القول في النساء المظلومات

درجتُ منذ عهد الصبا على البحث عن أسرار النساء، وكنت أعطف على من خانهن الطالع عطف مَنْ يشاركهن في آلامهن، ومنهن من كن يفتحن لي قلوبهن، ولا يخفين عني ماضيهن وحاضرهن، فكنت أسقط بذلك على المُفجع المُوجع، والمُدهش المُغرب.

كنت قبل الاطلاع على أحوال النساء أجد الرجال على حق في شكواهم منهن، فلما تجلى لي بعض أسرارهن، تحققت أن معظم الحق مع النساء، وتندر فيهن المبطلات، وأن الرجال يُظلمون قليلًا والنساء يُظلمن كثيرًا، وأن النساء للرجال أخلصُ من الرجال للنساء، وأنهن أَعَفُّ نفسًا وأوفرُ رصانة، يصبرن عن الرجال أعوامًا، وهؤلاء لا يصبرون عن النساء أيامًا، وطبيعة الجنسين واحدة.

وترجح عندي أنه إذا ساءت سيرةُ بعضهن، فالسبب الأعظم فيه الرجال، وقد لا تكون فيه يدُ النساء، وأنه تقلُّ الفاسدات بالفطرة منهن، وفي وسع الرجال استصلاحهن، لو عُنُوا بأمرهن العناية الواجبة.

يرتكب الرجل ما يرتكب من الشهوات فتُقام له الأعذارُ ويُسامح، ولا تُعذر المرأة مجردة كانت أم محصنة؛ لأن النساء مصدر الولد ومورده، وفي ابتذالهن إفسادٌ للبيوت، هذا حق لا يخلو من شيء من الباطل. أُنصف فيه الرجل خاصةً أو أُغضي عنه.

والأصل في تخفيف جرم الرجل، وتطبيق أقسى العقوبات على المرأة، أن الرجل صاحب القوة، وللقوي إملاء إرادته على ما يشاء، ويُضاعِف الجزاءَ للمرأة ضَعْفُها. والتكليف إنما وقع على الذكر والأنثى سواء.

ومع ما بَلَغْنا من صعودٍ في درجات المدنية لا نزال نرى أمورًا فيها الغبن الفاحش على النساء. ومن ذلك أن يَحرم بعضُ الآباء بناتهم إرثهن ليخصوا بمالهم أبناءهم. وكانت هذه العادة الجاهلية متأصلة في بعض الأرجاء التي تغلب عليها البداوة، فسَرَتْ إلى المدن المفروض فيها أنها أخذت بنصيب من الحضارة.

يقولون الكفاءة الشرعية، وهذا باب من أبواب الفقه يُقرأُ ولا يكاد يعمل به كباب الجهاد وباب الرقيق، وإذا بطل الجهاد والرقيق من الأرض فالزواج ما بطل ولن يبطل. وليت شعري لِمَ لا تُنسخ العقود المعقودة على غير قاعدة الكفاءة، ولِمَ يُقِرُّها صاحب السلطان، وأقل ما يقال فيها أنها تحمل أحد الطرفين على النفرة من صاحبه، وعاقبة النفرة ارتكاب ما يحرم ويضر؟

قالوا: إن الكفاءة هي مساواة الرجل للمرأة في أمور مخصوصة، كالنسب والإسلام والحرفة والحرية والديانة والمال، وما أدري لِمَ لا يعدون في باب الكفاءةِ كفاءةَ الزوجين في السن، كأنْ يُشترط على الزوج ألا تتجاوز سِنُّه بضع سنين زيادة على سن امرأته. فقد حددت مصر والشام في العهد الأخير السن التي يستطيع كل من الزوجين أن يتزوج فيها، وبقي على المشرعين أن يحددوا السن التي يسوغ فيها لكلا الزوجين أن تُعقد بينهما هذه الشركة، حتى لا يتزوج الرجل من فتاة قد تكون في سن ابنته أو حفيدته.

وما زالت المحاكم الشرعية تعقد لفتاة على شيخ هِمٍّ. وحدث أن عقدت لابنة في الخامسة عشرة، غاية في الجمال، على شيخ في الخامسة والسبعين، فلما سمعت خبرها، وأهلها من معارفنا، ويدعي أبوها الفهم والتقوى، قلت لأهلي: قاتل الله هذا الأب الظلوم إنه بتزويجه ابنته من هذا العجوز قد قتلها، وبالفعل هلكت الفتاة بعد مرور سنة على زواجها، ولم يعرف إذا كانت ضَرَّتها سَمَّتْها، أم أنها ماتت قهرًا من زواجها. (في الصحيحين: لا تُنكح الأيم حتى تُستأمر ولا البكر حتى تُستأذن).

أليست مثل هذه الأحداث التي ما زالت تتكرر دليلًا قاطعًا على أَنَّا لا نزال ننظر إلى الفتاة نَظَرَنا إلى سلعة يقتنيها من يدفع ثمنها، وأن الحق لوليها مالكها الأول بالنزول عنها لمن يحلو له؟ كأن الفتاة المسكينة لا روح لها ولا مزاج ولا ذوق، وكأن كل أولئك من خصائص الرجال وحقهم الذي لا ينازعهم فيه منازع.

من الكفاءة الشرعية تكافؤ الزوجين في الثروة والمقام، فهل طُبِّقت هذه المادة تطبيقًا محكمًا أم تُركت للمصادفات؟ يطمع الفقير بالغنية يتزوجها مهما قلت المرغبات فيها، فلا يلبث أن يقع خصام بين زوجين متخالفين في الدرجة، وتعدو المصيبة في الآخر على ذاك البيت الذي لم يُحكم أساسه، لفقدان التشاكل في مواد بنائه.

وكم من غني طاعن في السن اقترن بفتاة غريرة فانقبضت منه روحها، فعَزَّاها أهلها بموته قريبًا، وأنها ستتزوج بعده بشاب يحبه قلبها، مزودةً بمال العجوز زوجها الأول، فتطول حياته وهو عاجز عن معاشرتها المعاشرة المطلوبة، ومع هذا تأتيه بأولاد يربيهم. والقدرة على العشرة الزوجية شرطٌ في الكفاءة كالقدرة على المهر والنفقة بل هو أولى. نصت على ذلك كتب الحنفية.

وكم من زوج طاب له أن يجمع من النساء مثنى وثلاث ورباع، وقد يضم إليهن إذا كان غنيًّا وصيفات وخادمات، فتصبح داره كحظيرة الغنم ليس فيها إلا فحل واحد، والرجل إنما رُزق قوة واحدة. وحَدِّثْ ما شئت أن تحدث عن المفاسد التي تجري في مثل هذه الدور، يتولى الخدم من الحرم ما يعجز صاحب الدار عنه.

وكم من رجل اتخذ من زواجه تجارة فتزوج من قبيحة الصورة، وأزمع أن يرضي نفسه في غير بيتها، ويجعلها مورد رزقه الدائم. ولا تَسَلْ عما يكون من حال هذا الزواج متى سيطر العقل على أحد الطرفين المتعاقدين، وكثيرًا ما رأينا بعض عقود الزواج يقوم على فكرة تجارية بحتة، ومثل هذا الزواج لا يطيب ولا يُرجى له البقاء. وأَقْبِحْ بزوجة تتزوج ممن لا تحب، وهي تُبطن في قرارة نفسها أنها تخدعه متى انفسح أمامها المجال. وسوأةً لرجل يغض الطرف عن كثير من الاعتبارات في زوجته طمعًا في مالها، وإرادة أن يَنعم بالتقلُّب في أعطاف نعمتها.

•••

وما القول في أحمق يعضل بناته، وعروق الحياة تنبض فيهن، يحاذر بهذا ألا ينقل جزءًا من ثروته بعد موته إلى صهر له في بيت آخر. وهذا ماذا نسميه، وماذا يقول بناته فيه؟ لا جرم أن القتل أَخَفُّ من ظلمه هذا، ففي القتل راحة، والفتاة التي حكم عليها بسلطان هذا الغشوم تُقتل كل يوم قتلة، وتسوء صحتها ويضعف نشاطها، وتَسْوَدُّ الدنيا في وجهها، وتُطفأ شعلة أملها.

عرفتُ أُسرتين على شيء من الوجاهة، بلغ عدد البنات العوانس في الأولى نحو ثلاثين بنتًا لم يزوِّجوا منهن واحدة مخافة أن يروح الصهر بجزء من ثروتها. وبلغ البنات في الأُسرة الثانية نحو سبعين بنتًا لا يتزوجن، في الغالب؛ لأن أهلهن يطلبن مهرًا كبيرًا يلائم مكانة بيتهن، فابتعد الشبان عن طلب فتاة من تلك العوانس المتبتلات، وكن إذا لاحظ أهلُ بعض تلك الفتيات خروجًا من إحداهن على الآداب يقتلونهن بدون رحمة، وليس أفراد هذه الأسرة، على الأكثر، في سعة ليخصوهن ببعض ما يجب أداؤه في السعادة للفتاة التي كان أهلها، بحسب الظاهر، على شيء من السراوة. وللقارئ أتركُ تقدير موقف هذه المائة فتاة في عصرٍ فسد فيه حتى النُّسَّاك.

وماذا نقول أيضًا في أُمٍّ مكارة، يشتهي ابنها البالغ الراشد الموسع عليه أن يتزوج؟ وهي في باطنها ترجئ زواجه حتى لا تنغصها الكَنَّةُ بزعمها. وكلما خطب ابنها فتاة وصمتها بكل ما تتخيله من عيوب، وهي أبدًا تطمعه بأنها تخطب له البارعة الجمال الكاملة الصفات، وتُشبعه من وعودها سنين حتى يبلغ الأربعين وأحيانًا الخمسين، ولو تأهل في السن التي استطاع فيها تأْليف أُسرة لأَنسل بضعة أولاد. ولبعض الحموات في معاملة الكَنَّةِ تَمَحُّكات وتَقَوُّلات لا تقل عن تَمَحُّكات بناتها وتَقَوُّلاتهن، قد تخرج الكنة عن اعتدالها. والابن إذا طالت عزوبته قد يتلوث بأمراض تقطع نسله ونسل من يتزوج بها. وقد عنيت بعض الحكومات في العهد الأخير بالكشف عن الزوجين كشفًا طبيًّا قبل عقد الزواج، ونِعْمَت القاعدة لو جرى تطبيقها بأمانة.

لو كُشف لنا عن قلوب الفتيات اللائي قضى عليهن أولياؤهن القساة بالتبتل، لقرأنا فيها صفحاتٍ مؤلمةً، ولكن الرجل متى أَهمته غير نفسه؟ ومتى سعى إلى غير إرضاء شهواته؟ ومتى بِرَئ من أثرته الممقوتة؟ أما رأيناه على اختلاف القرون والأقطار يعدل مع نفسه، ويجور أبدًا على غير أبناء جنسه؟

وما إخال الحيف الذي كان من أثره إبقاء الفتيات عوانس في بيوت أهلهن إلا محتاجًا إلى تشريع جديد، يُكره فيه الأبُ على تزويج ابنته، ومن يأبى الخضوع للقانون من الآباء والأولياء يعاقَب بالحبس والتغريم. فقد كان الصحابة الكرام أول الإسلام يعرضون بناتهم على الزوج الصالح لا يرون في ذلك حرجًا، ويعدون هذا عيبًا في عصرنا.

سهلت الشريعة الزواج وسهلت الفراق فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وما برح مع هذا بعض أبناء هذا الزمان يُجَوِّزون ألا يُطَلِّقوا من اختلفوا معها أَوْ تبرئه من مؤخرها، وما تستحقه في ذمته من مالها. وربما طلب منها مقدارًا من المال لا تحتمل حالتها وحالة أهلها أداءَه حتى يجيبها إلى مُلْتَمَسها. فتطول بذلك مدة الانفصال أعوامًا، يُمسخ خلالها جمال المرأة، ويَنشأ من التسويف التعجيلُ بالقضاء على شبابها، لشدة ما يعروها من الاضطراب النفسي. ومن هؤلاء الأزواج من يغتبط ويفخر كلما أطال عذاب امرأته، ويعد تحامله عليها أدبًا لها، وكثيرًا ما تخرج بهذا إلى ما لا ترضى به الفضيلة.

شهدتُ غنيًّا أبى — على غناه — أن يَنزل عن مؤخَّر ابنته، فدامت فترة الانفصال أعوامًا، وكان من ذلك إرجاءُ تزويج ابنته ثانية، وحرمان ثنتين من بناته الزواج؛ لأن القوم رأوا شدة الأب فابتعدوا عن خطب بناته. وعلى هذا ارتكب الأب ثلاث جنايات في آن واحد بتفضيله المالَ على إحصان بناته.

وكان على القضاء في مثل هذه الأحوال أن يفصل بين الزوجين حالًا، خصوصًا وقد أخذ القضاة بأَخَرَة يسارعون، ما أمكن، إلى إصدار أحكامهم الزوجية حرصًا على مصلحة المتداعيين. ومن الخير أن يغلط القاضي في حكم واحد كل مدة، وألا يسدَّد في كل قضاياه مع تطويل يحمل عواقب سيئة على المرأة والرجل. لا يكون حب النساء أزواجَهن بالقسوة ولا بالإكراه، متى نفرن منهم أو نفروا منهن فالأولى الطلاق.

قرأتُ في كتاب فقه أن قبح المنظر في الزوج ليس بعيب. فإذا كانت المرأة جميلة وهو قبيح المنظر فليس لها ولا لوليها حق المطالبة بالفسخ! وفي هذا القول التعسف كله، لمنافاته الطبائع البشرية. وما جوزوا الفسخ إلا في الجنون والبِرْسام … إلخ.

وقد جعل قانون الأحوال الشخصية الجديد للمرأة مخرجًا للخلاص من زوجها إذا ادعت فقط أنه لا يلائمها فتطلقها المحاكم منه، وبهذا تستطيع المرأة أن تُطلق زوجها اليوم إذا نزلت له عن مقدمها ومؤخرها أو عن بعضهما. الشريعة صالحة على شرط أن تطبق بحذافيرها.

ومما عمت به البلوى في القطر الشامي هجرة من يهاجرون في طلب المال إلى القاصية، وما ينشأُ من طول سفرهم من الألم والفِراق في هذه الأحوال لا يدوم أشهرًا بل أعوامًا. وكم من فتاة عُقد لها على فتًى، أو بَنَى بها أشهرًا ثم غادرها، وأخذت هي تتوقع أَوْبَتَهُ العشر والعشرين سنة، وهو في غربته يتمتع أنواع التمتع والمسكينة كل يوم تتحرق وتتمزق. والقضاة اليوم يفسخون مثل هذه العقود بعد سنة من عقدها. ولو كنت قاضيًا لفسختُ — وما خشيت — عقدًا مثل هذا بعد انقضاء أربعة أشهر فقط، لا أفسخه بحجة أن الزوج تغيَّب عنها ولم يربط لها نفقة، بل أَبني الفسخ على التغيب.

نعم ما أنصف الرجل المرأة الإنصاف الواجب، وليس معنى هذا أني أطلب إليه أن يكون بقربها ليل نهار، لا يسافر ولا يغامر، بل أُريده أن يعتقد أن للمرأة نفسًا كنفسه، وعليه أن يفكر في مصلحتها كما يفكر في مصلحته، ويعتقد أن سكوتها، إذا سكتت، لا يفسر بأنها راضية بفراق زوجها. أُريده أن يتقيد بقيود تعصمها من خديعته وتَقِيه شر خديعتها مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ أطلب إليه أن يعرف لها، أبدًا، قدرَها لا دِهان ولا مَلَق، وبذلك تحترمه حرمة حقيقية، وتحبه حبًّا خالصًا. وعلى الرجل أن يُوقن، ما دام يعيش مع زوجه، أن الغنم بالغرم، وأنه إذا تمتع بها شابة فعليه أن يحملها كهلة، لتنصرف إلى تربية أولادها، ولا تفكر في غير إدارة بيتها، وإسعاد زوجها وبنيها، وليس أسقط مروءةً من رجل يطلق زوجه متى سَئِمَتْها نفسه، سواء كانت أُمًّا أو عاقرًا.

سمعتُ برجال يَفْجُرون على مرأًى ومسمع من نسائهم وبناتهم وأخواتهم، فهؤلاء فئةٌ ضالة تهتك بأيديها أعراضَها، وتُنَشِّئُ بيوتها على الفحش تنشئة، ويستحيل في بيوت لا يعرف أربابها الطهارة أن تطهر تربية بنيها وبناتها. وليت شعري هل حسبوا المرأة حيوانًا يستعملونه متى حدثتهم أنفسهم؟ أو ظنوها خُلقت من صخر أَصَمَّ لا يُدرك ولا يحس، وهم من صنف الملائكة الكروبيين خُلقوا من معدن حساس شفاف براق؟ وهل تُلام المرأة في شرع العقل إذا زاغت عن الجادة، وقد علَّمَها أولياؤها، بسوء سيرتهم، ما ساءت معه سيرتُها؟

ثم هل يَعرف معنى الأُسرة مَنْ يصرف معظم أوقاته خارج بيته يشرب ويلعب، ولا يأوي إلى فراشه إلا قبيل الفجر، وهو مخمور متعب؟ ألا يحق في هذه الحال للمرأة أن تتطلب زوجًا غيره؟ وأن تحرص جهدَها على الطلاق، وقد انعدمت العشرة الصحيحة في هذا الزواج؟

•••

ربما يعد بعضهم هذا الكلام من الآراء المتطرفة، أَوَليست العلة مستحكمة مستعصية؟ وقديمًا قالوا: من كتم علته قَتَلَتْه، المرض يسري ويستشري فلا بد إذًا من تشخيصه ووصف علاج له، إن لم يكن حاسمًا، فلا أقل من أن يكون مسكِّنًا، والخطب أعظم مما يذهب إليه من لا يبالون العواقب.

رأينا نساءً راقيات قضى عليهن أولياؤهن أن يتزوجن ممن لا تميل قلوبهن إليه، فما حصل امتزاج بين الفريقين؛ إذ لم يكن فيه حظُّ الروح كحظ الجسد. حدث أن أهل فتاة فرضوا، كما جرت العادة، على ابنتهم الزوج الذي اختاروه لها، فأسرت إلى أمها ليلة زفافها، أن قلبها لم يحبه، فهددتها إذا هي فتحت مسألة الفراق، بدعوى أن طلب ابنتهم ذلك مما يُسقط اعتبار أسرتها. ومن العار أن تقول: أُفضِّل هذا وأُحب ذاك. وهل تملك الابنة حق التفضيل؟ أو تستطيع أن تجاهر بالحب؟

هذا ما وقع لحسناء قَصَّتْه عليَّ، والصدق بادٍ على ما روتْ، وأضافت إليه قولها: إني صبرت على مضض، ووَطَّنْتُ النفس على الرضا بما حَلَّ بي، وتحققت بعد الزواج أن بعلي القريب من البَلَه، مولَعٌ بتجارته للغاية، وكان محل تجارته بعيدًا عن بلدنا، فكان يفارقني أشهرًا لا يسأل عني، وأخباره تكاد تنقطع أكثر أيام السنة، وإذا سَرَّنِي بقدومه فلقضاء أيام قلائل معي، ينجز خلالها حساباته مع عملائه. وأنا ما كنت أرتاح بالعيش معه في تلك البلدة التي يسكنها، وإلى هذا كان يضن علي بالنفقة اللازمة لكسوتي، أُسوة مثيلاتي. والمرأة من عادتها أن تصبر على الجوع ولا تصبر على ما تطمح إليه نفسها من الثياب، لتظهر بمظهر خَلَّاب. ورب امرأة زين لها الولوع بالتزين أن تتساهل بأَعَزِّ ما عندها، وهو شرفها، لتكتسى ما به ترفع رأْسها أمام رفيقاتها!

نعم أُصيبت تلك البائسة من زوجها ببلاء عظيم، يتجافى أشهرًا عن مضجعها، ويشحُّ عليها بالنفقة اللازمة، وهي من الطراز الذي يرغب الرجالُ في مثله. فما هي إلا سَنَة أو سنتان حتى خرجت الحَصَان عن إحصانها، وما رعت حقوق زوج ما أَحبه قلبها، منذ اليوم الذي وقعت عينها عليه، وزاد اشمئزازها منه ما كان عليه من دَمامة وجه، وكَزازة يد، وخلوِّ ذهن من كل ما يرضيها.

ومثل هذا الضرب من التَّعِسَات قد لا يقفن عند حد، ولا يكتفين بخليل واحد. فقد أنشأت البغيُّ تسترسل في فجورها، وزوجها لا يفكر في حالها. وباغتها ذات يوم، وهي مع أحد عشاقها، فقتلها فحُكم عليه بالسجن مدة قصيرة، ولو كان في الأرض عدل لحكمت المحكمة أيضًا على أبويها اللذين زوَّجاها بمن لا تحب، وأنذرتْهما فما سمعتْ غير التهديد، ولَخَصَّتْ بالعقوبة الشديدة أُمَّها التي لم ترض أن تسمع من ابنتها كلمة الفراق، ثم أقرتها بعد حين على استهتارها.

ونحمد الله على أن حجاب المسلمات قد رَقَّ في أكثر المدن، فلم يعد يرى الوالدان في الحواضر من العيب أن يرى الخاطبُ خطيبته قبل العقد، على ما يسمح بذلك الشرع. وأخذت هذه المسائل تجري في مجراها المعقول في الجملة، وارتفعت المضارُّ التي كانت تَنشأُ من زواج الرجل ممن لا يعرف. وكان الزوجان يتزوجان بعيون الخاطبات لا بعيونهما، وبعواطف السماسرة والسمسارات لا بعواطف الزوجين.

•••

قد يطلب بعض الفساق من المحصنين إلى نسائهم أن يخدمنهم وهم مع غيرهن في حالة منكرة، فإذا اعترضن على هذا الأذى هُدِّدْنَ بالطلاق، أو ضربوهن وأَدْمَوهن، فهل ترى المرأة يا ترى، وهي المشهورة بغيرتها، المحافظة على قيود الزواج، مع رجل شهدت قبح فعلته، وشفعها بسوء معاملته؟

من الرجال من يَسُوقون نساءَهم إلى الخنا سوقًا، وهن العفيفات في فطرتهن. عرفتُ سيدة جميلة الخَلْق والخُلُق، كان أهلها على حالة حسنة من العيش، فخطب ابنتهم رجل صاحب مشاهرة، فزوجوه حالًا، وكان عمر الفتاة تسع سنين وعمر الزوج ثلاثين، زوجوه؛ لأن البضاعة عَرَضَ لها من دفع ثمنها فالحزم بَيْعُها! ويا ليت ذاك القرين كان على صفات تُحَبِّبُه إلى الفتاة. كان بشع المنظر جدًّا، فظيع المخبر جدًّا، كان هِجِّيرَاه السكر والعُهر، وكان يبالغ في فجوره كلما بلغت زوجه أشدها، وما كان يرى من جُناح عليه أن يدعو إلى بيتها الفاجرات، يَرْهَجن ويرقصن في الغرفة الملاصقة لغرفتها، أو في فِناء الدار، أمام بعض أصحابه، وزوجته تنظر لما يجري في هذا الماخور، ويضطرها أن تخدم ضيوفه في ساعات مجونه، تُعِدُّ لهم الطعام والمدام، وهو إلى هذا لا يقرب فراشها، إلا إذا عَزَّ عليه الظفر بغيرها.

وقُطع عن هذا الزوج راتبُهُ وضاقت به الأسباب، فكان لقلة مروءته يحمل قرينته على أن تفتش هي له عن عمل، ونسي، أو تناسى، أن حليلته سليمة الذوق، مرهفة الحس، وأنها إذا صارت إلى الاحتكاك بالرجال يُفتنون بها، وهي أيضًا لا تأمن الفتنة، وغاب عنه أنها طالما قالت له، في أوقات غضبها، إنه سيندم على ما قَدَّمت يداه معها.

فمن الملوم في هذا الزواج الذي لم يتم فيه شرط واحد من شروط الكفاءة، اللهم إلا شرط الإسلام؟ زواجٌ كان من أوله إلى وسطه إلى خاتمته نكبة مطردة على تلك العقيلة. ألا يلام أهل الفتاة كل اللوم، لإلقائهم بفتاتهم إلى وحش ضارٍ ما كان بحال أهلًا للزواج بها؟ وهم ما كانوا أيضًا بحاجة إلى التخلص من ابنتهم قبل أن تصلح للرجال، وتختار هي القرين الذي يروقها.

كان هذا الزوج عاريًا من أنواع الكفاءات، وفي قرينته عامة المؤهلات لتغدو زوجةً صالحةً، تعرف كيف تسعد قرينها وتُغنيه. وقد صبرت عليه زمان فتوته وكهولته، قاهرة طباعها، راضية به على علاته، مغضية على ما كان يطالعها به كل ليلة من موبقاته، وكانت إلى منتصف العقد الثالث من عمرها تأمل له الإنابة، والإقلاع عن استهتاره، وتربأ بنفسها عن ركوب الفاحشة، وهي ميسورة لها، ومعروضة عليها. فلما قاست من زوجها ما قاست، وتأخرت أحوال أبيها كأحوال زوجها، ونظرت فيما آلت إليه حالها، اتخذت لها خليلًا. تخلت عن زوجها وظلت على البعد عنه تبره وتحسن إليه، متناسية عَبَثَهُ بعِزَّةِ نفسها، ولا تفتأ تضرع إلى خالقها أن يغفر لها زلتها.

ولكَمْ سمعت من مآسٍ مثل هذه أو أفظعُ وأغربُ، كان فيها الرجل مثال الجور الفادح، وكنت أقول، كلما نُقلت إلي فاجعة من مثل هذه الفواجع: هذا ما وصل إلى علمي، وكم في البيوت يا تُرى من أسرار لم تبلغنا، حُجبت بحجاب من الكتمان الشديد وكم من مصائبَ كانت النساء فدية عظيمة فيها، عُذِّبْنَ فيها أنواعَ العذاب، وما شعر أحد بما حَلَّ بهن؟

جعلوا قتل المستهترات سنة يستن بها الغُيُر على الشرف، فهلا سأل أهلوهن، قبل أن يقضوا على حياة من استهانت بالعرض وما بالت، عن السبب الذي حملها على اقتراف ما اقترفت، ولعلهم كانوا يُعطونها بعض الحق في خطيئتها، لو حكَّموا العقل فيما لهم وعليهم.

قد يجرأ بعض النساء على إدخال السم على أزواجهن، ليفرغن لأنفسهن، فيفتشن على الزوج الذي يحقق رغائبهن، أو يرتكبن هذه الجناية الفظيعة ليخلو لهن الجَوُّ فينطلقن على هواهن مع من خاللن وعاشرن. وكَمْ جرى تحت طَيِّ الخفاء أمثالُ هذا القتل، وما عُرف سر موت الزوج. وكم من فتاة انتحرت ولم تحتمل أعصابُها شططَ زوجها خصوصًا إذا تزوج من غيرها.

هذه أحداثٌ تحدث في المدن والقرى، وبين الطبقات الغنية والفقيرة على السواء، والعاملُ الأكبر فيها حيف الرجالِ، والنساءُ في معظم هذه الأحوال لا يجدن الحانيَ على ضعفهن، ولا الرائي لبلواهن وشكواهن. فهل يحمل المستقبل يا تُرى فَرَجًا لهن مما هن فيه، ويعدل الرجل فيرتفع أكثر الفساد الذي نرى؟

ربما يبدو لبعضهم أني تشيعت كثيرًا للنساء وألقيت على عاتق الرجال كُلَّ شقاء يصيبهن، وأني حاولت، بهذا، أن أُبرئهن من كل لائمة. وأنا لا أُعفي النساء من تحمُّل التبعات، وأعرف أن منهن الفاسدات بالفطرة ومنهن من ينغمسن في الفساد على غير داعٍ إلا إرادة العهر، وإذا فحصن فحصًا دقيقًا تبين أن فسادهن ناشئٌ عن مرض في عقولهن. والفساد أيضًا مرض، ومرض قتال.

عرفتُ امرأة متزوجة في أُسرة كبيرة لم تمنع نفسها — وهي متزوجة من أحد كبار ذاك البيت — عن جميع شبان أُسرته فجمعت بين الأخ وأخيه وابن العم وابن عمه في وقت واحد وعلى فراش واحد، فهل هذه الفاجرة إلا مريضة؟ ولا كلام لنا مع المريضات. والأمثلةُ أكثر من أن تُحصى في هذا الباب.

وأعرف غير واحدة يدَّعين دعاوى غير صحيحة لتبرير فحشهن، وليس لديهن أدنى حجة على إيغالهن في تيه الشهوات، ولو كان في رجال هؤلاء الفواجر أقل غيرة ما جسرن على ما لا بد أنهم عارفون به من استهتار الزوجات الشريرات. ولا يفسر إغماض العين عن مساوئ زوجاتهم إلا بأنهم راضون عن مشاركة غيرهم لهم في أمر لا يقبل الشركة إلا عند من نُزعت من نفسه آثارُ الشرف والمروءة.

كانت مثل هذه الحالات تقع على الندرة، فكَثُرَت في هذا الجيل، وتجرد الفاجرات من كل حياء، لا يحسبن حسابًا إلا لما فيه الحصولُ على أقصى حد ممكن من شهواتهن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤