القول في عاميتنا

قد يكون المرء في مقام المعظَّم في النفوس، ويكون ممن رفعتْه الدولة، ويكون وجيهًا مُمَوَّلًا، معروفًا بين أهل جيله بحَلِّ المعضلات والبصر بأسرار الحياة، أو إخصائيًّا في علم يتوقف التبريز فيه على دراسة ومرانة، كأن يكون عالمًا دينيًّا، أو فقيهًا مدنيًّا، أو طبيبًا، أو مهندسًا، أو مؤلفًا، خطيبًا، كاتبًا، شاعرًا، مصورًا، موسيقارًا، أو إداريًّا سياسيًّا ماليًّا اقتصاديًّا. قد يكون المرء ممن يُعْنَى ببعض هذه المعارف، وله الحظوة عند أرباب السلطة وفي الملأ، ويَلْقَى الجِلَّة والنبلاء، وهو ينطوي على أفكار عامية، وأدنى إلى أن يسلك في طبقة العوام.

ما العلم إلا صناعة يتقنها أو يتقن بعض شُعَبها من يمارسها زمنًا، أما تمثل العلم حتى يدخل شغاف القلب ويختلط باللحم والدم، وتصفو به نفس صاحبه فتُخرجه من سقيم الأفكار ولوثات الجهالة، فهذا هو الأمر الذي يخطئه الأكثرون؛ وإنك لتشهد الرجل يعجبك سمتُه، فإذا جئت تحدثه فكأنما تحدث جلفًا جافيًا لم يورثه التعليم تبدلًا كبيرًا في عقليته وخُلُقه، فلا تبرح تحس من مجموع حالاته أنه بعض الباعة أو الفَعَلة ولكن بكسوةٍ غير كسوتهم.

كنت مع أحد أصدقائي ذات يوم في حفلة تكريم وكان إلى جانبنا رجل نعرفه ويعرفنا لم يتبين شَخْصَيْنَا لمكان الضعف في بصره، فقال لي صاحبي أنصت، بالله عليك، لنستمع إلى حواره مع أصحابه، فألقيت سمعي، فإذا كلامه لا يتعدى البحث في الأكل والشرب، كلام العامة حذو القُذَّة بالقذة، وكان هذا الرجل تَوَلَّى أعظم عمل ديني، وله في الفقه باع، وقاوم أكبر رجال الإصلاح لهذه العصور الأخيرة. فقلت لصاحبي: عجيب إنه لم يزل على ما كان يوم أرسله أهله من مزرعته لتلقي العلم في الأزهر، لم تَنزع منه المقامات التي وصل إليها ما ورث عن آبائه من خلق، وما أثر فيه ما رأى في الحضر من آداب، وأزيد الآن أن تآليفه أيضًا كانت مشبعة بروح العامية، ومجادلاته مع خصومه تَرْشَحُ من العامية، ليس لها من جلال العلم كبير أمر.

قال لي شيخٌ تولي كبريات المناصب الدينية متمجدًا: إن أباه كان من أولياء الله تعالى وإنه كان صاحب كرامات، ومن كراماته أنه كان يطعم من طعام إنسانٍ واحدٍ خمسين ألف إنسان، وهذا أيضًا، على علمه الذي سلم له به أمثاله، كان مفرطًا في عاميته، ما أدرك، على ذكاء فيه، أن مثل هذه الدعوى من رجل على شاكلته في هذا العصر وفي مصر لا تصدر إلا عن رقيع لا يعرف الدين ولا الدنيا.

وسمعت شيخًا من هذا العيار الثقيل يتناغى في مجلس ضم بعض النبهاء بفوائد الطرق الصوفية، وما عادت به على المسلمين والإسلام من الخير؛ ويثبت لأربابها من المزايا ما لا يعتقده فيهم من لم يقرأ حياته كتابًا ولا نظر صحيفة، وعجبت لصدور مثل هذا الكلام من رجل كان يعد صدرًا في الشريعة، وما كان في الأمور الأخرى التي تميز الرجال إلا رجلًا تعلم العلم وما نَجَتْ نفسه من تخريفات، انتقلت إليه من بيته وبيئته، وعاش في سلطانها حتى ضم قبرُه رفاتِه.

وعرفت شيخًا جلدًا ألف في الدين وأجاد فيما تمحض له، وحاول أن يدخل في أمور لا يحسنها، فظهر عواره. كان من طبعه أن يسارع إلى الطعن في كل من يخالف رأيه، وربما كذب عليه ليزيد في إسقاطه، ولا يفتأ يحدثك بما نال من أعدائه وما نالوا منه، ويذكر لك عظيم خدمته للدين وللسياسة، حتى لتمل منه مهما كنت صبورًا، وتتمثل فيه غلظة بعض القرويين، على كثرة من لقي في أمدن مدن الشرق من أعيان العصر الذين تمثلوا المدنية حقًّا، وبلغوا من التهذيب مبلغًا عظيمًا، وقد دون في بعض ما دون سيرة أمه الجاهلة، وصورها بصورة أكبر العالمات. ومما قاله: إنها كانت تعتقد فيه أنه نبي لكثرة صَلَاته، أما أخوه فكان يعتقد فيه الولاية، وكان هذا الرجل مغرمًا بتلقيب نفسه بالألقاب الضخمة يعزوها لأناس مجهولين ممن يراسلونه، ولا يستنكف من أن يسلب أعظم الأحياء والأموات من علماء الملة ألقابهم، لا يعترف لأحد بشيء منها، وقل أن ظهر رجل مغرم بمدح نفسه مثله، اللهم إلا أن يكون ذاك الذي قال عن شخصه: إن أدبه من صنع الله وإن ثقة الجمهور بأدبه من فضل الله، وإنه لن يرتاب بأنه أول كاتب وأول مؤلف وأول شاعر في هذا العصر.

وعاصرت شيخًا آخر ألف مجلدات كبيرة في موضوعات زعم أنها من الدين، وكان على شيء من البيان والفقه، بقي على جمود العامة، ومن في حكمهم، إلى آخر أيامه، وما كنت تظنه إذا اقتربت منه أكثر من خطيب في قرية، وكنت لو خرجت معه عن موضوعه قليلًا تتجسم لك عاميته الهزيلة، وكان يرى الجمود تدينًا، والتقرب من قلوب العامة بما يرضيهم سياسة، والكذب على المخالف قُرْبَى، والحَطَّ من أقدار العلماء حُظوة.

ورأيت شيخين اتفق أن ضُمَّا إلى لَجنة عُهِدَ إليها وضع برنامج لمدرسة دينية، فأصرا كل الإصرار على طرح درس التاريخ من المنهاج بدعوى أن التاريخ من لغو الحديث، وأنه يهيئ من نظر فيه إلى الكفر والإلحاد، وجادلا في ذلك طويلًا حتى نفد صبر المتناقشين العارفين، وما أثبتا في ثبت الدروس بعد اللُّتيا والتي إلا درس تراجم الصحابة فقط. وقد وصل أحدهما إلى رتبة كبار المفتين، وكان في فقهه كالببغاء ينقل ما سمع بأمانة، والثاني شارك في بعض علوم القدماء وخلط فيما زاول من علوم الروح، وما لمع في كل ما عانى من فنون، وكنت إذا اجتمعت إليه يتراءى لك أنك تخاطب مجذوبًا أَبْلَهَ، وما تعلم، في الحقيقة، هو وصاحبه علمًا خليقًا أن ينشلهما من زمرة جهال العلماء، وهلكا ولم يخلفا كتابًا ولا رسالة، ونُسي اسمهما بعد قليل.

نقل لي ثقةٌ أن أحد رؤساء المحاكم كان في جملة من أغواهم بعضُ الدجاجلة ليحيل له النحاسَ ذهبًا، وأنه غرم في ذلك مائتي دينار ذهبًا، واستغرب صاحبي انخداع رجل مثله على هذه الصورة المخزية فأجبته: إن درس القانون — أو ما تعلمه بطول الزمن منه، فوصل إلى ما وصل إليه من الرتبة — لا ينجيه من العامية، وحفظ مسائل وضعها أرباب العقول لا ترزق من يستظهرها عقلًا إن لم يكن ذا عقل. وهذا المغرور بمخرقات صاحب الذهب كان عاميًّا في أحكامه أيضًا، عهدته يحكم في قضية عامل سرق مال الدولة حُكْمَ أَحَطِّ العوامِّ، برَّأه وإدانتُه ظاهرة كالشمس، ولما آخذتُه على فعلته اعتذر بأن إخوانه في المحكمة رأوا هذا وأنه ما قرأ أوراق القضية. والحقيقة أن إحدى الجمعيات السياسية التي جعلت شعارها: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» أرادتْه على بيع ضميره فباعه بيع المغبون، وكثيرًا ما باعه.

وجَنَتْ على أحد العارفين بالقانون عاميتُه فزعم أنه قرأ بالجفر أن الدولة العثمانية ستعود إلى الديار الشامية، وعيَّن الشهر واليوم، مدعيًا أن الذي سيقوم بكبر هذه الدولة سليم بن عبد الحميد. وكنت كثيرًا ما أقول له: إن التصديق بالجفر من الاعتقادات الباطلة، وعلم الجفر كعلم الملاحم من الشعوذات التي ما صحت يومًا من الأيام. وراهن جماعةً على مائة دينار يدفعها إليهم إن لم يَصْدق جفره، ليكون له من هذا الغرم درس نافع كما قال، ويتوب بعدها عن الاعتقاد بالجفر، فلما حان الميعاد الذي ضربه وخسر الرهن توارى عن الأنظار.

وما خلا القضاء الشرعي والقضاء المدني من أُناس غرقوا في العامية، وكانوا في أنفسهم أعدى أعداء الحق، يأتمرون بأحكام رؤسائهم، ويعطون الحق للمبطل وينزعونه من صاحبه. وأعظم ما تكون العامية مثولًا فيمن لم يتذوقوا، ولو قليلًا، من علوم الطبيعة والرياضة والتاريخ والاجتماع، ولا تأدبوا بأدب العصر، ولا تثقفوا بثقافة أهله، ولا شغلوا أذهانهم في غير دائرة ضيقة، ولا حضروا مجالس المنورين العارفين. وربما كان من يعتقد هذه الترهات وينخدع بالظواهر أناسًا درسوا الدروس النظامية، كما جرى في فرنسا مرة فقام أحد المحتالين وادعى أن له مَصْرفًا يوظف فيه الأموال بشروط مغرية، فانهالت عليه طلبات الاشتراك وجمع خمسين مليون فرنك ذهبًا، وكان معظم من خدعهم ممن يحسنون الأمور المالية من مثل موظفي الجمارك والمصارف ودواوين الجبايات والضرائب فوضعوا ثقتهم بمزور لا يحمل رخصة بإنشاء مصرفه.

ويتراءى للأنظار مِنْ حال مَنْ مَلَكَتْهم عاميتهم أن أدمغتهم من الصنف المتحجر، وضعوا في طبقة خاصة ما تعلموه بحكم حرفتهم، وبقيت سائر الطبقات خالية لم تتأثر بشيء مما حوت الطبقة المجاورة. ولا يُحْمَل ما نسمعه عن بعض المشهورين من علماء الغرب لعهدنا إلا على هذا المعنى، فإن منهم من صعدوا قمم المجد العلمي ولم يتحرروا من القول بألوهية البشر، ومنهم من بلغ رتبة الإمامة في فنه وهو يعتقد باستحضار الأرواح والتنويم المغناطيسي وعجائب الورد، وغير ذلك من السخافات.

استمات رجلان من المتعلمين بحب شيخ أُمِّيٍّ وقع في نفسهما أنه من أرباب الكشف والكرامات، استهواهما وهما من فئة يُظَنُّ أن أربابها يسلمون من التخريف (طبيب ومحام)، فغلب بذكائه على ذكائهما، وقوي بجهله على معرفتهما، وما كان للقانون والطب مدخلٌ في معتقدهما، ولا سلطان على وجدانهما. استتبعهما العامي وأعادهما إلى جهالة الأهل والجدود، وما أفادهما درسٌ، ولا أغنتْ عنهما الشهاداتُ والإجازات التي يحملانها، ومن الغريب أن أحد ذينك العاميين يعتقد بالمندل ويحتفل له ويجلس فيه، يقصد بذلك أن يرزق القبول من زوجته!

إن علمًا لا يعود بخير ظاهر على حامله وعلى من حوله كالدينار البَهْرَج ظاهره براق تأخذه العين، وما هو عند الصرف إلا زيف مصنوع، وإِنَّ فقه القانون وفقه الطب إذًا لم يفعلا في توسيع المدارك. وقال بعض من يحسبون من المدركين: «لو اعتقد أحدكم على حجر لنفعه، فيالخيبة الآمال في المتعلمين، ويا بعد ما بيننا وبين الوصول إلى معارج الحكمة.»

خطب أحد نبهاء العلماء في مضارِّ الربا مرة، فحمد الله على أن السلطنة العثمانية خالية من الربا، فقلت له: إن الربا يُحكم به في المحاكم رسميًّا، واستشهدت على قولي بعالم من أصحابي وأصحابه كان معنا. فقال: إنكم تبغضون الدولة وتدأبون على إظهار عيوبها، وأصر على رأيه بأن الربا لا أثر له في الأرض العثمانية. وتصدى مرة للرد علي في محاضرة ألقيُتها عَرَضت فيها لفضل المستعربين من علماء المشرقيات على اللغة العربية فقام وأسقطهم كلهم. ولما قيل له: إن المقصود الثناء على من أحيَوا كتب أسلافنا. قال: نعم ولكنهم أعداؤنا وأعداء لغتنا وديننا. وما هذا من الوطنية ولا من الدين في شيء، بل هو من العامية ممزوجةً بالمكابرة في المحسوس. ولا عجب ففي الفقهاء عوامُّ وفي الأدباء عوام وفي الوزراء عوام وفي الزعماء عوام وفي الصحافيين عوام، وفي كل الفئات عوام.

ولقد رأينا بعض أرباب الدول يحمي الأهل والأصحاب ويعبث بقدسية الحكم الذي قُيِّض لهم القبضُ على زمامه، يستوي في هذا الظلم المبين عالمهم وجاهلهم، والعالم في الغالب يأتي بمبرر — ولو ضعيف — لِما أتى، والجاهل لا يبالي المعترضين والمنكرين، ويجهر بأن مصلحته تقتضيه ذلك، ومصلحته فوق القانون وإرادته حكم، ليس له إلا أن يأمر فيطاع ولا يحق لأحد أن يناقشه. وهذا من العامية، ولك أن تصفها بأنها أَشْأَمُ عامية تزعزع بناء الدول، وتحل جامعة الشعوب.

وسمعت بعض من خدموا الإفرنج بكل ما يحبون يعطون الحق لمن سرقوا أموال الحكومة إذا أفادوا في بعض الأعمال التي وُسِّدت إليهم، زاعمًا أنهم نفعوا المصلحة العامة ونفعوا أنفسهم، أي: يشيرون، من طرف خفي أو جلي، إلى أن السرقة لا شيء فيها، وما رأينا دينًا سماويًّا ولا قانونًا أرضيًّا يجوِّز السرقة. وعاميٌّ أيضًا كل صاحب شأن ينفق مالًا ائتُمن عليه جزافًا في أغراض له يتوهم تحقيقها على من يزعم أنهم يستميلون له العوام، ويضنُّ ببعض ذلك على العلم وعلى بيوت العلم.

وعظيم من عظماء الحكم إذا حاول أن يقرن اسمه إلى اسم من ائتمنه على سلطانه ويحاول أن يهتفوا له كما يهتفون لمولاه فاحكم بأنه ما نجا من عاميته. ومن حاول وهو في منصب يُفرض فيمن تولاه أن يعدل ليعدل له من يرأسهم فيرقي من يرضى عنهم من ذوي قرابته وأنصار سياسته درجات كثيرة في سنين قليلة بدون مسوغ من قانون أو عقل، لا مناص من وصفه بالعامية.

اشتهر أحد كبار الصحفيين بأنه من دعاة التجدد، وكانت جريدته مسرح أفكار المنورين، فوقع في نفسه مرة أن يزيد في ثروته فضارب فخسر ما يملك وانتهى به الحال أن تقلد مشيخة إحدى الطرق وأخذ يجلس على مصلاه ويمنح لمريديه ألقابًا دينية يشير إلى أنها إلهام من السماء. وكان في عمله إشارة إلى أنه ما تجرد عن عاميته على طول ما عالج من مسائل الإصلاح، ونشر من أفكار سليمة، وعاشر من عظماء ونبهاء.

ومن هذا البحر والقافية ما ادعاه أحدهم في خطاب ألقاه في حفل عظيم من أن فلانًا الملك لم تُخرج جزيرة العرب مثله منذ قيام محمد بن عبد الله. ومن ذلك قول أحدهم عند نعي عظيم من المعاصرين: إن الإسلام لم يُصب بأعظم من هذه الرزية منذ وفاة رسول الله. وقالت جريدة مُتَهَوِّسة بالوطنية يوم وقع الخلاف بين الدولة العثمانية وبين الحكومة المصرية على الحدود: إن الدولة حشدت على تخوم مصر ثمانمائة ألف جندي كاملة العدة، فلما أراد بعضهم ردها إلى الصواب، وقال: إن هذا الجيش العظيم يستحيل أن تحشده الدولة في بقعة بعينها في أقل من سنتين أصرت الجريدة على قولها. ولو جمع العثمانيون يومئذ على الحدود ثمانمائة جندي مُزاحي العلة لكان شيئًا عظيمًا. وهذا أيضًا من العامية الممزوجة بدعوى الوطنية، ولك أن تطلق عليها اسم: الوطنية الجوفاء.

واحكمْ بالعامية المطلقة على من يطلب إلى قارئ قرآن في محطة لا سلكية في عاصمة كبيرة من عواصم الإسلام أن يأتيه بصورة مما سيتلو من الآيات حتى إذا كان فيها ما لا يروق سياسته حَذَفَهُ. وعاميٌّ أيضًا ذاك الذي وضع جريدة بأسماء مائة كتاب تثقِّف العقل وتسلي القارئ، وذكر القرآن من جملتها، لكنه أوصى بمختصَر منه. والجرأة على القول بمختصر القرآن كالجرأة على حذف آيات الجهاد منه في مذهب جديد اخترعوه حتى لا يثور من يقرءونها. ومن طووا ما لم يرقهم من كتب قدماء العرب، وأوردوا الآيات والأحاديث بأنها من قول بعضهم هم أيضًا من العامة. ومن أنكروا القسط العظيم الذي دخل في مدنية فرنسا من المدنية العربية بدعوى أن وطنيتهم تتطلب منهم كتمان ذلك هم أيضًا من العامة. ومن طعنوا في الرسول العربي وهم لم يعرفوه كدانتي الطلياني وهوغو الأفرنسي هم أيضًا من العامة، وإن كان لهما في أدب أُمتهما المقام الذي لا يتطال كثير إليه.

وهذه السخافاتُ لا تصدر في الغالب عمن رُبُّوا تربية عالية في بيئة عالية. ولذلك كان بعض الحكومات الإسلامية والحكومات الحديثة يؤْثِر بالمناصب الرفيعة أبناء السابقة والشرف؛ لأنهم أقربُ إلى الخواص في منازعهم ممن نشئوا من بيئة منحطَّة ألفت العسلطات١ منذ طفولتها. ولقد حاولتْ بعض الحكومات خلق طبقة ممتازة من أنصارها فكانت تغدق عليهم فيضًا من عطفها وبرها معتقدة أنها بمعاونتها على بسط نفوذهم وإغنائهم بمشاهراتها وهباتها تخلق منهم طبقة من العلية يكون لها السلطان النافذ على السفلة. وفاتها أن المال الكثير والمراكب الفارهة والحشم والخدم لا تربِّي نفوسًا ولا تعمر بيوتًا، المال شيء ولكنه ليس كل شيء، والجاهُ الموهومُ غير الحرمة الحقيقية.

ومن اشتاقت نفسه لأن يرسم صورة ناتئة لهذه الطائفة العامية فليَسْتَفْتِ أحاديثهم الخاصة يتعرَّف للحال إلى نفسيتهم، فهم إذا نقلوا كلامًا زخرفوه بما توحي إليهم مخيلتهم يلهوجون الآراء لا يعرفون الممكن من الممتنع، ويغالون في تقدير الثروات ويخلطون في إحصاء الأرقام حتى ليخرجوا على قواعد الطبيعة. وقد يؤكدون بالأيمان المغلظة ما يهتمون بنقله من الأخبار، لا حد لحبهم ولا لبغضهم، وحميتهم حمية الجاهلية، إذا ناقشتَهم تثور ثائرتهم لأنهم يحاولون، بغرورهم، أن يفرضوا عليك معتقداتهم. وهم أقرب ناس إلى تبديل منازعهم، يستخدمون الدين دريئة لأغراضهم، ويستخذون أبدًا أمام من يعتقدونهم من الكبراء، ويشمخون بأنوفهم على العاجزين والضعفاء، ولا يحترمون غير صاحب المال والسلطان، وعقولهم بعيونهم أبدًا.

هوامش

(١) كلام معسلط: مخلط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤