الفصل الخامس

(١) مُحاوَراتٌ صاهِلَةٌ

أُحِبُّ أنْ يعرِفَ القارئُ أنّ ما أَقُصُّه عليه في هذا الفصلِ من أنباء وأحادِيثَ إِنما هو خُلاصةُ مُحاوَراتٍ صاهلةٍ عِدّةٍ، بيني وبينَ السيدِ الجوادِ، في خلالِ عامَيْنِ. فقد كان يسألُني، فأُجيبُ — جُهدَ طاقَتِي — ثم يتفرّعُ الحديثُ، ويتشعّبُ الكلامُ، فأُفصّلُ له ما أَجْمَلْتُ.

وكنتُ كُلَّما ازْدَدْتُ تَفقُّهًا في تلك اللغةِ، ازداد صاحبي شغفًا بالتبسُّطِ معي في الحديثِ، حتى أوْجَزْتُ له كلّ ما أستطيعُ أن أُدْلِيَ به عن «أوروبا» وأحوالِها وفنُونِها وصناعاتِها وتجاراتِها وعلومِها، وما إلى ذلك من الشئونِ الخطيرةِ.

وإنِّي مُجْتَزِئٌ من تلك المحاوَراتِ بما دارَ بيننا عن وَطَنِي؛ حتى لا أُضْجِرَ القارئَ بتفصيلٍ لا داعِيَ إِليه، وقد كنتُ أخذتُ نفسي بأن أُحدِّثَ السيدَ الجوادَ عن حَواشِي الحوادِثِ وبَسائِطِها، أكثرَ ممَّا أخذتُ نفسي بالتَّعَمُّقِ في صَمِيمِها. ولَنْ أَنْسَى ما كابدتُه من عناءٍ وجَهدٍ كُلَّما تَوَخَّيْتُ الإِبانَةَ — للسيد الجوادِ — عن آرائي وأغراضي؛ كنتُ أُعانِي في الْوُصُولِ إلى ذلك — من ألْوانِ التَّعَبِ — ما لا سبيلَ إلى وَصْفِه، لضَعْفِي وحداثَةِ عِهْدِي في الترجمةِ إلى تلك اللغةِ المُعَقَّدَةِ الصَّاهِلَةِ!

(٢) دَواعِي الْحروبِ

وكان من أهمِّ الأحاديثِ التي دارت بيننا حديثُ الثورةِ الأخيرةِ التي نَشِبَتْ في «إنجلترا»، من جَرَّاء الغارةِ التي شنّها الأميرُ «أورَنْج»؛ فكانت سببًا في إيقادِ نارِ الحربِ بين الدُّوَلِ الَمسيحيّةِ كلِّها.

وسألني السيدُ أن أُحْصِيَ مَنْ هَلَكوا في تلك الحربِ الطاحِنَةِ المشئومةِ؛ فأخبرتُه أنَّ عَدَدَهُم لا يقلُّ عن مِلْيُونٍ منَ «الياهُو»، وأَحْصَيْتُ له المدنَ التي حُوصِرَتْ، والتي تعرَّضَتْ لغارات الأعداء، وهي لا تَقِلُّ عن مائةِ مدينةٍ.

وذكرتُ له أن عددَ السُّفنِ التي أُحْرِقَتْ أو أُغْرِقَتْ يَزِيدُ على خَمْسِمائةِ سفينةٍ. وقد حَلّتْ هذه الأحداثُ والخُطوبُ كلُّها في عهدِ الأميرِ «أورنج» والملكةِ «حَنَّا»، فسألني السيدُ مدهوشًا: «وما الدَّواعِي القاهرةُ التي تَحفِزُ «الياهُو» إلى اشتباكٍ في مثلِ هذه الحربِ الطاحنة؟»

فحمحمتُ صاهلًا: «إن لهذه الحربِ أسبابًا لا تُحصَى. وإِنِّي مجتزئٌ بذكْرِ أهمِّ الحوافزِ التي تدفعُ الناسَ إلى اقْتحامِ هذه الأخطارِ.»

فأرْهَفَ السيدُ أُذُنَيْهِ، وأصاخَ إليّ بسَمْعِه، فاسْتَأْنَفْتُ صاهِلًا: «إن أكثرَ هذه الحروبِ يرجِعُ إلى أَطماعِ الأُمراءِ والوُلاةِ والْحُكّامِ، الذين لا يقنَعُون بما يحكُمون من بلادٍ وشعوبٍ؛ فَتَطمحُ نفوسُهم إلى التوسُّعِ في الفتحِ؛ حتى تَتَّسِعَ رِقاعُ الْمَمالِكِ التي يحكُمونها، ويكثرَ عددُ الشعوبِ التي تَدِينُ لهم بالخضوعِ والطَّاعِة.

وربما نَشِبَتِ الحروبُ الطاحنةُ من جرّاءِ السَّاسَةِ الذين أَعْمَتْهُمُ الأنانيّةُ والشَّهْوَةُ، وأفسدَ قلوبَهُم الطمعُ والهوَى، وكثيرًا ما رأينا الوزراءَ يَسْتُرون بِالْحَرْبِ خَطَأَهُمْ في الْحكم، وفسادَ آرائهم في سياسةِ بِلادِهم؛ فإِذا رأَوُا النَّتِيجَةَ وَشِيكَةَ الظُّهورِ شَغَلُوا بلادَهم بحروبٍ يخلُقون أسبابَها ودواعِيَها خَلْقًا، لِيَزُجُّوا بأوطانِهم فيها زَجًّا؛ فتُنْسِيهَا وَيْلاتُ الْحربِ وأحْداثُها حَماقَةَ أُولئك الوزراءِ، وتَشْغَلَ الشَّعْبَ عَن مُحاسَبَتِهم عَلَى سُوءِ إدارتِهم، وفسادِ أعمالِهم.

ورُبَّما نَجَمَ مِن اختلافِ الرأيِ، وتبايُنِ وِجْهاتِ النظرِ شرورٌ وآثامٌ، تُطِيحُ بالْملايينِ الوادعةِ الآمنةِ منَ الأفرادِ.

والتَّخالُفُ هو مصدرُ الْمصائبِ، ومَنْبَعُ الْخطوبِ، ورأسُ الأحداثِ:

«لولا التَّخالُفُ، لم تَرْكُضْ — لغايتِها —
خَيْلٌ، ولم تُقْنَ أرْماحٌ وأسْيافُ.»

ولهذا التَّخالفِ أسبابٌ غايةٌ في التفاهةِ، وإن كانت نتائجُها غايةً في الْخُطورةِ. فقد يحدُثُ أنه بَيْنا يَرى أحدُهم أن الصَّفِيرَ عادةٌ مُسْتَقْبَحَةٌ، ورذيلةٌ يجبُ الْقضاءُ عليها، يرَى الآخرُ أن الصفيرَ فضيلةٌ يجبُ احْترامُها، وتشجيعُ الناسِ عليها!

وبينا ثالثٌ يَرَى قطعةً منَ الْخشبِ فيَهِيمُ بِحُبِّها هُيامًا، يرى رابعٌ أن تلك الطُّرْفةَ جديرةٌ أن تقدَّمَ طُعْمةً للنارِ!

ويُفَضِّلُ أحدُ الناسِ أن يرتديَ الثوبَ الأبيضَ، على حينِ يُفضِّلُ الآخرُ الثوبَ الأسودَ، أو الأحمرَ، أو الرَّمادِيَّ، مثلًا!

ويُؤْثِرُ أحدُهُم الثيابَ القصيرَة أو الضَّيِّقةَ؛ فيَنْبَري له من يُسَفِّهُ رأيَه ويمتدحُ الثيابَ الضَّافِيَةَ أو الْفَضْفاضَة!

ويرى بعضُهم أن العنايهَ بالأزْياءِ واجِبهٌ، فيناقِضُه الثانى مُدَلِّاً على أنها حقيرةُ الشَّأنِ، قليلةُ الْخطرِ!

واعْلَمْ — يا سيِّدي — أن حُروبَنا لا يَعْظُم أمرُها، ويشتدُّ خطرُها، فتأتي على الأخضرِ والْيابسِ، وتُهْلِك الْحَرْثَ والنّسْلَ، إلَّا إذا كانتْ ناشِئَةً منِ اختلافِ الآراء، وتَبايُنِ وِجْهاتِ النظرِ.

وكُلَّما كان مَصْدَرُ الْخِلافِ تافِهًا حقيرًا عظُمَتِ الْحربُ، واشتَدَّ أُوارُها، وذَكَتْ نارُها!»

(٣) بَغْيُ الأقْويِاءِ

ثم اسْتأنفتُ صاهلًا: «وربما اشْتبكَ مَلِكانِ — في حربٍ طاحنةٍ — لأن كلاًّ منهما يريدُ أن يعتديَ على مَلِكٍ ثالثٍ، ليغتصِبَ بلادَه من غيرِ حَقٍّ، ويخشَى كِلاهُما أن يظفَرَ صاحبُه بهذه الغنيمةِ، فيقفُ له بالْمِرْصادِ، ويَنْتَحِلُ له من أفانينِ التَّجَنِّي ما يدفعُه إلى محاربتهِ. وربما تَوَجَّسَ بعضُ الملوك شَرًّا من جارِه، وَتَوَهَّمَ أن الجارَ سَيَبْدَؤُهُ بالْعُدْوانِ؛ فما إنْ يَقِر في نفسِه هذا الوهمُ، حتى يبدأَ بالْحرب؛ ليتَغدَّى بِجارِه قبل أن يكونَ عَشاءً لَهُ! وقد يَحْتَرِبُ الْملِكانِ لأسبابٍ غايةٍ في الْغَرابِة، فيعتدِي أحدُهما على الآخرِ، حِينَ يراه قويًّا مُسْتَكْمِلَ الْعُدَّةِ؛ فيْنفَسُ عليه قُوَّتَهُ، ويَسْعَى إلى تَقْلِيمِ أظافرِه. وربما اعتدَى عليه لأنه يراه ضعيفًا، لا قُدْرَةَ له على الحربِ، ولا طاقةَ له بمَغارِمِها وأهْوالِها. وقد يَحْتَرِبان لأن أحدَهما يطمَعُ في الحصولِ على نفائسَ وطُرَفٍ، يجدُها عند مُنافِسِه، ولا يجدُها في بلاده. وجُمَّاعُ الْقولِ أن الْحربَ قد تنشَبُ بين أُمَّتيْنِ للحصولِ على شيءٍ، أو للحصولِ على ما ليس بشيءٍ! وربما ظهر الوبأُ والْمجاعةُ في أحدِ البلاد، فلا يكادُ بَعْضُ الْجِيرانِ يَراهُما قد حَلَّا بذلك الْبلدِ الآمنِ الْمطمئنِّ فَأَرْهَقاهُ، ويَرَى الأحزابَ بين سُكّانِه تَتَعَدَّدُ فَتُمَزِّقُه شرَّ مُمَزَّقٍ؛ حتى يَجِدَ في ذلك مُسَوِّغًا للبَغْيِ والْعُدوانِ عليه، وحافِزًا لاغْتِصابه، وشَنِّ الْغارةِ على أهلِه. وربما بدأ أحدُ الْمَلِكَيْنِ حَلِيفَه بالْعُدْوان، لأنه يرى أَن يَضُمَّ بعضَ مُدُنِه إلى مملكتِه؛ ليوسِّعَ من رُقعتِها، ويزيدَ في غِناها وثَرْوَتِها. وإذا احْتَلَّ أحدُ الْملوكِ بلدًا منَ الْبُلْدَان الضعيفةِ، ورأى أَهلَه رازِحِينَ تحتَ أَعباءِ الْفقرِ والْجهالةِ؛ أَجازَتْ له شَرائِعُ الحضارةِ والإِنصافِ أَن يقتُلَ نصفَ الشّعْبِ، ويستَعْبِدَ النصفَ الآخرَ؛ لِيُحَضِّرَهُ ويُخْرِجَهُ من ظُلُماتِ الْجهلِ والْهَمَجِيَّةِ، إلى نُورِ العلمِ والْمَدَنِيَّةِ! وثمَّةَ أُسلوبٌ طريفٌ، لا يُلَامُ عليه منهم إنسانٌ، وسُنَّةٌ بديعةٌ لا يروْنَها مُنافِيَةً للمُرُوءةِ والشرفِ، وهي أَن يستنجِدَ أَحدُ الْملوكِ بصاحبِه — إذا ضاق ذَرْعًا بعدوِّه — فيحالِفَه ذلِكَ الْملِكُ على عَدُوِّه؛ حتى إذا تمَّ لهما الظفَرُ، وطَرَدا الْعدوَّ من الْبلادِ، طمِع النصيرُ في حَليفِه، واسْتولَى على بلادِه، وطردهُ بعد أَن نَصَرَهُ، ورُبَّما قَتَلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ، وحَلّ مكانَه في الْبلادِ، ولم يَرَ في ذلك إثْمًا ولا عارًا! وربما كانتْ وَشائِجُ الْقُرْبَى بين حلِيفَيْنِ من أَسبابِ الطمعِ، وخَلْقِ الْحروبِ الطاحنةِ. ومِن الْعجيبِ أَنّ أَواصِرَ الْقُرْبَى كُلما أُحْكِمَتْ أصبحَتْ مِنْ مُغرِياتِ الحروبِ، وباعِثاتِ الشُّرورِ، وجالباتِ البَغضاء!»

(٤) الْجنودُ الْمُرْتَزِقَةُ

وبعد أن سكَتُّ بُرْهَةً اسْتَأْنَفْتُ صاهلًا: «وما دامَ في الدُّنيا ضَعِيفٌ وقوِيٌّ فلن تضعَ الْحروبُ أوزارَها؛ لأن الشعوبَ الضعيفةَ — التي ضُرِبَتْ عليها الذِّلةُ والْمسكنةُ، ومزَّقتْها الْمجاعةُ، وطَحَنَها الْوَبَاءُ — تُغْرِي بضَعفِها الْأُمَمَ الْقويةَ، التي ترى فيها لُقْمَةً سائغةً، يَسهُلُ ازْدِرادُها. وما زالَ الْفقرُ والطمعُ يُثيرانِ الْحروبَ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، ومادامتِ الشعوبُ لا تستغنِي عنِ الْحربِ فهي — كذلك — لا تستغني عن أدَواتِها. والْجنديُّ هو قِوامُها وأكْبَرُ عَتادِها؛ فلا غروَ إذا أصبحتْ مِهْنَةُ الْجنديِّ من أَشْرَفِ الْمِهَنِ وَأكرمِها. فإذا أردتَ أن تعرفَ: مَنِ الْجنديُّ عِنْدنا؟ فاعْلَمْ أنه «ياهُو» مَأْجُورٌ مرتزِقٌ، قد وَقَفَ حياتَه وجُهْدَه وقُوَّتَهُ على قَتْلِ إخوانهِ في الإِنسانيةِ، مِمَّنْ لَمْ يعتدُوا عليهِ، ولم يَمَسُّوه بسُوءٍ، وهو لا يَتَورَّعُ عن قَتْلِهِمْ ونفسُه راضيةٌ مُطمئنّةٌ! وكثيرًا ما رأينا الأُمَمَ تُؤَجِّرُ جنودَها للأمم القويةِ الأخرى، لتساعدَها في حروبِها، وليزيدَ أَجرُ الْجنودِ في خِزانَةِ الدّولةِ الْمُؤَجِّرَةِ.»

(٥) مَآخِذُ السيدِ الْجوادِ

فَحَمْحَمَ السيدُ الْجَوادُ صاهلًا، وقد اشْتدَّ نُفورُه مما سمِع: «إن الأسبابَ التي تُسَوِّغُونَ بها عُدْوَانَكم، وبَغْيَ بعضِكم على بعض قد شَكَّكَتْني في سَلامِة عُقُولِكم، وأقْنعَتْنيِ بخَطَلِ آرائِكم، وفَسادِ أحكامِكم، فليْسَ منَ الْمعقولِ أن تصدُرَ أمثالُ هذه الْحماقاتِ من عُقَلاء راشِدينَ. وأخْلِقْ بكم أَن تَجْنُوا عَواقِبَ حَماقَتِكُمْ، وأَن تحصدُوا الْوَيلَ، بعدَ أن بَذَرْتُمْ بُذُورَ الأَذى والشِّقاقِ! ومهما يكُنْ من أمرِكم، فإِنَّ من الْخيرِ والسعادةِ لكم أنكم ضِعافُ الْبِنْيَةِ، وفي هذا الضعفِ ما يَخْضِدُ من شَوْكَتِكم، ويُقَلِّلُ من أذِيَّتِكم. وما دُمتمْ قد وصلتُم في الْحماقةِ إِلى هذا الْحدِّ، وبلغتُم منَ الْبَغْيِ هذا المدَى، فإِن منَ البِرِّ بكم أن تُخْلَقُوا — هكذا — ضِعَافًا عَجَزَةً!

•••

على أنني آخذُ عليك أَنك تَقُصُّ عليّ ما لا سبيلَ إلى فهمِه. وأَراك قَدْ أسْرَفْتَ وغَلَوْتَ — في تصويرِ النتائجِ الْمُفَزِّعَةِ التي نجمَتْ عن حُروبِكمُ الْقاسيةِ الشَّعْواءِ — وجاوزْتَ الْقَصْدَ حين ذكرتَ لي عددَ الضَّحايا الذينَ هَلَكوا في تلك الْحروبِ الطاحنةِ. وما أُراكَ إِلا مُسْرِفًا في الْمُبالغةِ، إِن لَمْ أَقُلْ إنكَ تُخْبِرُني بما لا أَفهمُه. إِنَّ فاكَ مُسَطَّحٌ، ووَجْهَكَ مُسْتَوٍ، فكيف يَحْتَرِبُ مِثْلُك؟ وبأي وَسيلةٍ يَعَضُّ بعضُكم بعضًا، وليس لكم أَنيابٌ حادّةٌ؟ أَمَّا المَخالبُ — الْخلفيّةُ والأماميةُ — التي في أَرجُلِكم، فهي قصيرةٌ ضعيفةٌ، لا تَقْوَى على إِلْحاقِ الْأذى بكائنٍ كان. وفي قدرةِ واحدٍ فَرْدٍ من «الْياهُو» عندَنا أَن يُمَزِّقَ بأنيابهِ ومَخالبهِ عشرةً من أمثالِك!»

(٦) أَساليبُ الحربِ

فأدركتُ أن السيدَ لم يفهمْ حقيقةَ ما أَعنِيه، ولم أتمالَكْ أن أهُزَّ رأسِي مُبتسِمًا لهذا الْخَلْطِ الذي بَدَا منه.

وكنتُ أعرِفُ شيئًا من فُنونِ الحربِ؛ فانْطلقتُ أصِفُ ما عَلِمْتُه من أساليبها، وأُفَصِّلُ ما أجْمَلْتُه عنها. وعَدَّدْتُ أدواتِ الْهلاكِ ووسائلَ التخريبِ في بلادِنا؛ فوصفْتُ الْمدافعَ الخَفِيفةَ الصغيرةَ، والكبيرةَ الضخمةَ التي تَدُكُّ الْحُصونَ الْمنيعةَ دَكًّا، كما وَصَفْتُ لهُ البنادِقَ الْمُختلِفةَ الأنواعِ والأحجامِ، والْغَدّاراتِ والبارودَ، والسيوفَ، والْحِرابَ، والقنابلَ، وما إِلى ذلك من أدَواتِ التَّدْمِيرِ والتّخْرِيبِ.

ثم ذكرتُ كيفَ نُحَاصِرُ الْمُدُنَ والبُلْدَانَ، وكيف نقتحِمُ الخَنادِقَ اقْتِحَامًا، وكيفَ نَفْتَنُّ في الهجومِ والدفاعِ، وإِلْغامِ طُرُقِ العدُوِّ، ورَفْعِ الألْغامِ التي يضعُها الْعَدُوُّ في طُرُقِنا، وكيفَ نُغْرِقُ السُّفنَ، والْبوارجَ الحربيَّةَ الْهائلة — الَّتي تَسَعُ الواحدةُ منها أَلْفَ رجلٍ — بكلِّ من فيها من جندٍ وملًّاحِين.

وأَبَنْتُ له كيفَ تُمْطِرُها مدافعُنا الضخمةُ وابلًا من الْقذائفِ النَّاريةِ فتُلْهِبُها وتُغْرِقُها في مِياهِ البحرِ. وكيفَ خَسِرْنا في إِحدَى حروبِنا عِشْرِينَ ألْفَ جُنْدِيٍّ، وقُتِلَ من أَعْدائنا مثلُ هذا القَدْرِ.

ووصفْتُ له هَوْلَ المعاركِ الحربيةِ، وكيفَ يُثارُ غُبارُها، ويَعلُو دُخَانُها، وتَنْدَلِعُ أَلْسِنَةُ النارِ فيها، وتَبْرُقُ بُروقُها، وتَقْصِفُ مدافِعُها؛ فتغطِّي جَلْجَلَتُها ودَوِيُّها على أَنِينِ الْجَرْحَى وصيحاتِ المُتقاتِلين، وتحجُبُ السُّحُبُ المُتكاثِفةُ الصَّفِيقَةُ — مِنَ الْغُبارِ والدُّخَانِ — أَشْلاءَ القتلَى الْمتناثرةَ في الْهواءِ، ودماءهمُ الْمُهرَاقةَ على الأرضِ، وجثثَهمُ التي وَطِئَتْها الأقدامُ. فإِذا انْتهتِ الْمعركةُ تركنا أشْلاءَ القتلى غَنِيمَةً سَهْلَةً للذئاب، وطعامًا سائغًا لسِباعِ الطَّيْرِ، وشَغَلَنا عنهمُ السَّلْبُ والنَّهْبُ والتنكيلُ بالأحياءِ منَ الأعداءِ.

•••

وامتلأتْ نفسي فخرًا وحماسةً بما أحرزَتْه بلادي من ظَفَرٍ على أعدائها في أَمْثالِ هذه الحروبِ؛ فذكرتُ للسيدِ الْجوادِ — مُدِلًّا تَيَّاهًا — أنني رأيتُ جُنودَ بلادي — ذاتَ مرّةٍ — يَنسِفون مائةً من أعدائِهم في الْهواء، فتتطايرُ أشْلاؤُهُم في الْجَوِّ، ثم تَتَحَدَّرُ هاوِيَةً على الأرضِ — كما تَهْوِى كِسَفٌ مِنَ السُّحُبِ — أمامَ النَّظَّارةِ!

(٧) جَزَعُ الْجوادِ

وهمَمْتُ بمُتابعةِ الحديثِ، ولكنَّ السيدَ لم يُطِقْ أن يسمعَ مني أكثرَ مما سمِع؛ فأمرني أن أَكُفَّ عنِ الْكلامِ، وألُوذَ بالصَّمْتِ، وحمحَم صاهلًا: «مَهٍ!مه!فقد سَكَكْتَ سمعِي بهذا الْهَذَرِ الْممقوتِ، وكشفتَ لي من لُؤْمِ طِباعِكم ما لم يكُنْ ليخطُرَ لي على بالٍ. وإني لأَعْجَبُ من قُدْرَتِكُم على اقْترافِ الآثامِ والشُّرورِ، مع ضعفِكم وعجزكم. ولقد كنتُ أمقُتُ «الياهو» — لخبثِه ولؤمِه — ولم أكُنْ أحسَبُه يَصِلُ إلى هذا الدَّرْكِ منَ الإِسفافِ والدّناءةِ.»

والْحقُّ أن أَحاديثي قد أزعجتِ السيدَ الْجوادَ، وبَلْبلَتْ خاطِرَه، وزادتْه حَنَقًا وسُخْطًا على «الياهو» في جميعِ أنحاءِ الأرضِ. وظهرتِ الْحَيْرةُ والاِرتباكُ على سِيماه، وأصبح في حالٍ لا تُوصفُ من السُّخْطِ والْأَلم. وكان يخشَى أنْ تألَفَ أُذُناه أمثالَ هذه الأحاديثِ، فَتَمْرُنَ عليها، ولا تلبثَ — بِطُولِ الأُلْفَةِ — أن تَسْتَسِيغهَا، وتُهَوِّنَ من شأنِها، وتقلِّلَ من خطرِها.

وكان — عَلَى بُغضِه دوابَّ «الياهو» في بلادِه — لا يؤاخذُها بما تقترِفُه من آثامٍ؛ لأَنها قد حُرمتِ العقلَ. ولم يكن يقسُو عليها في معاملتِها. أمَا وقد رأى دابَّةً مثلي من دوابِّ «الياهو» تفخَرُ بالعقل والْحكمةِ والسَّدادِ، ثم تُزْهَى بأمثالِ هذه النَّقائِصِ والْمُخْزِياتِ، فإِنَّ سُخْطَه وغَيْظَه قد بلغا أَشُدَّهما؛ لأنه يرى أن العقلَ الفاسدَ شرٌّ وَبيلٌ، وأَنّ مَن يُوَجِّهُ مواهِبَه وتَفْكِيرَهُ إلى اقترافِ مثْلِ هذه الدَّنايا والآثامِ، هو شرٌّ ممَّن حُرِمَ نعمةَ العقلِ، منَ الوحُوشِ الضَّارِيَةِ، والدَّوابِّ السَّائِمَةِ.

ويَبْدُو لي أَنه قد أَدرك أَن عقلَنا — إذا صحَّ عندَه أَنَّ لنا عقلًا — قد تنازعَتْه غرائزُ، وقُوًى نفْسّيةٌ خبيثةٌ؛ فغلبتْ أَهْواؤُها عليه، وصَرَفَتْه إِلى الشرِّ والإثمِ؛ فأصبح كالْماء الْمائِج الْمضطربِ: يكشِفُ عن صُوَرِ الأشياءِ مُشَوَّهَةً، فلا يُعطيك فكرةً صحيحةً عنها، بل يُعطيكَ صورةً خاطئةً تُضِلُّكَ!

وعندَه أنَّ الجهلَ خيرٌ من هذه الْمعارفِ الْمُضطربةِ الزائفَةِ.

(٨) ضَحايا القانُونِ

واسْتأنف السيدُ الجوادُ صاهلًا: «لقد حدّثْتَني — عما تُسَمُّونه الْحربَ — أحاديثَ شتّى مُسْتفِيضةً. ولكنك لم تحدِّثْني عما عَنَيْتَه بقولِك — في إِحدَى مُحادَثاتِك — إنّ بعضَ «الياهو» الذين صحِبُوك في سفينتِك كانوا هارِبِينَ من القضاءِ، وإنَّ القانونَ قد أوْقَعَهُمْ في تلكَ الهاويةِ. ولستُ أدْرِي ماذا تَعنِيه بهذا الكلامِ؟ فإنك قد حدّثْتَني أن القانونَ قد وضعتُمُوه للدفاعِ عنكم جميعًا. فكيف جَنَى هذا النظامُ الصَّالِحُ عليكم، وشَتَّتَكم في أقاصِي الأرضِ؟ وما حاجةُ العقلاءِ الرَّاشِدِينَ إلى قانُونٍ، بعد أنْ عَرَّفَهمُ العقلُ طريقَ السَّدادِ، وطريقَ الغَيِّ، وأنارَ لهمْ سبيلَ الْهِدايةِ، وسبيلَ الضلالِ، وبَصَّرَهم بما يجدُرُ بهم أن يَتَّبِعُوه، أو يتحامَوْه؟»

فأجبتُه صاهلًا: «إنني لم أتفقَّهْ في التَّشرِيع، ولم آخُذْ منَ القانونِ بحظٍّ كبيرٍ منَ الْفَهْمِ والدَّرْسِ، وإن كانت صِلَتي ببعضِ المحامِينَ — مِمَّن تَصَدَّوْا للدفاعِ عني في بعضِ الْقَضايا لرفْعِ ما لَحِقني من جَوْرٍ وحَيْفٍ — قد هَيّأتْ لي فرصةً لإِدْراكِ طَرَفٍ مِنَ الْمعارفِ الأوَّليَّةِ التي تُلَبِّي بعضَ رغباتِكَ في هذا البابِ. إنَّ في بلادِنا جَمهرةً منَ الرجالِ، يتعلَّمُون — منذ حَداثتِهم — فُنُونَ الْجَدَلِ وضُرُوبَ الْمناقشةِ والْحِجاج؛ يُدَرَّبون على إقامةِ البرهانِ — في عباراتٍ واضحةٍ خلَّابةٍ — على أن الأبيضَ أسودُ، والأسودَ أبيضُ. وهم يُدَلِّلون على ذلك لقاءَ ما يُعْطَوْنَهُ مِنْ أَجر!»

ثم ضربتُ للسيدِ الْجوادِ — على ذلك — مثلًا يفسِّرُ له ما أُريدُ، وهو: «إذا طمِع جارِي في بَقَرَتِي، وأراد أن يَسْتَحْوِذَ عليها، فهو على يقينٍ من أنه لَنْ يَعْدَمَ حيلةً يتحَوَّلُها لِنَيْلِ وَطَرِه، وقَضاء مَأْرَبِه. وهو لا بُدَّ واجِدٌ من رِجالِ الْقانونِ من يُقيمُ له الدليلَ على أنَّ مِن حقِّه أن يَسْلُبَني هذه البقرةَ. وثَمَّة يَزُجُّ بي إلى الْقضاءِ، ويَضطرُّني إلى توكيلِ مُحامٍ عنِّي؛ ليدافعَ عن حَقِّي دِفاعًا قانونيًّا ترضَى به المحكمةُ، ويُكَبِّدَني منَ المالِ ما لا طاقةَ لي به.»

ثم حَمْحَمْتُ للسيدِ الجوادِ صاهلًا: «أمَّا المحكمةُ، فهي — في حقيقتِها — جمهرةٌ منَ القُضاةِ، أكسبَهمُ الْقانونُ حقَّ الفصلِ في جميعِ المُنازَعاتِ التي تَنْشَبُ بينَ سَوادِ الناسِ — خاصَّةً وعامَّةً — ولَهُم أن يحكُمُوا في الْقضايا المدَنِيَّةِ والجِنائِيَّةِ على السَّواءِ. وهم صَفْوَةٌ مُختارةٌ من أنبلِ الْمُشَرِّعِينَ، وأقْوَمِهم سُلُوكًا، وأوفرِهم نزاهةً، وأرْجَحِهم عقلًا، وأكثرُهم ممن أنضَجتْهُمُ الشيخوخةُ، وجَهَدَتْهُمْ تجارِبُ المِهنةِ وشُئونُها. وهم مُضْطَرُّونَ إلى الأخذِ بما يسمعُونه، وليس في وُسعِهم أن يُغيِّروا في الوقائِع التي تُعْرَضُ أمامَهم، مهما كانت ظالمةً مُلَفّقَةً. وهم من أعلَى أمثلةِ النَّزاهَةِ؛ لا ينحرِفُون عنِ الشَّرفِ، ولا يَحِيدُون عن الواجبِ. وقد رأيتُهم بِعَيْنَيْ رأسي يرفُضونَ هَدايا ونفَائِسَ نادِرَةً منَ الْخُصومِ الذين كانوا على حقٍّ في مُنازَعاتِهم، حتى لا يَمَسُّوا شَرَفَ القضاءِ. ومنَ المبادئ المُقَرَّرةِ التي ينتهِجُها القُضاةُ، أن يحترِمُوا نُصوصَ الأحكامِ السابقةِ — أَيًّا كانت قيمتُها — ويَعُدُّونها من النُّصُوصِ الْمُقَدَّسةِ، والأسانِيدِ الوثيقةِ، التي يَرْجِعون إليها عندَ الحاجةِ.»

(٩) أُسْلُوبُ الدِّفاعِ

ثم سَكَتُّ بُرْهَةً، واسْتأنَفْتُ صاهلًا: «وللدِّفاعِ أُسلوبٌ عجيبٌ في إِطالةِ الحِوارِ، ونقلِ المُحاجَّةِ من وِجهةٍ إلى أخرى، والتعرضِ لِلْفُرُوعِ والْحواشِي، وَحُبِّ الاِسْتِطْرادِ إلَى حَدٍّ يُضْجِرُ السَّامعَ ويُسْئِمُهُ. ولْأُوضِّحْ لك ما أعْنِيه، مُتَّخِذًا من مِثالِ البقرةِ — الذي ذكرتُه لك — مِصداقَ ذلك: يتحاشَى الدفاعُ — جهدَه — أن يدخلَ في صميمِ الموضوعِ، كما أخبرتُك آنِفًا. وهو لا يُعنَى بِسَماعِ الحُجَجِ التي يُدْلِي بها مُحامِيَّ للتدليلِ على حَقِّي في امتلاكِ البقرةِ، بَلْ يَتسلَّلُ إلى الْهَوامِشِ والْحواشِي. يتساءلُ ليتعرَّفَ لَوْنَ البقرةِ؛ أهي سوداءُ أم حمراءُ؟ وقَرْناها كيف هُما؛ قصيرانِ أم طويلانِ؟ والحقلُ الذي ترعاه؛ ما خَطْبُهُ؟ أهو مستديرٌ أم مُربَّعٌ؟ والبقرةُ أين تُحْلَبُ؛ في المنزلِ أم في خارجِه؟ وكِيانُها؛ قَوِيٌّ أمْ ضعيفٌ؟ وصِحَّتُها؛ عُرْضةٌ للمرضِ أم سليمةٌ لا تؤثِّرُ فيها الجراثيمُ؟ وهكذا إلى آخرِ هذه الأسئلةِ التي يَطولُ عَدُّها! فإِذا انْتَهَى مُحامِي الدفاعِ من حِجاجِه وأدِلَّتِه، أُجِّلَتِ القضيةُ إلى أَمَدٍ بعيدٍ أَو قريبٍ. ثم لا تزالُ تُؤَجَّلُ من زمنٍ إلى زمنٍ، حتى ينفَدَ صبرُ المُتقاضِينَ. وربما تَأَخَّرَ الحكمُ فيها إِلى عَشْرِ سِنين، أو عشرِينَ، أو ثلاثِين في بعضِ الأَحايينِ! وللقُضاةِ قانونٌ لا يَحِيدُون عنه قِيدَ أُنْمُلَةٍ، وقد كُتِبَ هذا القانونُ بأُسلوبٍ بِعَيْنِه، لا يفهمُه غيرُهم. ولا يزالُ المشَرِّعُونَ يُضِيفُون نُصُوصًا جديدةً إلى نُصوصِه القديمةِ؛ فيَزيدُون في تعقيدِ الْمسائِل، رغبةً في تَوَخِّي الْعدالةِ وتحرِّي الدقّةِ. وقد يطولُ أمَدُ البحثِ إِلى ثلاثينَ عامًا كاملةً، لِيُحْكَمَ — لِي أوْ عَلَيَّ — بأنّ الأَرضَ التي تركها لي أجْدادِي منذُ سِتَّةِ أجْيالٍ مُتعاقبةٍ مِلْكٌ لي، أو مِلْكٌ لرجلٍ أجنبيٍّ وُلِدَ على بُعْدِ مائةٍ منَ الأميالِ من الأرضِ التي وَرِثْتُها من أسْلافي!

•••

أما الجرائمُ التي يقترفُها بعضُ الْجُناةِ ضِدَّ الدولةِ، فإِن القضاءَ يفصِلُ في أَمرِها سريعًا. وهي تنتهي بقتلِ الجاني، أَو تبرِئَتِه، حَسَبَ نُصوصِ القوانينِ.»

فقاطعني السيدُ الجوادُ صاهلًا: «إِنّ منَ الحَيْفِ والغَبْنِ أَنْ يَغْفُلَ المشرعون — وهم على ما وصفتَ من رَجاحةٍ وحَزْمٍ — عَنْ توجيهِ الجُناةِ إِلى طُرُقِ الخيرِ، بالنصيحةِ والمَوْعِظةِ الحسنةِ. وما كانَ أَجدَرَهُم أَن يوجِّهُوا عبقريّتَهم إلى تهذيبِ أُولئك الْجُناةِ، وأَن يُسَلِّطوا قُواهُمُ النفسِيّةَ عليهم، ويُلَقِّنُوهم — من دُروسِ الحكمةِ والفضيلةِ — ما يُرْشدُهم ويَهدِي قلوبَهم إلى مُطْمَئِنِّ البِرِّ، ومَحَجّةِ الصوابِ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤