغيِّر نمط حياته، الذي ينطوي على قدر هائل من السفه والتبديد، والذي يستهلك فيه المواد الخام في العالم، وليس البترول وحده، إلى حدٍّ أصبح يثير قلقًا حقيقيًّا لدى كل من يُفكر في مستقبل البشرية بشيء من التعمُّق. ولقد اشترى الغرب نمط حياته الباذخ هذا، منذ أن كان يملك السيطرة العسكرية إلى أن استعاض عنها بالسيطرة الاقتصادية، على حساب شعوب العالم الثالث. فإذا كانت هذه الشعوب الأخيرة تعيش حياة الكفاف، وتنقصها ضرورات الحياة الأساسية ذاتها، ومع ذلك تظل تعمل وتكافح دون أن تشكو، فلماذا لا تتنازل الشعوب الغربية المُترفة عن قدر من رفاهيتها لكي تُحقِّق مزيدًا من التوازن بين اقتصاديات مناطق العالم المختلفة؟ الذي يحدث بطبيعة الحال هو أن هذه الشعوب تقبل أي حلٍّ — حتى لو كان هو التدخل العسكري ذاته — فيما عدا المساس بمستوى معيشتها المرتفع، ومن ثَم فإنها تستنزف، من بين ما تستنزفه، موارد البترول بسرعة تفوق كثيرًا ما تحتاج إليه الدول المنتجة ذاتها، وبذلك تكون عاملًا مُعوِّقًا في وجه تنمية هذه الدول.

  • والحقيقة الثالثة: هي أن الدول الغربية الصناعية، وعلى رأسها أمريكا، تحرص على أن تنشر في الدول العربية الغنية عادات استهلاكية متطرفة، تحقق لها عدة أهداف، ولكنها تعود على أصحابها بأوخم الضرر:
    • (أ) فالاستهلاك الزائد يعود على الدول الصناعية الكبرى ذاتها بالنفع المباشر. وكلما انتشرت بين الشعوب العربية الغنية عادات الترف، والشراء بسبب وبغير سبب، وتغيير طراز السلع والأجهزة الاستهلاكية بلا انقطاع، واقتناء أحدث المنتجات أولًا بأول، مع التخلُّص من القديم بلا ثمن، كان معنى ذلك مزيدًا من النفع لأصحاب المصانع، ومزيدًا من التورُّط والإدمان الاستهلاكي لدى المشترين.
    • (ب) والأخطر من ذلك أن هذا الاستهلاك المُفرط يُفسد أذواق هذه الشعوب ويُشوِّه شخصيتها بالترف الزائد، الذي يصل في كثير من الأحيان إلى حد التبديد، ويساعد على تنشئة أجيال اعتادت سهولة العيش حتى أصبحت تعزف عن بذل أي نوع من الجهد أو المعاناة. ووجود هذه الرغبة الطاغية في الحياة السهلة، التي يأتي فيها كل شيء جاهزًا بلا مجهود، يتعارض بطبيعة الحال مع متطلبات التنمية التي ينبغي أن تعتمد فيها الشعوب على نفسها وتبذل في حاضرها جهودًا تقيها شر الحاجة في المستقبل.
    • (جـ) وربما قيل إن شعوب الدول الصناعية الكبرى تستهلك بدورها على نطاق واسع، دون أن يؤدي ذلك إلى فقدانها حماسة العمل وبذل الجهد. ولكن شتان ما بين الحالتين:

      فالشعوب الصناعية قد مرَّت بتجربة الاختراع والإبداع بالنسبة إلى كل ما تستهلكه، وهي قد عايشت التليفزيون منذ أن كان وميضًا خافتًا على شاشة باهتة إلى أن أصبح أفلامًا ملونة وربما مجسمة، وعايشت السيارة منذ أن كانت عربة خيل مُطوَّرة إلى أن أصبحت صالونًا فاخرًا سريعًا صامتًا. أما الشعوب الغنية المستهلكة في بلاد العالم الثالث، فلا تعرف هذا الإنتاج إلا في صورته النهائية، ولا تتعامل معه إلا عن طريق استعماله فحسب، وهي لم تعايش تجربة اختراع ولم تمر بمعاناة التطوير والتجويد؛ ومن ثَم فإن دلالة الاستهلاك عندها، وتأثيره في شخصيتها، مختلفة كل الاختلاف.

من هذه الحقائق الثلاث يتَّضح لنا أن نمط التنمية الذي تشجعه أمريكا في الدول العربية الغنية يؤدي بهذه الدول إلى أن تنعم بحلم وردي سريع، ولكنه يترك الواقع الذي سيعقب هذا الحلم دون معالجة على الإطلاق. ومن هنا كان واجب هذه الدول ألا تنساق وراء هذا النمط، وأن تُدرك الفوارق بين أوضاع أمريكا وأوضاعها الخاصة، والاختلاف الكبير في نموذج الحياة الاستهلاكية ونتائجها لدى مجتمع تكنولوجي متقدم، ولدى مجتمع يُعاني من مشكلات التخلُّف بالرغم من امتلاكه ثروة مؤقتة.

(٢) الدول الفقيرة

إذا كان نمط الحياة الاستهلاكية، الذي يفتح الأبواب على مصراعيها لمنتجات البلاد الصناعية المتقدمة، لا يصلح للبلاد العربية الغنية، فمن السهل أن ندرك أنه أقل صلاحية للبلاد العربية الفقيرة؛ فحين تتَّخذ هذه البلاد الأخيرة من النمط الأمريكي نموذجًا، وحين تحاول أن تُقلِّد أسلوب الحياة الأمريكي، متصورة أن هذا الأسلوب سينجح عندها كما نجح في بلده الأصلي، فإنها تقع في وهم كبير، وتسقط في هُوَّة سحيقة قد يكون من الصعب عليها أن تنتشل نفسها منها لأمد بعيد.

ذلك أولًا لأن البلد الفقير أقل قدرة من البلد الغني، بطبيعة الحال، على استيعاب أدوات الترف الاستهلاكي. والنتيجة الطبيعية لذلك هي تشجيع فئة محدودة جدًّا على الاستثمار السريع الربح في تجارة السلع الاستهلاكية واستيرادها، وفئة أخرى أكبر قليلًا من السابقة، ولكنها بدورها محدودة، على اقتناء هذه السلع. أما القاعدة الشعبية الواسعة فسوف تنظر بحسرة إلى القلة المحظوظة، وسوف تتضاعف معاناتها، لأنها تجد أمامها نماذج صارخة للاستهلاك السفيه من جهة، ولأن أعباء المعيشة ستزداد ثقلًا عليها، من جهة أخرى، نتيجة للتصعيد المستمر في الأسعار الذي تُحدثه تصرفات تلك القلة المحظوظة.

ومن المستحيل معالجة موقف كهذا عن طريق التبشير بفلسفة «مجتمع الأسرة الواحدة» بين أفراد المجتمع الفقير؛ ذلك لأن فلسفة «الأسرة الواحدة» ينبغي أن تكون التزامًا من كلا الجانبين؛ فكما تُطالب الفقير بألا يحقد على الغنى أو يتمرد ضده، ينبغي أن نطالب الغني بألا يثير حقد الفقير وتمرده. ولكن الذي يحدث هو أن فلسفة «الأسرة الواحدة»، في هذه المجتمعات الفقيرة، لا تتذكر سوى التزامات الفقير وحده، أي التزامات طرف واحد من أطراف «الأسرة الواحدة»، بينما تتغاضى تمامًا عن التزامات عضو الأسرة الغني تجاه «أقربائه» الجياع!

إن النموذج الأمريكي يدعو إلى ترك نشاط الأفراد، في الميدان الاقتصادي، يسير في طريقه حرًّا، دون أن تقف في وجهه أية قيود، ودون أن تكون هناك حدود لتوسُّعه ونموِّه. ومن الجائز أنه كان لهذه الدعوة ما يبررها في ضوء ظروف أمريكا الفريدة، التي عرضناها في الفصول السابقة؛ فقد كانت قلة البشر، وضخامة الموارد، وإمكانات الاستثمار الهائلة، والطبيعة المغامرة للوافدين، كانت هذه كلها عوامل تُشجِّع على إطلاق العنان للنشاط الفردي حتى يصل إلى أقصى مداه.

وقد أصبح هذا الاتجاه جزءًا لا يتجزَّأ من البناء الفكري للمجتمع الأمريكي؛ فمنذ أكثر من مائتي عام، نجد الإعلان الأمريكي لحقوق الإنسان يتضمن بصورة واضحة انتقادًا لفكرة تدخُّل الدولة إلا في أدنى الحدود. وهكذا فإن أية دعوة إلى التأميم، أو التخطيط المركزي الموجَّه للاقتصاد أو التعليم أو الثقافة أو الخدمات الصحية، تلقى مقاومة هائلة. وما زالت عبارة جيفرسون القائلة: «إن أفضل الحكومات هي أقلها حُكمًا» — ما زالت تعد شعارًا سياسيًّا رئيسيًّا لقطاعات كبيرة في المجتمع الأمريكي.

حسنًا، هذه على أية حال فلسفة أمريكا الخاصة، وهي فلسفة نجحت (برغم تحفظاتنا الكثيرة عليها) في ضوء الظروف الخاصة والفريدة لهذا المجتمع. ولكن مشكلة أمريكا، بعد أن أصبحت القوة العظمى في العالم المعاصر، هي أنها لا تكتفي بالدعوة إلى المبادئ داخل حدودها، وإنما تبذل كل ما في وسعها لكي تطبقها على أكبر عدد من دول العالم، بغض النظر عن ظروفها وأوضاعها الخاصة.

إن بلاد العالم، حتى الكثير من الدول الغنية، تتَّجه على نحو متزايد إلى تأميم مرافق وخدمات أساسية في المجتمع، كالتعليم والصحة والمواصلات والإذاعة … إلخ.

ذلك لأن التطور التاريخي يثبت صعوبة تطبيق مبدأ «الحد الأدنى من تدخل الحكومة» في معظم مجتمعات العالم. وحين نتأمل البلدان الفقيرة بالذات نجد هذا المبدأ مستحيل التطبيق؛ فعندما تكون الموارد محدودة، والسكان متزايدين، يكون معنى عدم تدخل الدولة هو ترك الفرصة أمام السمك الكبير لكي يبتلع السمك الصغير. وكما أن الأسرة ذات الدخل المحدود تحتاج، لكي تستمر في الحياة، إلى تدبير دقيق لميزانيتها ولأوجه الإنفاق فيها، ولا تملك ترف التساهل أمام رغبات الأفراد المتباينة، فكذلك تحتاج البلاد الفقيرة إلى توجيه وتخطيط لمواردها المحدودة، كيما تنتفع بها على أفضل نحو ممكن وإلا كانت الكارثة، التي تتمثَّل في انتعاش أوضاع القلة الضئيلة، وشقاء الملايين من أبناء الشعب.

وإذن، فالنموذج الأمريكي أبعد ما يكون عن الانطباق على مجتمع فقير محدود الموارد.

وهذا أمر لا نحتاج فيه إلى تفكير عميق؛ لأن النتائج العملية ذاتها تثبته على نحو قاطع؛ ففي كل حالة يُطبَّق فيها هذا النموذج بلا تمييز في بلد من بلاد العالم الثالث الفقيرة، تكون النتيجة إخفاقًا ذريعًا. خذ أوثق الدول صلة بأمريكا، وأكثرها اقتداء بها، كدول أمريكا اللاتينية، أو تركيا، أو فيتنام الجنوبية فيما مضى، أو تايلاند، أو إيران في عهد الشاه، هل نجح النموذج الأمريكي، في حالة واحدة من هذه الحالات، في بناء مجتمع تسوده العدالة وينال فيه كل إنسان — وخاصة من الطبقات الفقيرة — نصيبه المعقول من ثروة المجتمع؟ ألا تشترك هذه المجتمعات كلها في وجود تفاوت صارخ بين طبقاتها، وعدم التوصل إلى حلول لمشكلاتها الأساسية، والعجز عن النمو والاستثمار الرشيد لمواردها، وسيطرة أساليب القمع من أجل تغطية المظالم الفادحة؟

هذه أمثلة نلمسها بأنفسنا، وهي تقدم إلينا نحن العرب — وخاصة الفقراء منا — أبلغ دليل على أن النموذج الأمريكي الذي يُفتتن به بعضنا، عاجز تمامًا عن حل مشاكلنا، وأن نجاحه في بلاده ليس على الإطلاق دليلًا على أنه يمكن أن ينجح في ظروف مختلفة كل الاختلاف.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه عند هذه النقطة هو: هل تجهل أمريكا هذه الحقائق؟ هل هي بلد مثالي توجد لديه كل النوايا الطيبة إزاء الآخرين، ولكن سوء حظه هو الذي يجعله فاشلًا دائمًا مع الآخرين؟ إن المسألة، بالطبع، أبعد ما تكون عن ذلك؛ فأمريكا تعلم تمام العلم أن نظامها لا يصلح إلا لها، وأنه في حالة البلاد الفقيرة بالذات يؤدي إلى الفشل التام. ولكنها، ببساطة، لا تكترث بما يحدث للآخرين.

إنها تسلك بطريقة برجماتية (وهي كلمة تُعبِّر عن الاتِّجاه الفلسفي المسيطر على الفكر والسلوك الأمريكيين، وتعني ببساطة: البحث عن النجاح العملي، بغض النظر عن المبادئ ذاتها) فقد كانت، في إيران مثلًا، ترى الفقر المُدقِع والظلم الفادح والثراء الفاحش جنبًا إلى جنب، ولكنها لم تهتم، وإنما ركَّزت جهودها على التحالف مع الحاكم ومع طبقة المنتفعين المحيطة به، وشجَّعته على التمادي في استبداده وتجاهل مطالب شعبه، بل هي التي علمت زبانيته كيف يُتقنون فنون التجسس والتعذيب وانتزاع الاعترافات … إلخ، وما دام الحاكم قادرًا على أن يُحكم قبضته على شعبه بيد من حديد ويقوده رغمًا عنه إلى طريق يحقق مصالحها هي، فلا يهم على الإطلاق ماذا يحدث لهذا الشعب.

ولكن عبرة التاريخ البليغة تثبت لنا أن الانقياد للنموذج الأمريكي يقود الحكام أنفسهم، لا شعوبهم المغلوبة على أمرها فحسب إلى الهاوية. فكيف ينظر المسئولون الأمريكيون إلى كارثة الشاه بعد حدوثها؟ إنهم نادمون لأنهم لم يتنبهوا إلى قوة المعارضة، ولم يتداركوها في الوقت المناسب، ولم يساعدوا الحاكم الطاغية على التخلُّص منها. ولكنا لم نسمع اعتراضًا من مسئول أمريكي واحد على السياسة التي يتَّبعها الشاه، ولم نلمس لدى أحد منهم ندمًا على أنهم تركوه يطغى ويستبد ويستبيح أموال شعبه دون أن يُقدِّموا إليه نصيحة تخفف من غلوائه. ومعنى ذلك أن الحاكم، حتى حين يُعادي شعبه في سبيل المصالح الأمريكية، لا يجد من أمريكا مساعدة إلا على التمادي في الطغيان، ولا يلقى منها أي توجيه يردُّه إلى صوابه أو يقلل من إمعانه في الظلم. وبالاختصار فإن أمريكا تجرُّ أصدقاءها حتمًا إلى الهاوية. وهذه — كما أدرك بعد فوات الأوان حُكَّام تهاوت تيجانهم في الآونة الأخيرة — عبرة لمن يعتبر.

أعود، في نهاية هذه الدراسة، فأقول إن المسألة ليست على الإطلاق مسألة أخلاقية؛ فليست أمريكا، في عالمنا المعاصر، هي الفتى القوي الشرير، الذي يجرُّ أصدقاءه معه إلى هاوية الفساد، وإنما الموضوع في أساسه موضوع نظام لا يملك إلا أن يسير في هذا الطريق؛ لأنه هكذا بدأ، وهكذا نما وتوسَّع، وهكذا يتحتم عليه أن يسير.

إن أمريكا، بحكم تكوينها ومصالحها الحيوية، لا تستطيع إلا أن تكون كذلك. أما نحن فما زالت أمامنا فرصة للاختيار، وليس هناك على الإطلاق ما يرغمنا على أن نختار طريقًا ثبت لنا أنه لن ينفع بلادنا الغنية ولا الفقيرة، ولن يوجِّه من ينقاد له إلا إلى طريق الهاوية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤