القول في المبشرين

كانت التربية العامة في هذا الشرق العربي قبل أن يوافيه دعاة التبشير من الغرب تربية مشتركة فيها سذاجة الفطرة، وتعاطف الجيران، وتراحم أبناء الوطن الواحد. فلما أسسوا في القرن الماضي مدارسهم عالجوا عقول من فزعوا إليهم ليعلموهم ويهدوهم بأساليب لهم خاصة، فأنشئوا منهم جيلًا جديدًا انقسم في جملته إلى معسكرين يُباين كل منهما الآخر، الأول: لاتيني أفرنسي، والثاني: برتستانتي أنكلوساكسوني. صاغ اللاتين تلامذتهم في قالبهم، ولقَّنوهم معارف تنقصها حرية النظر وفيها شيء من التعصب والجمود، وصبغ الأمريكان طلابهم بصبغتهم، وصبغتهم أقربُ إلى حرية البحث، وكانت وطأة المبشرين في الشام وشمال إفريقية أشد منها في كل قطر عربي ويليها في ذلك مصر ثم العراق.

كانت الدعوة إلى البرتستانتية، بادئ بدء، المحور الذي دارتْ عليه هذه الدعايات أو التي أنشأت هذه الدعايات، فتألفت جمعيات منظمة تصدَّق عليها أرباب الخير عندهم، وعاونتْها الدول ذوات الشأن بمالها وسلطانها، وكان للولم يبق أمامهن عائق يعوقهن عن التعلم ونشرطوائف الباباوية في هذه السبيل شدة وغرامة؛ ذلك لأن البرتستانتية جاءت لتنتزع منها بعض أبنائها، كما صبأ إليها بعض أبناء الروم الأرثوذكس، وظلَّ في الطوائف الإسلامية من انتحل البرتستانتية بل هم أندر من النادر.

نشرت هذه المدارس أفكارًا أنتجت تراخي صلات الوطنية، وانحلال عقدة القومية، وبثَّت بذور العداوات بين الديانات، فحركت العرق الحساس في البنين والبنات على ما يَضرُّ بهم وبغيرهم. واستحال من تخرج بالمبشرين ودرس لغاتهم ومذاهبهم عدوًّا لمن يخالفه إلا قليلًا. وتجلى أثر التخالف في الأكثر بعد الحرب العالمية في بعض الأفكار، وقد لقي غير المسلم من رعاية الحاكم الجديد ما جسره على أمور كان منها مخاشنة من طالما حاسنوه فعاش معهم بسلام.

والحاصل أن مدرسة التربية الجديدة عملت عملًا صالحًا وآخر سيئًا. ومن سيئاتها أنها١ غيَّرت من طباع من اختلفوا إليها، وأورثتهم عقلية ما كانت لهم، ولقنتهم ثقافة نَفَّرَتْهم من بلادهم وأهلها، وأقلُّ ما جلبتْ من ويلات أن أكثر من درسوا فيها هاموا على وجوههم في العالم، وهاجر معظمهم هجرة قطعية إلى بلد غير عربي فذابوا وأبناؤهم في بوتقتها مع ما جَنَوا من حطام. ذلك لأنهم نشئوا لا عربًا ولا إفرنجًا يهون عليهم التخلي عن مشخصاتهم والاندماج في الجنسية التي تقبلهم. ومن أثر تلك التربية أن قال أحد رؤساء لبنان، لمن ذكر له أن هذا الجبل عربي والواجب أن يسير مع العرب: إنا لَقوم قد وجهنا وجوهنا نحو الغرب ولا أرب لنا أن نعود إلى الشرق. أما أنتم معاشر المُنادين بالعرب والعربية فالحقوا بالجزيرة التي أخرجتكم. أو ما هذا معناه.

وتذرع أحد رؤساء الجمهورية في لبنان بإلغاء مدارس الحكومة بدعوى أن في مدارس المبشرين والمدارس الطائفية ما يُغني عنها. ومعنى إغلاق هذا النوع من المدارس القضاء على معظم مسلمي لبنان بالجهل الأبدي؛ لأن تلامذتها من المسلمين على الأكثر. ومن آثار هذه التربية الكهنوتية أن يكتب قسيس لبناني كتاب «فرنسا صديقة ومحامية» طبعه في المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين الذين تَوَفَّروا على غمز الإسلام في كُتُبهم ومجلتهم وجريدتهم ومدارسهم، حَشَاهُ بما ينفِّر قلوب النصارى من المسلمين، وقال بدون حياء: إن الإسلام أباح حياة غير المسلمين ومالَهم وعرضهم، وأَوَّلَ آيات القرآن على غير معناها، وحمل الآيات الواردة في مشركي العرب على النصارى، وعَمِيَ عن كل ما صدر عن الرسول وأصحابه والخلفاء والأمراء لحمايتهم منذ كان الإسلام. كتابٌ ما كَتب مثله غير بعض رهبان القرون الوسطى، وما أهمهم إن كان من أثر ما لفقوا نشوبُ فتن وإيراث حزازات. وما كان العقلاء من الفريقين في كل عصر ليرضوا بما تولد هذه السخائم، ودينهما ما دعا لغير الإحسان والمحبة.

حنقت حكومة لبنان على المدارس الإسلامية الدرزية؛ لأنها لم تدرس التاريخ على الطريقة التي ترضي السياسة اللبنانية، ولبنان، بفضل مدارس المبشرين، أصبح ذا تاريخ خاص لا يعرفه سواه! وعَزَّ على بعضهم أن يقول مؤلف هذا الكتاب في مجلة المجمع العلمي العربي لَمَّا نقد كتابًا عَرَّبَهُ أحد قسيسيهم بلغة ركيكة جدًّا. وأدمج فيه ما ليس من أصله وطعن على العرب وهزأ بالمسلمين؛ إن مثل هذا التأليف لا يليق أن يصدر من قلم أستاذ البيان في مدرسة كان مدرِّس بيانها العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي، ومن تلاميذها الشاعر العظيم خليل مطران، وأن بعض اللبنانيين اليوم يكتبون العربية بمثل ما كان يكتبها أجدادهم، وكأنهم يحاولون أن يخترعوا لهم لغة خاصة كما حاولوا أن يجعلوا لم كيانًا سياسيًّا خاصًّا. فاغتاظ أرباب هذه الكتابة الساقطة، وخاف المستوظَفون والمستوزرون أن يُقضى على كيان لبنان بكلمة قِيلت فيه بالعَرَض، وشكاني رئيس جمهوريتهم إلى رئيس جمهورية سورية. ولكن أسفر شَغْب المشاغبين عن تأليف جمعية من كبراء المسلمين والنصارى تنظر في إنهاض اللغة العربية من كَبْوتها في لبنان.

هذا مثال مما أورثتْه مدارس المبشرين من نَزَغات، وكلما أراد عقلاء الطائفتين العظيمتين أن تمد إحداهما يدها للأُخرى، للعمل معًا في المسائل الوطنية الكبرى، يقوم من تشبعوا بمنهاج تلك المدارس يذكون نار الأحقاد، ويجهرون بما يخالف مصلحتهم الحقيقية، محكومين لعواطفهم، وما كان للعواطف أن تُؤسس ممالكَ وتَبني مجدًا، وما كان لعاقل أن يرضى بالعبودية طائعًا مختارًا في دائرة ضيقة، ويأبى أن يكون سيدًا في بيئة عظيمة يسرح فيها ويمرح على ما يشاء ويهوى.

ولنا أن نحكم أن ذاك النوع من المدارس على نفعه في الماديات، لم تظهر منه فائدة في المعنويات. بلى، نشأ عنه روح ما كان ينفع البشر في جاهلية ولا عالمية. ذلك أن مؤسسيها جهدوا ألا يصرفوا العناية فيها إلى تنشئة الناشئة في نطاق وطنيتهم، فحببوا إليهم أوطانًا غير أوطانهم، وأعظموا في نفوسهم رجالًا غير رجالهم. ولقد يعرف التلميذ في مدرسة رهبانية عن رجال فرنسا وبلادها وأدبها وسياستها ما لا يعرفه علماؤها أنفسهم. فإذا جئت تختبر معلوماته عن أمته ورجالها تسقط على الجهل المخجل.

وكان على تلك المدارس لو تَوَخَّتْ خير من يدرسون على دكاتها أن تخرجهم معمورة قلوبهم بحب أوطانهم، أليس مما يدل على سوء ما لَقَّنته تلك المدارس أنك لا تجد واحدًا في المائة من غير المسلمين يدرس في المدارس الأميرية الابتدائية والثانوية في سورية؟ لأن مدارس الحكومة تحبب القومية إلى الدارسين فيستلزم ذلك حب العرب والعربية، ولا يرضى بعضهم أن يتعلم أبناؤهم التعليم الابتدائي في القرى التي يسكنها المسلمون والنصارى إلا إذا كان المعلم مسيحيًّا، على الأكثر.

وأنى لأبناء أرض واحدة ينشئون على التعادي والتخاصم أن يرفرف السلام على ربوعهم، ويطيب المقام فيها للموافق المخالف. وكيف يُرجى أن يتشارك المتنافران اشتراكًا فعليًّا في سعادة ديارهم إن لم يحب أحدهما صاحبه؟ حقيقة نحن بعيدون عن إدراك معنى التربية المشتركة بما حمل إلينا الغرب من تربية لا تنشئ إلا أعداء متشاكسين في بلد يضم نحو عشرين نحلة ومذهبًا.

وكيف، لَعَمري، تتساكن فئتان في أرض وكلتاهما حرب على الأخرى. وكيف تفكران في جلب الخير ودفع الضر إذا كانتا على هذا النحو من التنافر. والناس منذ وقع اجتماعهم لا يستغني الأبعدون منهم بعضُهم عن بعض فكيف بالأقربين. ألا بئست التربية تربية تلقن أبناءها التباغُض والتدابر. وتعسًا لبيت ما تجزأ في ذاته وأصحابه يسعون إلى تقسيمه، ويتباعدون عما لا يقوم لهم شأن إلا به.

كثيرًا ما قلت لبعض أصحابي من عقلاء النصارى: لو كنت محلكم لسعيت إلى تعليم أولاد المسلمين قبل أن أعلم أولاد النصارى؛ ذلك لأني إذا كنت في وطن لم يَعُمَّ التعليمُ معظم أهله فأنا منغَّص في حياتي، غير آمن على حقوقي وراحتي، وإذا لم تستحكم المشاكلة والتفاهم بيني وبين جاري فأنا كل ساعة عرضة لأن ينالني من انحطاطه، ويصيبني مكروهُهُ من حيث يدري ولا يدري، ولا يغنيني، مع حالته هذه، علمي ومالي، ولا تعصمني من انحطاطه دولةٌ ولا طائفة، وربما اضطُررت في الآخر إلى أن أرحل عن مسقط رأسي إلى مكانٍ يحلو فيه العيش.

لا المسلم براحل عن هذه الأرض، ولا النصراني بزاهد في سكناها، فهي ملكهما الأبدي، وتراثهما الذي لا حياة لهما بدونه، يَنْعَمَان بخيراتها، وعليهما تحمل أعبائها وتَبِعاتها. أعجبتْني كلمة فاه بها أحد فضلاء الكاثوليك، وقد أُريدت طائفته على أن تكتب محضرًا تطلب فيه حمايتها من المسلمين بضمانة إحدى الدول، قال، والغضب آخذٌ منه: أي غضاضة علينا أصعب من إنفاذ هذا الاقتراح، إنا وإخواننا المسلمين شركاء في هذا الوطن لا دخلاء عليه، ومن العار أن نطلب إلى الغريب أن يحمينا من أخينا وابن عمنا. وهذا الرجلُ درس دروسه الثانوية والابتدائية في مدرسته الطائفية والمدارس الطائفية المسيحية لا تخلو من روح الوطنية، وليست هي كمدارس المبشرين تغرس التفرقة في القلوب، وتَلَقَّى دروس الحقوق في مدرسة وطنية، وعرف المسلمين على غير ما وصفهم به صاحب كتاب «فرنسا صديقة ومحامية» الذي كذب جهرة بقوله: إن الإسلام أباح للمسلمين مال النصارى وعِرْضهم ودمهم.

تَجْمَعُ النصارى والمسلمين عدة جامعات، تجمعهم جامعة اللغة الواحدة، وتجمعهم الأخلاق الواحدة، والعادات الواحدة، وجامعةُ الجامعات هي هذه الأرض المُباركة التي أنبتتْهم ليعيشوا على أديمها كما يعيش أبناء أُمٍّ واحدة عيشَ بر وحنان. ولقد شهدنا من الدول المتمدنة اليوم ما ليس بين سكانها بعض هذا التجانس، وبفعل التربية المشتركة ألَّفوا دولًا وشادوا عزًّا وأحرزوا عظمة، ومنها ما كانت اللغات فيها متباينة، ومنها ما لا تربطه رابطة من دين ومذهب وعنصر. وما استقام أمرهم، في الواقع، إلا عندما نبذوا ظهريًّا ما يوسوس به دعاةُ دينهم وعملوا لأُممهم ما ينبغي لها مشتركين متماسكين.

ولو كان في التربية الرهبانية صلاح العالم ما زهد فيها الغرب نفسه، وأصحاب هذه التربية، بحسب الظاهر، يخدمون مقدساته. رأينا شعوب الغرب لَمَّا سارت نحو العُلى تضرب على أيدي الدينيين، وتنزع منهم كل سلطة دنيوية كانت لهم، ولكن بضاعة التبشير، كما قال أحد وزراء فرنسا، من بضائع التصدير محرمة في الغرب محلَّلة في الشرق؛ ذلك لأن المبشرين أعوانُ المستعمرين.

في اليوم الذي تصح النيات فيه على القول بتربية واحدة يتحد أبناؤنا في كل مظاهرها، وأعظم ما يتم لهم وحدتهم في أساليب تفكيرهم، يعملون يدًا واحدة للحصول على أمانيهم الوطنية، ولا تعود تلحظ هذه الفوارق المشهودة بينهم الآن. فإن أُمة تعيش في صعيد واحد وأعضاؤها متفككة محكومٌ عليها بالفناء، عيشها منكد وسلامها أبدًا مهدد.

حُمل أقباط مصر على مشاكسة مواطنيهم من المسلمين ليؤلفوا منهم حزبًا ارتجاعيًّا فأبت عليهم وطنيتهم أن يغتروا بأحابيل السياسة، وعادوا يعملون بقلوب واحدة، ويعلِّمون أبناءهم تعليمًا مشتركًا، وعاشوا مع إخوانهم ناعمين باستقلالهم، وظلوا مصريين وما أُصيبوا بأذًى في دينهم. ولقد رأيت من عطف المسلمين على القبط وبالعكس ما ألقى الفريقان به على من يختلفون في الدين درسًا نافعًا، وآخر ما صدر عن القبط من مراعاة حرمة مواطنيهم أن أعيانهم تقدموا إلى نجاشي الحبشة — وكنيسة الحبشة تابعة للكنيسة القبطية بمصر — أن يُمتع المسلمين في مملكته بحقوقهم فأجابهم إلى ما طلبوه، ومن مطالبهم نصب قضاة مصريين يحكمون بين رعاياه المسلمين.

إلى الآن سارت مدارس المبشرين على هواها لا تُسيطر عليها حكومة، ولا يراقب أعمالها مراقب، فكانت تأثيراتها ما رأيتم. فهل في الحكومات العربية اليوم يا ترى من تقوى على إرجاع تلك المدارس إلى الصواب؟ تضع لها منهاج دروسها وتلزمها بالسير عليه بما يوافق شريعة الوطنية، ويقال لها: كَفَى أَنْ أنشأتِ ممن نهلوا العلم من مناهلك آلاتٍ صماء في أيدي الغرباء، وأبواقًا تنادي، على الدوام، ببغض ذوي القربى.

ولقد لاحظتْ وزارة المعارف المصرية أن بعض المدارس الأجنبية بها تدرِّس لتلاميذها كتبًا تشتمل على عبارات تثير الأحقاد السياسية والدينية بنوع خاص مما يخالف المبادئ الأساسية التي ينبغي أن تقوم عليها العلاقات بين الشعوب، وهي مبادئ المودة والتعاطف وتبادل الاحترام. وأن عصبة الأُمم عنيت بهذه المسألة عناية شديدة، وطلبت إلى الدول المشتركة فيها أن تراقب الكتب الدراسية من هذه الناحية بحيث لا يكون فيها ما من شأنه إيجادُ الأحقاد أو إبقاءُ الأحقاد القديمة. وأخذت مصر تراقب كتب التاريخ والجغرافية والأدب وعلم النفس والتربية. وعسى أن يكون من هذا مقدمةُ خير، فتراقَب المدارس الغربية كلها في البلاد العربية.

هوامش

(١) من كتاب تقدم مجموعة الأُمم البريطانية تأليف و. ن. هانكون وهو من المنشورات البريطانية الرسمية: «ولست أنكر عقلية كثير من المبشرين وعدم حساسيتهم وخشونتهم والأضرار التي ألحقوها بكثير من الشعوب المتأخر، فإنهم استخفوا بالثقافة المحلية، وانتقصوا من قدرها الحقيقي، كما بالغوا في تقدير مدنيتهم، وكان اعتماد بعضهم على الزي الغربي وعلى التراتيل والكلمات المطبوعة أكثر مما كان ينبغي. قال: وهناك حقيقة واضحة لا نزاع فيها وهي أن المبشرين البريطانيين كانوا دائمًا، وبصورة مُلِحَّة، يطالبون بإنصاف الشعوب المتأخرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤