الواسطة في معرفة أحوال مالطة المشهورة

لصاحب الجوائب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أحصى كل شيء كتابًا، وأعد للمتقين جزاءً حسابًا، وألهم ابن آدم أن يضرب في الأرض ويكدح لنفسه كدحًا، ويجوب مناكب البلاد ويسعى ليدرك نجحًا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله الذي بهرت آيات نبوته الناظرين، وبزغت شمس دينه فأفل منها سها الكافرين، ونادى بالحق فزهق الباطل وأمحى طلله، وأنذر فأرهب وبشر فأرغب وطاب مقاله ومقوله ومقوله، خير من دعا وأمر، ونهى وزجر، ووعد فأنجز، وقال أطنب أو أوجز، وأرشد فهدى، وأجدى من اجتدى، صلاة وسلامًا دائمين، متلازمين متلائمين، وعلى آله وعترته، وأصحابه وعشيرته، ما سرى الساري، وطلعت الدراري.

«أما بعد» فإن الأسفار طالما ذكرها الذاكرون، وبالغ في وصفها الواصفون، فمدحها من علت مروءته، وسمت همته، وذمها من قصر عنها، ولم يجن منها، فمنهم من شبه صاحبها بدر إن لم ينقل لم يكن في التيجان منضودًا، وبهلال إن لم يسر لم يصر بدرًا مشهودًا، ومنهم من زعم أنها الحاملة على الذل، المضيعة لحسب المرء والموقعة له في الضل، والخمول وعدم الشكل، وإن الشيء إنما يرزن إذا كان في مستقره، حتى عرَّفوا الظلم أنه وضع الشيء في غير مقره، ومعلوم أن محل العرب مباين لمحل العجم، فكأن أحد الفريقين إذا جاوز محله فقد ظلم، إلى غير ذلك من تناقض العبارات والاعتبارات، كما جرت بذلك عادة البلغاء في المحاورات؛ إذ كل حكم وقضية من القضايا الجارية أطالوا فيها المقال، وجالوا فيها من حيث لا مجال، كاعتزال الناس والانفراد عنهم، والمخالطة لهم والأخذ منهم، فبعضهم آثر الأول، وود لو يقضي عمره على قنة جبل، وبعضهم شبه الزحام، بمنهل عذب لذي الأوام، وأمثال ذلك لا تحصى، ولا تعد ولا تستقصى، فكان الركون إلى ما قالوا، والمعول على ما فيه جالوا وأطالوا، غير هادٍ وحده سبيلًا قويمًا، ولا شافٍ كليمًا، إلا إذا امتحن الناقد اللبيب بنفسه أي الفريقين أصدق قيلًا، وأهدى سبيلًا، وأطلع على ماذا حملهم على الذم والقدح، والثناء والمدح، وماز المعلم من المجهل، والحالي من المعطل، فهو حينئذ خبير وأي خبير، غير مفتقر إلى ناصح منهم ومشير، والحاصل أن لكل امرئ شانًا يعنيه، ومطلبًا هو مقتفيه، وأن ما قضى الله يكون، سواء أذم الذامون أم مدح المادحون، هذا وقد كنت في عنفوان شبابي، وجدة جلبابي، وأزهار سني، وازدهار ذهني، لهجًا بالسفر والاغتراب، والترحل عن الوطن والأصحاب، إلى بلد ينضر فيه غرسي، وتطيب فيه نفسي، وأقتبس فيه من مصابيح العلم قبسًا، وألقى إذ الدهر لي موحش خليلًا يصادقني مونسًا، حتى أدتني أعمال حابطة، إلى جزيرة مالطة، فألفيتها لا كما أملت، وكابدت منها ما لا يفي بما عنه ترحلت، فعن لي أن أظهر ما بطن منها، وأكشف مخبأها لمن رغب فيها أو عنها، فألفت فيها كتابًا سميته «الواسطة في معرفة أحوال مالطة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤