الفصل العاشر

(١) مَنْزِلُ «جَلِفَرَ»

كنتُ — في أثناء إقامَتي في هذه البلاد — قد نَظَّمْتُ أُمُورِي جُهْدَ طاقتي، واسْتَقْرَرْتُ في البيتِ الذي أمرَ ببنائِه السيدُ الجوادُ ليكون مَأْوَاي، وكان لا يبعُدُ عن دارِه أكثرَ من سِتِّ خُطُواتٍ، وقد بَنْوه على طِرازِ بُيوتِهم؛ فَغَطَّيْتُ أرْضَهُ وجُدْرانَه بالصَّلْصَالِ وَجَدائلَ منَ الشَّعرِ.

وقد نَسَجْتُ منَ الْكِتَّان — الذي يَنْبُتُ في حقولِهم — ثِيابًا وغرائِرَ (زَكائِبَ) مَلَأْتُها برِيشِ الطيورِ التي اقْتَنَصْتُها. وكنتُ قد صنعتُ شِباكًا من شَعرِ «الْياهُو» لصيدِ الطيورِ، فنجحتُ في ذلك نَجاحًا عظيمًا. وكان لحمُها سائغًا لذيذًا، فأَقبلتُ عليه في شَهِيَّةٍ نادرةٍ.

واسْتَعَنْتُ بمُدْيَتِي على صنُعِ مائدةٍ وكُرْسِيٍّ. وقد ساعَدَنِي الجوادُ الأحمرُ فيهما أَعظمَ مُساعدةٍ.

وصنعتُ لنفسي ثَوْبًا جديدًا من جِلْدِ الأرانبِ وغيرها من الحيوانِ — بعد أن خَلَقَ ثَوبي — كما صَنَعتُ منه جَوارِبَ نظيفةً جميلةَ الشكلِ. وصنعتُ شِسْعًا من قِطَعٍ صغيرة منَ الخَشبِ شَدَدْتُها إلى نَعْليِ. ولمَّا بَلِيَ وجهُ الحذاءِ صنعتُ غيرَهُ من جلدِ «الْياهُو»، بعد أنْ جَفَّفَتْهُ حرارةُ الشمسِ.

وكنتُ أشْتارُ الشَّهْدَ — أحيانًا — من جُذُوعِ الأشجارِ، وأمْزُجُه بالْخُبْزِ الذي صنعتُه منَ الشُّوفان.

وقد آمنتُ — بعد هذه التَّجْرِبَةِ — بِصِدْقِ المَثَلِ القائلِ: «إنَّ القَناعةَ والرِّضَى بالقليل من خَصائصِ الطبيعةِ.»

كما آمَنْتُ بِصِدْقِ الْمَثَلِ القائلِ: «الحاجةُ تَفتُقُ الحيلةَ، والضرورةُ أُمُّ الاِختراعِ.»

(٢) سَعادَةُ القانِعين

وشعَرْتُ بالسعادةِ تكتنفُني، وتغْمُرُ نفسي إِيناسًا وبِشْرًا، وتُكسبُ جِسْمِي صِحَّةً وقُوَّةً، وفكري راحةً وهُدُوءًا؛ فقد وجدتُني في مَأْمَنٍ من خِيانَةِ الأَعْدَاءِ، وتنكُّرِ الأصدقاءِ، ودسائسِ المُنافِسِينَ الظَّاهِرَةِ والْمَسْتُورَةِ. وأصبحتُ في غيرِ حاجةٍ إِلى تَمْلِيقِ عظيمٍ رغبةً في إرْضائه، أو مُحاسَنَةِ ذي جاهٍ طمعًا في جاهِهِ، أو التَّظَرُّفِ مع كبيرٍ لِيَصْطَفِيَنِي له نديمًا وسميرًا.

ورأَيْتُني آمِنًا من عُدْوَانِ المعْتَدِين، وغِشّ الْمُزَوِّرين، وجَوْرِ الظَّالمين؛ فلم أَحْتَجْ إِلى مُفاوَضاتِهم وبَذْلِ كلِّ ما أَملِكُ من مالٍ ونَشَبٍ في سَبِيلِ الدِّفاعِ عَنْ حَقِّي. وارْتَحْتُ منَ الْعُيونِ والأرْصادِ والجواسيسِ الذين يُحْصُونَ عليّ أَنفاسي ويأْتَمِرُون بِي، طمعًا في مكافأة الحكومة ورغبةً في حُسْنِ جَزائِها!

وسَعِدْتُ بعيشةٍ راضيَةٍ، لا يُعَكِّرُ صَفْوَها تَدْجِيلُ الْهارِجِين، وتَخْرِيفُ السَّاسَةِ، وثَرْثَرَةُ الْمُتَفاصِحِين، وتَعَصُّبُ الأدْعِياءِ والجاهِلِين. وأصبحتُ في أَمْنٍ من فَتْكِ اللُّصوصِ والْجُناةِ والسَّفَّاحِينَ، وإِسفافِ المتفَلْسِفِين في فَنِّ الموسِيقَى وغيرِه منَ الفُنون الرفيعةِ!

يا لَها من حياةٍ سعيدةٍ لا يُنَغِّصُها هِياجُ الثائِرِين، وتَخَالُفُ الأحزاب، ومُرَوِّجُو الرَّذِيلَةِ، ولا ترى فيها أثرًا للسُّجُونِ وآلاتِ التَّقْتِيلِ والتَّمْزِيقِ؛ من مَشانِقِ وفُئُوسٍ وخَوازيِقَ، ولا تعثُرُ على مُحْتالٍ ولا أَنانِيٍّ وَلا أَفَّاكٍ ولا عِرْبيدٍ ولا سِكِّيٍر؛ ولا تُفْسِدُها الأمراضُ الفتّاكةُ الخبيثةُ التي تفتِكُ بالأهلِينَ في البلاد المتحضِّرَة!

(٣) صُحْبَةُ الجيادِ

وهكذا سَحَرتْنِي صُحْبَةُ الجيادِ، وملأَتْ نفسي طُمأْنينةً وأُنْسًا. ولقد طالما شَرُفْتُ بالتّحَدُّثِ إِليهم، وكانوا يُكثِرون منَ التَّردُّدِ على دار السَّيِّدِ، فلا يَضَنُّ عليَّ بالبَقاءِ في مَجْلِسِهِم، لِأُفِيدَ من حكْمتهم، وأَنْهَلَ من حديثِهم. وكانوا يَتَنَزَّلُونَ بِسُؤَالي، ثم يُصِيخُون إلى جوابي، كَرَمًا مِنْهُمْ وتَفَضُّلًا.

وطالما صحِبتُ السيدَ الجوادَ في زياراتِهِ لِأَصْفِيائِه وخُلَصائهِ منْ كِرامِ الجيادِ. وكنتُ دائمَ الصَّمْتِ، إلَّا إذا سُئِلْتُ واضْطُرِرْتُ إلى الإجابةِ.

وكنتُ شديدَ الأسفِ على الزمنِ الذي أُضُيِعُه في الكلام. ولم أَكُنْ أتحدَّثُ إليهم إلَّا مُضْطَرًّا؛ لأنّني إلى الإفادةِ من حكمتهم وعلمهِم أَحْوَجُ مني إلى الكلامِ معهم.

وكنتُ شديدَ الإِعجابِ بأُسْلُوبِهم في الحديثِ؛ لأنهم يَجْتَزِئُون بالألْفاظِ القَلِيلةِ والعبارةِ الموجَزةِ الحافلةِ بالمعاني الساميَةِ النبيلة، عن كلِّ شَرْح وإسهابٍ. وكانوا — في أَحاديثهم — مثالًا للأدبِ الوافرِ، وإن كانوا بَعيدِين عن المُجاملةِ الفارِغَةِ وَالتَّمليقِ السَّخيفِ.

وما كان أحدُهم لِيَبْدَأَ بالكلامِ إلَّا إذا أنِسَ ارتياحًا لذلك ووجد في نفسِه ما يستحقُّ الإِفضاءَ به. ولم أَرَ وَاحدًا منهم يقطعُ على الآخَرِ حديثَه، أو يَرْفَعُ صَوْتَهُ، أو يَحْتَدُّ، أو يَصْخَبُ، كما نفعلُ في بلادِنا. وعندَهم مَثَلٌ حكيمٌ يقولُ: «يحسُنُ أنْ يَسُودَ الصَّمْتُ بينَ الجماعةِ بَيْنَ حينٍ وَآخرَ.»

وما أصْدقَ هذا المثلَ وأَبعدَ حكمتَهُ؛ فإِنَّ الْفَتَراتِ التي يَسُودُ فيها الصَّمْتُ بين المتَحَدِّثينَ تُرِيحُ الذِّهْنَ وتَمْلَؤُهُ بالآراءِ الناضِجَةِ والأفكارِ الجديدةِ، لِيَسْتَأْنِفَ الحدِيثَ في قُوَّةٍ وبَصِيرَةٍ وتَمْحِيصٍ.

وأكثرُ أحادِيثِهمُ العامَّةِ تدُورُ على الصَّداقةِ، والوفاءِ، وحُسْنِ الرِّعايةِ، والنِّظامِ، والاِقتصادِ، والطبيعةِ، والفضيلةِ، وَالتقاليدِ. ورُبَّما طَرَقُوا فُنونًا مختلفةً من الشِّعْرِ.

وكنتُ — ولا فَخْرَ — أُلْهِمُهم أحيانًا أَحاديثَ طريفةً؛ لأنَّ حُضُوري كان يُتيحُ للسيدِ الفرصةَ للتحَدُّثِ عَنِّي وذِكْرِ تاريخي وتاريخ ميلادِي.

وكان يَحْلُو للجياد أن تتحَدَّثَ عن النَّوْع الإِنسانيِّ أحاديثَ لا تُرْضِينا، فلا داعِيَ لذِكْرِها للقارئ.

وكان السيدُ الجوادُ — فيما يَبْدُو لي — قد عَرَفَ بذكائه من نقائِصنا وَجُنُونِنا وَمُخْزِياتِنا ما لمْ أَعْرِفْه. وَقد كَشَفَ الأَسْتارَ عن كثيرٍ من أَسرارِ انْحِطاطِنا وَتَدَهْوُرِنا التي لم تكُنْ لِتَخْطُرَ لي على بالٍ.

وكانتِ الأسبابُ وَالْمُقَدِّماتُ — التي يَبْنِي عليها أَحكامَهُ — مُحْتَمَلةً معقولةً، لا تُنافِي الصَّحِيحَ، وَلا تَصْدُمُ الْحَقِيقَةَ.

(٤) حِكْمَةُ الجيادِ

وإنِّي لَأُقرِّرُ معترِفًا أَن ما ظفِرتُ به من حكمةٍ قليلةٍ، أو تَبَصُّرٍ ضَئيلٍ، إنما يعودُ فضلُه إلى الدروسِ الحكيمةِ التي تَلَقَّيْتُها في بَيْتِ السيدِ الجوادِ: من حديثِه وحِوارِ أصدقائِه الذِين سُعِدْتُ بصُحْبتِهم ونَعِمْتُ بِرفقتِهم وكنتُ أشْعُرُ بزَهْوٍ كلما اسْتَمَعتُ إليهم. ولستُ أذكرُ أنني شَعَرْتُ بمثلِ هذا الفخرِ في أَسْمَى الجماعاتِ الْمُتَحَضِّرَةِ، وأرْقَى البِيئاتِ العلميَّةِ السامِيَةِ.

ولقد أُعجِبتُ الإِعجابَ كلّه بِقُوَّةِ السَّادةِ الجيادِ، وجَمالِهم ونشاطِهم وما اشتملَتْ عليه نُفوسُهم منَ الفضائلِ النادِرَةِ، والتّعاطُفِ العجيبِ، والأدبِ الْمَوْفُورِ، والأخْلاقِ الكامِلَةِ. ولنْ أَنْسَى لهم — طولَ حياتي — ما خَصُّونِي به من رِعايَةٍ وعطفٍ؛ إذْ مَيَّزُونِي عنْ جميعِ أبناءِ جنْسِي منَ الآدَمِيِّينَ الذينَ يعيشون بَيْنَ ظَهْرانَيْهم.

(٥) كَراهِيَةُ النَّاسِ

وكان إعجابي بِالجيادِ لا يَعْدِلُه إِلّا كراهِيَتي ومَقْتِي للآدميِّينَ، بعد أن خَبَرْتُ فَضائِلَ الْأَوَّلِينَ ونقائصَ الْآخَرِين!

وأصبحتُ كلما فكّرتُ في أُسْرَتِي وخُلَصائي وأبناءِ وطني خاصّةً، والْجِنْسِ الْآدَمِيِّ عامَّةً، شَعرتُ أنهم جميعًا لا يختلفون عن دَوابِّ «الْياهُو» التي تَقْطُنُ في هذه الجزيرةِ، وإنْ كانوا أكثرَ مِنَ «الْياهُو» حضارةً، وأوفرَ عَقْلًا. ولكنَّ قَوْمَنا — لِسُوءِ حظِّهم — قد وقَفوا مزاياهم ومواهِبَهم العقليةَ على مُضاعفةِ شُرورِهم ونقائِصهم، وتَنْغِيصِ حياتِهم، وتَكْدِيرِ صَفْوِهم.

وكنتُ إذا لَمَحْتُ صورةَ وجهي في صَفْحَةِ بُحَيْرَةٍ أو غدِيرٍ هالَني بَشاعَةُ ما أَرَى، ولم أُطِقْ رؤيةَ الصُّورةِ الكريهةِ التي تُمثِّلُ لي منظرَ «الْياهُو» القبيح.

وأصبحتُ أشعُرُ بسَعادةٍ نادِرَةٍ كُلَّما نظرتُ إلى الجيادِ، وأُحِسُّ لهم إجلالًا وإِكبارًا. وقد هَيْمَنَ سُلْطانُهم على نفسِي، فَرُحْتُ أُحاكِيهم في مِشْيَتِهم وحَرَكاتِهم؛ حتى وَصَفَنِي بعضُ أصدقائي بأنني: مُحاكِي الجِيادِ. وكان هذا الوصفُ أبلغَ تكريمٍ ظفِرتُ به في حياتي، وهو عندي شَرَفٌ لا يَعْدِلُه شَرَفٌ. ولستُ أَخجَلُ حين أُقرِّرُ أنني ظَللْتُ — طُولَ عمري — أوثِرُ اللغةَ الصاهلةَ على لُغاتِ العالَمِ كُلِّها، غَيْرَ مُبَالٍ بِسُخريةِ الساخِرينَ وتَنادُرِ الهازِئينَ.

(٦) فاتِحَةُ الشَّقاءِ

وبَيْنا أنا غارِقٌ في أحلامِ السَّعادةِ والأملِ بدَوامِ هذا النَّعيمِ، إذْ أرْسَلَ إِليَّ السيدُ الجوادُ يستدْعِينِي في صباحِ يومٍ باكرٍ، على خِلافِ عادَتِه. وَما إِنْ رَأَيْتُهُ حتى لَمَحْتُ على سِيماه شيئًا من أماراتِ الهمِّ والقلقِ. وكأنما كانَ مُتَرَدِّدًا في الْإِفْضاءِ إِليّ بأمرٍ خطيرٍ، فَهُوَ لا يَدْرِي كيف يبدأُ بالكلامِ!

وَأطْرَقَ زَمَنًا قليلًا، ثم ابْتدَرنِي صاهلًا: «لستُ أَدرِي: أيُّ أثرٍ سيتركُه كلامِي في نفسِك؟ ولكنني مضطرٌّ إِلى مُكاشَفَتِك بِجَلِيَّةِ الأمرِ. لقد أخبرتُك — من قبلُ — أن مَجْمَعَ الجيادِ قد تحدّث فيِ أمرِك. والآن أُخبِرُك أن أكثرَ الشُّيوخِ والنُّوَّابِ قد أَخَذُوا عليّ عِنايَتِي بك وتَحَدُّثِي إليك وارتْياحي إلى مُصاحَبَتِك، ورأَوْا أن ذلك السُّلُوكَ يُنافِي الطبيعَةَ الْفَرَسِيَّةَ والعقلَ الْجَوادِيَّ. فلم يَسْبِقَ لِأَحَدٍ مِنَ الْجِيادِ أَنْ صَحِبَ أحَدًا منَ الآدميِّينَ. وقد نَصَحُونِي أَنْ أَخْتارَ بينَ أمريْنِ: إِمَّا أنْ أُنْزِلَك منزِلَ الآدميِّينَ الذين يعيشون في بلادِنا وأسْلُكَكَ في عِدادِهم وأعهدَ إليك بمثلِ أعمالِهم، وإمَّا أنْ تَعُودَ إلى بِلادِك التي جِئْتَ منها. أمَّا أوَّلُ الأمرَيْن فلا سبيلَ إليه. وَقد رَفَضَه كلُّ مَنْ رآك من أصْدِقائِي الجيادِ، وقالوا: إنَّ شُعاعَ العقلِ الذي مَيَّزَكَ عن سائِرِ الآدميِّينَ، إذا أُضِيفَ إلى طبيعتِهمُ الشِّرِّيرةِ، عاد على بِلادِنا بَالنتائِج الوَبِيلَةِ.»

ثم استأنف السيدُ صاهلًا: «ولا يزالُ خُلَصائِي منَ الجيادِ يُلِحُّون عليّ — في كلِّ يومٍ — أنْ آخُذَ بِرَأْيِ المجمَعِ، وليس في وُسْعِي أنْ أُخالِفَ ما أقَرُّوهُ. ولستُ أشُكُّ في أنك عاجزٌ عنِ الرُّجُوعِ إلى بَلَدِك سِباحَةً — لِطُولِ المسافةِ — فلا عَلَيْكَ أن تُنْشِئَ نَوْعًا منَ المَرْكباتِ التي وَصَفْتَها لِي من قبلُ، لتجتازَ بها البحرَ. وَسيُعاوِنُك خَدَمِي وخدَمُ جِيراني في إِنْجازِها.»

ثم حَمْحَمَ صاهِلًا: «ولو تُرِكَ أمرُك إِليّ لآثَرْتُ بَقَاءَك عِنْدِي طُولَ الحياةِ؛ لأنني رأيتُ فيك مَخايِلَ منَ النَّجابَةِ، وقد وُفِّقْتُ إلى إِصْلاحِ كثيرٍ من عُيُوبِك ونَقائِصِك وعاداتِك السَّيِّئَةِ، بَعْدَ أنْ عاوَنْتَنِي في ذلك وَبذَلْتَ قُصارَى جُهْدِك — عَلَى قَدْرِ ما تَسْمَحُ به طَبِيعَتُك الخائِرَةُ — في تَقْوِيمِ نَفْسِك وانْتِهاجِ خُطَّتِنا مَعْشَرَ الجِيادِ.»

•••

ولا يَفُوتُني أَنْ أُنَبِّهَ الْقارِئَ إلَى أَنَّ قَرارَ هذا المجمعِ يُسَمَّى بتلك اللغةٍ الصَّاهِلَةٍ: «تَرْغِيبًا». وإِنما سَمَّوْهُ كذلك، لأنهم لا يستطيعون أنْ يُدْرِكوا أنَّ مخلوقًا عاقِلًا يُرغَمُ — في يومٍ منَ الْأَيامِ — على أداءِ شيءٍ بِعَيْنِه فهُمْ يَكْتَفُونَ بالنَّصِيحَةِ وحدَها، ولنْ يَعْصِىَ النُّصْحَ عاقِلٌ جديرٌ بهذا الوصفِ.

(٧) وَقْعُ الْخَبَرِ

وقد وَقَعَ في نَفْسِي هذا الخبرُ وَقْعَ الصَّاعِقَةِ. وخارَتْ قُوايَ، وَتَمَلكَنَيِ اليأسُ؛ فأُغْمِيَ عليَّ من شِدَّةِ الأَلمِ، ووقعتُ على الْأَرض تحتَ أقْدامِ السَّيِّدِ، وظَللْتُ فِي غَشْيَتِي ساعَةً منَ الزَّمَنِ.

وقد حَسِبَ السيدُ الجوادُ أَنَّنِي فارَقْتُ الحياةَ؛ لِأَنه لم يَأْلَفْ مثلَ هذا الخَوَرِ (الضَّعْفِ) الذي خُصِصْنا به من بينِ الحيوانِ.

ثم قلتُ له في صَهِيلٍ خافِتٍ: «إِنني أُوثِرُ الموتَ على تَرْكِ هذه البلادِ السعيدةِ. ولَيْتَ المجمعَ قد خَفَّفَ من حُكْمِه عليّ؛ فليس في وُسْعِي أَنْ أَقطعَ هذه المسافةَ الهائلةَ سِباحَةً. ورُبَّما كانَتْ أَقربُ أَرضٍ خَلْفَ هذا الخِضَمِّ الواسِع على بُعْدِ مائةِ مِيلٍ. وليس في قُدْرَتِي أَن أَسبحَ أَكثرَ من مِيلٍ واحدٍ، وليس لديّ شيءٌ منَ الْمُعَدّاتِ التي تُمْكِنُني من بِناءِ زَوْرَقٍ.على أنني مُحاوِلٌ إمكاني، وباذِلٌ جهدِي، لإِطاعةِ أمرِه، وإِن كنتُ منَ النَّجاحِ لَعَلَى يَأْسٍ كبيرٍ.»

ثم استأنفتُ صاهلًا: «ولقد عَدَدْتُ نفْسِي — منذُ الْيومِ — مَخْلُوقًا تَعِسًا مَقْضِيًّا عليه بالهلاكِ. علَى أنَّ الْموتَ هو أيسرُ ما أُلاقِيهِ من ضُروبِ الشَّقاءِ؛ فإِنني إذا ظَفِرْتُ بالْمُحالِ، وعَبَرْتُ الْبحارَ الشاسِعَةَ، وبلغتُ بلادي سالمًا — وهو أمرٌ لا سبيلَ إلَى إِدْراكِه — فلن أستطيعَ الْبقاءَ بين دَوابِّ «الْياهُو» في بلادي، بعد أن أَلِفتُ الْحياةَ الْجَوادِيَّة السعيدةَ الْخالِصَةَ من شَوائِبِ الأكْدارِ والأرْجاسِ. ولن أجدَ الْمثلَ الْفَرَسِيَّ الصالحَ الذي يَهدِيني سَواءَ السبيلِ في وطني، وَلَنْ ألْبثَ — بعدَ قليلٍ — أنْ أرْتَكِسَ في حَمْأةِ الرذيلةِ والْأَدناسِ. وإِنِّي لَعَلَى ثِقَةٍ من رَجاحِة الأسبابِ التي بَنَى عليها السادةُ الْجيادُ قَرارَهم. وليس في قُدْرَةِ «ياهو» حقيرٍ — مِثْلِي — أنْ يرَى رأيًا أفْضَلَ مما يراه أُولئِكِ السَّادةُ؛ فلا مَعْدَى لِي عنِ الطَّاعةِ والإِذْعانِ. بَيْدَ أنني أَلْتمِسُ منكم أَن تَفْسَحُوا الأَمَدَ، وتتركوا لي من الوقتِ ما يسمحُ بِإِنْجازِ هذا الْمهمِّ الشَّاقِّ.»

ثم استأنفتُ صاهِلًا: «وَإِنِّي باذِلٌ قُصارَى جُهدي في الْمحافظةِ علَى سَلامَتِي؛ حتَّى إِذا قُدِّرَ لي أَنْ أَعودَ إِلى وَطَنِي — وما إِخالُ ذلك مُمْكِنًا — وَقَفْتُ حياتِي وَوَقْتِي وجُهْدِي على إذاعِة فضائِلكم ومزاياكم الباهرةِ، بين دَوابِّ الآدَميِّين؛ لَعلها تَقْبِسُ شيئًا مما خُصِصْتُم به منَ الرُّقيِّ والْفَضْلِ.»

(٨) بِناءُ الزَّوْرَقِ

وَتَلَطَّفَ بِيَ السيدُ الجوادُ، فَأَذِنَ لِي فِي البقاءِ شَهْرَيْنِ آخرَيْنِ، ثم عَهِدَ إلى صَدِيقِي الجوادِ الأحمرِ أن يُطِيعَني في كلِّ ما أطلُبه منه.

وَقَدْ قلتُ للسيدِ الجوادِ: «إِن هذا الصديقَ وحدَه يكفيني في إنْجَازِ ما أُريدُ.»

وكان أولَ ما بدأتُ به: أنني ذهبتُ مع الْجَوادِ إِلى حيثُ أَلْقانِي الْمَلَّاحُونَ الذينَ تَمَرَّدُوا عليّ. ثم صَعِدْتُ إلى مُرْتفَعٍ من الأرضِ، وأَجَلْتُ بَصَرِي في أَرْجاءِ البحرِ؛ فَخُيِّلَ إليَّ أنني أَرَى — صَوْبَ الشَّمالِ — جزيرَةً صغيرةً. فأخرجْتُ الْمِنظارَ المقرِّبَ من جَيْبي فرأَيتُها — في وُضُوحٍ وجَلاءٍ — على بُعْدِ خمسةِ أَميالٍ تقريبًا. وقد أَيْقَنَ صديقي الجوادُ الأحمرُ أنها سَحابةٌ؛ لأنه كانَ على ثِقَةٍ منْ أنَّ الدُّنيا كلَّها ليسَ فيها بلادٌ غَيْرُ بِلادِه، ولم يكُنْ يستطيعُ أنْ يَتَبَيَّنَها ببصرِه، وهِيَ على هذا البُعْدِ.

أمَّا أنا فقد اعْتزَمْتُ أنْ أتَّخِذَ من هذه الجزيرةِ أولَ الْمَطارِحِ التي كُتِبَ عليّ أن أُنْفَى إليها، ثم أتركَ لِلأقْدارِ والْحُظُوظِ أنْ تُقَرِّرَ ما تَشاءُ.

ثم عُدْتُ إلى مَنْزِلي، وتحادثتُ مع صديقي الجوادِ الأحمرِ، حتى قَرَّ رَأْيُنا على الذَّهابِ إِلى غابَةٍ قريبةٍ؛ فقطعْنا من أشجارِ الْبلُّوطِ كثيرًا منَ الأَغصانِ.

ولَنْ أُضْجِرَ القارِئَ بتَفْصيلِ ما صنعتُ. حَسْبي أن أقولَ: إنني استطعتُ — بمُعاوَنة هذا الجوادِ — أنْ أُتِمَّ صُنْعَ الزَّوْرَقِ بعدَ أسابيعَ سِتَّةٍ، ثمَّ غطَّيْتُه بجلدِ «الْياهُو»، وصنعْتُ له شِراعًا منهُ، وجعلتُ له أَرْبَعَةَ مَجادِيفَ، ووضعْت فيه منَ الزَّادِ ما يَكْفِيني زمنًا طويلًا. وكان زادِي مُؤلَّفًا من لَحْمِ الأَرانبِ والطيورِ، بعدَ أن بذلْتُ جُهدي في تَقْدِيدِه حتى لا يتعرّضَ للتَّلَفِ، وملأتُ إناءَيْنِ ماءً ولبنًا.

ثم أجريتُ الزَّوْرقَ في مُستَنْقَعٍ كبير، بعدَ أنْ سَدَدْتُ ثُقُوبَهُ بِشَحْمِ «الْياهُو»، وَقَد رَأيتُه صالِحًا لما أَعددتُهُ له، فطلبتُ إِليهم أن ينقلوهُ إلى شاطِئِ البحر، فوضعوهُ على مَرْكَبَةٍ كبيرَةٍ تجُرُّها دَوَابُّ «الْياهُو» إلى الشاطئِ، وكان الجوادُ الأحمرُ يَرْقُبُها حتى وصلتُ إِليه.

(٩) ساعَة الوَداعِ

وهكذا أَعْدَدْتُ مُعَدَّاتي كلَّها، ولم يَبْقَ عليَّ إلَّا الرّحِيلُ. فاسْتأذنتُ منَ السّيد وزوجتِه وأهلِه في السَّفرِ، وعَيْناي مُخْضَلَّتانِ بالدُّمُوعِ، وقَلْبي يكادُ ينْفَطِرُ منَ الْأَسَى والْحُزْنِ. وذهب السيدُ وأصْفِياؤُهُ ليَروْا هذا الزورقَ العجيبَ. وقد تَفَضَّلَ السيدُ الجواد فقبِلَ رجائي في أَنْ أَلْثَمَ سُنْبُكَهُ، وشرَّفَني بهذه الأُمْنِيَّةِ العزيزةِ التي لم يظَفْر بها آدميٌّ قَبْلِي. ولن أَنْسَى — ما حَيِيتُ — هذا الشرفَ العظيمَ الذي خَصَّنِي به السيدُ الكريمُ!

وبَقِيتُ في زَوْرَقِي ساعةً حتى انْحَسَرَ الْمَدُّ فأَقْلَعَ الزَّوْرَقُ.

ورأَيتُ الرِّياحَ مُوَاتِيَةً تهُبُّ صَوْبَ الجزيرةِ — لحسنِ الحظِّ — فحَيَّيْتُ السَّادةَ الجيادَ، وما زِلْتُ أُحَيِّيهِم حَتى غِبْتُ عن أَبصارِهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤