القول في ثوراتنا

الثورة عصيان على ماض رجعي، لتحقيق حاضر فيه تجديد، ونضال بين وضع تَقَادَمَ، فانقطع الرجاء من غنائه، للاستعاضة عنه بآخر يُرجى الخير من إيجاده. تنشب لإبدال حكم حر مطلق بحكم فرد مستبد أو للقضاء على عقيدة بَلِيَت، أو مذهب سياسي يطمع في نشره أو لغير ذلك من المقاصد.

ومن أنواع الثورات ما دعاه غوستاف لبون بالثورة العلمية، قال: إنها من أهم ضروب الثورات، وتحمل نتائج ذات شأن أكثر من الثورات السياسية، وهي أجدر أن تدعى نشوءًا، بالنظر لبطئها، منها أن تدعى بالثورة، وذلك مثل نظريات دروين التي قلبت علم الحياة واكتشافات باستور التي غيرت علم الطب، ونظرية فناء المادة وكان الاعتقاد السائد أن الذرة جزء لا يتجزأ.

ما جرت العادة أن تقلب الثورة أعيان الأشياء، بل تُعَدِّلُها وتُدخل فيها روحًا جديدًا ما كان لها. والثورات أبدًا وليدة الشدة والعنف، لا هوادة فيها ولا لطف، شوكها أكثر من وردها، وجَنْيها على الجملة أقل من بذرها.

ليس في الأرض شر محض ولا خير محض. فقد نعتقد في أمر شرًّا فيسفر عن شيء من الخير، ورُبَّ أمر اعتقدنا صلاحه، وإذا هو ينطوي على شرور، وأمور العالم لا تتصرف كل حين على قواعد المنطق، ولا تُحَدُّ بحدود العقل والبصيرة.

رب ثورة كان لعبها أكثر من جدها، فأنتجت ما لم يكن ينتظر منها، وكم من مغامرة ظُن صاحبها يهذي فإذا هو يؤسس بحنكته دولة، ويشيد لأمةٍ مجدًا، وكم من دولة تداعى بنيانها بغلطة ارتكبها حُماتها، فذهب في ساعة ما تعب المؤسسون في إنشائه أعوامًا.

تتقد نار الثورة من غضبة سرعان ما يسري لهيبها إلى البعيد والقريب، وتتناول الوادع الآمن كما تتناول الغاضب الحانق. وقد يدخل فيها الثائر مرغمًا أحيانًا وراضيًا أحيانًا، وموقنًا بالفوز أحيانًا وقانطًا من كل نصر أحيانًا. ويستبسل فيها من يستبسل ويرى الموت عيانًا، ولا يجوِّز لنفسه عار الهزيمة. وقد يهلك فيها الأبرياء وينجو الثائرون. ورصاصة الثورة طائشة عمياء ليس لها دليل يُبَصِّرها مواقعَ الرمية.

الثورة قرينة الفتوة، والثوار فتية أغمار على الأغلب، يقل فيهم الكهول ويندر الشيوخ. وفي كل ما عرف من ثورات العالم كان حظ الشباب أجزل من حظ غيرهم. وهذه ثورة الإسلام أَمَا كان الشأن الأعظم فيها للفتيان، نصروه بأنفسهم وأموالهم، وهانت عليهم أصعب المكاره في نشر دعوتهم؟ ولما حدت المطامع شبانهم على الاستئثار بالمظاهر والمغانم، كما استأثر بها الشيوخ بزعمهم، فشلت ثورتهم، وبخاصة لأنها كانت للدنيا، والدين يلوح به تلويحًا. كانوا في ثورتهم الدينية جِدَّ مخلصين، وما كانوا كذلك في ثورتهم الدنيوية.

وفي العادة أن تبوءَ الثورات الوطنية بالخيبة متى بدت من الثائرين أمور تنافي العهد الذي عاهدوا، والرأي الذي بيتوا، وهذه الثورة الفرنسية لما أخرجها رجالها عما كان فيها من معان شريفة، وراحوا يقتتلون لمآرب لهم، وأمسى شعارهم الظاهر والباطن ذلك القول المشهور عندهم: «تنح أنت حتى أجلس أنا مكانك» لما أتوا ذلك كانت سيئات ثورتهم أكثر من حسناتها، وكان الواجب على من قاموا قومتهم الجريئة ألا يخلطوا في ثورتهم غير ما قصدوا له، وأن يتركوا المجال لأرباب الأعصاب الهادئة يقضون ويحكمون.

النجاح مضمون للثورات التي تقوم على البصيرة تُزكِّيها، وسلطان الحق من ورائها يؤيدها، والثورات التي تعرو الرعونةُ أربابها، ويضعف لأقل عارض إيمانهم بدعوتهم، وتتحول نفسية من يتولون كبرها في الآخر إلى ما لم يكونوا عليه في الأول أنذرها بالخيبة والإخفاق.

في الثورات تتحكم العواطف، ويتراجع المنطق السليم، وقد يطيش سهم الثائرين فيضطهدون العقل ومن يخاطبهم بالعقل، ويصيبهم الغرور فلا يرون في الوجود غير أنفسهم. وكل ثورة تجمع إلى العاطفةِ النبيلةِ القوةَ العاقلةَ تبلغُ الغايةَ، ومتى تغلب العقلاء على الجهلاء تأتي الدماء المطلولة والأموال المبذولة بأعظم النتائج، وإذا أصبحت الكلمة العليا للزعانف، جاءت النتيجة حقيرةً مثلهم، والحقيرُ حقيرٌ في كل ما يأتي ويذر.

يقول غستاف لبون: مهما كان الداعي إلى الثورة فإنها لا تثمر الثمرة المطلوبة إلا إذا نزلت إلى روح الجماعة. وأعظم الثورات ثورات الأخلاق والأفكار، وعقلية الشعب لا تتبدل بتبديل اسم الحكومة، ولا يُعد قَلْبُ أوضاع أمة تجديدًا في حياتها. وقد حاول رجال الثورة الفرنسية للمرة الأولى منذ كانت الإنسانية أن يقلبوا الناس والمجتمعات باسم العقل، وأعظم ما ناله الشعب استمتاعُهُ بحقوق ما كانت له، ولكن الربح الذي تم بمثل هذا الخراب العظيم كان يمكن الحصول عليه بعد حين بفعل التمدُّن، وقد علمتنا وقائع الثورة أن كل شعب تخلص من القيود الاجتماعية وتُرك للدوافع الفطرية فيه لا يلبث أن يسقط في وحشية الأجداد، وكل ثورة شعبية نجحت كان نجاحُها عودة مؤقتة إلى البربرية. ا.ﻫ.

•••

تقوم الثورات بحساب، شأنُها في ذلك شأن أعمال العالم، وما لم يقم على هذه الطريقة كان فيه الضرر أكثر من النفع. انظروا إلى الثورتين الأخيرتين في مصر والشام تشهدوا النجاح قرين الثورة المصرية الأخيرة؛ لأن القائمين بها كانوا ممن نجذتهم التجارب، ودرسوا ثورات الأُمم، واعتبروا بالثورات المصرية التي أخفقوا فيها، ولما عادوا يروضون ثورتهم برأي حصيف، مقدرين الممكن وغير الممكن، عامدين إلى السياسة يستخدمونها أولًا، وكان مقدار العقل في حركتهم أكثر من العاطفة، أثمرت لهم ثورتهم بعض ما كانوا يرتجونه منها.

أما الثورة الشامية فمازجتها العاطفة أكثر مما يجب، ارتجلت ارتجالًا قبل أن تتخذ لها الأسباب. وكان فيها الخصم شديد البأس، وعدمت النسبة بين قوة الثائرين ومن ثاروا عليهم. وليس في صفوف الزعماء وحدة في الرأي ولا في العمل. وما استطاعت الدولة التي كانت تحنو على ثورتهم أن تنجدها جهارًا فأخفقت، خلافًا للثورة التركية الأخيرة فإن مَنْ أرادها من الدول عاون أربابها على خصمهم معاونة فعلية، وما قدِّر للدولة التي دفعت بخصيمة الترك إلى الهاوية أن تأخذ بيدها إلى النهاية. وكان عدو الأتراك الظاهر دونهم شجاعة ودربة وأَرْيَحِية، وهل كان الثائرون إلا بقايا دولة حربية قديمة، وفلول جيش مدرب مشهور بمواقفه، وصدقوا القتال وهم موقنون أن في تراجعهم فناءَهم، وفي وِنائهم انحلال أمرهم على الدهر، حاربوا وهم على عِرْق من الحق، وأخلصوا في دفاعهم عن حوزتهم فعطف عليهم من يحبهم ومن لا يحبهم. أما محاربوهم فحاربوا تؤزهم أزة اعتداء مغرورين بوعود خلابة. ونجح العراقيون في ثورتهم؛ لأنهم كانوا مخلصين فيها، وقامت بعض أصقاع العراق بها بعامل ديني وقومي.

ونجح ابن سعود بثورته فأسس ملكًا واستولى على بلاد أجداده نجد والأحساء، ثم على الحرمين الشريفين وما إليهما. ولم تنجح الثورات التي ثار أهلها على ابن سعود؛ لأنها كانت بعوامل مجهولة المقاصد، وهو قويٌّ بجيشه وسعة حيلته، فمزق شمل المتآمرين عليه الثائرين على سلطانه، كما لم تنجح ثورة الأشوريين في العراق وإن قيل: إن أيدي قوية كانت تعضدها.

قد لا يواتي النجاح المرتجى للثورة في سبيل فكرة أو عقيدة إذا عمد فيها إلى السرعة، وهذا النوع من الثورات تعوزه الرَّوِيَّةُ والأناة. ورأينا ثورة الترك على كل ما رأى أنصار الجمهورية القضاء عليه من أوضاعهم لاقتباس كل ما هو غربي، والمبالغة في نزع عقائدَ لهم عزيزٌ نزعُها على مَنْ اعتقدوها، لم يكتب لها الظفر المطلوب لتوهم دعاتها أن القوة المادية هي كل شيء، ونسوا أن من المسائل ما يعوزه الزمن ليعمل عمله، أكثر مما ينقصه سن قانون جديد وإبطال آخر متأصل في اللحم والدم، والأمة التي تسخو كثيرًا بنشر القوانين، تُبطل منها وتُثبت مسرعة، تكون إلى تَقَلْقُل في حياتها.

لما ثارت مصر والشام على الجمود، وصحَّت نية قادة الرأي فيهما على الأخذ من مدنية الغرب، مع الاحتفاظ بمقدسات الأمة نجحت ثورتهما؛ لأنها كانت مقرونة بهدوء وبصيرة فصح أن تدعى نهضة ونشوءًا، لا ثورة تأتي على الأخضر واليابس. راعى رجال هذه الثورة الفكرية اعتبارات كثيرة وأدخلوا إصلاحهم على أمتهم متدرجين فيه، متوقعين من الزمن تحقيق رغائبهم الباقية، ولئن أبطأ تأثيرها بعض الشيء لقد كان ما دخل منه راسخًا رسوخًا يتعذر استئصاله.

هَامَ رجال الثورة التركية بكل ما أتى من طريق الغرب، وعَدُّوا اقتباسه سعادة وما عداه شقاء. وضربوا القديم ضربة لم يبق معها فيه غير أمور ما أمكن التحلل منها، فكان شأنهم شأن من ألَّفوا لغة جديدة وفرضوا على أمة تَعَلُّمَها في الحال، وقالوا لها: انسي لغتك الأصلية، وتَخَاطَبِي بما صنعنا لك من لغة مرتجلة، وشتان بين لغة ركبت تركيبًا مصنَّعًا، وأخرى صنعتها الأيام وكملت بسنة الترقي الطبيعي.

كانت مجموعة مدنية مصر والشام أرجح في الميزان من مجموعة مدنية تركيا، إلا الجيش فإن الترك امتازوا بجيشهم منذ كانت لهم دولة. وكانوا في كل عصر عبارة عن معسكر لا عناية لأهله إلا بما كان ذا علاقة مباشرة بالقتال والصيال. أما الجيش بمصر والشام في العصر الأخير فقد ضعف بفعل القائمين بالأمر، وكانوا يحاولون نزع الروح الجندية من أهل القطرين. وكان هذا الروح ظاهرًا الظهور كله في الأعصر الماضية، وما قوة جيش محمد علي بخافية على العارفين، فقد كان أرقى من جيش الدولة العثمانية صاحبة الماضي الحربي العظيم، وما كانت مصر يومئذ غير ولاية من ولايات السلطنة.

ولنا أن نقول بعد هذا: إن الثورات الفكرية قد لا تسرع نتائجها كما تسرع الثورات السياسية، وثورة الفكر لا تتوقف على القوة فقط ولا بد فيها من الأخذ بقوًى أخرى. الثورة السياسية هَبَّةٌ فسكونٌ، والثورة الفكرية متوقفة أبدًا على استعداد طويل ثم تهب من ذاتها بريح طيبة.

من مقومات الحياة في الأُمم ما يتوقف نجاحه على النشوء الطبيعي يجري حكمه فيها. فقد حرص رجال الثورة التركية الأخيرة على إدخال الروح التجاري والزراعي والصناعي في أُمتهم فلم يحصلوا على كبير أمر بعد عمل نحو ربع قرن. وظل العرب أرقى من الترك في هذا المعنى، شهدت لذلك معارض تركيا ومعارض الشام ومصر، وأيد ذلك الواقع المحسوس. والمظنون أن رجال الترك لن يوفَّقوا إلى بلوغ الهدف الذي يتطالون إليه من دفع أُمتهم إلى مجاراة الشعوب الأوربية قبل مضي أجيال كثيرة.

مشاكل الأُمم لا تنحل بقانون إن لم تكن جراثيم التراقي مبثوثة في الجسم كله، والنقص في الخَلق والخُلق لا يُجبر في سنين.

مَثَّلْنَا لِمَا قرَّرنا بأمثلة مدركة قريبة منا، ولا يعدم الناظر في التاريخ العام عشرات من الأمثلة من هذا القبيل، يستأنس بها في حكمة الثورات وقيام الجماعات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤