الفصل الرابع

(١) الصحيحُ والكذبُ

كان السيِّدُ يُنْصِتُ إلى حديثي وهو حائرٌ مُرتبكٌ أشدَّ الحَيْرَةِ والاِرتباكِ. ولم يكُنْ من عادتِه الشكُّ فيما يسمعُه؛ لأَن الجيادَ لا يُخْبِرون بغيرِ الصحيح، ولا تدورُ بأخلادِهم تلك الأَكاذيبُ التي أَلِفْناها، مَعْشَرَ الناسِ. ولكنه لم يكُنْ يدرِي كيف يصدِّقُ ما يسمَعُه، وهو غريبٌ لا سبيلَ إلى تصوُّرِه وفهمهِ. ولم تألَفِ الْجِيادُ هذه المَرانةَ العقليةَ التي تُمكِّنُنا مِنَ الاِرْتيابِ والشكِّ فيما نسمعُ؛ لأَن هذه الْمَزِيَّةَ وَقْفٌ على النوع الإنسانيِّ وحدَهُ، وليس يَشْرَكُهُ في هذه المِيزَةِ أحدٌ من أَجناسِ الحيوانِ الأخرى.

ولقد لَقِيتُ من ألْوانِ العَناءِ والجهدِ شيئًا كثيرًا، حين كنتُ أحدِّثُه عن صِفاتِ النوعِ الإنسانيِّ، الذي يعيشُ فيما وراءَ جزيرَتهِ النائيةِ.

وكان السيدُ الجوادُ يمتازُ بذكاءٍ نادرٍ، وفِطْنةٍ عجيبةٍ، في فهم ما أُحَدِّثُه به، ولكنه — على ذكائه وفِطْنتِه — لم يستطِعْ أن يفهمَ ما أَعْنِيه بكلمتَي: كَذِبٍ وغِشٍّ، إِلَّا بعدَ حِوارٍ طويلٍ، وأَمثلةٍ كثيرةٍ!

وكان يُحَمْحِمُ صاهلًا: «لقد خُصِصْنا بمَوْهبةِ الكلامِ؛ ليمتازَ الواحدُ منا على الآخَرِ، بفَضْلِ ما يُبْدِيهِ منَ الحكمةِ وأَصالةِ الرأيِ، والإِبانةِ عَمَّا يفكِّر فيه، والإِفادةِ مما يسمعُه، فيُضيف إلَى ما يَعْلَمُهُ مَعارِفَ أُخْرَى. فإذا تحدَّث إنسانٌ في غيرِ هذا البابِ، وقرَّر شيئًا لم يَحدُثْ، خالَفَ الفِطْرةَ، وتنكَّبَ الجادَّةَ، وآثر الطريقَ المُلْتَوِىَ الأعوجَ على الطريقِ السَّوِيِّ المستقيم؛ لأنه يعكسُ الآيةَ، فيُضِلُّ سامعَه بدلًا من أن يَهْدِيَهُ، ويُمَوِّهُ عليه بدلًا من أن يُرشدَهُ. ولا يكتفِي بأنْ يحرِمَه المعرِفةَ ويترُكَه في جَهالتِه، بل هو يُمعِنُ في الإِساءةِ فينقُلُه إلى حالٍ شرٍّ منَ الجهلِ؛ لأنه يُزْجِي إليه معارفَ مُزَوَّرةً وحقائقَ مقلوبةً، إذ يُدْخِلُ في رُوعِه أن الأبيضَ أسودُ، وأنَّ القصيرَ طويلٌ!»

وعندي أنّ رأيَ الجيادِ — في الصحيحِ والكذبِ — رأيٌ واضحٌ، لا يَمْترِي في أَصالَتِه أحدٌ منَ الناسِ، ولا يحتاجُ إلى شرحٍ وَلا تعليقٍ.

(٢) حديثٌ عن الجيادِ

ثم ساقنا الْحِوارُ إِلى ما بَدَأْناهُ من حديثِ الجيادِ والناسِ. وقد أكَّدتُ للسَّيدِ الجوادِ أن «الياهُو» في بلادِنا هو أشرفُ الدوابِّ ووليُّ أمرِها، وهو الحاكم المطلَقُ، والسيِّدُ الآمِرُ المُطاعُ، الذي لا يُرَدُّ له أمرٌ.

وقدِ اعْترف لي — حين سَمِعَ هذا الكلامَ — أن إدْراكَه لا يستطيعُ أن يصلَ إلى فهمِ هذه الْألغازِ التي أُحَدِّثُه بها.

ثمَّ صَهِلَ يَسْأَلُني مُتَعَجِّبًا: «أليسَ في بلادِكم جيادٌ مِثلُنا يَحكُمونكُمْ؟ وماذا تعملُ الْجِيادُ عندَكم؟ أَتَتْركُ لكمُ الحبلَ على الغاربِ، ولا تُعْنَى بأُمورِكم، ولا تُرشِدُكم إلى سَواءِ السبيلِ؟» فحمحمتُ صاهلًا: «إن في بلادِنا جمهرةً كبيرةً منَ الجِيادِ. وهي تقضِي فصلَ الصيفِ في المَرابعِ والحقول والمُروجِ، وتقضِي فصلَ الشتاءِ في دُورِنا ومنازِلِنا. وقد وَقَفْنَا على خِدْمتِها والعنايةِ بأمرِها جماعةً منَ «الياهُو»؛ يتعهَّدُونها بالنظافةِ، ويُقدِّمُون لها حاجتَها منَ الطعامِ، ويُرَجِّلُون شَعَرَها، ويَدْلُكون جِلْدَها، ويغسِلُون أقدامَها، ويُعِدُّون لها فُرُشَها، ويُعْنَوْنَ بأمرِها العنايةَ كلَّها.» فحمحم السيدُ الجوادُ صاهلًا: «إني أفهمُ ذلك كلّهُ، وقد فهِمتُ من حديثِك أنكم — معشرَ «الياهُو» — في بلادِكم على شيءٍ منَ الإِدراكِ والعقلِ، يُبيحُ لكم أن تتَّصِلوا بالجياد، وتقُوموا بما يَطلُبونه منكم من خدمةٍ. وقد أدركتُ الآن أنني لم أُخطِئِ الرأيَ فيما ذهبتُ إليه من أن الجيادَ سادتُكم، وأُولُو الأمرِ فيكم. وليس لي من رجاءٍ إلا أن يكونَ خُضُوعُكم لَهُم في بلادِكم مثلَ خضوعِ «الياهُو» لنا في بلادِنا!»

فلم أَدْرِ: كيف أقولُ؟ وبماذا أُجِيبُه؟ وآثرتُ الصمتَ؛ حتى لا أُغْضِبَهُ إذا وقفتُه على الصحيحِ. وسألتُه أن يُعْفِيَني منَ الإِجابةِ؛ لأن الحقيقةَ لا بدَّ أن تؤلِمَه وتُزْعِجَه. فحمحم الجوادُ صاهلًا: «قُلِ الحقَّ، ولا تَخْشَ شيئًا؛ فليس يَعْنِينِي إلَّا أن أعرفَ الصحيحَ، ولن يُغضبَني شيءٌ مما تقول.»

فأجبتُه صاهلًا: «ما دُمْتَ تُلِحُّ عليَّ في ذلك. وتأبَى إلَّا أن أُفْضِيَ إِليك بكل شيءٍ، فليس في قُدرتي أن أَعْصِيَ لك أمرًا: إنَّ الجيادَ الأصيلةَ في بلادِنا — يا سيدي — تُعَدُّ من أجملِ الدوابِّ وأنبلِها، وهي مشهورةٌ بقوةِ الجسمِ وسرعةِ العَدْوِ. والعظماءُ عندَنا يتسابقُون إلى اقْتِنائها، ويُعْنَوْن بأمرِها، ولا يُرْهِقُونَها. فهي تقضِي أيامَها في السِّياحِة، أو السِّباقِ، أو جرِّ المَرْكَباتِ. ولا تزالُ الجيادُ النبيلةُ تَلْقَى الْكَثيرَ من عنايةِ الكُبَراءِ والْأَعيانِ ورِعايتِهم، ما دامتْ فَتِيَّةً قويةً موفورةَ الصحةِ. حتى إذا أدركها الوَهَنُ، أو أعْجَزَتْها الشَّيخوخةُ، بادَرُوا إلى التَّخلُّصِ منها، وقرَّرُوا أن يَبِيعُوها — في السُّوقِ — إلى غيرِهم منَ «الياهُو»؛ ليستخدِمُوها في أعمالِهمُ الشاقةِ المضنِيةِ، حتى يُدرِكَها الموتُ؛ فَيَسلَخُوا جلْدَها ليبِيعُوهُ، ويَتْرُكوا جُثَّتَها طعامًا للكلابِ والطيورِ الجارحةِ. هذا ما تلقاه الجيادُ النبيلةُ الكريمةُ الأَعْراقِ في بلادِنا. أما الجيادُ الهجِينةُ المُنْحَطَّةُ، فليس لها حظٌّ منَ الرعايةِ والعنايةِ؛ فَإِنّ سادَتَها — من السَّائِقِينَ والزَّارِعينَ ومَنْ إِليهم من أخْلاطِ الشعبِ وجَمْهَرةِ الْأوْشابِ — يُحَمِّلُونها ما لا تُطيقُ من أَحْمالٍ، ويُكلِّفونها نقلَ ما تَنُوءُ به من أَثقالٍ، ويقدِّمون لَها طعامًا تافِهًا حقيرًا، لا يُقِيمُ أَوَدَها، ولا يساعدُها على الاِضْطِلاعِ بِالأعباءِ المُرْهقةِ التي يُرغِمونها على أَدائِها.»

ثم شرحتُ له ما أَعلمُه من طرائِقِنا وأَسالِيبِنا في رُكوبِ الخيلِ، وكيف أَعْدَدْنا السَّرْجَ واللِّجامَ لرُكوبِها، وأَوضحتُ له كيف نُسْرِجُها ونُلْجِمُها. ووصفتُ له المِهمازَ والسَّوْطَ، وكيف نَهمِزُها ونُلْهِبُها ضربًا بالسِّياطِ، إذا وَنَتْ في عَدْوِها أَو تراخَتْ، وكيف صنعْنا لحوافِرِها نِعالًا غايةً في الصَّلابة، من مادَّةٍ تُسمَّى الحديدَ؛ لتحفَظَ سَنابِكَها من التَّلَفِ، وَتقِيَها الْأخطارَ والكَسْرَ في الطرقِ الصَّخْريّةِ الصُّلْبَةِ التي عَبَّدناها لتُسَهِّلَ لنا أَسبابَ التَّجوالِ والسفرِ.

(٣) سُخْطُ الجوادِ الناطق

وكان السيدُ الجوادُ يُنصِتُ إلى حديثي متألِّمًا حانِقًا. وقد حاول أنْ يُخْفِيَ حُزْنَه وكَمَدَه عني؛ فلم يَسْتطِعْ إلى ذلك سبيلًا، ولم يتمالكْ أن كاشَفَنِي باشْمِئْزَازِه واحْتِقارِه، ثم حَمْحَمَ مدهوشًا متعجبًا: «كيف اسْتطعتُم أن تُذلِّلوا تلك الجيادَ، وَتَعْتَلُوا مُتُونَها، ولستُ أرْتابُ أن أضعفَ جوادٍ من جيادِنا أقوى من أَوْفَرِكُم شجاعةً وأَشدِّكم بَأْسًا، ولن يُعْجِزَ الجوادَ — إذا لم يستطِعْ أن يسحقَكم بأقدامه — أن يَتَدَحْرَجَ براكِبِه على الأرضِ؛ فَيَسْحقَه سحقًا، ويَهْرِسَه هَرْسًا؟»

فحمحمتُ صاهلًا: «إن الجِيادَ — في بلادِنا — مُذَلَّلَةٌ لَنَا مُرَوَّضَةٌ. ونحنُ نُعَوِّدُها — متى بَلَغَتِ الثالثةَ أو الرابعةَ من عُمْرِها — الخضوعَ والطاعةَ، ونُدرِّبُها على أَداءِ الْأَعمالِ التي نختارُها لها، ونَفْرِضُها عليها. فإِذا أظهر بعضُها تَبَلُّدًا أو عجزًا اسْتخدمناه في جَرِّ المَرْكَباتِ، وأَلْهَبْنا جِسمَه بالسِّياطِ — منذُ حَداثَتِه — حتى نُرَوضَه، ونُصْلحَ عَيْبَهُ، ونقوِّمَ زَيْغَه. واعْلَمْ — يا سيدي — أن الجيادَ التي نختارُها لرُكوبِنا وجَرِّ مَرْكَباتِنا، نَفْصِلُها — في عامِها الثاني — عن أُمَّاتِها؛ ليَسْهُلَ علينا تَذْلِيلُها ورِياضَتُها. وهيَ تَلْقَى نصيبَها من حُسْنِ المكافأةِ، أو سُوءِ الجزاءِ، في حالَي الطاعةِ والعِصْيانِ. وأُحِبُّ أن يعلمَ سَيِّديَ الجوادُ: أن الجِيادَ في بلادِنا غيرُ الجِياد في بلادِه؛ لأن جيادَنا ليس في رُءُوسِها ذَرَّةٌ منَ الإِدراكِ والْعَقلِ، وهي — في غَبائِها وبَهِيمِيَّتِها — أَشبهُ حيوانٍ ﺑ«الياهُو» في بلادهِ!»

•••

وقد كَلَّفني الإعرابُ عن هذه الحقائقِ — للسيدِ الجوادِ — كثيرًا منَ اللَّباقةِ والجهدِ؛ فإِن تلك اللغةَ الصاهلةَ ليست — مثلَ لُغاتِنا — غَنِيَّةً بالْأَلْفاظِ؛ لأن حاجاتِ أَصْحابِها ومُحاوَراتِهم قليلةٌ محدودةٌ، وأَغراضَهم سهلةٌ ميسورة، لا تُلْجِئُهُمْ إلى افْتنانٍ في الأَداءِ، وبلاغةٍ في البَيانِ.

ولا أكتمُ أنني عاجزٌ العجزَ كلَّهُ عن وَصفِ أماراتِ الغضبِ النبيلِ، التي ارْتَسمتْ على أساريرِ السيدِ الجوادِ، حين أَفضيتُ إليه بتلك الْمُعاملةِ الْقاسيةِ الوحشيّةِ التي يلْقاها الجِيادُ في بلادِنا.

ومنَ الْمُحالِ عليَّ أن أُصَوِّرَ للقارئ سُخطَ السيدِ الجوادِ وحَنَقَهُ علينا — مَعْشَرَ الأَناسِيِّ — حين سمِعَ منِّي أننا نَفْصِلُ أحدْاَثَ الجيادِ عن أُمَّاتِها، ونَحْرِمُها عَطْفَها عليها وأُنْسَها بها، لِنُسَخِّرَها في أَداءِ أعْمالنا.

(٤) فضلُ العقلِ

ولم يُمارِني السيِّدُ الجَوادُ في فضلِ الْعقلِ. وقد أَقَرَّني على أنّ له الْمكانَ الأولَ، وأن الكائنَ العاقلَ الرشيدَ يُصْبِحُ — حيثُما حلَّ — سيِّدَ الدوابِّ الأُخرى التي حُرِمتْ نِعْمَةَ الْعقلِ، وهو لا بُدَّ مُتغلِّبٌ عليها — عاجِلًا أو آجِلًا — بذكائِه، وحُسْنِ حيلتِه، وسَدادِ رأْيهِ.

ولكنه رأَى — إِلى ذلك — أن جِسْمِي مهزولٌ، ضعيفُ البِنْيةِ، ولم يكُنْ يدورُ في خَلَدِه قَطُّ أنَّ مخلوقًا — في مِثْلِ هذا الحجْم الصغيرِ — يمكنُ أن تُوجَدَ في رأْسِه مُسْكَةٌ منَ الْعقلِ، تَهْدِيهِ إلى فَهْمِ أبسَطِ بَسائطِ الْحياةِ.

(٥) مُلاحظاتُ الْجَوادِ

ثُمّ سَأَلَني صاهلًا: «ألا تَرَى أن «الْياهُو» — في بلادِنا — يماثِلُك، أو يماثِلُ «الْياهُو» في بلدِك الذي حدَّثْتَني عنه؟»

فأجبتُه مُحَمْحمًا: «إن تكوينَ جسْمي وبِنيَتَه، خيرٌ من كثيرٍ من أقراني منَ «الْياهُو» في بلادِنا، ممن هم في مثْلِ سني. ولكن «الْياهُو» الذينَ هم أقلُّ مني سنًّا — سواءٌ أكانوا ذُكورًا أم إناثًا — لهم بَشرَةٌ أرَقُّ مني، وأكثرُ نُعُومًة، لا سِيَّما النِّسَاءُ.»

فقالَ لي صاهلًا: «لا أُنكِرُ عليك أنّ بينكَ وبينَ دوابِّ «الْياهُو» — التي في حظائرِ الدَّجاج عندَنا — شيئًا من التَّخالُفِ؛ فأنتَ أَنظفُ منها، وأَقلُّ بشاعةً ودَمامةً، ولكنها — على ذلك — أَقوى منك، فيما أظُنُّ، وأشدُّ بأسًا. أما أَظافِرُك، فلسْتُ أَراها تَصْلُحُ لعملِ مَّا. وأما قائِمَتاكَ الأماميّتانِ فَما أراهُما جدِيرَتَيْنِ بهذه التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهُما لا تُعِينان عَلَى الْمَشْيِ. وما رَأيتُك — مُنذُ حَلَلْتَ عندَنا — تَمشِي عليهما. وهُما منَ الضعفِ والرِّقَّةِ بحيثُ لا تقوَيانِ على مَسِّ الأرضِ، بَلْهَ الاحْتِكاكَ بها. وقد رأيتُك تتركهُما عارِيَتَيْنِ في أكثرِ الأحايينِ، وتغطِّيهما أحيانًا بِقِطْعَةٍ مِنَ الثِّيابِ تُغايِرُ لَوْنَ جِسْمِك. أَما قائمتاك الخلفيّتانِ اللَّتانِ تمشِي عليهما، فهما — كذلك — ليْسَتا منَ القوَّةِ والصَّلاحيةِ، بحيث تُؤْمِنانِ صاحبَهما الْعِثارَ والزَّلَلَ، وما أَيسرَ أن تَنْزَلِقَا، فتهويِا بك إلى الأرض.»

•••

واسْتَرْسَلَ السيدُ في مُلاحَظاتِه على سائرِ أجزاء جِسْمي؛ فلم يتركْ شيئًا إلَّا انْتَقَدهُ وهَجَّنَه؛ لَمْ يُعْجِبْه وَجهي ورأَى أنهْ مُنْبَسِطٌ، كما رأى النُّتوءَ باديًا في أنْفِي، فانْتَقَدَهُ. وأخذ عليَّ اقترابَ إحدى عَيْنَيّ منَ الْأخَرى، وقال لي: «إنهما — لقُرْبِهما — تَكادان تلتصِقانِ؛ فلا تُيَسِّرانِ لَكَ أَنْ تنظُرَ — يَمْنةً ويَسْرَةً — إلَّا إذا أدَرْتَ رأْسَك كلَّه. وليسَ في قُدرتِك أَن تأكلَ طعامَك ما لم تَسْتعِنْ برِجْلَيْك الأماميَّتيْنِ، لترفعَ الغذاء بهما إلى فِيكَ. ولعل هذا هُوَ السرُّ في هذه الْمفاصلِ الكثيرةِ التي أَراها في أطرافِ جسْمِك. ولستُ أَدري ما نَفْعُ هذه الأعضاءِ الصغيرةِ الْمُنفصِلةِ، التي أَراها في طَرَفيْ رِجْلَيْك الخلفيَّتَيْنِ، وهي — فيما يبدُو لي — غايةٌ في الضَّعْفِ واللُّيونةِ. وليسَ لها قوةٌ على السَّيرِ فوقَ الصُّخورِ والْأَشْواكِ — إذا كانتْ عاريةً — فهِيَ في حاجةٍ دائمةٍ إلى غِطاءٍ تَصْنَعُونه من جِلدِ الدوابِّ الأخرى، لِيَقِيَها تلك الأخطارَ! أَما جِسْمُك فهو ضعيفٌ، لا يُطيقُ الْحرَّ والْبَرْدَ، إذا تَعرَّى ممَّا عليه منَ الثيابِ. وقد رأَيتُك ترْتَجِفُ منَ الْبَرْدِ، حين خلعتَ بعضَ ثيابِك أَمامي. فأنتَ لا تسْتغني عنِ ارْتِدَاءِ هذه الثِّياب، في جميع الأَيامِ. وَمنَ الْعجِيبِ الْمُدْهِشِ أن الدوابَّ في بلادي — على اخْتلافِ أجْناسِها — تَرهَبُ «الْياهُو» بطبعِها، وتَخْشاه، وتَلُوذُ بالْفِرَارِ حَيْثُمَا تَرَاه. وقد رأَيتُ أَن أَقوى حيوانٍ في بلادِنا يتحامَى «الْياهُو» جهدَه. وما أَدري كيفَ تعيشُون في هذه الدُّنيا وادِعين سالِمين، وليسَ فيها دابةٌ وَاحدةٌ تعطِفُ عليكم، وَلا تنْفِرُ من لِقائِكم؟ وماذا يُجْدِيكُمُ الْعقلُ — إذا سلَّمنا أَنكم قد ظَفِرْتم به حقًّا — ما دامتْ دَوابُّ الأَرضِ كلُّها تَمْقُتكم، ولا تُطيقُ رُؤيتَكم؟ فكيف تَتَّخِذون منها خدمًا، وهي تُضْمِرُ لكُم مثلَ هذا الْحِقْدِ والْكَرَاهِيَةِ؟»

ثم اسْتأنفَ صاهلًا: «حَسْبِي ما أَبْدَيْتُهُ لك منَ الْملاحَظات، وَلْنَدَعِ الْحديثَ الآن في هذا الأمرِ، ولْنُرْجِئْه إلى وقتٍ آخرَ؛ فإِنَّ بي لَشَوْقًا شديدًا إلى دَرْسِ أحْوالِك أنت، وإِلى تعرُّفِ مَسْقَطِ رأْسِك، ونَوْعِ مِهنتِك، ومُخْتَلِفِ الْأَحْداثِ التي حلَّتْ بك، قبلَ أن تَصِلَ إلى بلادِنا.»

(٦) قِصَّةُ «جلفر»

فأجبتُه مُحمحمًا: «إِنَّ بِي منَ الرغبةِ إلى إخبارِكَ بأَنبائي مِثْلَ ما بك — يا سيدي — منَ الرغبةِ في سَماعِها. وهي — بلا شَكٍّ — سَتُدْهِشُكَ إذا اسْتطعْتُ أَنْ أُبِينَ لكَ عنها. وما أنا بقادٍر على ذلك في وُضُوحٍ وجَلاء؛ لأنَّ أكثرَ ما أقُصُّه عليك غريبٌ غيرُ مألوفٍ، وليس لِما أُخْبِرُكَ بِه مثيلٌ في بلادِك، فيما أرَى. وليسَ منَ اليسيرِ عليّ أن أُحَدِّثَك بأمورٍ لَمْ تمرَّ بك يومًا منَ الأيامِ، ولم تَخطُرْ لك — مرَّةً — على بالٍ. ومهما يكنْ مِنْ أمرٍ، فإِني باذلٌ جُهْدِي كلّه. ولنْ أتركَ وسيلةً من وَسائلِ التشبيهِ والاِسْتِعارةِ إلَّا سَلَكْتُها، لِتَوْضِيحِ ما أُريدُ. ولكنني ألْتَمسُ من سَيِّدي أن يساعدَني على أَداءِ غَرَضي، كُلَّما أعوزَنِي الْأداءُ، وخَذَلَنِي التَّعبيرُ.»

فأجابني مُتلطِّفًا صاهلًا: «لك ما ترِيدُ، أيها الصاحبُ العزيز!»

فأَوجزتُ قصتي فيما يَلِي: «لقد وُلِدْتُ — يا سَيِّدي — من أبويْنِ شريفَيْنِ، في جزيرةٍ اسْمُها «إِنجلترا». وهي بعيدةٌ عن بلادِكَ بُعْدًا شديدًا، ولن يصلَ إِليها أقوى خدمِك قبل عامٍ كاملٍ. وقد تعلَّمتُ — أولَ أمري — مِهْنةَ الْجِراحةِ، أيْ فَنَّ مُداوَاةِ الْجُروحِ ومُعالَجَتِها. وكانت تحكُم بلادي امرأةٌ من بناتِ جنْسِنا، نُطلِقُ عليها لَقَبَ «الْمَلِكَةِ». أما سببُ مُغادَرَتِي تلك البلادَ، فهو يَرجعُ إلى رَغْبتي في الْتماسِ الثَّروةِ، لأعُولَ بها نَفْسي وأُسرتي. وقد كنتُ — في رِحلتي الأخيرةِ — رُبَّانَ سفينةٍ كبيرةٍ، وكان تحتَ إمْرَتِي خَمسْونَ منَ «الْياهُو». وقد ماتَ أكثرُهم — في أثناءِ الطَّريقِ — لِسُوءِ الحظِّ؛ فاضْطُرِرْتُ إلى أن أسْتَعِيضَ عنهم بجماعةٍ أُخْرَى غَيرِهم، وقد أَحْضَرْتُهم من بلادٍ وأَجْناسٍ مُخْتلِفةٍ. وقد تَعرَّضَتْ سَفِينَتِي — خِلالَ هذهِ الرِّحلةِ — للغَرقِ مَرَّتيْنِ؛ فقدْ كاد يُودِي بها — في المرةِ الأولَى — إعْصارٌ شديدٌ، وكادتْ — في المرةِ الثانيةِ — تتحطَّمُ على صَخْرَةٍ اصْطَدَمتْ بِها، وهي تَمخُرُ عُبابَ البحرِ.»

•••

وهُنا قاطعنِي السَّيِّدُ، وسَأَلَنِي مُحَمْحِمًا: «كيفَ اسْتَطَعْتَ أنْ تَجْلبَ — في سَفِينَتِكَ — أفرادًا مُخْتَلِفِي الأجْناسِ؟ ولماذا ارْتَضَوْا تَرْكَ بِلادِهم، والْمُجازَفَةَ معكَ في اقْتِحامِ الْأَخطارِ التي تعرَّضتَ لها، والْمُشارَكَةَ في الخسائِر التي تكَبّدْتَها؟»

فأجبتُه صاهِلًا: «لقد كانَ أُولئِك الرِّفاقُ يُعانُونَ مِنَ الْفاقَةِ والفقْرِ، ما يَضْطَرُّهُم إلى النُّزُوحِ عَنْ أوْطانِهم. فقدْ كانُوا لا يَجِدُون في بلادِهم قُوتًا ولا مأْوًى، وكان بَعضُهم فارًّا مِنَ الْعَدالةِ حتَّى لا يتعرَّضَ لِلْقِصاصِ. وكان آخَرُون منهم قد خَسِروا كلَّ ما يملِكُونَ، من جَرَّاءِ مُنازَعاتِهِم وطُولِ احْتِكامِهِمْ إلى القضاءِ، أو منْ جَرَّاءِ الْمُقامَرةِ والسَّيرِ في طُرُقٍ خَطِرَةٍ مُعْوَجَّةٍ. وكان بعضُهم من القَتَلَةِ واللُّصوصِ والْهاربِينَ منَ الْجيشِ، والمُتَواطِئِينَ مع العَدُوِّ، والفارِّين من السِّجْنِ. ولم يكنْ في وُسْعِ أحدٍ من هؤلاءِ أن يعودَ إلى وطنِه؛ حتى لا يعرِّضَ نفسَه للقتلِ، أو الصَّلْبِ، أو السَّجْنِ، وثَمَّةَ اضْطُرُّوا إلى الهِجْرةِ إلى بلادٍ أُخْرَى، التماسًا للرِّزْقِ، وانْتِجاعًا للكَسْبِ.»

•••

وكان السيدُ الجوادُ يُقاطِعُ كلامِي مراتٍ؛ لِيَسْتفسِرَني عَمَّا لم يفهمْهُ من حديثي وأغراضِي. ولم يكُنْ يُدْرِكُ معنَى تلكَ الجرائِم التي ذكرتُها له، ولَمْ يَتَصَوَّرْ كَيْفَ اضْطُرَّتْ جَمْهَرَةُ الملّاحِينَ الذين صَحِبُونِي في رِحْلَتِي إلَى النُّزُوحِ عَنْ بِلادِهم، وكيف اقْترفَ أُولئِكَ المجْرِمُونَ تلكَ الجرائمَ الشَّنِيعَةَ، وأيُّ حافِزٍ دفَعهم إلَى الْإِقْدامِ عَلَيْها؟ وماذا أفادُوا منها؟

وقد بَذَلْتُ جُهدِي في تَجْلِيَةِ ما غَمضَ عليه، وشَرْحِ الْبَواعِثِ التي تحفِزُهم إلى ذلك، وقلتُ له، فيما قلتُ: «إن الشَّرَهَ، والْجَشَعَ، والْأنانِيَّةَ، والرغبةَ في الْحُصولِ على الْجاهِ والثروةِ والسُّلطانِ، وما يَجُرُّهُ ذلِكَ مِنَ الْحماقةِ والحَسَدِ هي جُمَّاع الرَّذائِلِ عندَنا، وَمصدرُ الجرائمِ التي تَسُوقُ الناسَ إلى هُوَّةِ الخرابِ، وتدفعُهم إلى اقْترافِ الشُّرُورِ والآثامِ.»

ولم يكُنِ السَّيدُ الجوادُ لِيَتَصَوَّرَ أنَّ لهذه الرذائلِ الْمَمْقُوتَةِ وُجُودًا. فلما سَمِع ما حدَّثتُه به تَعاظَمَتْه الدهشةُ، واستولتْ على نفسِه الحيْرةُ؛ فرفَعَ عَيْنَيْهِ إلَى السَّماءِ مُسْتَنْكِفًا، وبَدَا علَى سِيماهُ الاِزدِراءُ والاِحْتِقارُ، بعدَ أن تكشَّفَ له من مَخازِينا ما لم يكُنْ يَسْمعُ به طُولَ حياتِه، أو يَخطُرُ لَهُ على بالٍ وصَرَخَ صاهِلًا: «تَبًّا لكُمْ يا مَعْشَرَ «الياهُو» — فقد جاوَزْتُم في الإِساءةِ والرِّجْسِ كلَّ حُسْبانٍ!»

•••

ولم يكُنْ مِنَ اليسيرِ عليَّ أَنْ أُفْهِمَ السيدَ الجوادَ كلَّ هذه الأغراضِ، على وَجْهِ الدِّقَّةِ، وأَجْلُوَ له ما أَعْنِيه حين أذكرُ أمامَه ألفاظَ النُّفُوذِ والسُّلْطانِ والحكومةِ والحربِ والقانونِ والقِصاصِ، وما إِلى ذلك من الكلماتِ التي لا عَهْدَ له بِسَماعِها. ولم يكنْ في اللُّغَةِ الصَّاهِلَةِ ما أسْتَعينُ به علَى تَوْضِيحِ مِثْلِ هذه الأغْراضِ، والتَّعْبِيرِ عنها. وثَمَّةَ كانتْ مُحاوَلَتِي مُخْفِقَةً، لا سبيلَ إلى نجاحِها، لَوْلا ما رأيتُه في السيدِ الجوادِ من رجَاحَةِ العَقْلِ، وبُعدِ النَّظَرِ.

وقدِ اسْتَطاعَ بعدَ مُحاوَراتٍ طويلةٍ أن يَتَعرَّفَ — في وُضُوحٍ وجَلاءٍ — كلَّ ما حدثتُه به عنْ خَصائصِ النَّوْعِ الإِنسانيِّ في بلادِنا.

ولمَّا انْتَهَيْنا من هذه الأحاديثِ طَلَبَ إليَّ أن أُحدِّثَه عن «أوروبا»، وأنْ أَتبسَّطَ في الكلامِ عن وَطَنِي خاصَّةً؛ فوعدتُه بتحقيقِ أُمْنِيَّتِهِ في مُحادَثاتٍ أُخْرَى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤