القول في حقوق المرأة

هيأ الخديو إسماعيل أسباب النهضة النسائية بأن تقدم أُمراء الشرق العربي بإنشاء مدارس لتعليم البنات في مصر. وجاء، بعد زمنٍ، محرِّرُ المرأة قاسم أمين فسقط على كتلة معلَّمة من النساء المصريات، تفهم عنه ما يرمي إليه يوم دعا إلى ما دعا، وأسفر هذا الانتباه عن إنشاء جمعيات تُعنى بتعليم الأطفال ومؤاساة البائسين والمرضى، والنظر في مستقبل المرأة نظر من يحسن معرفة الداء ووصف الدواء. وحَذَت الشام حذو مصر في هذه السبيل فبدأت المرأة تتعلم، وسَبَقَ المسيحياتُ إلى هذه المقاصد النبيلة، ثم كثُر عدد المتعلمات من المسلمات، فجئن يسابقن من كان لهن فضل التقدم في هذا الباب، وما انقضى جيل حتى كان العاملات في الجيل التالي يحاولن التعرُّف بعضهن إلى بعض، فيعقدن المؤتمرات في مصر والشام ينظرن فيما يَرفع من شأنهن وينيلهن حقوقهن، وأهم مؤتمر لهن عقدنه بأَخَرَة في مدينة القاهرة اشترك فيه نساء الشام والعراق مع نساء مصر، وانفض عن قرارات منها النافع المسلَّم به لإصلاح شأن المرأة، ومنها ما يضر بها؛ لأنه يخرجها عن طورها، ويأتي على جميل خصائصها.

ومن القرارات الصادرة عن هذا المؤتمر أن يصبح النساء ناخبات منتخبات، يقعدن في مقاعد مجالس النواب، ويكون منهن الوزيرات والسفيرات والقاضيات، وكل ما يتولاه الرجال من سياسة الممالك وتدبير الجماهير، ويستلزم أعصابًا هادئة وشجاعة وقوة، لم تتصف بها المرأة على غابر الدهر. أردن أن يُعاملن على قدم المساواة مع الرجال حذو القُذَّة بالقذة، وطلبن مطالب يتعذر تحقيقها ولا تفيد إذا فرض تنفيذها.

وكانت الجمعية النسائية المصرية الأولى قبل تأليف الاتحاد النسائي في مصر طلبت من حكومتها الحدَّ من الطلاق، ومن تعدُّد الزوجات، وتعيين سن زواج الفتاة والفتى، فصدر القانون على هذا، وسجلت به للنساء اللائي سعين لذلك مأثرة وقع الإجماع على استحسانها، وأثبت النساء أنهن أخذن يفكرن فيما لم يكن جَدَّاتهن يفكرون في شيء منه، وأنه اتسع أُفقهن للنظر في ما يرفع مستوى بنات جنسهن.

•••

لم يوفَّق الغربيون في إخراج المرأة من حظيرة البيت إلى المعمل والحانوت لتكاثر الرجال، ونشأت من إخراج المرأة عن طبيعتها مفاسدُ إذا ذُكرت أمام أرباب المروءة والشرف من أهل الغرب تَصَبَّبَ عرقهم واحمروا خجلًا، وقام في العهد الأخير بعض المذاهب في أميركا وإنكلترا وألمانيا ينكر المغالاة في الاختلاط ويحرم الرقص والتبذل في اللباس؛ إبقاءً على عصمة المرأة وصونًا لها عن التدهور في مزالق الفتنة.

ولم تأت الدول التي منحت المرأة حق الانتخاب أكثر من إرضاء فريق من المُطالبات بهذا الحق الموهوم الذي ما زاد من مكانة المرأة، وظل الرجال أصحاب الموقف، ولم يوفق النساء إلا إلى منحهن ما ألححن بطلبه من الحقوق أعوامًا. ولم تقم المرأة التي ظفرت بحق الانتخاب بما يدفع أُمتها خطوة إلى الأمام وما دفع حنانها ما حلَّ بأهلها من البوائق، وما استطاعت إبطالَ الحروب وفض مشاكل الأُمم من دون الرجوع إلى السلاح، ولو كان للمرأة صوتٌ مسموع في سياسة الممالك التي أعطت نساءها حق الانتخاب لخَفَّفْنَ من ويلاتها، ومنها القضاء على المسكرات التي ضجت من أضرارها شعوبُ تلك الأقطار.

المرأة امرأة وإن ألبستَها ثياب الرجال، ووَسَّدت إليها أعمالَهم، ومهما جهدت لا تحليها بخلق ليس فيها، ولا تخلق فيها ميزات لم تتميز بها. المرأة كما قالوا ريحانة وليست بقهرمانة، لم تؤهلها طبيعتها لغير ولادة الأولاد والعناية بتربيتهم وخدمة زوجها والسهر على راحته، وتولى الخطير والحقير من شئون بيتها. فروضٌ جسيمة فُرضت عليها لو أحبت تجويدها لكفتها أن تشتغل معظم ساعات نهارها وزُلَفًا من ليلها. ومن كان عليها مثل هذه التبعة العظيمة كيف تَقْوَى على تولي المصالح العامة، فتقضي وتَسُوس وتشارك الرجال في شئونٍ اختصوا بها مذ كانت الدنيا. والمرأة اليوم إن أَحَسَّتْ من ضعفها قوة وقامت ببعض الأعمال الوطنية، وتعلمت قليلًا بالقياس إلى أُمها وجدتها، فليس معنى هذا أنها تصلح للشرطة والدرك والقضاء والإدارة، ولا أن تمارس ركوب الطائرات والغواصات، وتقود الكتائب وتُعَبِّي الصفوف.

وما سبيل النساء في الحرص على الحياة النيابية بدون تعليم سوادهن الأعظم على الأقل، إلا سبيل من يحاول بلوغ رأس السلم قبل تخطي درجاته الأولى، أو إنشاء بناء ضخم بدون وضع أساس الطابق السفلي.

قلت يومًا لأحد علماء الترك: أَمَا بلغك أن مدينتنا ستُنار بعد قليل بالكهرباء، وتسير فيها الحوافل الكهربائية كالعواصم الغربية؟ فضحك وقال: إن حالكم بهذه الزينة الجديدة، تُقام بأيدي الغرباء، أشبهُ بإمبراطور كوريا يلبس على رأسه تاجًا من ذهب، ولا سراويلات له تستر عورته، وكان الأولى يا صاح أن تنظَّم طرق البلدة أولًا ثم تسير فيها الحوافل الكهربائية. وأنا أقول: كان الأولى قبل أن تطلب المرأة حق التشريع في مجالس النواب أن تتلافى قصورها المخجل في ميدان العلم والتربية.

كان القائلون في الغرب بوضع المرأة حيث وضعتها الفطرة إلى المعقول أكثر من أصحاب الرأي الذين صانعوها وندبوا معها حقها المهضوم، ولو كان من وراء ما رأوا ثورة هوجاء لا تتجلى عن خير، فقد دلت التجارب على أن القوانين الوضعية مهما بلغ من إحكامها لا تقوى على القوانين الطبيعية.

يزعم الفريق المتطرف أن العالم سيَعُمُّه الهناء والسعادة يوم تتم أُمنيته في توجيه النساء وجهتهن الجديدة. ويورد الفريقُ المعتدل في رد رأي المغالين حقائق ما وسع خصومهم أن ينقضوها نقضًا جيدًا، ويقول: إن المرأة تمرض أيام شبابها وكهولتها كل شهر مرضًا تكثر به آلامها ويسوء خُلُقها، وتمرض أيضًا أيام الوحام والحمل والنفاس برهة تقطعها عن مباشرة كل عمل، ومن كانت هذه حالتها من الصحة أَنَّى لها أن تقوم بأعباء عظيمة ولها من نفسها ما يشغلها عن كل شيء.

ويقول المتعقلون إن تركيب جسم المرأة مخالفٌ لتركيب جسم الرجل، وإن المرأة لم تُثبت إلى الآن كفايةً تؤهلها لمباراة الرجل في صراع الحياة، فما قام من النساء عالمةٌ ممتازة ولا شاعرة كبيرة ولا كاتبة عظيمة ولا مخترعة ولا مكتشفة، ولم يتعد ما تم على يدها الأمورَ البدائية إذا قِيس بما أبدعه الرجال من بدائع العلم والأدب والفن والصناعة. فكما أنه لم يخرج من صفوفهن العبقريات في هذه الفنون، لم ينشأ منهن خياطة عظيمة ولا طاهية مبدعة، وما زلنا نشهد هاتين الصناعتين المهمتين حكرة في أيدي الرجال، بل إن الرجال يخترعون للنساء أزياءهن وأساليب زينتهن، وإذا ادعى مدع أن من النساء من أَلَّفن الكتب ومارسن الأدب فيقال له: إن معظم ما عُزي إلى المرأة من التآليف هو من صنع الرجال، ومنا نبغ في فرنسا، على اشتهارها بالأدب وانتشار التعليم فيها بين الجنسين، غير «مدام دي سيفينيه» كتبت بقلمها رسائلها إلى ابنتها فعَدَّها العلماءُ من الأدب الممتع؛ لما تحمل من عواطف، وما عدا ذلك فكتابات متوسطة وشعر غث.

لم يبرَّز النساء حتى اليوم في غير تربية الأطفال، وقد أثبتن استعدادهن في طب الأمراض النسائية وفي الكيمياء العملية، وكن آية في تمريض المرضى وإدارة المستشفيات؛ لما في طبيعتهن من نعومة وصبر وأناة. والرجال لم يوفقوا إلى منافستهن في هذا الشأن — ولا يُرجى أن يوفقوا — لتوقُّف ذلك على صفاتٍ اختص بها النساء دون الرجال.

•••

الأنثى في حاجة شديدة إلى التعليم الابتدائي حاجة الصبي إليه، على أن يكون تعليمها ملائمًا لبيئتها وطبيعتها. لا تُعفى من ذلك ابنة المدينة ولا ابنة القرية، ويقتصر التعليم الثانوي والعالي، كما هو إلى الآن، على فئة منهن لا يتجاوز عدد الآخذات به واحدة في البضعة آلاف، إذ ثبت أن معظم من تعلمن التعليم العالي والأوسط ضَعُفَ استعدادهن لإدارة المنزل وتربية البنين والبنات، فخرجن، طوعًا أو كرهًا، عن غرائزهن، وفقدن بمظهرهن الجديد دَعَة البيوت ومتعة الزوجية. وكان من إخفاق النساء في المحاماة والطب دليلٌ ظاهر على ضعفهن، وقلة استعدادهن لما خُصَّ به الرجال.

تحتاج المرأة إلى إتقان أشغال البيت وهي كثيرة، وإلى أن تقيد دخلها وخرجها وإلى أن تنشئ كتابًا بسيطًا إلى زوجها وابنها وابنتها وأُمها وحماتها، وإلى أن تتعلم كل ما يزيد بهجة البيوت كتربية الأزهار والورد والأشجار والبقول، وما يوفر لها جانبًا من المصروف إذا أحسنت مزاولته كصنع الجبن والقشدة واللبن والسمن والمربيات، وغير ذلك من الصناعات الزراعية. وهي إلى هذا تُدخل السرور على زوجها وأولادها إذا غنتهم آونات الفراغ بنغمتها، وأطربتهم بآلة موسيقية أتقنتها. وعليها أن تعرف ما لها وعليها من الحقوق، وأن تتأدب بأدب الدين وأدب الوطن، أما حاجتها من الأمور الكمالية فمحدودة وهي في غُنية عن أن تجهز بجهاز علمي واسع تتعلم أكثره بالعمل في مراحل حياتها، ومنه ما هو أَعْلَقُ بها من غيره، والواجب على كل حال أن تكون المرأة قريبة من ذهنية زوجها تُعينه على الكدح لها ولأولادها ولا يطيب عيش الزوجين إلا بتكافئهما في المنزلة والثقافة الأولى.

قلت: إن العارفين من الغربيين يؤكدون أنه لم ينبغ من النساء عندهم مَنْ كُنَّ من عيار من نبغ من الرجال في جميع مظاهر الحضارة، والحال كان كذلك في الشرق الإسلامي، أي: كان النابغات — إن صَحَّت تسميتهن بذلك — في فن الحديث وهذا يحتاج لحافظة، وفي الشعر وهذا يحتاج إلى عاطفة، ومن هاتين الخاصتين رُزقت المرأة قسطًا عظيمًا. وقد شاركن في الموسيقا والغناء مشاركةً ما تفوقن فيها على الرجال إلا أنه لم ينشأ منهن فقيهة ولا متكلمة ولا مؤرخة ولا فيلسوفة ولا رياضية، وكن إذا تدخلن في أُمور الدولة تميل إلى الانحطاط، ولذلك كان عقلاء الملوك يحظرون على نسائهم الاشتراك في ما لا شأن لهن فيه من أُمور السياسة.

إن طمع النساء في إحراز الحقوق السياسية طمعٌ في غير مطمع؛ ذلك لأن طبيعتهن ما تبدلت ولن تتبدل، وليت شعري ماذا يُرجى من مجتمع أكثر من تسعين بالمائة من نسائه أُمِّيات لا يقرأن ولا يكتبن، وإذا كانت نسبة المتعلمين من الرجال أكثر من النساء، كيف يستفيد النساء من تشريع جديد يسنُّ لإرضائهن فقط؟ وإذا كانت فرنسا، وأَهْلُها أَهْلُها، في تلقُّف العلم والمعارف وفي الفناء في تحسين الظن بالنساء، لم تقرر مساواة المرأة مع الرجل كيف يُرجى الخير لهذا النوع من الحُكم عندنا، على حين لا يؤمل نزع الأُمية من ديارنا قبل مضيِّ قرن. وعجيب كيف نُؤخذ بكلامٍ ظاهر البطلان ونُخدع بالتمويه، ونفرح بالجديد ولو كان بديهي الضرر، ولا نتعرف إلى ما بطن وظهر من مشاكلنا، ولا إلى الأثر الفَعَّال في نهضتنا؟

وبعد، فلماذا لم يقل لنا المُنادون بإعطاء المرأة حقوقها المدنية على مثال الرجال كيف تمسي حال البيوت بعد انقلابهم الذي يتوقعونه. لا جرم أن الشقاء سيخيم على كل أُسرة يشتغل رباتها خارج بيوتهن، اللهم إلا إذا كان في النية أن يعمدوا إلى دفع أولادهم إلى الحكومات تربيهم تربية مشتركة كأنهم بعض اللقطاء من أولاد النغول، لا يذوقون في هذه الملاجئ طعمًا لهناءة البيوت، ولا يرون أثرًا للروابط الروحية بين الأولاد والأبوين.

وإذا كانت هذه البراهين لا تُقنع المتحمسين والمتحمسات للدعوة إلى المساواة بين الجنسين فإنا نورد بعض ما قاله أناس من الغربيين عسى أن يكون منه مقنع.

قال: الدكتور روبرتوتش في كتابه رفعة المرأة Dr. Robert Teutsch Le Feminisme ما زالت مسألة إعطاء المرأة حقوقها منذ ثلاثين سنة من الموضوعات الطريفة، ولو كان الأمر يقف عند حد إعطائها جميع حقوقها ولا سيما السياسية التي لم تهيئها لها طبيعتها ولا خُلقها لهان الأمر، ولكنهن يقصدن من المطالبة بذلك التفلت من قيودهن وقيود البيت والأمومة خاصة. تريد المرأة إسقاط منزلة الرجل وتطمح إلى الاستيلاء على كل عمل لم تُخلق هي له. تحاول الابتعاد عن المنزل وإهمال شئونه والإقلال من الأولاد والقضاء على الأُسرة مما ينتهي بانقراض العنصر والجنس، وبتأثير الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التي ظهرت في القرن التاسع عشر في معظم الممالك الممدنة راجت دعاية المفرطين، فكان من ذلك إخراج النساء عن طورهن وحملهن على أن يتناسين عملهن أو يستنكرنه، فصبغت المرأة بصبغة بشعة عند إرادتها محاكاة الرجل ليكون منها شريكة مبغضة له أحيانًا، ومنافسةً وخصيمة يخشى بأسها. وهناك نساء سطا عليهن الكبر والحقد، فاحتقرن الرجل والزوج والولد وهن قادرات على أن يكن طاهيات ووصيفات وساعورات (ممرضات) ودلاكات ومنظفات أيد Manucures ومنظفات أرجل Pedicures وحاسبات وخازنات وكاتبات ومدرسات وبائعات وسمسارات وقصصيات ومحاميات وطبيبات، ويتوهمن أنهن أسمى من الرجال أو مساويات لهم على الأقل، ويحاولن أن يقمن مقامه في معاناة سامي الأعمال وهن لسن له خليقات.

وما برح دُعاة تحرير المرأة ينادون أن المرأة مساويةٌ للرجل، وما كان تشريح الجنسين ونفسيتهما وطبيعتهما متشابهة قط، وإذا كان الحال كما يَدَّعون فلماذا نرى البقرة غير الثور، والنعجة غير الخروف، واللبوة غير الأسد، ولماذا يتناسى دعاة هذا التحرير العمل العظيم الذي يؤثِّر في طبيعة المرأة وعقليتها، وما كُتِبَ عليها من الحيض الذي يُخرجها إلى طور غريب وتؤثر أيامه في خُلُقها، وبعض الصحيحات منهن أو المريضات تعاودُهن العادةُ مرتين في الشهر فيتأثر المجموع العصبي فيهن من هذه الموجات الدموية.

وقد ظهر من أبحاث العلماء في جميع الأُمم أن الطبيعتين الأنوثة والذكورة متخالفتان، لا في ظواهرهما فقط بل في أعمق تراكيبهما. ويقول الأطباء: إن كلًّا من الفتى والفتاة ينشأ نشأة طبيعية متخالفة، يكثر الموت والضعف في الصبيان ويتجلى الذكاء والإحساس والحكمة في الطفلة قبل تجلِّيه في الطفل، ولا تزال الفروق بينهما تتزايد من الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة. ويبدو في الصبيان الاستعداد لتعلُّم الحساب والعلوم، كما يبدو في الفتيات، بفضل خصوبة إحساسهن، جمالُ الإنشاء ورقته بالقياس إلى خشونة كتابة الصبيان. وبعد اجتياز هذه السن الصعبة يَطَّرِدُ ارتقاء الصبيان، أما الصبايا فيقفن فجأة مأخوذات بحالة جديدة، وكثيرات فيهن من يتركن عندئذ كل عمل.

وادعى بعضهم أن ذكاء النساء يضمحل في ذاك الدور ليقوم مقامه حِسٌّ ينصرف إلى الدَّل والغزل والموسيقى والقراءة وأعمال الإحسان، وكثيرًا ما يصادف أحسن التلميذات في سن الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة ممن تأخر نموهن. وبينا يكون البلوغ في الصبي داعيًا إلى توسُّع فكره وحاملًا له على الاضطلاع بالمسائل الكبرى فوق الطبيعة تشتغل المرأة بنفسها، وتمشي مع إحساسها ثم تُعاني مشاكل الحب والأُمومة.

وقد قرر العلماء أن تشريح الجنسين متخالفٌ كل التخالف، فالقامة وثقل الجسم أقل في النساء منهما في الرجال بنحو الثلث، وجماجم البنات أقل استعدادًا للنمو، وأدمغتهن أقل وزنًا حتى بالقياس إلى الوزن العادي. وقرر العلماء أن حاسة الشم والذوق في النساء أقل مما هي في الرجال؛ ولذلك قَلَّ أن استخدم أرباب المعامل النساء في الأعمال التي تتطلب التمييز بين الألوان والأذواق، مثل التفريق بين أجناس وأصناف الشاي ومراقبة الصوت وإصلاح «البِيان». قالت «مدام دي رموزا»: إن الحس أكثر ملازمة لنا معاشر النساء من الملاحظة، واستُنتج من هذا أن ذاكرة النساء أقل إحاطة بالمسائل من كل وجه من ذاكرة الرجال، واضطراب المرأة أعظمُ بكثير من اضطراب الرجل. وتزيد في بعض أدوار حياتها اضطرابًا حتى تكون في حالةِ مرضٍ وغضب، فتصبح مدة الحمل أحيانًا كأنها في جنون عارض.

وهكذا، انفرد الرجل بالذكاء والمرأةُ بالشعور، والرجل كل حين يفكر ويقدر، والمرأة تشعر وتحس، فالشعور فيها هو كل ما لها من آيات النبوغ. قالوا: إن المولى أبى أن يرزق النساء قرائحَ؛ لتتجمع كُلُّ شعلتهن في القلب، والطالبات ينقصن الاستقلال في الفكر والتعمق فيه فهن آخذات غير موجدات. وقارن المؤلف بين ثلاثة من الكُتَّاب «بوسويه» و«فلوبير» و«بول فاليري»، وبين ثلاث كاتبات «مدام دي سيفينيه» و«جورج صاند» و«مدام كوليت» فثبت له أن في إنشاء الرجال منطقًا سليمًا وفكرًا مستقيمًا كانت منه متانة جُمَلهم ورَنَّة أصواتهم الموسيقية وتساوق المجموع من أقوالهم، على خلاف كتابة أولئك الكاتبات العظيمات.

وذكر جان لارناك في كتابه تاريخ الأدب النسوي في فرنسا الدكتور روبرتوتش في كتابه رفعة المرأة Jean Larnac: Histoire de la litterature feminine en France. أنه لم تبق قلعة للذكور إلا وتخطاها النساء حتى مدرسة المعلمين العليا ومنابر الجامعات ولم يبق أمامهن عائق يعوقهن عن التعلم ونشر ما يستهوي قلوبهن ويرضي نفوسهن، وأصبحن في حلٍّ من أن يتعلمن كما يشاء لهن الهوى، وغدا منهن الأساتيذ والصحافيات ومديرات دور الطباعة وأخذن ينافسن الرجال في جوائز الأدب والمجامع الأدبية العامة والخاصة، فتَمَّت لهن كل أدوات الثقافة في بيوت العلم. ولكن القرائح تُخلق خارج المدارس، وللنساء أن يتوسعن ما شئن وليس في مقدورهن أن ينبعثن إلى الحد الذي يطمحن إليه، ولا يسرح النساء ويمرحن إلا في ظل الحرية، فإذا أخذن من عنان قرائحهن يفقدن أجنحتهن، ولذا بَقِين إلى أول القرن العشرين يمشين على أثر الرجال ولم يتحررن التحرر المطلوب إلا في هذا القرن. حتى لقد قال ستندال: إن قلة استعداد المرأة لبلوغ مراتب الكمال في التأليف منبعث من كونها ما جسرت ذات يوم أن تتحلل من قيودها إلا نصف تحلل، ومتى حاول النساء الحرية المطلقة فكأنهن يخرجن بلا خمار، على أنهن بعد هذا خرجن بلا براقع وأحيانًا بدون دثار ولا شعار.

والواقع أن النساء بأسرهن عبيداتُ حواسِّهن وأعصابهن وقلوبهن، لا ينجع فيهن اعتراض إذا خالف قانون الطبيعة وأعني الحب. وكان الأديبات منهن إذا مجدن الحب بالمعنى الوجيز يجهلن حُبَّ الأُمومة على ما تجلى ذلك في مكتوباتهن، ومع هذا تراهن يتكلفن فيما يسطرن، ويتطلبن إلى حواسهن وقلوبهن أن تعطي أكثر مما لها، وما كتب لهن إلا أن يكن أدوات تحس وتهتز، وأن يجعلن من العالم مجموعة أحاسيس. وإذا فحصت الأدب النسوي المعاصر من حيث الإنشاء تسقط فيه على قرائحَ عظيمةٍ وعلى نبوغ أيضًا، وقلَّ أن تقع فيه على شيء اسمه فن. ويقال: إن النساء ما عدا اثنتين أو ثلاثًا منهن لا يُحْسِنَّ التفريق بين المواد التي تتطلبها الحياة، فمنهن من تجتهد اجتهادًا تُنتج به آثارًا طيبة، وكثيرات يرسلن أقلامهن على فيضها كما يشاء الهوى، لا يحفلن التنقيحَ ولا سلامةَ التراكيب، وفيهن من اتخذن الأدب وسيلة إلى السياسة، ومنهن من عانين فلسفة الأخلاق ومارسن فن التربية، وظللن فيها متوسطات لم يأتين بإبداع وجاء أدبهن خاليًا من التجدد.

لم يُكتب للنساء التفوُّق على الرجال؛ لأن التدقيق يصعب عليهن، حتى إن القصصيات منهن لم يتوخين إلا وصف الحب في كل مظاهره، جعلنه موضوع أقاصيصهن، ولم يعهد أن برَّزت امرأةٌ في قصة «الدرامة» وما جاء منهن مؤرخة، والمرأة تُحسن أن تَضحك من مثيلاتها، ولكنها لا تحسن الإضحاك. أما الرجل فيُحسن نقد نفسه كما يحسن نقد غيره. والمرأة تحاذر كثيرًا من المزاح الذي يأتي على الاعتبار والحرمة والحب وهي مجموعة عواطفَ. وكذلك كان النساء في التاريخ فقد نشأ منهن مدوِّنات مذكرات بكثرة، وقام منهن قصصيات ومنهن اليوم أُستاذات في التاريخ وأُستاذات في استخراج المكتوبات والمخطوطات، وما جاء منهن إلى اليوم مؤرِّخةٌ من عيار «تيري» ولا «ميشليه» لأن اللازم للتبريز في التاريخ معلوماتٌ كثيرة ليس في مكنة المرأة إحرازُها، والواجب أن يكون لها فكرٌ نقاد عارٍ عن كل هوًى للتمييز بين الحقائق والظنون، وعقل مجرب لإدراك أُلوف من الروابط تجمع الحوادث بعضها إلى بعض، ورأي ثابت خالٍ من التفصيل في العواطف، وقدرة على النظر نظرة واحدة إلى كل عصر، ولهذا لم ينشأ من النساء عظيمةٌ في باب النقد الأدبي والفني، ولا كان منهن فيلسوفةٌ تلفت النظر.

ومن النساء من كانت لهن مقدرةٌ على الاستفادة من دروس أساتيذهن، وليس فيهن واحدة ابتدعت مذهبًا، وما قامت منهن واحدة استطاعت أن تخلف مثل «خطاب في التاريخ» ولا «الأفكار» لباسكال، فهن قاصراتٌ في جميع الفروع التي تستلزم من المؤلف التجرُّدَ المطلق من نفسيته، وما لمعت أعمالهن إلا في موضوعات لا فَنَّ فيها. وقليل منهن من كتب لهن التفوق في الإنشاء والكتابة دون إرشاد الرجال لهن، فإن «مدام لافاييت» أشرف عليها «سكري» و«لاروشفو كولد» و «مدام دي ستال» سارت بسيرة أصحابها العديدين، و«جورج صاند» قادها عشاقها، و«مدام كوليت» راقب أعمالها «فنيلي.»

لم تُتِحْ مواهب النساء الطموح لهن إلى منزلة في الأدب المجرد، وشهدنا آثارهن أحيانًا خالية من الصنعة، فصح أن يقال أن ليس لهن قدرة على التفكير الصحيح والتوسع اللازم لوضع الفكر المجرد والإنشاء الفني، ولم يُكتب للنساء درجة عالية حتى في فن الطهي ورأينا كبار الطهاة من الرجال لا من النساء، وتراهن في باب الأزياء، والأزياء من أخص خصائصهن، يَتَّكِلْنَ على غيرهن في باب التجمل فهن أيضًا مَقُودات بأيدي الرجال بل إن النساء الملكات — كما لاحظ باربيه دورفيلي — قد فقدن البداهة والعمل الذاتي وما ساعد إليزابث الإنكليزية إلا بورليخ، وإذا ذُكرت كاترين الروسية ذُكر معها بطرس الأكبر. قال: إن إعطاء الحقوق السياسية لم ينتج منه الإصلاحُ المنشود في شمالي أوربا وفي أميركا وأوستراليا، حيث أخذ النساء يتمتعن بحقوق الناخب والمنتخَب. ففي الدانيمرك لم يأت النساء بشيء أحسن مما كان لتلك الديار يوم كان نساؤها يسلمن للرجال بمقاود الأمور، ولم يقض على الغول (الكحول) في بلاد السويد والنرويج وفنلندا وأوستراليا والولايات المتحدة، أما الفحش فكثيرٌ جدًّا في هاتيك الممالك، مشوبًا برياء وتَصَنُّع.

خرج المتعلِّمات في الجامعات الأميركية من البيوت الفقيرة، وأَظْهَرَ الفتيات في فرنسا وغيرها اجتهادًا في طلب العلم وقد يتعلمن بِدَعَةٍ وسُرعة كل ما يتطلب إجهاد الذاكرة ويُبَرِّزْنَ في المسابقات، ولسن كذلك عندما يخرجن إلى الحياة، ويضطررن إلى القيام بأمر يحتاج إلى تفكيرٍ وشخصية وصحة حكم. وقَلَّ أن ينجحن في المحاماة والطب، وندر أن يُقبل أرباب المصالح على توكيلهن في القضايا أو استشارتهن في الأمراض. ومن تزوج منهن من رجال لهم مثل صنعتهن، كأن تتزوج الطبيبة من طبيب والمحامية من محامٍ، لم يحمدن غبَّ زواجهنَّ؛ لأن التفاوت في قريحتَي الزوجين يؤدي إلى أن تحسد الزوجة زوجها على توفيقه في عمله فتبغضه وتشنأه. وثلث المتعلمات في أميركا لا يظفرن بأزواج. وكلما أحرزن شهادات تَخَوَّفَ الرجلُ الإقدامَ على التأهل بهن. وثبت أن من تزوجن في فرنسا لم يقدمن على الزواج إلا بعد سن الثلاثين وأحيانًا في الأربعين، وكان معدل العقم من هذا الزواج تسعة وثلاثين في المائة لا تنسل صاحبته ولا تلد.

أخذ بعض النساء بعد الحرب العامة يرجعن في فرنسا عن تعاطي المحاماة والطب وأثبت الموظفات منهن في الإدارات الحكومية والخصوصية أن المرأة عندما تجلس وراء كُوَّةٍ أو نافذة للقيام بعملها تصبح أشبه بالحيوانات المفترسة، وكانت خارج عملها من الساحرات الفاتنات بلطفها وظرفها. قالوا: إن النساء إذا شاركن في السياسة يدمثن الأخلاق ويبطلن الحروب ويشرعن تشريعًا إنسانيًّا أكثر من تشريع الرجل، والواقع خلاف ذلك؛ لأن من الموظفات من إذا رُضخ لهن بشيء من المال يبسمن ويغيرن معاملتهن، فما بالك بحالهن إذا عرضت على الواحدة منهن المئات؟ ومَنْ تَوَلَّين أعمالًا لا شأن لها كثيرًا لم ينجحن النجاح المطلوب، ومن نجحن كن بتراكيبهن الجسمية أشبه بتراكيب الرجال من حيث العضلات والقوى.

وما نجح النساء في تولِّي الحكومات لو لم يكن لهن مؤازرون عظماء من الرجال يعملون كل شيء وينسبون ما عملوا للملكات. وإذا رجعنا إلى تراجم الملكات والأميرات نجد كثيرات منهن على جانب من التهتُّك والخلاعة، وما تعففن عن غمس أيديهن بالدماء، ويكون ذلك أحيانًا لمآرب لهن، وللتخلص من رجال تمتعن بهم ثم أردن إلغاء ذكرهم. وإذا أردنا أن نذكر شهيرات النساء في الأدب لا نرى غير الرجال يعملون لهن من وراء ستار، على الأكثر، وما تُركت فيه المرأة وشأنها من الآثار الأدبية كان إلى التفاهة والفهاهة.

قال: ولقد رأينا محاميات انقلبن خادمات في البيوت، ولدينا براهينُ كثيرة على أنه خير للمرء أن يحسن صناعةً من أن يحمل شهادة حسنة، فقد نال كثير من النساء لقب دكتورات في الحقوق، فأصبحن كاتبات بسيطات على الآلة الكاتبة، يتعلم النساء علمًا كثيرًا ولا يعرفن احتياجهن إلى كسب قوتهن.

قال برودون: إن المرأة التي تبتعد عن جنسها تسقط إلى مستوى أنثى مهذارة وقحة كسلانة خائفة خالعة مسممة، وهي طاعون أسرتها والمجتمع. وقال لوكوفيه: إن المرأة الطبيبة يُتقزَّز منها، والمرأة التي تتولى كتابة الصكوك يُضحك منها، والمرأة المحامية يُفزع منها. وكان أوجست كونت يعرف النساء كثيرًا ويغرم بهن كثيرًا، ويخالف في تحريرهن ويعرف أنهن — ما عدا القليلات منهن جدًّا — لم يُخلقن للعمل ولا للحرية ولا لتحمُّل التبعات. وكتب جوزف دي مستر في كتاب له إلى إحدى بناته: إن فولتير يدعي أن النساء قادرات على أن يعملن كل ما يعمله الرجال وما دعاه إلى قوله هذا غير التقرُّب من قلوب بعض الغواني الفاتنات، فالنساء لم يأتين بأثر يذكر في ضروب الآداب: فلم يؤلِّفن الإلياذة، ولا الإنياد، ولا القدس المنقذة، ولا فيدر، ولا أتالي، ولا رودكون، ولا الميزانتروب، ولا تارتوف، ولا زهرة دي دميديسيس، ولا أبولون دبلفيدر، ولا البرسة، ولا كتاب الأصول، ولا خطاب التاريخ العام، ولا تليماك. ولم يخترعن الجبر ولا المجاهر ولا المناظر ولا مضخة النار ولا صناعة الجوارب … إلخ. وما قامت امرأة عالمة جديرة أن تُعد بين العلماء، فالمرأة ليست في حال تستطيع أن تَفُوق فيها الرجلَ إلا بأنوثتها، وليست سوى قردة إذا أرادت المساواة بالرجل.

قال المؤلف الذي نقلنا عنه هذا: أيتها المرأة إنك مهما فعلت مسوقة بنابل من الكبرياء وبعوامل أكرهتك على خوض غمار أزمة هذه الأيام، لتخرجي من حظيرة جنسك، وتقطعي صلتك بعملك الأبدي السامي، لن تكوني إلا صاحبة وزوجة وأُمًّا، وإذا أُنسيت رسالتك فإن الطبيعة ستتولى، عاجلا أو آجلا، تذكيرك أن الأقدار ما خرجت بك إلا لتكوني شريكة الرجل وأُم أولاده وجزءه المتمم ونصفه، وأحيانًا الموحية إليه والمنقذة له. أنت، أبدًا، مهدُ الآلام البشرية، وستظلين على ذلك إلى يوم البعث والنشور. ا.ﻫ.

وبعدُ، فقد كنت ولا أزال ظهيرًا للمرأة، محبًّا لإنصافها، آسفًا للاستعباد الذي حاق بها، محاولًا تعليمها كُلَّ ما يرفع من شأنها، داعيًا لإمتاعها بحجابها الشرعي، ذاهبًا إلى أنَّ تخلُّف المرأة المسلمة عن الأخذ بحظ من التهذيب قذف بالمسلمين من حالق المدنية إلى هاوية الانحطاط، وما طلبتُ إعطاء المرأة زيادة على حقها، وما جوزت لنفسي أن أخدعها وأَتَمَلَّقَها توقعًا لرضاها، وكنت وما برحت على مثل اليقين أن من يعاون المرأة على مساواة الرجل يخدعها ويضحك منها. وصديقك من صَدَقَك لا من صدَّقك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤