فصل في تخطيط مالطة معربًا

اعلم أن تخطيط مالطة هو في ٢٢ درجة و٤٤ دقيقة من الطول، وفي ٢٥ درجة و٥٤ دقيقة من العرض، أما موقعها في الكرة فإن بعض الجغرافيين ألحقوه بأفريقية بالنظر إلى المكان، وبعضهم ألحقه بجزائر إيطاليا بالنظر إلى عادات أهل مالطة وأحوالهم وديانتهم، والمراد بذلك أنها من أوروبا، فممن ألحقها بأفريقية بثولومي، وممن ألحقها بأوروبا بلينوس وسطرابوس، ودليلهما على ذلك كونها على بُعد ستين ميلًا من رأس باسرو، وعلى مائتين من كلبيه نومينا أركولي، والمحل الأول أقرب إلى أوروبا، والثاني أقرب إلى أفريقية. قال: فأما عرضها فاثنا عشر ميلًا، وطولها عشرون، ودروتها ستون، وقاعدتها الآن هي المدينة المسماة فالتة.

فأما في الأعصر السالفة فكانت نوتابيلي، ويقال لها الآن المدينة، وموقعها في وسط الجزيرة في أرفع موضع منها، وكأن الجزيرة منقسمة بها إلى شطرين: أحدهما يمتد جهة الشرق والآخر جهة الغرب، والذي بنى فالتة كان أحد أمراء الإفرنج، وسماها باسمه، وذلك سنة ١٥٧٦ وهي على ربوة بقرب البحر يقال لها شبراس. قلت: زعم بعض المالطيين أن أصل هذه الكلمة شبر الرأس وبعضهم أنها جبل رأس، وعندي أنها شعب الرأس. قال في الصحاح: «شعب الرأس شأنه الذي يضم قبائله.» ا.ﻫ. وهو كناية عن أصل الشيء ومجتمعه كما أن قبائل الرأس مرجعها إلى الشعب، ويحتمل أنها سميت بشيب الرأس؛ لأن أهل مالطة إذ ذاك كانوا يناصبون المسلمين الحرب والثأر، وكل فريق ملاقٍ من فريقه ما يشيب الرأس، وذكر بوليه المؤلف الفرنساوي أن قاعدة هذه الجزيرة سميت باسم الأمير لافاليت رئيس طريقة الفرسان ولد في سنة ١٤٩٤ ومات في سنة ١٥٦٨ وكان شهيرًا بالبأس والإقدام، وأول ما استولى عليه من الجزيرة عند محاصرته المسلمين بها برج صانت ألمو ثم قوى عليهم، وأخرجهم منها. قال المؤلف: ثم خلفه باولودل مونتي فأتم بناءها في الثامن عشر من أيار، وذلك في سنة ١٥٧١ وقبل بنائها كان مقام الزعماء المنتسبين إلى طريقة مار يوحنا في برملة والبرغو بشرقي فالتة، ويقال للثانية فيتور يوزا أي المنصورة لحرب انتصر فيها أهل مالطة على المسلمين، وذلك في سنة ١٥٥٦، قال: وفي ضواحي هذه المدينة قرية اسمها الفلوريانة، وهي أعمر جميع قرى الجزيرة، وجملتها أربع وعشرون قرية، وهي جديرة بأن تسمى أمصارًا؛ لكثرة سكانها وحسن بنائها وكنائسها، وعدد أهل الجزيرة كلهم نحو ١٢٠٠٠٠ نفس، ولفالتة مرسيان؛ أحدهما: كبير يعد من أعظم المراسي، وذلك لسعته بحيث يسع عدة بوارج مع الأمن، ولكونه في وسط بحر الروم فمن ثم كانت الجزيرة بهذا الاعتبار أعظم محل للتجارة على أن تلك المخازن العديدة والشئون الرحيبة المبنية عند هذا المرسى تغري الظاعن والمقيم بتعاطي التجارة فيها، والثاني: صغير، وهو مرسى المراكب التي ترد من البلاد المشوبة بالوباء، ويقال له مرسا مشطو محرفة عن مرسى الشط. أما هواء الجزيرة فالغالب عليه الاعتدال غير أن أرضها صخرة لا تصلح من أصلها للحرث، ومع ذلك فإن السنبلة الواحدة تخرج في تربتها التي ليست بالطيبة ولا الرديئة ست عشرة سنبلة أو عشرين، وفي عام الخصب ثماني وثلاثين، وفي الجيدة إحدى وستين، وأخص أصناف غلالها التي يتجر بها القطن، وقد يبعث منه إلى جهات مختلفة في أوروبا مقدار جزيل، إلا أن بخس ثمنه رغب الأهلين عنه إلى غيره فصاروا يصرفون همتهم في تربية التوت، فإن فيه نفعًا كبيرًا، وقد عُلم بالتجربة أنه يتحصل منه حرير أعلى من حرير إيطاليا. قلت: وقد علم بالتجربة أيضًا أن دود القز لا يعيش في هذه الجزيرة، والمؤلف إنما كتب هذا عند الشروع في تربية التوت. قال: وفي هذه الجزيرة تنمو الأشجار المثمرة لأصناف الفاكهة الطيبة كالرمان، والتفاح، والعنب، والأجاص، وأعظمها الأترج.

فأما عدد الأهلين الآن بالنظر إلى صغر الجزيرة فإنه عظيم جدًّا، ولم يعهد من قبل قط أنها كانت تحوي هذا المقدار، وإنما يعلم أنها كانت مأهولة بأسرها إلا أن بعض جهات منها خلت عن السكان كما يستدل على ذلك من الآثار الباقية، وما وصل إلينا من أسماء بعض قرى لا وجود لها، وسبب ذلك فيما قيل أن المالطيين حين كانوا تحت سلطة الأرجونيين وجدوا أنفسهم عرضة لغزو المسلمين المتتابع، ولهجوم لصوص أفريقية، فجعلوا مقرهم شرقي المدينة صيانة لعرضهم ومالهم وأخلوا الجهة الغربية، وذكر بعض الجغرافيين أن مالطة كانت تسمى في القديم هيبرية، وقال بعض إنه لم يوجد في بلاد أوروبا جزيرة عرفت بهذا الاسم، وإنما هو اسم مدينة قديمة في صقلية، ثم عرفت أخيرًا باسم كامرينة، ولما استوطن الفينيقيون هذه الجزيرة سموها أوجاجية، وسماها اليونانيون مليتة، واشتهر ذلك في سنة ٨٢٢ قبل الميلاد، وسماها المسلمون مالطة، ومعنى ميليسة أو ميليتة في لغة اليونان النحل، وزعم قوم أنها سميت باسم ميليتة ابنة دوريس على جهة التعظيم، وهو مشتق من ميلت في السريانية، وهو اسم إله، ويعرف في غيرها بجونو، ولا يبعد أن يكون ذلك أيضًا في اللغة الفينيقية.

قال: وروى بعض المؤرخين أن بناء مدينة فوتاييلي كان بعد الطوفان بنحو ١٤٠٠ سنة، وأعظم ما فيه عبرة من مبانيها قبل تاريخ النصارى هياكل جونو، وأبروسربين، وهركوليس، وأبولو. فموقع الأول هو بين فيتوريوزة وصانت أنجلو. ويحكى أن ملك نوميدية الذي كان دأبه غزو مالطة كان قد أخذ منه قطعة بديعة من العاج وأهداها إلى أستاذه ففرح بها أولًا غاية الفرح، ولكن لما علم أنها أخذت من الهيكل ردها إلى الملك، والتمس منه أن يعيدها في محلها، وموقع هيكل أبروسربين في قلعة تسمى مطرفة وقد وجد فيه آثار، وموقع هيكل هركوليس في جهة الجزيرة الجنوبية بالقرب من مرسى سيروكو «أي مرسى الشرق» وهو من بناء الفينيقيين وقد وُجد فيه آثار كثيرة، وموقع هيكل أبولو عند نوتابيلي وهو بناء الإغريقيين، وكان ذا رونق عظيم، ويقال إن جملة ما أنفق في بنائه بلغ سبعمائة وتسعين سترسيا، وقد علم ذلك من وجود صنم نصبه له مجلس عام، ووجد أيضًا آثار حمام في محل اسمه قرطين، وممن ذكر حكومة مالطة من الشعراء الأقدمين أوميروس، وأوقيديوس، ويفهم من كلام الأول أن القبيلة التي يقال لها الفياكنس هم أول من استوطنوا هذه الجزيرة، وكانوا ذوي قوة وبأس، ثم خلفهم الفينيقيون وهم من جهات صور وصيدا، وذلك سنة ١٥١٩ قبل الميلاد، وكانوا أهل سعي وكسب وتجارة، فلبثوا فيها نحو أربعمائة وخمسين سنة حتى تغلب عليهم الإغريقيون، ثم سلموها للقرطاجنيين وذلك نحو سنة ٥٢٨ قبل الميلاد، ثم جاء من بعدهم الرومانيون في سنة ٢٨٣ من التاريخ المذكور، فأقروا فيها أحكامهم وسننهم، وأعظم ما حدث في دولة الرومانيين مما لا ينبغي أن يهمل ذكره قدوم ماربولس، وانكسار السفينة به وبمن كان معه وذلك سنة ٥٨ للميلاد في عهد القيصر طيباريوس في موضع يقال له الآن خليج ماربولس، ومنذ ذلك الوقت تنصر أهل الجزيرة، ثم بعد انقراض دولة الرومانيين منها استولت عليها قبيلة الفندلس ثم القوث، ثم تغلب على هؤلاء البليساريون وطردوهم منها، وألحقوها بحكومة البلاد الشرقية، وبقيت كذلك إلى سنة ٧٨٠ فأخذوا في هضم الرعية، فقاموا عليهم وسلموا الجزيرة للمسلمين.

قلت: ذُكر في كتاب الجمع والبيان في أخبار القيروان أن مالطة فُتحت في أيام أبي الغرانيق محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب، توفي سنة إحدى وستين ومائتين، وإنما لقب بالغرانيق؛ لأنه كان مشغوفًا بالصيد، روي أنه بنى قصرًا في السهلين لصيد الغرانيق، أنفق فيه ثلاثين ألف دينار، فكني بهذه الكنية وكان في غاية الجود إلا أنه غلب عليه اللهو والطرب والأكل والشرب، ولم يزل مقيمًا على لذاته طول عمره، انتهى. فعلى هذا فلا معنى لقول المؤلف «وسلموا الجزيرة للمسلمين.» قال: ثم قام الأمير روجر النورماني بعدها بمائتي سنة واسترد الجزيرة، وألحقها بصقلية، فبقيت كذلك نحو سبعين سنة، ولما تزوج القيصر هنري السادس قيصر جرمانية ولية عهد صقلية؛ دخلت مالطة في حكومته وذلك سنة ١٢٦٦، وبقيت كذلك اثنتين وسبعين سنة، وفي أثناء ذلك ولي أخو لويس ملك فرنسا حكم صقلية ومالطة معًا، وبعد سنتين تغلب عليه الأمير بطرس الأراجوني، ثم آل أمرها إلى الملك كرلوس ملك صقلية فولى عليها الفرسان من نظام مار يوحنا برضى الأهلين واتفاق دول أوروبا، وكان قد جرى هذا النظام عندهم أولًا، ثم لما نبغ نابوليون واستولى على البلاد سلمت له الجزيرة على أن يرخص للأهلين في التصرف بحقوقهم، إلا أن الفرنسيس لم يلبثوا أن هتكوا بعض السنن القديمة، وانتهكوا حرمة الكنائس فتحزب عليهم المالطيون تحزبًا لم يخلُ عن سفك دم كثير منهم وعن تلف أموالهم إلى أن أتت الإنكليز فسلموها لهم وكان ذلك في سنة ١٨٠٠.

قلت: لما دخلها نابوليون وجد فيها ألفًا ومائتي مدفع، ومائتي ألف رطل من البارود، وأربعين ألف بندقية، وعدة بوارج و٤٥٠٠ أسير من المسلمين، فأطلقهم وذلك في سنة ١٧٩٨. قال: فأما أخْذ المسلمين لها فإنه كان من باب المصادقة أولى منه من المغالبة، وعاملوا الأهلين أولًا بالرفق والمياسرة، ووقروا سننهم وأحكامهم، وامتزجوا بهم للغاية حتى كأن الجيلين واحدًا كما يتبين ذلك من بقاء لغتهم فيهم.

قال: أما لغة مالطة فذهب بعضهم إلى أنها عربية فاسدة، وذهب آخرون إلى أنها فينيقية؛ لأن اليونانيين بعد أن فتحوا الجزيرة لم يخرجوا منها الفينيقيين؛ بل ظلوا فيها آمنين محافظين على لغتهم، وما برحت مستعملة حتى بعد استيلاء الرومانيين عليها، وأنها لم تتغير في مدة القرطاجنيين؛ لأن لغة هؤلاء أيضًا كانت فينيقية، ومع أن دأب الرومانيين كان حمل الناس على التخلق بأخلاقهم والسلوك بسننهم أينما ملكوا، فلم يجبروا الرعية هنا على التكلم بلغتهم، والدليل على ذلك أن الرومانيين الذين كانوا مع ماربولس سموا المالطيين بربرًا، ولم يكن يطلق هذا الاسم إلا على من جهل اللاتينية واليونانية. قال ثم بقيت في دولة المسلمين أيضًا ولم تتغير، وإنما دخل فيها بعض ألفاظ أجنبية، ويؤيد كونها فينيقية مشابهة بعض ألفاظ منها للغتنا نحو بير وصيد فإنهما في الفينيقية بر وصد، وغير هذا كثير مما له لفظ واحد ومعنى واحد في كلتا اللغتين، والحاصل أن مأخذ اللغة المالطية من الفينيقية أرجح من أن يكون من العربية، وإن كانت قريبة من هذه أيضًا. قلت دليله هذا أوهى من بيت العنكبوت، فإن البير والصيد ينطق بهما في لغتهم كما في لغتنا سواء ما عدا موافقتهما في تصريف الأفعال والأسماء، وفي الضمائر، وغير ذلك من أساليب الكلام كما سيأتي بيان ذلك.

ومن الغريب أن المؤلف لا يعرف الفينيقية ولا العربية ولا المالطية وإن كانت لغته، ويتعرض للحكم والاستدلال، فكيف يحكم على الشيء وهو يجهله، وكيف يقول أولًا إن لغة المسلمين بقيت في أهل مالطة لشدة الالتحام الذي كان بين الفريقين، ثم يقول الآن إنها فينيقية لمجرد وجود كلمتين فيها، وإنما حمله على هذا بغضته وبغضة أهل بلاده للعرب، وتبرئة أنفسهم أنهم ليسوا منهم بل من الفينيقيين؛ إذ كان هؤلاء كما ذكر أرباب جد وتجارة، والعرب عند أهل مالطة كناية عن الهمج؛ وذلك لجهلهم التواريخ، ولأنهم لا يرون الآن إلا صعاليك المغاربة، والظاهر أن المسلمين الذين فتحوا مالطة لم يكونوا من أهل العلم والتمدن كالذين كانوا في صقلية وغيرها، فإني لم أجد فيما قرأت قط من كتب الأدب والتواريخ: قال المالطي، والسيوطي — رحمه الله — لم يغادر في كتاب الأنساب الذي سماه لب اللباب أحدًا من أهل العلم إلا وذكره ما خلا المنسوب إلى مالطة. قال: أما جزيرة غودش وتسمى بالإفرنجية كوتزو، فزعم بعض أن هذه اللفظة يونانية، ومعناها مركب مستدير، وهي كأنها ذيل انقطع من مالطة، وطولها اثنا عشر ميلًا في عرض ستة، وأهلها نحو خمسة عشر ألفًا، وجملة قُراها ست، ومدينتها تسمى الربط «كأنه محرف عن الربض»، وفيها آثار قلعة قديمة، وبقول الجزيرة وفاكهتها طيبة جدًّا، وكذا عسلها حتى إن الأقدمين كانوا يفضلونه على عسل جبل هيلا، ويرد منها إلى مالطة قوارب كثيرة مشحونة بالفاكهة، والبقل، والسمك، وحكومتها ملحقة بمالطة، وكذا كانت في الزمن القديم، وزعم بعض أن مالطة وغودش وكمونة كانت في الأصل جزيرة واحدة، وحدث لها من الزلازل ما فرقها (انتهى المنقول من كتاب مختصر ألفه مكلف في تاريخ مالطة).

وأقول: قد رأيت جزيرة غودش غير مرة، أما اسمها فأظنه محرفًا عن لفظة الهودج، سماها به المسلمون لشدة شبهها به، كما سموا الجزيرتين الأخريين كمونة وفلفلة لصغرهما، إلا أن أهلها ينطقون بها بالغين المعجمة لا بالمهملة كما ينطق به أهل مالطة، ولا أعلم في لغتهم كلمة غيرها قلبت فيها الهاء غينًا، فأما قلب الجيم شينًا فكثير، أما أرضها فأحسن من أرض مالطة، ولا سيما كون حقولها مكشوفة للنظر كحقول فرنسا وإنكلترة لا كحقول أهل مالطة كما يأتي، وهي أزكى ثمرًا ونباتًا، وأهلها أخلص طوية، وفيها الحمير والبغال ضليعة لكنها غير فارهة، وربما بيع الحمار منها بأربعين ليرة، أما شجرها فإن التفاح لا يكاد يكون أكبر من العليق في الشام، وشجر التين منبسط على الأرض، وليس فيها من شجر الجوز سوى شجرة واحدة، وفيها أيضًا نخلة لكنها لا تثمر، وأسماء قراها ومواضعها كلها عربية محضة، ومما أضحكني من خرق أهلها أنهم يدرسون القمح على البهائم من دون نورج، وذلك بأن يربطوا مثلًا كل زوج منها في قرن، ويمشوهما على السنابل، فيثور هذا ناحية وذاك أخرى، وكذا هي في مالطة، ومن غرابة أرض غودش أن جميع محالها مزروعة محروثة إلا ما قابل مالطة، فكأنه من قبيل مراعاة النظير، أما كمونة فليس فيها سوى بيت واحد وكنيسة، وأرضها قليلة الجدوى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤