الفصل السادس

(١) خَطَرُ الْمالِ

ولم يستطعِ السيدُ الجوادُ أن يُدرِكَ الأسبابَ التي تُنسِي أولئكَ المشَرِّعين تلك الغايةَ النبيلةَ التي تعودُ على العالَم بالْخيرِ العميمِ. ولم يَفْهَمْ — كذلك — ما أَعْنِيه بكلمةِ الأَجْرِ الذي يدفعُه المُتقاضِي لمحامِيه. فاضْطُرِرْتُ إلى تفصيلِ ما أجْمَلْتُ، وشرحْتُ له معنَى النَّقْدِ، وكيف يُصْنَع، وكيفَ تَتَفاوَتُ قِيَمُ المعادِنِ التي نَسُكُّها، وكيفَ نُسَمِّيها — بعد ذلك — مالًا، وكيفَ نشترِي بِها ما نحتاجُ إليه من فاخرِ الثيابِ، والرِّياشِ، والقُصُورِ، والدَّساكِرِ، والأطعمةِ الشهيّةِ، والأَشْرِبةِ اللَّذِيذَةِ، وكيف يُوَفِّرُ لنا الْمالُ أسبابَ السُّرُورِ والْمُتَعِ وجالِباتِ البَهجةِ والأُنْسِ، فلا غَرْوَ إذا تكالَبْنا — معشرَ «الياهُو» — على ادِّخارِهِ، وجمْعِهِ بِكُلِّ وَسيلةٍ، لنُنْفِقَ منه على مَباهِجِنا، ونُيَسِّرَ به أسبابَ رَفاهِيَتِنا.

وحدثتُه — فيما حدَّثتُه — عَمَّا يتمتَّعُ به الغَنِيُّ من ثِمارِ الفقراءِ، ونِتاجِ جُهودِهم، وكيف يَكُدُّ الفقيرُ في عملٍ مُرْهِقٍ؛ ليُمْتِعَ الغنيَّ ويُرَفِّهَ عنهُ، ثمَّ لا يَلْقَى على جُهودِه الْمُضْنِيَةِ إِلَّا أَجرًا تافهًا حقيرًا.

واسْتَرْسَلْتُ — للسيد الجوادِ — في الشَّرْحِ والتَّفصيلِ، ولكنه لم يستطعْ أن يَفهمَ حقيقةَ ما أَعْنِيه، فقاطعني صاهلًا: «أليستِ الأرضُ كلُّها مِلْكًا شائعًا بينَ الدَّوابِّ والحيوانِ جميعًا؟ أليس لهمُ الحقُّ في كلِّ ما تُخرِجُه من غَلَّةٍ وثمارٍ؟ ألا يأكلون منه ما يشاءُونَ؟ فإذا لم يكُنْ ذلك كذلك، أفَلَيْسَ منَ الحقِّ أن يكونَ أَكثرُكم تَعَبًا، هو أَوْفَرَكُم مِنْ خَيْراتِها حَظًّا؟»

ثم اسْتأنفَ كلامَه صاهلًا: «ولكنْ خَبِّرْني: ماذا تعني بالأطعمةِ والأشرِبةِ الفاخرةِ؟ وما هي ألوانُها المختلِفةُ التي أَصبحتْ ضَروريّةً لكم؟»

فذكرتُ له من لذائِذ الأطعمةِ الْمُرْتَقِياتِ — على اختلافِ ألْوانِها — ما أدهشه وحيَّرَ عقلَه.

(٢) مَساوِئُ الْحضارَةِ

وذكرتُ له كيف يفتَنُّ طُهاتُنا في تنسيقِ ألْوانِ الطعامِ، وابتكارِ كلِّ عجيبٍ منها؛ وكيف يُعالِجُونَ اللَّحمَ بالتَّوابِلِ، لتَزِيدَ في شَهِيَّةِ آكِلهِ، وكيف يصنعون الأشربةَ الفاخرةَ، ويَجْلُبون منها ما لا يجِدُونه في بلادهِم، ولو كان في أَقاصي الأرضِ.

وحدَّثتُهُ عن السفنِ التي تَمْخُرُ في البحارِ، وتُبْحِرُ إلى البُلدانِ النائيةِ، ثُمَّ تَعُودُ إلَيْنا مُثَقَّلةً بِالأَشْرِبَةِ الفاخرةِ.

فدَهِشَ السيد مما سَمِع، وحَمْحَمَ صاهلًا: «إِن بِلادَكم غايةٌ في التَّعاسةِ؛ لأنَّ مَحْصُولَ أرضِها لا يكفي أهلِيها. وإِني لَأعجبُ: كيف تُضْطرُّونَ إِلى اقْتحامِ البحارِ الشاسعةِ، لتحصُلوا على شَرابِكُم؟ أليس في بلادِكم من الماءِ ما يكفِيكم؟»

فأجبتُهُ صاهلًا: «إن مَحْصُولَ بلادي — منَ الغِذاءِ — يكفي ثلاثةَ أمثالِ قاطِنيها، أما الماءُ، فهو عندَنا كثيرٌ موفورٌ، ولكنّ حاجةَ أكثَرِ الأهلِينَ شَدِيدَةٌ إلى الأشْرِبَةِ المرتقِيَة الفاخرةِ، التي يستخْرِجونها من عصيرِ الفاكهةِ وبعضِ الحُبوبِ، وهذه هِيَ الَّتِي أَعْنِيها، وقد أصبحَتْ لِسَوادِنا منَ الضَّرُورِيَّاتِ. ونحنُ نُرْسِلُ أكبر قسمٍ من محصولِ بلادِنا إلى البُلدانِ الأخرى، ونشترِي بِهِ منها تلك الأشربةَ المختلِفةَ وما إليها من أدْواءِ الحضارةِ التي تُفسِدُ صِحَّتَنا، وتُعَرِّضُنا لكثيرٍ منَ الأمراضِ الفتَّاكةِ.»

ثم اسْتأنفتُ صاهلًا: «ولعلَّك — يا سيدي — تُدْرِكُ الآن السِّرَّ في فسادِ جَمْهرةٍ كبيرةٍ من الأهلينَ الذينَ أَلِفُوا البَطالةَ والصَّعْلَكَةً، فانتشرُوا يَعِيثُون في البلادِ فسادًا، وامتلأتِ السُّجُونُ بالُّلصوصِ والغاشِّينَ، والْخَوَنةِ والمُدَاهِنين، وشُهودِ الزُّورِ والْمُلَفِّقين، والكذَّابين والهارِجين والْمُبْطِلِين. ومن هؤلاءِ نشأَتِ الأفكارُ الزَّائِفَةُ، والمذاهبُ الشَّاذَّةُ التي يُثْبِتُها أرْذالُ المؤلِّفين وأوْشابُهم — في أسْفارِهم — لينصُروا باطِلًا، أو يُزْهِقُوا حَقًّا.»

(٣) جُنُونُ التَّرَفِ

ولْيُمَثِّلِ القارئُ لنفسِه مقدارَ ما عانَيْتُ — من الجهدِ — في التعبيرِ عن هذه الأغراضِ، التي لا عهدَ للسيد الجوادِ بِسَماعِ شيءٍ منها.

وقد حدَّثتُه أن في بلادِنا — من لذائذِ الأَشربةِ الصالحَةِ — ما يُغنينا عن الْأَشْرِبةِ الضَّارَّةِ، التي نَجلِبُها من أقاصي البلاد. ولكنَّ تَرَفَ الحضارةِ طالَما جرَّ الأهلين إلى التَّهافُتِ على هذه الْمُهْلِكات القاتلةِ، التي تَذْهَبُ بعقولِهم، وتُضَعْضِعُ من حَواسِّهم، وتملأُ أخْلادَهم بالْخَيالاتِ والْأَوْهامِ الْجُنونيَّةِ، ثم تُسْلِمهُم — آخرَ الأمر — إلى نومٍ عميقٍ.

ثم اسْتَأْنفتُ صاهلًا: «ومنَ المُحَقَّقِ الذي لا يَمْتَرِي في صِحَّتِه كائنٌ كانَ، أنّ شارِبَ هذه المهِلكاتِ يستيقِظُ من سُباتهِ (نَوْمِهِ) الْعميقِ محْزونًا كاسِفَ الْبالِ، مُشَرَّدَ الْفِكْرِ، حائرَ الُّلبِّ، مجهودَ الأَعصابِ. ويُصْبِحُ — بعدَ زمنٍ قصيرٍ — نُهْزَةَ الأمراضِ، ونَهْبَ الآلامِ والْعِلَلَ، ويُعانِي — من مَتاعبِ الْحَياةِ وأسْقامِها — ما يُحَبِّبُ إِليه الْموتَ في كلِّ ساعةٍ.»

ثم دَعانِيَ الحَديثُ إلى الاِسْتِطرادِ؛ فَذَكَرْتُ له ما يَنْعَمُ به الأغنياءُ من تَرَفٍ، وما يُعانِيهِ سَوادُ الشعبِ من مَشقّةٍ وجُهدٍ، ومثَّلْتُ له بنفسي فقلت له: «إنني أجِدُني — إذا جلستُ في بَيْتيِ — قد جَهَدْتُ جمهرةً كبيرةً من الصُّنَّاعِ والْعمالِ، حتى ظفِرتُ بما أنعَمُ به من لِباسٍ وأَثاثٍ. فإنَّ ثيابي التي أرْتَدِيها، لم تَصِلْ إليَّ إلَّا بعدَ أن اشْتركَ في إعْدادِها نحوُ مئَةٍ من الصُّنَّاعِ، والدارَ التي أسكنُها قدِ اشتركَتْ في بِنائها وتأْثِيثها ألْفُ يدٍ. أمَّا ثِيابُ زَوْجَتِي، فقد تعاونَ على صُنعِها خمسةُ أمثالِ هذا العددِ، أو سِتَّةُ أمثالِه!»

(٤) عَواقِبُ الشَّرَهِ

وأَبَى عليَّ السيدُ الْجوادُ أن أسترسِلَ في حدِيثِي، حين رآني أهُمُّ بوصفِ الأطباءِ والْممرِّضِينَ الذين وقَفوا جُهودَهْم على الْعنايةِ بالْمرضَى، وكنتُ قد حدَّثتُه — من قبلُ — أنَّ جمهرةً من الْملّاحِينَ الذين صَحِبُوني في رِحلتِي قد أَهْلكَتْهُمُ الأمراضُ الفتَّاكةُ.

وقد حارَ السيدُ في فَهْمِ ما أَعْنِيهِ بكلمةِ الْمرضِ. وقد شرحتُ له مَدْلُولَ هذه الْكلمةِ، فَلَمْ يَفهمْها إِلَّا بعدَ عناءٍ طويلٍ.

فَحَمْحَم السيدُ الْجوادُ صاهِلًا: «إننا نُدرِكُ أن الْجيادَ التي تَدْنُو مِنَ الْأَجَلِ، تشعرُ — قبلَ انتهاءِ حياتِها بأيامٍ — بشيءٍ منَ الضَّعفِ والتَّثاقُلِ، ثم تَمُوتُ. ورُبَّما جُرِحَ أحدُ الْجِيادِ مرةً، فشعرَ بآلامِ الْجُرح. أما فيما عَدا ذلك فلسنا نعرِفُ شيئًا من الأسْقامِ والْعِللِ التي تَصِفُها لي. لقد خُلِقْنا أَصِحَّاء، مَوْفُورِي الْقُوَّةِ، ولسنا نسمحُ لأنفِسنا أن نُعَرِّضَ أجْسامَنا لمثلِ ما ذَكَرْتَهُ منْ عِلَلٍ. ولستُ أدْرِي: لِمَ تسمَحُونَ لأنفسِكم أن تتغذَّوْا بهذه الأمراضِ، وتُسْلِموا أجْوافَكم إليها راضِين مُختارِين! هذا عبثٌ، فكيفَ ارْتَضَيْتُمُوه؟!»

فأجبتهُ صاهلًا: «إنَّ الشَّرَهَ دائمًا هو مصدرُ النكباتِ، وباعِثُ الشرُورِ، وأُسُّ الأمراضِ؛ فإِننا نخلِطُ في مأكلِنا ومشْرَبِنا، ونُدْخِلُ في مَعِدَتِنا ما يُؤذيها منَ الأطعِمَةِ الْمختلِفةِ الأَلْوانِ التي لا يُؤَلَّفُ بينها نِظامٌ؛ فتُفْسِدُ الأخلاطُ الْمُتَبايِنةُ نظامَ الْهَضْمِ. وما أكثرَ ما نَطْعَمُ قبلَ أن نَجُوعَ، وما أكثرَ ما نشربُ على غيرِ ظَمأٍ؛ فنحن نُدْخِلُ الطعامَ على الطعامِ، ونُتْبِعُ الشرابَ الشرابَ. ورُبَّما قطعْنا الليلَ أحيانًا ونحنُ نجرَعُ تلك الْأَشْرِبَةَ الضَّارَّةَ الْمُحْرِقَة — وبُطُونُنا خاوِيَةٌ — فتَلتهِبُ أحْشاؤُنا، وتَفسُدُ مِعَدُنا، ويتعطَّلُ نظامُ الهضمِ؛ فتُمَزِّقُ الأسقامُ أجسادَنا، وتنتقِلُ جراثيمُها مع دِمائِنا إلى الْعُروقِ والشَّرايينِ، ونُعانِي منَ الْعِلَلِ والأمراضِ ما لا سبيلَ إلى حَصْرِه. ولقد عَدَّدَ الأطِبَّاءُ أكثرَ من سِتِّمائةِ نوعٍ منَ الأسْقامِ والعِلَلِ: يتعرّضُ لها كلُّ عضوٍ من أَعضائنا. وهم يَسلُكون — في علاجِها — سُبلًا شَتَّى، يزعُمون أنها تَشْفِي من تلك الأدْواءِ الوَبِيلَةِ»

وكانَ مِنْ حَظِّي أنني طبيبٌ أعرِفُ من دَقائِقِ الطِّبِّ ما لا يعرِفُه غيرِي من عامَّةِ النَّاسِ، فكشفتُ للسيدِ الجوادِ ما أَعْلَمُهُ من أسْرارِ الدَّاءِ وطَرائِقِ الشِّفاء، كما ذكرتُ له عَواقِبَ الشَّرَهِ، وما يجرُّه على أصحابهِ من النكَباتِ.

(٥) أدْواءُ المرْضَى

ثم وصفتُ للسيدِ الْجوادِ خَصائِصَ النباتِ، والمعادنِ، والصَّمْغِ، والزَّيْتِ، والقِشْرِ، والْمَحارِ، والأمْلاحِ، والنَّباتاتِ المائِيَّةِ، والثَّعابِينِ، والضَّفادِعِ السَّامَّةِ وغيرِ السَّامَّةِ، والعناكِبِ، والأسْماكِ، والعِظامِ، ولَحْمِ الموْتَى، والطُّيورِ، وكيف تَتَأَلَّفُ الأدْواءُ عندَنا من أشْتاتِ هذه الأخْلاطِ، ويُرَكَّبُ منها دَواءٌ كَرِيهُ الطَّعْمِ، خَبِيثُ الرائحةِ، لا يكادُ يَسْتَقِرُّ في الْمَعِدَةِ حتى تَمُجَّه في كراهِيَةٍ واشْمئزازٍ. وذكرتُ له أننا نُسمِّي هذا الدواءَ: مُقَيِّئًا، وأننا نلجَأُ إليه في عِلاج المرضَى الذي أَصابتهمُ التُّخَمَةُ، وأَضَرَّهُمْ الاِمْتِلاءُ؛ ليُفرِغُوا ما في بُطونِهم من مُهلِكاتٍ.

ووصفتُ له كيف نَحقُنُ المرضَى، لنَشفِيهَم من آلامِهم وأوْجاعِهم. ولم أَنْسَ أنْ أُحدِّثَهُ عنِ الأمراضِ الوهميّةِ التي يتخيَّلُها بعضُ المرضَى؛ فيخترعُ لها الأطِبَّاءُ ما يُناسِبُها من عِلاجٍ وَهْمِيٍّ. وذكرتُ له أنَّ أكثرَ من يُصابُ بهذه الْأَدْواءِ هم النِّساءُ.

•••

وحدثتُه — فيما حدثتُه — كيف يُجْمِعُ الأطباءُ غالبًا على رأْيٍ واحدٍ في تعليلِ المرضِ، وتَشْخِيصِ الدَّاءِ، وأنهم قَلّما يُخطِئون في ذلك، وكيف يُنَبِّئُون — في أكثرِ الْأَحايينِ — بخُطُورَةِ الدَّاءِ واسْتِفْحالِه، ودُنُوِّ أَجلِ المريضِ، والْيَأْسِ من شِفائِه، ولكنهم يَقِفُون أَمامَ الداءِ عاجِزين، مكْتُوفِي الأيدِي، ويُسْلِمون المريضَ إلى الموتِ يائِسِينَ، لا يستطيعون أن ينتشِلُوُه من بَراثِنِ الدَّاءِ.

فإِذا طرأَتْ أَحوالٌ مُفاجِئةٌ على الْمُحْتَضَرِ الذي يئسُوا من حياتِه، عاوَدَهُمُ الأَملُ في شِفائِه؛ فَراحُوا يَسقُونه من الدَّواءِ، ثم يُباهُون بأَنَّ فضلَ شِفائِه عائدٌ إلى الدواءِ الذي جَرَّعُوه إياهُ؛ حتى لا يتَّهِمَهُمُ الناسُ بالعجزِ، ولا يرتابُوا في تَكَهُّنِهِمُ الزَّائِفِ بعد ذلك.

وحدَّثْتُه أَنّ هؤلاءِ الأَطباءَ لا يَسْتَغنِي أَحَدٌ عنهم، لاسِيَّما الوزراءُ والحكامُ، والسّادةُ والأَغنياءُ.

(٦) أخلاقُ السَّاسَةِ

وكان السيدُ قد سألَنِي — في مُناسَباتٍ شَتَّى — عن معنَى الحكومةِ الدُّسْتُورِ، وما إلى ذلك منَ النُّظُمِ التي تَزْدانُ بها حَضارتُنا بينَ أُمَمِ العالَمِ أَجْمَعَ.

فلما سَمِع مني كلمةَ: الوزراءِ، سألني عما أَعنِيهِ بهذه الكلمةِ، وقال لي: «ما شَأْنُ «الياهُو» الذي أُطلِقَ عليه هذا الاِسْمُ؟»

فقلتُ له: «إِن الوزيرَ رجلٌ سياسِيٌّ، عظيمُ الخطرِ، لا يعرِفُ السُّرورَ وَلا الحزنَ، ولا يُحِسُّ الحُبَّ وَلا البُغْضَ، ولا تتطرَّقُ الشفقةُ وَلا الغَضَبُ إلى قلبِه لحظةً واحدةً، ولا تَصْبُو نفسُه إلَى غيرِ الثَّروةِ والسُّلطانِ وألقابِ المجدِ والْفخامةِ؛ فإن هذه الْغاياتِ — هي وَحْدَها — مَناطُ أملِه، وَمْرَمى هِمّتِه. وهو لا يَنِي جاهدًا في السَّعْيِ إِلى تحقيقِها، وإشباعِ تلك الرغبةِ الْجامِحَةِ الْمُلِحَّةِ الْقاهِرِةِ. ومن خَصائِصه أَنْ يفتنَّ في تَحْوِيرِ الْكلامِ، وتَوْجِيهِه إِلى غيرِ ما وُضِعَ له، وتَحْمِيلِ الألفاظِ كلَّ معنًى منَ الْمعانِي، إلا الْمعنى الأصيلَ الذي تدلُّ عليه! وهو لا يُعْنَى بالصَّحِيح، ولا يَأْبَهُ للحقِّ. وهو إذا وصف أحدَ خُصومِه بالرجعيّةِ والتأخُّرِ، كان أولَ مُسْتَيْقِنٍ أَنّ خَصْمَهُ مِثالُ التقدُّمِ والتَّجدُّدِ! وإذا وعد وأكّد وَعدَه بمُحْرِجاتِ الأقسامِ ومُغَلَّظاتِ الأيْمانِ، انْهارَتْ آمالُ مَنْ وعَده، وأصبح على يقينٍ من خَيْبَةِ مَسْعاهُ وحِنْثِ الْوَزِيرِ! وهو يبدأُ حياتَه بامْتِداحِ الفضائِل، وذَمِّ الرذائِل، والسُّخْطِ على الفسادِ الضَّاربِ بأَطنابِه في البلاد، حتى إِذا وصل إلى منصبٍ عالٍ، انْغمس فيما عابه من قبلُ، وسار سِيرَةً أخرى تتنافَى والمثالِ العالِيَ الذي كان يُقدِّسُه ويهتِفُ له متحمِّسًا. وهو بارعٌ في التَّخَلُّصِ من تَبِعَةِ أعمالِه، والهروبِ منها إذا جَدَّ الْجِدُّ! وله حاشيةٌ لا تنفَكُّ عن مصاحَبَتِه، والتأدُّبِ بأدبِه، ولا تَنِي عن التدرُّبِ على الوَقاحةِ والكَذِبِ، واقترافِ الدَّنايا والآثامِ؛ حتى تصِلَ — بفضلِ هذه الخِلالِ — إلى أعْلَى الْمَناصِبِ في الدولة.»

(٧) السَّراةُ والأعيانُ

وكان السيدُ الجوادُ قد سمِعني أتحدَّثُ — ذاتَ يومٍ — عن سَراةِ بلادِي وأعيانِها فحسِبَني أنْتَمِي إلى هؤلاء السادةِ، وأراد أن يهنِّئَني على ذلك — ولم أكُنْ راغبًا في هذه التهنئةِ التي لا أستحقُّها — فَحَمْحَمَ صاهلًا: «لستُ أشكُّ في شَرَفِ أُسْرتِك، وكَرَمِ مَحْتِدِك؛ لأن جَمالَك وقَسامتَك ونظافتَك تُمَيِّزُك عن دَوابِّ «الياهو» في بلادِنا، وإنْ كانت هذه الدوابُّ تفوقُك سرعةً ونشاطًا وقوةً. على أنك تمتازُ عنها بالْقُدْرَة على الكلامِ، كما تمتازُ عنها بالعقلِ الذي رفَع من قَدْرِك عندَنا.»

وقد أدركتُ من أحاديِثه ومُحاوَراتِه أنّ بينَ الجِيادِ طبقاتٍ تتفاوتُ أقدارُها: فالجوادُ الأَشهَبُ أو الأَشقرُ أقلُّ جمالًا وقَسامَةً منَ الجوادِ الأَحمرِ أو الأَزرقِ أو الأَسودِ، وليس للجيادِ الشُّهْبِ والشُّقْرِ منَ المزايا مثلُ ما لغيرِها منَ الجيادِ الأُخرى. ولهذا السببِ تَقضِي حياتَها كلَّها خادِمَةً لها، ولا تطمحُ نُفوسُها إلى أن تُصْبِحَ — يوما مَّا — في مَقامِ سادَتِها. وقد دَهِشتُ لذلك أشدَّ دهْشةٍ، ولم يَكُنْ يدورُ لي في الْحُسْبانِ.

وقد شكرتُ للسيدِ حُسْنَ رأيِه فيّ، وأكَّدتُ له أنني من أسرةٍ فقيرةٍ، لم تَسْمُ إلى مرتبةِ السَّراةِ والأَعيانِ، ولكنّ والدَيّ — مع هذا — قد أحسنا تعليمي، وقاما بتربيتي وتَثْقِيفِي خيرَ قِيامٍ.

ثم حدَّثتُه عن خصائِصِ السَّراةِ والأَعيانِ عندَنا، وقلتُ له صاهلًا: «إِن شبابَ هؤلاءِ النُّبلاءِ قد نُشِّئوا — منذ حَداثَتِهم — مُتَبطِّلِين مُترَفِين وقد أسلمتْهمُ البَطالةُ والترفُ إلى التَّبَلُّدِ والْجَهالةِ، وامتلأتْ نفوسُهم زَهْوًا وخُيَلاءَ وأنانِيَّةً، ومَلَكَ الْهَوَى زِمامَ أُمُورِهم. وهُمْ — على ذلك — معدُودُونَ من أشرافِ الدولةِ، وأُولِي الرأيِ فيها. ولا سبيلَ إِلى إصدارِ قانونٍ، أو إِلغائِه، أو تعديلِه؛ إلَّا إِذا أقرَّهُ أُولئك الْعظماءُ، الذين يُبرِمون قَضاءَهم فلا يَجْرُؤُ على نَقْضِه كائنٌ كان.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤