الفصل التاسع

(١) مُناقشةُ الْمَجْمَعِ

عَقَدَ مَجمعُ الْجِيادِ جَلَساتِه الْحافِلَةَ قبلَ أن أُغادِرَ البلادَ بنحوِ ثلاثةِ أشهرٍ. وكانَ السيدُ من أَعضائهِ: نائبًا عن إِقليمِه، ومُمثِّلًا له فيه.

ودارَ البحثُ في مَسألةِ المسائلِ التي شَغلتْ بالَ الْجِيادِ الناطقةِ زَمَنًا طويلًا، وهي المسألةُ الوحيدةُ التي تَشَعّبتْ فِيها آراءُ الْجيادِ وانقسمتْ.

وقد قَصَّ عليّ السيدُ — بعدَ عَوْدَتِه — كلَّ ما دارَ من الْحِوارِ.

وكان شُغْلَ الْمجمعِ الشَّاغِلَ أن يَبُتَّ أمْرَ «الْياهُو»، وأن يُصْدِرَ قَرارًا حاسِمًا في هذه المسألةِ الخطيرةِ التي حارَ فيها الْمُصْلِحُون!

وكان نَصُّ الاِقتراحِ: أن يقرِّرَ الْمجمعُ اسْتِئْصالَ الدَّوابِّ الْآدَمِيَّةِ، وإبادَتَها جَمِيعًا منْ جَزيرَةِ الْجِيادِ!

(٢) أَصْلُ «الْياهُو»

وقدِ انْتَصَرَ أحدُ الأعضاءِ لهذا الاقتراحِ، وأَيَّدَهُ — في حَماسَةٍ — وحَمْحَمَ صاهلًا: «إنَّ هذا الجنسَ الآدَمِيَّ هو أفظعُ الدوابِّ شكلًا، وأَقبحُها صُورَةً، وأَلْأَمُها نَفْسًا، وأَشَدُّها تَشْوِيهًا، وهو أَقذرُ حيوانٍ رأَيناهُ. ولم نَرَ من بين الدوابِّ كلِّها — عَلَى اختلافِ أجْناسِها وتَبايُنِ أوْصافِها — دابةً واحدَةً اجتمعتْ فيها كلُّ هذه النقائِصِ والأرْجاسِ. فهذِهِ الدَّوابُّ الآدميةُ — كما تعلمون — مُؤْذِيةٌ، عَصِيَّةٌ، مُتَمَرِّدَةٌ، شديدةُ اللَّجاجِ. وهي تنتهزُ الْفُرَصَ لتحلُبَ اللبنَ من أَبقارِنا خُلَسًا، ولا تفتأُ تلْتِهمُ الْقِطَطَ، وتَعِيثُ في حُقُولِنا فَسَادًا؛ تَطَأُ الشوفانَ والْخُضْرَةَ بأقدامِها كُلَّما سَنَحَتْ لها فرصةٌ، وتَضْطَرُّنا إلى حِراسةِ الْحُقولِ والْماشِيَةِ — ليلَ نَهارَ — حتى نَأْمَنَ شُرُورَها. وليسَ لِجِناياتِ الدوابِّ الآدميةِ الْحَمِقَةِ الرَّعْناءِ حَدٌّ تقِفُ عندَه. وما أحْسَبُكم نَسِيتُمُ القصةَ القديمةَ، التي سمِعناها من أَسْلافِنا، عن نَشْأَة هؤلاءِ الآدمِيِّين: فقد حَدَّثُونا أَنهم لم يُوجَدُوا مُنذُ بَدْءِ الخليقةِ، بَلْ ظَهَرُوا مُنذُ قُرونٍ عدَّةٍ. وَقَد خُلِقَ اثْنانِ هُما جَدَّا هذهِ الْمَخْلوقاتِ، خُلِقا من صَلْصَالٍ — في أَعْلَى الجبلِ — بعد أن أَرْسَلَتْ عليهِ الشَّمْسُ أَشِعَّتَها، وأَنْضَجَتْهُ حرارتُها. أوْ لَعلَّهما خرجَا من قاعِ مُسْتَنْقَعٍ، أو تكونَّا من طَمْيِ البحرِ. ثم تَوالَدَ هذانِ الآدَمِيَّانِ، وتكاثَرَ نَسْلُهُما، فكانَ شَرَّ نَكْبَةٍ مُنِيَتْ بها بِلادُنا. وقدْ ضَجِرَ أَسْلافُنا بهم، وضاقُوا ذَرْعًا بِأَذاهُمْ وشَرِّهِمْ، فقرَّرُوا إِبادَتَهم جميعًا، لم يَسْتَثْنُوا إلَّا بعضَ الأطْفالِ. وآثرَ كلُّ جَوادٍ أنْ يدَّخِرَ صَغِيرَيْنَ، ليتألَّفَهُما — منذُ حداثتهِما — ويَرُوضَهُما على جَرِّ الْمَرْكَباتِ، وحَمْلِ الأثقالِ. وهذه الأُقْصُوصَةُ — فيما أَرَى — لَها نصيبٌ كبيرٌ من الصِّحَّةِ؛ فإِنَّ الآدَمِيِّينَ لم يكُونوا — في يومٍ منَ الأيامِ — من أَبناءِ هذهِ البلادِ، بَلْ دُخَلاء. والدَّليلُ على ذلكَ: أنهم مَكْرُوهُونَ من دَوابِّ الأرضِ قاطِبَةً. وما أَجدَرَهم بهذا الْمَقْتِ، لفَسادِ سَرائِرِهِم وَلُؤْمِ طِباعِهِمْ! ولوْ كانوا أُصَلاءَ في البلادِ، لَما نَشِبَ هذا النُّفورُ الْمُسْتَحْكِمُ في طَوِيلِ العُصُورِ، ولَخَفَّ شيئًا فشيئًا على مرِّ الزَّمنِ.»

(٣) «الْياهُو» والحميرُ

ثم استأنفَ الْعُضْوُ المُحْترمُ صاهِلًا: «ولستُ أَدرِي: أيُّ فكرَةٍ خاطِئَةٍ أَوْقَعَتْ أَسْلافَنا في هذهِ الوَرْطَةِ؟ وماذا أَصابَ عُقُولَهمْ حين آثرُوا اصْطِناعَ الآدَميِّين، وأَهْملوا اصْطِناعَ الحَميرِ؟ وما بالُهم يستخدِمُون الْأَوَّلينَ ويَنْسَوْنَ الآخَرِينَ؟ إِنَّ الْحميرَ من أكرمِ الدوابِّ أَخْلاقًا، وأهدئِها نفْسًا، وأَشَدِّها إيناسًا. وهي سَهْلَةُ القِيادِ، لا تَكِلُّ منَ العملِ، ولا يُكلِّفنا طعامُها شيئًا مذكورًا. وليستْ كريهةَ الرائحةِ كأُولئكَ الآدميِّينَ. وهي قويةُ البأسِ، عظيمةُ الصبرِ، وإن لم يكُنْ لها مِثْلُ نشاطِ الآدميِّينَ وسُرْعَتِهم. وليسَ فيها من عَيْبٍ إلَّا صَوْتُها الْمُنْكَرُ، ونَهِيقُها الْمُفْزِعُ، ولكنهُ — على نُكْرِه وبَشاعَتِه — أَقلُّ إزعاجًا من أصواتِ الآدَمِيِّين وصَيْحاتِهمْ.»

(٤) عُقَلاءُ «الْياهُو»

ثم أَدْلَى كثيرٌ من شُيوخِ الجيادِ — في ساحَةِ المجمع — بآرائهِم في هذه المسألةِ الخطيرةِ، وكانت آراؤهم ناضِجةً، وعباراتُهم فصيحةً.

ثم قامَ صاحبي السيدُ الجوادُ، وأَقَرَّ آراءَ من سَبَقَهُ من شُيُوخِ الْجِيادِ، وتَصَدَّى لتلك الْأُسْطُورَةِ الْمُتَواتِرَةِ التي تُلَخِّصُ أصْلَ «الْياهُو» ونشأتَهُ في بلادهم، فحمحَم صاهِلًا: «ما أحْسَبُني مخدوعًا فيما أَراه في هذهِ الْمَسْأَلَةِ التارِيخِيَّةِ الخطيرَةِ، فإني أَرَى الآدمِيَّيْنِ الَّلذَيْنِ تُحَدِّثُنا عَنهما الأُقْصُوصَةُ، قد وَفَدَا على أَرْضِنا من بلادٍ بعيدةٍ جدًّا، وراءَ هذا البحرِ السَّحِيقِ. وقد أَنْزَلَهُما رِفاقُهما إلى الأرضِ، ثم تركاهُما؛ فذهَبا إلى الجبالِ والْغاباتِ، وخالَطا الْوُحُوشَ؛ فَتَوَحَّشا. ولم يَلْبَثْ نَسْلُهُما مِنَ «الْياهُو» أَنِ اخْتَلَفَ عن أَجْدادِه الأوَّلينَ.»

ورأَى السيدُ الجوادُ أن يُعَزِّزَ كلامَه لِلْأَعْضاءِ المُحترمين، فاسْتشهدَ بما عَرَفَهُ منَ الحَقائقِ الَّتِي أَفْضَيْتُ بِها إلَيْهِ، وكانَ سَوادُ الحاضرينَ قد رَآني من قبلُ، فأَمَّنَ على رَأْيِه.

ثم حدَّثهُم السَّيِّدُ الجوادُ عن المُصادفَةِ التي أَتاحَتْ لَهُ مُقابَلَتِي، وكيف رأَى جسمِي مُدَثَّرًا بثِيابٍ مَنْسُوجةٍ منَ الشَّعرِ، أو مصنوعةٍ من جِلْدِ الدَّوابِّ، وكيفَ رآني أتحدَّثُ بلغة بلادي، ثم لا أَعْجِزُ عن درسِ لُغَتِهِمُ الصَّاهِلَةِ، والْحَمْحَمَةِ بها، في سُهولةٍ نادرةٍ.

وقَصَّ عليهم قِصَّةَ وُفُودِي على جزيرتهم، وكيف رَماني رِفاقِي على الشَّاطئِ، وكيفَ تَكشَّفَ له أمري — بعدَ زَمَنٍ — حينَ رأَى جَسَدِي عارِيًا، واقتنعَ بأنني آدَميٌّ حقًّا، وإِن كنتُ أبيضَ اللَّوْنِ، قليلَ الشَّعرِ، قصيرَ المَخالِبِ.

ثم استأنفَ يُخاطبُ الأعضاءَ صاهلًا: «ولا أَكْتُمُ أن هذا الغريبَ الآدَمِيَّ أرادَ أن يُقْنِعَنِي أنَّ الآدَمِيِّينَ من أمثالِه — في أكثرِ البلدانِ التي مَرَّ بها — هم سادةُ الدوابِّ كلِّها، وأنهم — وحدَهم — العقلاءُ الرَّاشِدُون، والْمُسَيْطِرُون الحاكِمون، حتى على الجِيادِ، فقد أخبرَني أنَّ الْجِيادَ — في بلادِهم — مِنَ الأرِقَّاء!» ثم عَقَّبَ على ذلك صاهلًا: «ولهذا الآدميِّ — على التحقيقِ — جميعُ المظاهرِ الآدميّةِ التي نراها في «ياهو» بلادِنا. ولكنه أكثرُ حضارةً منهم؛ لأن له مُسْكَةً ضَئِيلَةً منَ العقلِ (قليلًا منَ العقل)؛ فَعَقْلُه — على كلِّ حالٍ — دُونَ عقلِنا مَعْشَرَ الجيادِ، بمراحِلَ كثيرةٍ.»

ثم قَصَّ عليهمُ الأُسلوبَ الذي نتَّبِعُه — نحنُ «الْياهُو» — في تَرْوِيضِ الجِيادِ وتذليِلها في بلادِنا كما سمِعه مِنِّي، واقترح عليهم أن يَقْبِسُوا هذا النِّظامَ في بلادِهم، ويُطَبِّقُوه على الآدَمِيِّينَ.

ثم ختم خِطابَه صاهلًا: «وهذا نظامٌ ميسورٌ سهلٌ — كما تَرَوْنَه — ولا عارَ علينا إذا حاكَيْنا هؤلاء الهَمَجَ الْمُتَوَحِّشِينَ في بعضِ ما يعمَلُون؛ فقد علَّمتْنا النَّمْلَةُ كيف نُصبِحُ صُنَّاعًا مُدَبِّرينَ، كما علَّمنا الشُّحْرُورُ كيف نَبْنِي بُيوتَنا. ولا علينا إذا عامَلْنا صِغارَ الآدَمِيِّينَ عندَنا كما يعامِلُون في بلادِهم أحْداثَ الجيادِ وصِغارَ الأفْراسِ؛ لنذلِّلَهم لنا — كما ذَلَّلُوها لهم — تَذْلِيلًا. ولَنْ يَصْعُبَ علينا أن نُبِيدَ هذا الجنسَ الخبيثَ شيئًا فشيئًا — متى اتَّبَعْنا هذا النظامَ — دُونَ أنْ نَحرِمَه الحياةَ صَدْمَةً (دَفْعَةً واحدةً). ولا يَفُوتُني — أيُّها السَّادةُ — أَنْ أُوصِيَكم بالحميرِ خيرًا؛ فهي — إلى مزاياها الكثيرةِ التي تَرْجَحُ بها مزايا «الْياهُو» — قادِرَةٌ علَى الاِضْطِلاعِ بأعمالنا متى بلغتِ الخامسةَ من عمرِها. أما الآدَمِيُّون فلا يَصلُحُون لشيءٍ قبل الثانيةَ عشرةَ.»

(٥) حَضارَةُ الْجِيادِ

هذه خُلاصَةُ ما أفْضَى بِه ذلك السيدُ إليَّ، مِمَّا دارَ من حِوارٍ بين شُيوخِ الجيادِ ونُوَّابِها. وقد كَتَمَ عَنِّي آراءَهُمْ في أمْرِ بقائي أو طَرْدِي من بلادِهم، وظَللْتُ زمنًا لا أدْري شيئًا من ذلك حتى فُوجِئتُ به.

وكان هذا الحادثُ مَبْدَأَ شِقْوَتِي وتَعاسَتي، وخاتِمَةَ هَنائي وسعادتي، ومصدرَ المصائب والآلامِ التي حَلَّتْ بي فيما استقبلَني منَ الأيامِ.

ولا يفُوتُني أن أُوجِزَ حضارةَ السادةِ الجيادِ، كما عرفتُها في أثناء إقامَتِي بين ظَهرانَيْهِم، فهم قومٌ لا يُعْنَوْن بالُّلغةِ وآدابِها، وهم يجتَزِئون بالنَّقْلِ، وليسُوا في حاجةٍ إلى تَدْوِينِ الحوادثِ التي تقعُ لهم؛ لأن البلادَ في أمْنٍ من كلِّ مُفاجَأةٍ؛ فقد يَسَّرَ لَهم العقلُ طريقَ السَّدادِ، وهَدَتْهُمُ الفضيلةُ إلى النَّجاحِ والسعادةِ، فأصبح تارِيخُهم مَيْسورًا سهلًا، لا يصعُبُ عليهم أن يحفَظُوه.

وهم لا يَمْرَضُون؛ فلا حاجةً بهم إلى أطباءَ. وقد وُفِّقوا إلى بعض الحشائش والنباتاتِ النافعة التي تَضْمِدُ جراحَهم إذا جُرِحُوا، وتُعالجُ سَنابِكَهم إذا أَصابها سُوءٌ. وهم يَحْسِبون الزمنَ بعددِ الدَّوْراتِ الشَّمْسِيِّةِ والقَمَرِيَّةِ، فيُؤَرِّخُونَ بها سِنِيهم ولا يعرِفون تَقْسِيمَ الزمنِ إلى أسابيعَ. وهم يَحْذِقُونَ حركاتِ الشمسِ والقمرِ وأسْبابِ الخُسُوفِ والكُسُوفِ، وهذا هو مبلغُ علمِهم في الفلكِ.

وهم أصدقُ الشعراءِ، وأبرعُهم في الوصفِ والتشبيهِ، ولن يستطيعَ أحدٌ أنْ يُجارِيَهم في ذلك. وأشعارُهم تَفيضُ — في مجموعِها — بالإِخلاصِ والوفاءِ، والإِشادَةِ بالصداقةِ والإِخاءِ، والتَّغنِّي بفضائلِ السبّاقينَ منهم، الذين يفُوزُون في التمريناتِ الرياضِيَّةِ على أقْرانِهم.

أمَّا مساكِنُهم فليس فيها شيءٌ منَ التَّرَفِ، بل هي خَشِنةٌ غيرُ مَصْقُولَةٍ، ولكنها صِحِّيَّةٌ كَفِيلَةٌ بوِقايتِهم من الحرِّ والبَرْدِ على السَّواءِ. وهم يستعملون أرْجُلَهمُ الأماميةَ — كما نستعملُ أيدِيَنا — ويقبِضُون بِراحاتِها وحَوافِرِها علَى كلِّ شيءٍ، في مهارةٍ ورشاقةٍ نادِرَتَيْنِ وقد رأيتُ فَرَسًا شَهْباءَ تُدخِلُ الخيطَ في سَمَّ الْخِياطِ (ثُقْبِ الْإِبْرَةِ) بلا عَناءٍ، وتحلُبُ الأبقارَ، وتَجْتَثُّ الشُّوفانَ منَ الحقولِ، ولا تعجِزُ عن عملٍ يَدَوِيٍّ.

وهم يَتَّخِذُون منَ الحجارةِ الصُّلبة فُئُوسًا، ومَلاطِسَ، ومَطارِقَ، ومِناجِلَ؛ يَجْتَثُّونَ بها الشُّوفانَ منَ الحُقولِ، ويضعونه على مَرْكَباتٍ يجرُّها الآدميون من «الْياهُو»؛ ثم يهرُسُه الخدمُ، فيُخرِجُون منه الْحَبَّ، ويحفَظونه في مخازنِ سادَتِهم.

وللجِيادِ قُدرةٌ عجيبةٌ، ومَهارةٌ نادِرةٌ في صُنْعِ الآنِيَةِ منَ الآجُرِّ والخشبِ. وهم يُعَرِّضُون الأوانِي الفَخَّارِيَّةَ لحرارةِ الشمسِ حتى يَتِمَّ جَفافُها.

وهم — إذا نَجَوْا من أحْداثِ الزمانِ وخُطُوبِه — لا يموتُون إلا بالشيخوخةِ. وثَمَّ يُدفَنُون في مكانٍ قصِيٍّ شديدِ الظُّلْمةِ.

ولا يحزَنُ أصدقاؤُهم وأهلُوهم عليهم — إِذا ماتوا — ولا يَجْزَعُونَ، ولا يُبدِي المحتضَرُ أسَفًا ولا جَزَعًا لِمُفارقةِ الدُّنْيا، بل يشعُرُ أنه قدِ انتهى من زِيارَتِها، فيستأذِنُ أُسرتَه وجِيرانَه في الاِنصرافِ إلى بيتِه!

ولستُ أَنْسَى يومَ دعا السيدُ بعضَ أصدقائِه لمشاركتِه وأسرتِه في اجتماعٍ خطير. فلما دَنَتْ ساعةُ الموْعِدِ، لم يحضُرْ أحدُ المدعوِّينَ. ثم جاءتْ سيدةٌ وولداها بعد قليلٍ، فاعْتذرَتْ للسيدِ بأن زوجَها قدْ عادَ إلى أُمِّهِ الْأُولَى!

وهي — بهذا — تَعنِي أُمَّه الأرضَ، وتُخبِرُ السيدَ أنَّ زوجَها قد مات!

ثم تشاوَرَتْ وخَدَمُها في المكانِ الَّلائِقِ بدَفْنِ زَوْجِها، وكان الاِطْمِئْنانُ يبدُو على سِيماها أكثرَ مما يَبْدُو على وَلَدَيْها. وقد لحِقَتِ السيدةُ بِزَوْجِها بعد أشهرٍ ثلاثةٍ من مَوْتِه تقريبًا.

وتعيشُ الجيادُ — عادةً — حتى تبلُغَ الخامِسَةَ والسبعِينَ، وقلَّما تَصِلُ سنُّها إلى الثَّمانِينَ. ويَعْتَرِيها شيءٌ منَ الضَّعفِ قُبَيْلِ مَوْتِها بأسابِيعَ قليلةٍ، ولكنها لا تشعرُ بشيءٍ منَ الألمِ.

فإذا ابتدأتْ هذه الفترةُ، تَوافَدَ على بيتِها الأصدقاءُ والجيرانُ. حتى إذا لم يبْقَ على وَفاتِها إلا عشَرةُ أيامٍ — وقلَّما تُخطِئُ الجيادُ بغَرِيزَتِها تقديرَ هذه الْمُدَّةِ — ذهب الجوادُ الْمُشْرِفُ علَى التَّلَفِ إلى أصحابِه وجيرانِه، يُحِّييهم ويودِّعُهم، ويردُّ لَهُمْ زيارَتَهم. وهو يذهبُ إليهم مَحْمُولًا على مَرْكَبَةٍ يَجرُّها «الْياهُو»، إذا كان الجوادُ المحتضَرُ طاعِنًا في السِّنِّ، أو كانت شُقَّةُ السَّفَرِ بعيدةً.

فإِذا أتم زيارتَه وَدَّعَهُ أصحابُه — بعد أنْ يستأذِنَ منهم في الاِنصرافِ — وكأنما يودِّعون مُسافرًا يعتزمُ الرَّحِيلَ إلى بلدٍ ناءٍ، ليقضِيَ فيه أيامًا ثم يعودَ.

•••

وليس في لغة الجيادِ ألفاظٌ تدلُّ على الشرِّ أو السُّوءِ، عَدَا اسْتعاراتٍ قليلةً يستَعِيرُونها من صِفاتِ «الْياهُو» وهيئتِه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤