القول في تمدننا

قالوا إن المتمدن من يعرف بعض أسرار القوى المحيطة به، والهمجي هو الذي لا يفهم شيئًا من أمور العالم. ومعرفة الأشياء تستلزم إمكان الانتفاع بها وتطبيقها على حاجاتنا. ونكون في عداد الممدنين متى عرفنا أن الجدري ينشأ من جرثومة، وأن في إمكاننا وقاية أجسامنا إذ اتقينا تلك الجرثومة بجرثومة أخرى، والتمدن جزء من معرفة الأشياء. وهو بالمعنى الصحيح الذي يدل عليه مقدار عظيم من السعادة تحف حياتنا البشرية، ولا تقوم إلا بمعرفة الأشياء وباستعمالها المفيد. يضاف إليها ما له علاقة بالأخلاق كالتساند، والإخاء الإنساني، وحرمة الحق.

وعرَّفوا المدنية بأنها وحدة مركبة من الأفكار السائدة والعادات الراسخة التي يعيش في سلطانها كل إنسان مجتمعًا مع غيره، ويوصف بالمتمدن كل مكان جمع أناسًا كانت بينهم علائق مستقرة أو متزلزلة، وكان من هذه الصلات بعض قوة أو ضعف. والفرق بين الشعوب الهمجية والشعوب المدنية ما تمتعت به هذه من أوضاع سياسية وإدارية، وثروة عامة، وثقافة أدبية وفنية وعلمية، واستقلال نسبي، ورقيٍّ اقتصادي وعقلي وأدبي. والرجل المتمدن هو الذي يرمي ببصره إلى المستقبل، والمتوحش يعيش كل يوم بيومه؛ ويستهلك في الحال كل ما يستحصل، ويسرف في قوته تلذذًا بالإسراف واللعب فقط، وهو أبدًا ينظر إلى الماضي ويؤخذ بالحاضر ولا ينظر إلى المستقبل، وقال بعضهم: تعرف درجة الأمة المتمدنة من مقدار ما تصرفه من الصابون وطوابع البريد.

ولقد توفرت بعض الأقطار العربية وفي مقدمتها مصر على السير في طرائق المتمدنين من أهل الحضارة الحديثة، فبلغت بعد ثلاثة أجيال درجة عالية من التمدن، وظل الجمهور الأعظم من بنيها على صبغته القديمة، أي: أن مسافة التمدين ما زالت شاسعة بين ابن الريف وابن المدينة، وكذلك يقال في الشام فإن المدنية دخلت مدنها وظلت البوادي ومعظم القرى على ما كانت عليه. وإنك لَتَرَى في هذين القطرين لعهدنا تمدنًا لا يقل عن تمدن الشعوب الأوربية، وإلى جانبه انحطاطًا لا نسبة بينه وبين الترقِّي الذي بلغه سكان الحواضر.

لا جرم أن مظاهر الحضارة في كل بلد من بلدان الشرق متفاوتة، فابن المدينة غير ابن القرية أبدًا، والتفاوت عظيم بين الحواضر والأرياف وبين القَرَوي والبلدي، وأكثر منه بين البدوي والحضري، والمتعلم والجاهل.

قضى العلم الحديث على كثير من الخرافات كان الناس في العصر السالف يعدونها حقائق ثابتة، فيعتقدون، مثلًا، أن القمر يُخسف بفِعْل حوت يهمُّ بأكله، وأنهم إذا ضربوا له بما يَهيجه يُفلت من أنياب الحوت، وأن الأرض واقفة على قرن ثور، وأنها ثابتة لا تدور. وأن الطواعين والأوبئة من فعل الجن، ولا يعتقدون بالعدوى ولا يعترفون بوجود الجراثيم، مع أن في السيرة النبوية أحاديثَ تحذر من مداناة المريض، وتقول بالنسمات المهلكة، أي: بالجراثيم. وكانوا يتطيرون ويتيمنون بالأيام والأناسي والحيوان والطير، ويتطببون بالأدعية والتعاويذ، ويحبون بالطلاسم والرُّقَى، ويؤمنون بالمغيَّبات والكرامات، ويأنسون بالخرافات والخزعبلات.

كان الناس، حاشا العلماء، يحسنون ظنهم بالطرق، فبطل هذا الاعتقاد في كثير من المدن والقرى، وإذا ذكرت الآن أمام أناس كانوا ممن أسعدهم الحظ بأن تعلموا التعليم الابتدائي، أو ممن عاشوا في بيئة راقية وسمعوا كلام المثقفين، ضحكوا وسخروا. وعلى هذا غدا الجمهور يستعمل عقله، وكان مدة قرون يسلم بكل ما سمع من كبير، أو ممن يعتقد فيه الفهم.

وكان يهون على السُّذَّج أن يقضوا أيامًا طويلة كل سنة لحضور الموالد وزيارة المشاهد، وكان الناس في الشام ومصر والعراق يعطِّلون أشغالهم كل سنة للاشتراك بمولد بعض الأولياء، وندبة أحد الشهداء، فقلَّ عدد المعتقدين بذلك، وأبطلت الحكومات هذه الاجتماعات الضارة فعُدَّ ذلك من علائم التمدن، وكم من اعتقاد كان راسخًا في الصدور بتسلسل الجهل من الأجداد إلى الأحفاد، فعاق المرءَ عن التعلُّم والأخذ بالأسباب، ونُزع، بفعل الحضارة، من الصدور، ووقف المعتدلون من المتعلمين عند حد ما رسمته الشريعة من المعتقدات، ونبذوا ما زاد عليها، وهذا أيضًا من التمدن.

كان معظم الأمة يؤمن إيمانًا غريبًا بالسحر والتنجيم، واستخراج البخت والفأل، وتأثير العين ونفع الطِّلِّسْمات والرُّقَى، فغدا اليوم صغار فتيان المدارس ينكرون هذه الأمور، ولا يسع آباءَهم وأمهاتهم إلا أن يقلدوهم في معتقدهم، وهذا اعتراف ضمني من الأميين، أو ممن كان في طبقتهم، بأن المتعلم أكثر تمدنًا ممن لم يتثقف. كانوا إلى عهد قريب يؤخذون بكلام كل من يقص عليهم غريبة فيعتقدون، للحال، صحتها ويعظمون أمر مَنْ رواها، فاضمحلَّ أكثرُ ذلك، وهذا أيضًا من المدنية، حل العقل محل الجهل.

وإذا جئنا نوازن بين حالنا اليوم وحالنا في أواخر القرن الماضي، من حيث الاجتماع والتنظيم والبعد ما أمكن عن التخريف والاعتقاد بالمجهولات، نشهد مغتبطين أنا خطونا خطوات واسعة في خمسين سنة في سبيل التمدن، وإنا لنرى ابن الثامنة عشرة ممن درس الدروس الثانوية أرقى بعقله ومعرفته من معظم من يروي التاريخ أخبارهم، ويشير إلى أنهم من العلماء والأدباء، وعلى هذا ترى أهل الطبقة الوسطى اليوم يعيشون عيشة تقرب من عيش أعظم قدماء الخلفاء، بما اقتبسوه من مقومات المدنية، وحمله العرب إليهم من قوانين وأنظمة وأوضاع ومصطلحات في البيوت والمجالس والموائد والمراسم والملاهي والملابس والآلات وغيرها، وكلما عمت هذه الأفكار والأوضاع، وتناولها الأميون كما تناولها المتعلمون، زادت سعادة البيوت وسعادة المجتمعات.

من علائم المدنية ما نشهده من مراعاة النساء في المجالس والطرق والسكك الحديدية والترام والمقاهي والمطاعم والفنادق، وكُنَّ منذ جيل موضع سخرية وامتهان، وهذا لا شك من آثار استمتاع النساء بحقوقهن في هذا العصر، وتبدُّل عظيم في نظر القوم إليهن. ومعنى هذا أن ما تنعم به المرأة من الحرمة والكرامة أكثر مما كانت عليه في الدهر السالف.

ذكر المقريزي في السلوك — في حوادث سنة ثمان وسبعمائة — أن والي قلعة القاهرة الملقب بالمجنون كان يتسلط على النساط فيخرج أيام المواسم إلى القرافة وينكل بهن، فامتنعن من الخروج في زمانه إلا لأمر مهم مثل الحمَّام وغيره. وذكر في حوادث سنة ٧٣٢ أن الملك محمد بن قلاوون أراد الاحتفال بعرس ابنه فجلس على باب القصر وتقدم الأمراء، على قدر مراتبهم، واحدًا بعد واحد ومعهم الشموع، فإذا قدم الواحد ما أحضره من الشمع قَبَّلَ الأرضَ وتأخر، وفي ليلة العرس جلس السلطان على باب القصر أيضًا وجلس ابنه تجاهه، وأقبل الأمراء جميعًا وكل أمير يحمل بنفسه شمعة وخلفه مماليكه تحمل الشمع فتقدموا، على قدر رتبهم، وقبلوا الأرض واحدًا بعد واحد طول ليلهم، حتى إذا كان آخر الليل نهض السلطان وعبر إلى حيث مجتمع النساء فقامت نساء الأمراء بأسرهن وقبلن الأرض واحدة بعد أخرى، وهي تقدم ما أحضرت من التحف الفاخرة والنقوط حتى انقضت تقادمهن جميعًا، ورسم السلطان برقصهن عن آخرهن فرقصن أيضًا واحدة بعد واحدة، والمغاني تضربن بدفوفهن وأنواع المال من الذهب والفضة وشقق الحرير تلقى على المغنيات، وتقبيل الرجال والنساء الأرض، على مخالفته للدين، أكبرُ دليلٍ على عبوديةٍ يفرضها مماليكُ على الأحرار.

وذكر ابن الفرات في حوادث سنة ٧٩٣ﻫ أنه صدر مرسوم الأمير الكبير في القاهرة بأن لا تخرج امرأة من بيتها إلى التربة، وأن كل من وجد منهن في تربة من الترب وُسِّطَت هي والمكاري والحمار،١ وألا يتفرج أحد في مركب في البحر، وأن من وُجد في مركب أُحرق هو والمركب والنوتي، فتحامى الناس ذلك في أيام العيد، ولم يجسر أحد أن يتفرج، ولم تجسر امرأة أن تطلع إلى القرافة ولا إلى الترب.

وذكر أيضًا في حوادث تلك السنة أن نائب الغيبة في القاهرة أرسل جماعة من الأُوجاقية السلطانية ومعهم جماعة من مماليكه، فداروا الأسواق والقياسر والطرقات بالقاهرة وظواهرها، فقطَّعوا أكمام النساء الواسعة بسكاكين كانت معهم، وحصل لبعض النساء رجة عظيمة؛ لأنهم كانوا يأتون المرأة على حين غفلة ويمسكونها حتى يقطعوا كمها، وبعض النساء وضعن حملهن من الرجة، وسقط بعضهن مغشيًّا عليه، وامتنع النساء من لبس القمصان بالأكمام الواسعة وتفصيلها. قال المؤرخ: ولو تم ذلك لكان خيرًا عظيمًا، لكن النساء أعدن ذلك بعد حضور السلطان من الشام. ا.ﻫ.

جرى هذا في القاهرة أعظم حواضر الإسلام مدنيةً في القرن الثامن كما شهد بذلك ابن خلدون المؤرخ العظيم.

وذكر ابن كثير في حوادث سنة اثنتين وستين وسبعمائة أنه نادى مناد في دمشق من جهة نائب السلطان أن النساء يمشين في تستر، ويلبسن أزرهن إلى أسفل من سائر ثيابهن، ولا يظهرن زينة ولا يدًا، وقال في حوادث السنة التالية وهو مما لا يشعر بضعف المدنية فقط بل يدل على تحكم بارد وتعصب جامد. نودي في البلد أن نساء أهل الذمة لا تدخل الحمامات مع المسلمات بل تدخل حمامات تُخَصُّ بهن، ومن دخل من أهل الذمة مع الرجال المسلمين يكون في رقابهم علامات يُعرفون بها من أجراس وخواتيمَ ونحو ذلك، وأمر نساء أهل الذمة بأن تلبس المرأة خُفَّيها متخالفين في اللون كأن يكون أحدهما أبيض والآخر أصفر أو نحو ذلك!

وقال في حوادث سنة إحدى وستين وستمائة: إنه ورد كتاب من السلطان بإلزام القلندرية بترك لحاهم وحواجبهم وشواربهم، وإلزامهم بزي المسلمين وترك زي الأعاجم والمجوس، فلا يُمَكَّن أحد منهم من الدخول إلى بلاد السلطان حتى يترك هذا الزي المبتدع واللباس المستشنع، ومن لا يلتزم بذلك يُعَزَّرُ شرعًا ويُقلع من قراره قلعًا. قال ابن كثير بعد إيراد هذا: وكان اللائق أن يؤمروا بترك أكل الحشيشة الخسيسة، وإقامة الحد عليهم بأكلها وسكرها.

وما ندري ما الذي حدا السلطان جقمق ملك مصر والشام على أن يرسم سنة ٨٥٥ بحرق شخوص خيال الظل (القره كوز) جميعها وأبطالها كما روى ابن إياس. أبطل هذا الملهى المباح الذي لا يخلو من عبرة وتذكير، بينما كان الغربيون يرتقون في التمثيل الذي كان منه أنفع الأثر في نهضتهم ونهضة الرومان واليونان من قبلهم.

ولك أن تعِد في الممدَّنين كل من لا يؤذي جاره ولا مواكله ولا رفيقه ولا المارة مهما كانت درجاتهم، ولا يعبث بالقوانين والشرائع، وكل من يعرف أين تنتهي حريته الشخصية وتبدأ حرية غيره. فمن يلزم التؤدة والوقار في الجوامع والبيع ودور التمثيل والموسيقى والأندية والمتنزهات، ويظهر بمظهر المعتدل في شعوره وحركاته وسمته، ونظافة ثيابه وأطرافه، ويتحرج من إيذاء مُثافنه بصُنانه وبَخَره يُعَدُّ من الممدنين، وكذلك كل من لا يزين له حب فضول البحث في خصوصيات جيرانه ومواطنيه ومساكنيه، إلا إذا كان من وراء ذلك فائدةٌ عامة.

وكل من تجمل وتزين، رجلًا كان أو امرأة، على شرط عدم الإفراط في ذلك، يعد ممدنًا، ومن يهون عليه خرق النظام، فهو في أقصى درجات التوحش، وإذا وقف المرء عند حدود الآداب العامة، وصان لسانه عن استعمال ألفاظ الفحش والبذاءات، واقتصر في كلامه على ما إذا أورده أمام العذارى لا يخجلن منه، عُدَّ عمله عمل المتمدنين، وكلما أدرك المرء ألَّا سعادة له ولذويه إلا إذا اهتم للمصالح العامة اهتمامه بمصالحه الخاصة، وأن سعادة غيره سعادة له، وأن شقاء وطنه يزيد إن لم يشارك مشاركة فعلية في إنهاضه، وأنه إذا لم يأت هذا مختارًا عُدَّ لصًّا في أرضه، يستمتع بخيراتها ويُلقي على غارب غيره متاعبها.

مثال من تمدننا وتوحش أهل القرون الغابرة. ما أظن إنسانًا نظر قليلًا في كتب الأدب إلا ورأى بعض شعرائنا يصدِّعون الآذان بما قالوه في وصف الخلخال، وما تغزلوا به وأكبروا من جماله، وما أبدوا من عجبهم من حركته وسكونه، ومن لم يتصور ذاك القيد الثقيل في رِجْل المرأة لا يدرك مقدار العبودية التي فرضها الرجال على النساء في غابر الأزمان، ولا يعرف مدى قلة الذوق من عَدَّ مثل هذه الحديدة اللامعة من المغريات.

ما الخلخال في الواقع إلا صورة صادقة من عصور الهمجية الأولى، ومَنْ تأمله حق التأمل يدرك مضرته التي أعجب بها الشعراء، ويحكم على الذوق المتقهقر عندهم. إلى اليوم ترون صورة من الخلخال في أرجل بعض الفلاحات في ريف مصر وريف الشام، كما تجدون الفتيات الصينيات يحصرن أرجلهن في أحذية ضيقة من الحديد حتى إذا شببن بقيتْ أرجلهن صغيرةً؛ دليل الجمال!

كلما فكرت في هذا الخلخال أجد فيه البشاعة كلها والهمجية كلها، وكلما رأيت كيف بطل استعماله عند ساكنات المدن لا يخامرني شك في أننا قطعنا مراحل طويلة في طريق المدنية. وكذلك كلما رأيت الخزام الذي يخزمون به أنف الفتاة وقد أُبطل أيضًا في المدن، ولم يبطل عند البدويات وبعض القرويات، كما لم يبطل إلى اليوم ثقب أذني الفتاة ليعلق فيها القرطان، ولم يبطل الوشم في أكثر الأرجاء العربية، يسوِّدون بالزرقة الساعدين واليدين والرجلين والوجه وأماكن أخرى من الجسم، فتظل مشوهة طول حياتها، وتفقد كثيرًا من جمالها ويشاركها في هذا التشويه الرجال.

كلما تأملت هذه التشويهات يحمل بها، في الأكثر، القوي على الضعيف، حتى أصبحت على توالي الأحقاب من الأمور المتعارفة التي لا تنكر، أحمد الله على أَنْ خَلَقَنَا في هذا العصر، وخلق لنا عقولًا نميز بها الجميل والقبيح والنافع والضار. ومن الهمجية جرأة النساء في مصر والحجاز على قطع جزء من جسم الفتاة لأمور يتوهمنها منها إذا شبت وكبرت، يغيرن بذلك صنع الخالق مع مخلوقةٍ لا تملك أمر نفسها.

ومن يزر متحفًا من المتاحف أو دارًا من الدور القديمة في القرى النائية عن المدن يقع نظره على ما كان النساء يستعملنه من اللباس وأدوات الزينة، وما طاسات الفضة أو الحديد التي كانت توضع على رءوس العرائس وتلك الأحزمة والزنانير الغليظة التي يتمنطقن بها إلى الآن، وتلك العمائم الثقيلة التي تلاث على طربوش غليظ يتعمم بها النساء كالرجال في بعض بلاد الريف إلا صورة من تلك الهمجية، تُقَيَّدُ مع الخلخال والخزام والوشم في جريدة واحدة.

والأمة في القديم كما هي في العصر الحديث قد تخرج عن المعقول في عاداتها كما خرج المتمدنات لعهدنا في صبغ أظافرهن وإطالتها وصبغ شفاههن بالحمرة مثلًا.

ومن الغريب أن هؤلاء البائسات في تلك العصور كن يألفن هذه العادات ولا يرضين عنها بديلًا شأن بعض المحجبات اليوم يرضيهن حجابهن أكثر من السفور مع ما في هذا من الفرج والحرية لهن. روى الجزري أن نائب السلطنة بدمشق رسم في سنة ٦٩٠ أن لا ترجع امرأة تلبس عمامة كبيرة ومن خالفت المرسوم غُلِّظت عقوبتها، فامتنع النساء من ذلك على كُرْهٍ منهن.

كانت أدوات الزينة عند النساء في حالة ابتدائية، فمن كان لها في القرون الوسطى مكحلة من بلور وميل من ذهب وأقراط تعلقها بأذنيها ومخانق وعقود تنيطها بعنقها تعد ممدنة، ومن يكون في جملة صداقها زوج أساور ذهب وثوب طريف (طرفنده) عليه أزرار فضة، تُعدُّ ممدنة.

ومظاهر التمدن تختلف باختلاف العصور فقد رأت مصر في عهد الملك الناصر من المماليك عهدَ رخاء. ذكر ابن تغري بردي أن النساء في زمانه استجدَّت الطرحة كل طرحة بعشرة آلاف دينار وما دون ذلك إلى خمسة آلاف دينار، والفرجيات بمثل ذلك، واستجدَّ النساء في زمانه الخلاخيل الذهب والأطواق المرصعة بالجواهر الثمينة والقباقيب الذهب المرصعة والأُزر الحرير وغير ذلك، والغالب أن هذا الترف كان خاصًّا بنساء الملوك والأمراء ومن وازاهم.

وماذا كان النساء يقلن لو عُدْن إلى الأرض وشاهدن هذه الأزياء الجديدة عند بنات جنسهن، وهذه الحلي وهذه الزينة، ورأين المزركش والمزمك والمقطع، وقِسْنَهُ بتلك الثياب التي ألفنها وما فيها ما ينم عن ذوق ولا عن رفاهية تذكر؟ لا جرم أنهن كنَّ يؤمنَّ بأنهنَّ كن على غاية من التوحش بالقياس إلى ما حدث بعدهنَّ من الرقيِّ الذي كان من انتشار العلم وما تبعه من مدنية.

هوامش

(١) أي قطعت قطعتين من وسطها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤