القول في انحطاطنا

لغط اللاغطون بهذا الانحطاط الملموس في بعض البيئات الإسلامية، وذهبت بهم الظنون كل مذهب في تعليله، فزعم بعضهم أن الدين هو السبب فيه، وأن الإسلام دين تواكُل لا تورِث تعاليمُه غيرَ الخمول. وقال آخرون: إن عقيدة القضاء والقدر، وما تحمل من تسليم واستسلام، نزعتْ من النفوس مضاءها، وجردت القوم من الصفات التي لا تعيش الأُمم الصالحة للبقاء إلا بها.

والحقيقة أن هذا الانحطاط نشأ من مخالفة الدين في بعض ما أمر به، ولو كان انحطاط المسلمين آتيًا من طبيعة دينهم ما كان المسلمون الأولون من العرب، ومن دخل فيه من أجناس البشر مثالًا صالحًا من بُعد الهمم، وصِدْق العزائم، وثقوب الأذهان. ولو كان الدين يُضعف النفوس ما فتح أهلُه هذه الفتوحَ في الشرق والغرب، ولو كان إيمانهم بالقضاء والقدر على ما مَوَّهَ به المموهون، ما باعوا نفوسهم في سبيل الله فجمعوا في دعوتهم بين السعادتين: الدنيوية والأخروية. كانت هذه العقيدة من عوامل إقدامهم على العظائم أيام قوتهم، فلما ضعفوا عزا إليها المماحكون من التأثير ما خالف حقيقتها.

كان المسلمون عجبًا في تسامحهم مع المخالفين، ومياسرتهم في قبول ما عند غيرهم من علوم أخذوها راضين مغتبطين، وما قالوا — وهم في القرنين الأول والثاني، وللدين سلطان شديد على النفوس: إن هذا لم يجئ به نص عن الشارع، ولا قال به أحد من أهل الصدر الأول، وعرفوا أن ما ينفع في الدنيا يكون قوة للدين أيضًا. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً.

هذه الفتوحات التي بَهَرَت الأُمم، وهذه النهضة العلمية التي كان لعلوم القدماء حظٌّ جزيل منها لا تصدر، في الواقع، عن منحطٍّ واهن القوى، ولا عن خامل متماوت يفكر في الآخرة أكثر مما يفكر في الدنيا. المسلمون قرنوا العلم بالعمل ففاقوا خلال أربعة قرون جميع الأُمم المعاصرة لهم، وكان لهم من سيرة صاحب شرعهم وأصحابه مِنْ بعده أعظم مرشد يهديهم الصراط المستقيم. وقد طفح كتابهم بالآيات الحاثَّة على العمل، وفي سيرة الصحابة وصاحبهم أعظم قدوة في هذا الشأن.

ولقد أنشأ المسلمون حضارة باهرة كانت أساس الحضارة الغربية الحاضرة، والبرزخَ بين حضارة الرومان وحضارة العصور الحديثة، وأمة تنشئ حضارة كهذه لا بد أن تكون من شعوب لم يَعُقْها دينها عن النظر في العلوم المعروفة لعهدها. إذًا فالانحطاط الأخير كان بعوارض أخرى ليس الدين سببًا فيه، ودينٌ نهض بالعرب من تلك الجاهلية الجهلاء التي كانوا فيها، وأَوْرَثَهم هذه الأخلاق التي أُثرت عنهم، بريءٌ مما حملوه عليه ونسبوه إليه.

تعددت العوامل التي أدت إلى انتشار الجراثيم المضنية في جسم هذه الأمة المختلفة الأجواء والبيئات، وكانت سرايتها، بادئ بدء، ضئيلة، تغلغلت في العيال والبيت، ثم عَمَّتْ معظم فروع الحياة. ولعله كان من فرض الخليفة الثاني العطاء للمسلمين أول خطوة خطتها الأمة نحو الكسل، وبالعطاء خرجت التجارة من أيدي العرب على ما كان تنبأ بذلك أحد كبار الصحابة وأغنيائهم حكيم بن حزام. وكانت قريش أشرف قبيلة في العرب تعيش بتجارتها حرة، فصارت يأتيها رزقها هينًا لينًا. وفي الإسلام كان أهل كل بلد وجنس يقلدون العرب في سيرتهم الخاصة والعامة، فسَرَى حب الاتكال إلى الأمصار مع طول الأيام.

اتكلت الطبقة الذكية على بيت المال يُرزق منه كل من كان ذا شرف وسابقة ومن كان يعمل للدولة خارج المدينة وداخلها، ومعنى الرزق من بيت المال الانقطاع عن العمل الشخصي المثمر، وانتظار آخر الشهر على الغالب لقبض الراتب. وكان كل من يمت بصلة القرابة إلى آل علي أو إلى آل العباس مثلًا يجب على الدولة أن تَحْبُوه وذريته كل ما تطمح نفسه إليه، وكذلك كل من أبلى بلاء حسنًا في السياسة العربية الجديدة. وكان ذلك من جملة الأعباء الثقيلة التي تنوء بها الحكومات، وتضعف بها نفوس أصحاب العطاء.

بدت طلائع الترف بما جاء به الفتح من الأموال في عهد الخليفة الثاني والثالث، وأخذ يزيد بتوالي الزمن، حتى إذا كان العهد العباسي الأول، أصبح أبناء الدعوة وغيرهم يستأثرون بجزء من الجباية والخراج يتناولونه عفوًا صفوًا. ونما أولاد العباس نموًّا هائلًا حتى بلغوا في مطلع القرن الثالث ثلاثة وثلاثين ألف إنسان يعيشون من بيت المال، ومن ضُمن له عيشه على هذه الصورة، لا يحتاج لأن يعمل بيده ولا بعقله، ويجد من وقته فراغًا يصرفه في شهواته ولَذَّاته، والنساء من أجمل ما يلهو به ويعبث، وكان في مكنة الموسع عليه أن يقتني من الجواري ما يطيب له، وأن يجمع بين أربع زوجات مهبرات، ينسلون أولادًا يدفعون بهم إلى الخادمات يربينهم، وإلى مختلفات الدم والجنس يرضعنهم، وبديهي أن يكون من تلك البيوت المركبة تركيبًا غير طبيعي بؤرة تحاسد وكيد، لحرص كل زوجة على أن يكون لأولادها لا لأولاد ضرتها الشأن الأول في البيت.

نعم عاشت الطبقة العالية المجمع على مكانتها هذا العيش الخُضال، لم يَفُتْها شيء من مباهج الحياة إلا مُتِّعَت به، سواء أَحَلَّهُ الدين أم لم يحله، هذا وهي ترزق من مال لم تتعب في جَنْيه، وهو في ذاته مُرصد لمصالح المسلمين فقط. وربما اعتقد بعض أهل هذه الدولة في سره أن المملكة مزرعته، وأهلها عبيده، وعلى المولى أن يستحصل ويَجِدَّ، وعلى سيده أن يستهلك وينعم، ولقد خَصَّتْ بعض الفرق الإسلامية الزكاة بآل بيت الرسول مع أن الزكاة حرمت عليهم منذ بدء الدعوة فكان ظاهر عملها تكرمة وحرمة، وحقيقته إعانة على تكثير سواد الخاملين في الملة.

تَأَصَّلَ خُلُق الاستجداء في هذا الفريق من ورثة الحسب والنسب حتى وهم الواهمون أن هذا العطاء غير معيب، وأن العمل حِطَة وَضَعَة، ومن النادر أن تجد بينهم من كان على شيء من فقه وعلم، ومن يعيشون بالصدقات ويرون أخذها حقًّا من حقوقهم، وأنهم من طبقة أرقى من سائر الطبقات، لا يحبون أن يتعبوا أنفسهم بالعمل، والعلمُ عندهم، على ما بدا من حالهم، يزق فيهم زقًّا، كالرزق يجب على الرعية أن تقدمه إليهم، وَلِمَ يتعلمون وهم ورثوا الشرف في دمائهم، وصَفَتْ فطرتهم فغدا العلم في متناولهم، وطبيعيَّ التنقل في بيوتهم؟ ومنهم من يعتقد المعتقدون فيهم أنهم معصومون من كل ما يجوز على الخلائق من خطأ وخطيئة، وأنهم وإن ارتكبوا الكبائر فارتكابهم لها معفوٌّ عنه. وغالى أشياعهم فيهم حتى جَوَّزُوا أن يلي أمور المسلمين طفلٌ، فقلْ في دولة يحكمها طفل، وفي رعية هذا مبلغ عقولها من الرضا بحكم طفل.

•••

الزوايا والتكايا والخوانق، وما قام بعد القرن الرابع في بلاد الإسلام من أضرحة ومزارات تُشَدُّ إليها الرحال للتبرك هي عش المعطَّلين والكسالى، إذا استدل بها الغربي على انحطاط المسلمين كان على شبه حق في استدلاله، ومتى رأيت كثرة هذه المصانع في إقليم فاحكم ولا تُبَالِ بأن أهله من أكثر الشعوب انحطاطًا. ومن فضل الله أن معظمها دثر وخرب، لولا أَنْ دَبَّ النشاط في العهد الأخير ببعض الطرق في شمالي إفريقية وفي الهند والسودان. دع ما هنالك من طرقٍ ومنازع دينية جديدة تنادي كلها بأنها مطية السياسة ووليدة الجهل.

والأوقاف وتفنُّن القوم في أصنافها للإبقاء على ثرواتهم من المصادرات، ووقاية لهم ولذرياتهم من الفقر، كانت أيضًا من أعظم ما أدى إلى ضعف النفوس. فعاش المرتزقة منها عيشًا رخيًّا كما عاش أولئك الأشراف، قرونًا، عالةً على بيت المال، كانوا أقرب إلى التواني لما جعلوا من رَيْع ما حَبَسَ الواقف، وأراد به أن يضمن لهم اليسر على الدهر، علة معاشهم فانقطعوا عن السعي وألفوا الانكماش.

زاد الفساد بكثرة المصادرات في الدولة العباسية على ما لم يُعهد بعضه في دولة بني أُمية في المغرب والمشرق. ومَنْ تأمل حال العباسيين في عهود تدليهم، وما اختطوه من خطط في سياستهم المالية، وما كانت تجر إليه من تعذيب وترويع وقتل، وتدبير مؤامرات ودس ودسائس، لا يراهم يخرجون عن حد الإسراف في الأخذ والإسراف في العطاء. يعبث العمال بحقوق الرعية، فيستحلون ابتزاز مالهم، والوزير يستصفي نعمة عماله، والخليفة يصادر وزيره، وهكذا كان مُلْكهم سلسلة من السلب والترف، تؤخذ الجباية بطرق فيها شيء من الظلم، وتصرف في وجوه لا يُجَوِّز العقل ولا الشرع إنفاقها فيها، وكانوا يرون من الطبيعي أن يسرق كل من تولى أُمور العالم وأن يسرقه عماله، والماهر من يفلت من العقوبات، فلا تجري عليه الأحكام التي تجري على قطاع السابلة. ويمكن إيجاز هذه السياسة في جملة واحدة: مَلِك مسرف، ووزير سَلَّاب، وعُمَّال لصوص، وأمة مظلومة.

بدأت مَلَكات الأمة تضعف بضعف الساسة وفساد العامة، وإذا لم يستقم أمر الساسة في أمة لا تقوم لها صناعة، ولا تجتمع لأبنائها ثروة، ولا يخلد لها شيء من المصانع، وفساد العامة بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء، فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقَلَّ فساد الملوك، كما قال الغزالي. وأخذ هؤلاء العلماء على عاتقهم محاربة أئمة العقل من المعتزلة تقربًا من الأمراء السوء، موهمين أنهم يخدمون بذلك الخلافة العباسية؛ لأن المعتزلة ما كانوا يرون حصر الخلافة في قريش، ومن رأيهم أن تفوض لمن هو أصلح لها. وهذه نغمة لا تروق المنحطين من خلفاء العباسيين، على حين كان المعتزلة من أوثق الرجال في قصور النابهين الأولين من بني العباس. حاربوا المعتزلة تحت كل كوكب، ولما لم يستطيعوا إسقاط حججهم بالبرهان؛ عمدوا إلى الاستعانة عليهم بقوة السلطان، حتى إذا قضوا عليهم ظهر الجمود الذي أعقبه سَدُّ باب الاجتهاد في الدين، وبسده ضعفت علوم السنة والقرآن.

حارب العلماء السوء الفلاسفة كما حاربوا علماء الكلام، فبادت علوم الفلسفة وهي تُقَوِّي العقل وتدفع إلى الاجتهاد، فخلفها علم آخر ظهر في القرن الثاني، وكان ضرره كثيرًا، ونعني به: علم التصوف. كان في أصله فلسفة أخلاق كما كان علم الكلام فلسفة الشريعة، فآض لما ادعاه العوامُّ في القرون التالية فلسفة أوهام أدت إلى تعطيل وتضليل، وشُغل به طوائفُ كثيرة من الأمة، كما شغل فريق عظيم بالحديث، وصرفوا فيه أوقاتًا لو صرف بعضها في العلوم لظلَّ المسلمون أرقى الأُمم.

كان التصوف مضيعة للوقت، وتزهيدًا في العمل، وإشغال القلب بمكاشفات وخيالات ما أنزل الله بها من سلطان، وما أضر بهذه الأمة علم، إذا صح أن نسميه علمًا، أكثر مما أضرَّ بها علم التصوف، خصوصًا في عهد أُنشئت باسمه تلك الطرق التي اتخذت منها بعض الدول أدوات لأغراضها، وأقل ما في هذه الطرق فناء المريد في الشيخ، أي: تعطيل إرادته، ومنها ما كان مشايخه يَدَّعُون التصرف في الكون، ومعنى ذلك التصرف عندهم اغتيال من يعاندهم، وقد فعلوا غير مرة، فكانوا أشبه بالفرق التي قامت تفتك بالنفوس، وتدعو لبعض آل البيت بغية قيام دولة جديدة. وربما كان خوف المتفقهة من المتصوفة هو الذي دعاهم إلى التساهل معهم فيما يلحظ أنه ينافي الشرع، ثم إن في إغضاب المتصوفة إغضابَ العوامِّ، والفقهاء يهتمون لرضا هؤلاء أكثر من اهتمامهم برضا الخاصة، والعامة كثرة والخواص قلة، والكثير أجدى من القليل.

كان شياطين الإنس في كل زمن يحسنون استغلال سذاجة السذَّج، وينشرون بينهم ما يَهْوَوْن من مذاهب غريبة، يستحيل أن يعتقد بها إنسان يميز بين المعقول وغير المعقول. مذاهب على ما كان فيها من سخف ظاهر يتجلى بالبداهة لم تعدم أغبياء، وأحيانًا أذكياء، يعتقدونها، ويستميتون في الذَّب عنها، والدعوة إلى الأخذ بها. والبشر الآن بين نقيضين إما إلى إفراط وإما إلى تفريط، وكلما تقدم نحو المدنية كثر الملحدون حتى لَيَسُوغ أن يقال: إن العالم قد انقسم إلى معسكرين معسكر المؤمنين بكل شيء، ومعسكر المنكرين لكل شيء.

وآخر سيئات القضاة السوء أنهم أفتَوا في الدولة العثمانية بأن يرث ابن العالم وظائف أبيه ولو كان طفلًا رضيعًا، أي: أن العلم الإسلامي أمسى يورَّث كما تورث الماشية والعقار، وهذه القاعدة أضاعت حتى الفقه الذي طالما حاربوا من أجله، وكانوا منذ عهد الغزالي في القرن الخامس يحرصون على الفتاوى والأقضية؛ لأنها تقربهم من السلاطين، ولا يُعْنَون بتعلُّم الطب، مثلًا، مع شدة الحاجة إليه؛ لأن «الطب لا يتيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة مال الأيتام، وتقلُّد القضاء والحكومة، والتقدم به على الأقران، والتسلط على الأعداء.»

•••

وبعد، فإن الداعي إلى أكثر هذا الانحطاط أصلان عظيمان تَرَتَّبَتْ عليهما أمور وتَفَرَّعَتْ مسائلُ، وهما: الزهد في المعقولات، والغلوُّ في التعلق بالخيالات. ولقد أوقد العلماء السوء نيران الفتن بين فرق الإسلام، وما كفوا عن مكافحة العلوم العقلية، يَكْشِرون عن أنيابهم لكل من عاناها، ويسلطون عليه العامة والسلاطين، وبعملهم هلك عدد كبير من أهل العقول المستنيرة في كل عصر، فانحط مستوى الذكاء واختل ميزان الفهم، وعلى نسبة ذلك ضعف كل ما له علاقة بالأمور الذهنية، وبهذا الهول والإرهاب انقطعت الرغبة في علوم قد يكون تعلُّمُها من أعظم الأسباب في قتل من ينتحلها، وعلوم الدين، مهما قيل فيها، لا تخرج عما يُقصد منها وهو إعداد النفوس للتزوُّد للمعاد. أما علوم المعاش فأصبحت بغيضة محرمة لا يجرؤ على الاشتغال بها، ولو في سرٍّ، إلا من تساوى في نظره الموت والحياة. وبينا كانت هذه العلوم تزيد على الأيام انتشارًا عند الغربيين كان تراجعها يزيد عند المسلمين، حتى أصبح الإسلام دين آخرةٍ فقط، وكان في أيامه الأولى دين دنيا وآخرة، وغدت النصرانية، وهي في أصلها دين آخرة، دينَ دنيا وأخرى.

سُدَّتْ طرق العقل وحرَّم المتفقهون وحللوا ما شاءوا، فانحط العلم في ديار الإسلام، وكان يُرغب في تحصيله للانتفاع بفوائده فغدا تُدرس بعضُ فروعه للظهور والكسب فقط، وبعد أن كانت خُطب المساجد ودروسها تجمع ضروبًا من التربية الروحية والمدنية، أصبحت كلامًا فارغًا في فضائل الشهور وبركات الأيام، تفيض فيها الموضوعات والإسرائيليات وكل ما فيه توهينُ العزائم، والتزهيد في العالم، والرضا بالفقر، والصبر على البلاء. غدا الخطباء يبثون جهلًا وسخفًا، ولطالما بَثَّ من سبقوهم علمًا وتثقيفًا، على نحو ما كان من القُصَّاص في القرن الأول، كان يقص الناسَ فضلاءُ الأُمة فلما تبدلت الدنيا أصبح يقصهم جُهَلاءُها، وبعد أن كان المؤدبون من طبقة الإمام أبي يوسف والحجاج وعبد الحميد الكاتب وأبي زيد البلخي وضربائهم من العظماء، أصبحوا يؤخذون غالبًا من أي طبقة كانت، فسَرَى الضعف إلى الطبقات العالية وكان محصورًا في الطبقات الدنيا، وأمسى المسلمون في واد والإسلام في واد آخر.

ومن أعظم ما دعا إلى هذا الانحطاط غرام المسلمين في عصور التدلي بصبغ معظم أمور الحياة بصبغة دينية، فأدخلوا الدين في الشئون الدنيوية، وكانوا في عصور الترقِّي إذا اشتغلوا بالدنيا يحصرون جهدهم فيها خاصة ويجعلون الدين بمعزل، يصفُّون بأدبه نفوسهم، ويأتون رُخَصَه كما يأتون عزائمه. حدث هذا في الإسلام كما حدث في النصرانية في الغرب، وقد دام هناك مزج كل شيء بالدين أكثر من ألف سنة ثم تحرر منه في عصر النهضة، أما المسلمون فظلوا على ذلك إلى عهد قريب. وكان الدين في أوربا — كما قال المؤرخ كستل دي كولانج — حاكمًا مطلقًا في الحياة الخاصة والعامة، فالدولة طائفةٌ دينية، والمَلِك حَبْر ديني، والقاضي كاهن متبتل، والقانون شريعة مقدسة، والوطنية تقوى وورع.

نعم كان من خلط الدين بالدنيا حَيْفٌ كبير على كليهما، فقد رأينا المسلمين، لما اشتدت حاجتهم إلى مجاراة أُمم كانت أكثر منهم مدنية، وأوسع ملكًا، وأوفر غنًى، وأشد حيلة، كيف اضطروا إلى التحرر مما تقضي حالةُ العصر العملَ على خلافه، وكيف أن الشعوب الإسلامية التي ظلت توجَّس خيفةً على دينها، متوهمة أن الاشتغال بعلوم العقل يأتي عليه، رجعت القهقرى وتجلَّت فيها أعراض الانحطاط، والشعوب التي فرَّقت بين مطالب المعاش والعقبى وسارت فيها بالعقل، وأعطت كلا منهما حكمه، ضاهت الغربيين في نهوضها، وما جسر أحدٌ أن يتهمها بالخمول.

ومن أقوى أسباب الانحطاط إغفالُ أمر المرأة، وكان الإسلام منحها من الحقوق ما سلبها الجهلُ إياه، وجعل لها مقامًا لم يجعل لها مِثْلَهُ دينٌ سماوي، فحاول المسلم المنحط أن يجردها من حقها الشرعي، فاضطهدها وامتهنها متغافلًا عما كان لها من الكرامة في العصور الإسلامية الأولى. وكان من مغالاة الرجل بإبقائها في الجهل المطبق أن يأتي أولادُها مراض الأجسام والعقول لا خير فيهم لأنفسهم ولا لمن حولهم؛ ذلك لأن أمهم طبعتْهم بطابعها الذي لا تملك غيره، ومن معمل مختل لا يخرج إلا المعتلُّ المختلُّ.

ربما يبدو لبعضهم أن يدعي أن النصارى في بلاد الإسلام — مثلًا — لا يصدق عليهم ما يصدق على المسلمين. قولٌ فيه وجهٌ من الحق ولكن لا على إطلاقه. فالفلاح اللبناني في الديار الشامية، مثلًا، أرقى من الحوراني؛ لأن الأول أقربُ من البحر ومن العمران، وأوربا مَدَّنَتْهُ لغرض سياسي وديني لها. والفلاح الحوراني أُهمل كل الإهمال منذ مئات من السنين، حتى عاد أو كاد إلى حالته في الجاهلية، ومع هذا لو كُتب له من يأخذ بيده إلى سبيل التمدن ما تخلف عن اللبناني إلا بما لا بد منه من الفرق بين طبيعة الإقليمين. وليس القبطيُّ في مصر أرقى من أخيه المسلم وهما يتشابهان كل التشابه. وكان من إنشاء الأميركان في أسيوط لنشر مذهبهم بين الأقباط ما رَفَعَ من شأنهم كما كان الشأنُ في بيروت مع الجامعة الأميركية.

ومن أسباب التباين الظاهر اليوم في بعض القرى المختلطة من النصارى والمسلمين أن هؤلاء شَقُوا قرونًا بالحكومة البائدة، لكثرة ما أهلكت من أولادهم في حروبها وأرهقتهم به من فادح مغارمها ومظالمها، مما كان أهل الذمة في الجملة في حل منه، وكان تقلقل حال المرأة المسلمة وضعف أملها في البقاء وحدها سيدة في بيتها على ما هو الحال عند المسيحيين من العوامل في ضعف البيوت، وبضعفها ضعف مجموع الأمة.

وما خلت الرئاسة الدينية عند النصارى من محاسن، وللرئيس الديني عندهم سلطان على أرواح رعيته ليس للشيخ المسلم بعضُهُ، يدربها، وينظم شئونها، ويؤلف بين قلوبها.

هذا وقد أقبل النصارى على ارتشاف العلم مبكرين قبل المسلمين، ولما جاراهم جيرانهم شاركوهم بما كانوا استأثروا به من الصناعات، واحتكروه من التجارات، وبرَّزوا تبريزهم في معاناة المسائل الحيوية، وخرجوا بالتربية الحديثة عن تزمتهم، فراحوا يقتبسون أمورًا كانوا يعدونها محرمة أو غير شريفة فمارسوها راضين مختارين. أما سقوط الأخلاق، فالطوائفُ كلها متشابهة فيه. لا فرق بين مسلم ونصراني ويهودي وغيرهم من أبناء الطوائف الأخرى، والشأن الأول في الانحطاط ونقيضه للتربية العملية والروابط الاجتماعية. ومن عادة الطوائف الصغيرة في الطوائف الكبيرة أن تتماسك وتتآزر وأن تهمل الكثرة أمرها فتدب فيه الفوضى يعقبها انحطاط.

نعم إن المسلمين، بعد أن تعلموا قليلًا، ما قصروا في أمور الدنيا عن جيرانهم في شيء، وهذه جمعياتهم في الديار الشامية هل تقل عن غيرها من الجمعيات النصرانية نظامًا وحسن عائدة؟ وها هي بيوتهم التجارية ومعاملهم وصناعاتهم هل هي دون مشاريع غيرهم نجاحًا وانتظامًا؟ وفي مصر من الأعمال العظيمة التي قامت بأيدي المسلمين ومثال مما هنالك من نهوض. إذن فالمسألة مسألة تعليم وتربية ومن سبق إليهما فاز ومن تخلف فتح المجال لأعدائه حتى يرموه بكل نقيصة.

•••

أمة عاشت قرونًا في حكم الاستبداد لا ترى رواجًا فيه لغير الاحتيال والاستسلام، يَعُدُّ ولاتها الجهل قوة، والتفرقة بين الأخ وأخيه سياسة، لا يتأتى أن ينشأ جميع أبنائها نشأة صالحة، ودولة يطول عمرها وهي تكذب على شعبها، وشعبها يكذب عليها، مغتبطة بكمِّ الألسن، وشغل الناس بالتافهات، لا يكون رعاياها إلا خانعين جاهلين، والخنوع انحطاطٌ والجهل موت. هذه الأمة التي طال في الخمول سباتها، لطول ما نام عنها رُعاتها، ولكثرة ما عمل على جهلها دعاتها وهداتها، وغفل عن مداواتها أُساتها، أقبلت لعهدنا تنفض عن عاتقها غبار الخمول، وتثب إلى العالم وثبة شجاع يقظ ينشد ضالته، ويضرب من حالوا دون تقدمه، ويقبض بيده على زمام تَرَقِّيه، فكان له ما أراد من منزلة بين المتمدنين يوم اطرح الدعوى، وأقر بما فيه من جهل، يلتمس أسباب الوصول إلى سعادته. وأخذت ربة البيت ترقى رقيًّا محمودًا في الجملة، إذا قيس حاضرها بغابرها، وها هي تنسل أولادًا صالحين حتى ليتعذر على المتعنت أن يصمهم بالنقص الذي كانوا عليه. كل بلد خَيَّمَ الجهل فيه قام الانحطاط في ربوعه على ساق وقدم، وكل أرض توفر أهلها على التغلب على انحطاطهم ينتظرها مستقبلٌ زاهر يبشرها بالهناء والسعادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤