القول في أخلاق العظماء

إذا أراد الله إسعاد أُمة قَيَّضَ لها من رجالها أُناسًا يجعلون من الأمانة دينهم، ومن العفة عن الدنايا ديدنهم. ينظرون قبل كل نظر إلى من كُتِبَ لهم أن يتأمروا عليهم، يبعدون أبدًا عن الأثرة، ويصطنعون الإيثار، ويَهْتَمُّونَ لأصغر صغير اهتمامَهم لأكبر كبير، ويتخذون من أنفسهم قدوةً لمن يليهم ويعمل تحت أيديهم. صفاتٌ أولية تُطلب من كل صاحب سلطان إذا قُدِّرَ قيامُهُ بدونها فبقاؤه قليل.

أنعموا النظر في سيرة العمرين أبي بكر وعمر — رضي الله عنهما — تجدوا لهما من الصفات ما يعجب به كل إنسان في كل زمان. فَتحت لهما الفتوح أبواب الغنى والرفاهية، فعزفت نفسهما عن حطام الدنيا، وزهدا في كل مظهر، وآثرا الخشونة والتقشف في طعامهما ولباسهما وفرشهما. عملًا بسيرة صاحبهما، لم يخرجا عنها قِيد شعرة.

كان العُمَرانِ قبل الإسلام موسرين مرفهين، فأنفقا في سبيل الله ما مَلَكَا، وعاشا ما عاشا في فاقة، يأكلان ما يأكله الفقير، ويلبسان المرقَّعات، ويحتذيان النعال الممزقة، وينامان على الأرض، ويقضيان حوائجهما بيديهما. وإذا تهيأ لهما الحصير من القش والبساط من وبر الجمل والماعز عَدَّا ذلك نعمة، ولم يأخذا من بيت المال شيئًا، وقنعا بما فرض لهما أصحابهما من راتب ضئيل، وودا لو يعملان في تجارتهما ليطعما عيالهما كما كانا من قبل لو كان في وقت الخليفة متسع لتعاطي الأسباب.

بهذا الزهد وهذا العزوف الذي قلَّدهما فيه أصحابهما وعمالهما قامت الدولة العربية على أَمْتَنِ دعامة تقوم عليها دولةٌ. وقد سار بعض من خلف العمرين بسيرة صاحب الرسالة، وهذا هو اللائق بالخلفاء الراشدين والأئمة الهادين المهديين.

وإذا نزلنا في التاريخ إلى من جاء بعد ذاك العهد العظيم، نرى بعض ملوك بني أُمية في الشرق والغرب مَشَوْا على قدم الراشدين. وفي سيرة عمر بن عبد العزيز، ما يضارع سيرة العمرين: ورث عن أبيه ثروةً طائلة، قالوا: إن دخلها كان بين الأربعين والخمسين ألف دينار فأرجعها كلها لأربابها، وكانت إقطاعات وأرضين، ولم يمت حتى لم يبق منها سوى مائتي دينار دخلًا سنويًّا ولو عاش سنة أخرى لَرَدَّها كلها. تولى الخلافة غنيًّا ومات فقيرًا مبتعدًا في خلافته عن كل ما يقال له رفاهية، وكان مغموسًا فيها أيام إمارته. استُخلف ولم يتناول دانقًا من بيت المال ولم يخلف عقارًا ولا مزرعة فعاش أبناؤه بعده في ستر ورفعة، وكذلك عاش أبناء الصديق وأبناء الفاروق.

انزلوا قليلًا في التاريخ إلى العصر العباسي، وتأملوا في سيرة أبي جعفر المنصور واضع بناء الدولة، تَرَوْهُ على سيرة حسنة، يحاسب على القطمير حتى دعي بأبي الدوانيق لإمساكه وتدنيقه في حساب نفسه، يسمح بعشرات الأُلوف في سبيل الدولة ولا يسمح لنفسه ولأولاده إلا بالضروري، وترك لدولته أموالًا تكفيها سنين إذا بطلت الجباية، أو صارت إلى ضيق.

وفي أخبار الملوك والأمراء ولا سيما على عهد تأسيس الدول مثالٌ حيٌّ من عزوف بعض العظماء عن الرفاهية والسرف. هكذا كان هَدْي أكثر الملوك والأمراء في الدولة الصغرى في الشرق والغرب. وإذا قَلَّ ظهور مثل هؤلاء الأفراد تميل الدولة إلى السقوط. فالترفُ كان من بعض العوامل في سقوط دولة بني أُمية في الغرب، والترف كان عاملًا كبيرًا في انهيار دولة بني العباس، ومثل هذا يقال في كل دولة قامت.

إنا لا نعرض هنا لسيرة العلماء فقد قام مئات منهم ما وجدت الدنيا إلى قلوبهم منفذًا، ولا عشقوا المظاهر، ولا حدثتهم أنفسهم أن يدخروا لبنيهم شيئًا من غير حله، فعاشوا وذراريهم كما يعيش الفقراء، وكانت سيرتهم مضرب الأمثال على توالي الأجيال. وقام من العلماء أيضًا من باعوا دينهم في إرضاء شهواتهم، والتقرب من الملوك وأصحاب السلطان، فباءُوا بسبة الدهر، ورجع أولئك بالصيت الحسن، لا يذكرهم أحد إلا ويعجب بهم ويترحم عليهم.

ويهمنا هنا أن نذكر من كانت الدنيا تحت أمرهم من العظماء وقادة الأُمم فجعلوها تحت أقدامهم، ما أخذوا منها شيئًا لحسابهم، وكانوا المأمونين حقًّا على ما ائتُمنوا عليه، ظاهرُهم كباطنهم، وسيرتُهم كسريرتهم، وماضيهم كحاضرهم، يرون عزة أمتهم عزتَهم، وسعادتها سعادتهم، إذ شقيت يشقون بشقائها، وإذا أخصبت لا يخصبون، وإذا أجدبت كانوا شركاءها الأمناء.

قرأنا سيرة من عاصرنا ممن يعدون من الكبراء فرأيناهم لم يفكروا في غير رفاهيتهم، وما طمعوا إلا أن يغتنوا من أتعاب شعوبهم، ورأيناهم كيف صُرف بَعْدَهم كل ما رتبوه لأنفسهم، وما استفادوا هم ولا من جمعوها لهم، إلا كما يستفيد حارسٌ من مال وكلت إليه حراسته. خافوا الفقر فماتوا في الذي خافوه، وظنوا السعادة في الجمع فما انتفعوا وما نفعوا.

إن لم يكن العظيم على أخلاق العظماء تزول عظمته، ولا يبقى له إلا ما اجترح، إن لم يكن صاحب الشأن على أخلاق طاهرة حقًّا يَئُول أمره إلى أن يكون والباعة سواء، وربما كان مئات في أصحاب الأسواق أشرف منه نفسًا وطعمة.

جاء في هذا الشرق مئات من أصحاب الصولة في كل دولة، انبسط سلطانهم على شعوب وأُمم، وحكموا بالجَبرية، فخافهم مَنْ خافهم مدة كانت السيوف مُصْلَتَه بأيديهم على الرءوس، فلما زال السلطان زال كل شيء معهم، فما سُمع لهم بعدها صيت، ولا ذكرهم إنسان بخير.

جاء كثيرون على هذه الشاكلة فما حفظ التاريخ ذِكْرَهم، كما حفظ ذكرى نور الدين محمود بن زنكي وصلاح الدين يوسف بن أيوب. حفظ التاريخ اسم هذين السلطانين لا لأنهما فتحا الفتوح ودفعا صائل العدو عن الأرض المقدسة. فالفاتحون غير قلائل، وكذلك مَنْ كتب لهم النصر في وقائعَ كثيرة، ودوخوا ممالك وأخضعوا أُممًا، وكلهم ليسوا من عيار نور الدين وصلاح الدين في العفة عن الأموال، والبُعد عن الشهوات، والإخلاص في القصد.

كان نور الدين لا يأكل ولا يَلبس من مال الدولة، ويعيش من ريع عقار له اشتراه من سهمه من الغنيمة ويهب مئاتِ الأُلوف لرعيته. اشتكت زوجته الضائقة يومًا لأحد وزرائه فأجابه نور الدين: إذا كانت تعتقد أن ما بيدي من الأموال هو لي فقد ساء ظنها، إن ما عندي هو أموال المسلمين ومرصد لمصالحهم، ولا أقدر أن أتصرف منه بشيء، وأعطاها دكانين في حمص تأخذ ريعهما، واعتذر بأن هذا كل ما يملك.

وكان صلاح الدين يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، سامح الرعية بمئات الألوف من المكوس والضرائب، وأعطى مثلها لإنشاء المدارس والجوامع، وللعلماء والقراء، ومات ولم يخلف سوى قطعة واحدة من ذهب وقِطع من نقود النحاس، ولم يملك دارًا ولا عقارًا ولا مزرعة، وهو فاتح مصر والشام، استولى على خزائن الفاطميين وصار إليه ما لا يقع عليه الحصر من الأموال والذخائر، ففرَّقَه كله في قُوَّاده وعماله، لم يأخذ منه فَلْسًا. واستولى على كثير من القلاع في الشام والجزيرة، كانت تحوي أموالًا عظيمة وكل ما ترغب فيه النفوس البشرية من الأعلاق والنفائس، فما جَوَّزَ لنفسه استصفاء شيء، ومنها ما رَدَّهُ على أصحابه، ومنها ما أفضل به على عفاته. مات هذا حاله، لكنه وصاحبه نور الدين ذَكَّرا بسيرتهما سيرةَ العمرين، ومضى الملوك والأمراء قبلهما وبعدهما ولا من يذكرهما بخير؛ ذلك لأن هؤلاء حسبوا حساب أنفسهم قبل أن يحسبوا حساب من وسد إليهم أمرهم.

بهذه الأخلاق أسس نور الدين وصلاح الدين مُلْكَهما، ولا عجب أن استفاضت على الأيام شهرتُهما، وعبق أريج سيرتهما الشريفة في الأرجاء، وأحبهما عدوُّهما وصديقهما، فكانا لأهل الأجيال بعدهما خير مثال في التقوى والزهد، عفت نفسهما عن كل مظهر، وعن كل ما يتنافس الخلائق في ادخاره من هذا الحطام الذي يملكه كل مَنْ سعى إليه بضربٍ من السعي.

لَمَّا كان سلاطين بني عثمان يفتحون الفتوح، ويدوخون العناصر والشعوب في أوربا وآسية وإفريقية كان بعضُ ملوكها الأولين على سيرة طيبة يحبون الخشونة والتقشف، ويبعدون عن البذخ والرفاهية، ويسيرون مع مناهي الشرع، فخَفَقَتْ أعلامُهم وما التوت، وتوجهت إليهم حتى نفوس رعاياهم الذين لم يكونوا على دينهم. فلما خَلَفَ من بعد السلاطين المتقدمين خلفٌ أخذوا بشهواتهم، وجمعوا لأنفسهم كُلَّ ما طالت إليه أيديهم من المغانم، وناموا عن أمور رعاياهم، وسكتوا عما يجنيه حَمَلَةُ عرشهم من الأمراء والقُوَّاد والعمال من ظلم العباد، سقطت دولتهم.

•••

يحمل تاريخ الغرب من سيرة أعاظم الملوك والأُمراء والقواد ما هو موضع العجب والعبرة. وفضل الله لم ينحصر في الشرق ولا في الغرب ولا في المسلمين ولا في النصارى.

تأملوا في تاريخ مملكة بروسيا وعظماء ملوكها، وما آثروه من العيش الخشن، وكيف فطموا أنفسهم عن الشهوات، ليقتصدوا ما تيسر لهم به إنشاء دولة. يقول شارل سنيوبوس في تاريخ الحضارة: إن ملوك بروسيا كانوا يختلفون عن سائر الأمراء في طراز معيشتهم، وبذلك كان نجاحهم. كانوا لا يُسرفون في دخلهم ليصرف على البلاط، وتُقام به الحفلات والأفراح؛ بل ينفقونه برمته على ما ينهض بدولتهم وعلى الجيش خاصة.

كان لفريدريك الأول بلاطٌ واسع النطاق، على مثال بلاط لويز الرابع عشر في فرنسا. ولما قام خلفه فريدريك غليوم سرح جماعة البلاط، مقتصرًا على أربعة حجاب، وأربعة من النبلاء، وثمانية عشر وصيفًا، وستة خدام، وخمسة فراشين. وجعل لباسه الرسمي المعطف الأزرق والسراويلات البيضاء، يتقلد أبدًا سيفه والعصا بيده، وما عهد في قصره غير مقاعد وكراسي من خشب، وليس فيه أرائك ولا طنافس، ومائدته ساذجة لا إسراف فيها حتى إن أولاده ما كان يُشبعهم ما يتناولون على مائدة أبيهم من الطعام. وبهذا التقشف لُقِّب بالملك المباشر «الجاويش»، وكان ملوك بروسيا ينفقون المال الذي يقتصدونه من مخصصاتهم على جيشهم، ومقدار نفقتهم الخاصة كنفقة رجل متوسط من الأعيان، وبذلك كان لهم جيش تحت الطلب أبدًا وخلَّفوا أموالًا كثيرة في خزائنهم. وكان فريدريك الثاني يلبس الثياب المرقعة، وقد مزقت كلابه أثاث قصره، وبِيع بعد موته جميعُ ما حوت أصونته من الثياب بألف وخمسمائة فرنك. وغاية ما اقتنى من متاع مجموعةٌ تحتوي على مائة وثلاثين حقة من حقق السَّعوط!

وجوزيف الثاني ملك النمسا كان مثل فريدريك الثاني صاحب بروسيا، لا يشرب إلا الماء، ويلبس ثوبًا عسكريًّا أزرق، وحذاء بسيطًا وينام على فراش حُشِيَ بورق الذُّرة، ووسادة من الأديم أو من جلد الأَيِّل، وحصانه مسرج على الدوام، يمتطيه إلى المكان الذي يستدعي حضوره بالذات، ويكثر الطواف في بلاده، يسافر على كرسي مع البريد في طرق مشعثة، فإذا بلغ المدينة ينزل في الفندق، وينصب فيه منضدة يعمل إليها، وأَبْطَلَ ما رأى في قصره من البذخ ومصطلحات المدنية التي أَبْقَتْها الدول الملكية المطلقة من القرن الثامن عشر، فَسَرَّحَ الحجاب وأَبطل الحفلات، وقلب قوانين التشريفات.

نكتفي بهذا المثال الصغير، وفي رجال الغرب كثيرٌ من عظمائه لم يبطرهم المجد ولا استهواهم الظهور، وعزفت نفوسهم عن الإسراف فما بذخوا، وملكوا من عنان شهواتهم فما اقتنوا مالًا ولا عقارًا، وما فكروا حياتهم في غير مصلحة أُمتهم. كانوا خدامها يساوون الفقراء وينظرون إليهم نَظَرَ عطف ورحمة.

قرأت في مجلة لاروس نبذة في سيرة سالازار رئيس حكومة البرتقال الحالي، وما فُطر عليه من تقشف وبُعد عن المظاهر وعفة عن أموال الأمة، وما قام به من الإصلاحات لأُمته. قالت: إنه كُسرت رجله مرة وهو ينزل من سلم وزارة المالية، فأخذوه إلى المستشفى وبعد أن شفي جاء الجراح يطلب أُجرته، فلما لم يكن له مال أحب وزراؤه أن تؤدَّى الأجرة من خزانة الدولة؛ لأنه سقط في سبيل المصلحة العامة، فأبى وباع قطعة أرض له، خلفها له أبوه في قريته ليوفي ما عليه، وراتبه الذي يتبلَّغ به ضئيل جدًّا ما أظنه يُطعمه وأهله غير طعام الفقراء، ولا يلبسهم إلا لباس الفقراء.

أشرت إلى هذا ليكون منه عبرة لمن يتولون في الشرق أُمور أهله، واقتصرت على من خطروا بالبال من أهل العصور السالفة قاصدًا العبرة. ولكل شيء ثمنٌ في هذه الأرض: للصلاح ثمنٌ وللطلاح ثمن، وللإخلاص ثمن وللخيانة ثمن، للشهرة ثمن وللخمول ثمن. للخلق الطاهر ثمن وللخلق القذر ثمن. والطبيعة، في العادة، لا تُعطي إلا مَنْ يستحق العطاء، ولا تمنع إلا من يستحق المنع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤