رَبْع مَيَّة

يا دارَ ميَّة بالعلياء فالسَّنَد
أَقْوَتْ وطالَ عليها سالفُ الأمدِ
وقفتُ فيها أَصيلًا كَي أُسائِلَها
عيَّتْ جوابًا وما بالرَّبعِ من أحدِ

ولم يكن ربع مية بالعلياء فالسند، وإنما كان في صحن الأزهر، وعند القبلتين القديمة والجديدة، حيث كانت الحركة المتصلة في الليل والنهار، وحيث كان ذلك الدويُّ الغريب الذي لم يكن ينقطع إلا في أوقات الصلاة العامة، والذي كثيرًا ما فكرت فيه وسألت نفسي عن هذه الأجزاء التي لا تحصى، والذرات التي لا تعد، والتي كانت تؤلف جوهره وتكوِّن مزاجه، وتجعل منه وحدة لا يظهر فيها الاختلاف، ولا يحس فيها التباين، فإذا حللتها رأيت اختلافًا لا حد له، وتباينًا ليس له آخر؛ رأيت أصوات قوم يتحدثون في متاع الدنيا ولهوها، وأصوات قوم آخرين يتحدثون في جد الحياة وآلامها، وقومًا يذكرون الله، وقومًا يدرسون العلم، وقومًا يتلون القرآن، وقومًا يقرءُون ما يخطر لهم وما لا يخطر لك على بال، وقومًا يخوضون فيما تظن وفيما لا تظن من فنون الحديث، ومن هذه الأصوات كلها ينعقد صوت واحد قوي ضخم عميق عنيف متحد يملأ فضاء الأزهر منذ تدخله إلى حين تخرج منه، ويملأ فضاء الأزهر من أي باب ولجته، وإلى أي باب تجاوزته، ويملأ فضاء الأزهر في جميع أرجائه وأنحائه على كثرة ما فيها من الانحناء والالتواء والانعطاف.

نعم في هذا الربع الذي لم يكن يخلو في نهار ولا في ليل، ولم يكن يهدأ في شتاء ولا في صيف، ولم يكن يشعر بالحاجة إلى الحياة لأنه كان حياة كله، وكان حياة كأشد ما تكون الحياة قوة وحركة وإنتاجًا، في هذا الربع وقفت كما وقف النابغة في ربع مية، ولكني لم أقف أصيلًا، وإنما وقفت بعد صلاة العتمة ففهمت هذا النحو من شعر القدماء، أو قل أحسست هذا النحو من شعر القدماء، فما أكثر ما نفهم الشعر القديم والحديث دون أن نحسه كما يحسه قائلوه، ودون أن نتأثر به كما يتأثر به الشعراء.

وكان الأزهر كربع مية، خلا بعد عمران، وسكن بعد حركة، وأعيا عن جواب السؤال حين وُجِّه إليه السؤال، وكان الأزهر كربع مية قد طال عليه الأمد وبَعُد به العهد، طال عليه الأمد أكثر مما طال على ربع مية، فما أظن أن ذلك الأمد الذي ذكره النابغة والذي طال على ربع مية كان طويلًا مسرفًا في الطول يكاد يبلغ ألف سنة كهذا الأمد الذي أذكره حين أتحدث عن الأزهر، والذي ذكرته حين تحدثت إلى الأزهر منذ أسبوعين، وكان الأمد بين الأزهر وبيني قد طال، فما أذكر أني دخلته منذ بضع عشرة سنة، وما أذكر أني طوفت فيه منذ أكثر من عشرين عامًا، ولكني حملت في نفسي دائمًا للأزهر صورة حية قوية شديدة الحركة، عظيمة النشاط، رائعة الدوي، عسيرة التحليل، وكنت أسعى إلى الأزهر منذ أسبوعين، وإن قلبي ليخفق سعادةً واغتباطًا وحنينًا إلى هذه الصورة التي صحبتني ربع قرن وطوفت معي في أقطار الأرض، واستقبلت معي ألوان الخطوب لم تضعف ولم تفتر ولم تتضاءل، والتي كنت أسعى بها إلى أصلها الأصيل في صحن الأزهر وعند القبلتين لتستمد قوة إلى قوتها وحياة إلى حياتها، فلما بلغتُ الربع — وليتني لم أبلغه — نظرت فإذا الصورة أقوى من الأصل، وإذا الأزهر الذي أحمله في قلبي أشد حركة وأعظم نشاطًا وأقوى حياةً من الأزهر القائم هناك في حي من أحياء القاهرة.

قال أصحابي وكلهم مثلي من أبناء الأزهر الذين بعد عهدهم به وطال فراقهم له: وما يمنعنا أن نختم رمضان بزيارة قصيرة للأزهر نحيي بها العهد القديم ونذكر بها أيام الشباب؟ قلت: وإني في ذلك لراغب، وإني إلى ذلك لمشوق. ومضينا إلى الأزهر ونحن نقدر أن سنجد فيه تلك الصورة التي ألفناها، وأن سنسمع فيه ذلك الدوي الذي عرفناه، وأن سنختلط به اختلاطًا، ونمتزج به امتزاجًا، ونقف فيه كما كنا نفعل أيام الشباب وقفات فيها الجد الخصب، وفيها هزل يشوبه الحب والعطف، نتنقَّل بين هذه الحلقات المنبثة في أرجائه نسمع لهذا الشيخ وهو يقرأ الحديث أو التفسير أو يقص قصص الوُعَّاظ فيعجبنا صوته وإلقاؤه وفهمه وإفهامه فنعجب به ونبسم له، ونتجاوزه إلى ذلك الشيخ فيضحكنا صوته أو إلقاؤه أو لازمة من لوازمه أو بعض ما يدفع إليه من الخطأ في الفهم أو السخف في الإفهام فننصرف عنه ضاحكين متفكهين، حتى إذا قضينا من هذا كله أربًا خرجنا وقد ذكرنا أنفسنا وسعدنا بلقاء تلك الأيام العِذاب.

كنا نقدر هذا كله، فلما دخلنا الأزهر لم نرَ إلا وحشة ولم نحس إلا صمتًا، لم نعرف شيئًا ولا أحدًا، ولم يعرفنا شيء ولا أحد، وإنما كنا أشبه شيء بالأشباح أو الأطياف تمضي في مكان خالٍ موحش لا حياة فيه ولا عمران، وأشهد لقد لقيَنَا خدم الأزهر باسمين لنا محتفين بنا، يسعون بين أيدينا ومن حولنا، كأنما نحن جماعة من السائحين الذين لا علم لهم بالأزهر ولا معرفة لهم بخفاياه، فهم يهدوننا ويدلوننا ويرفقون بنا في الحديث: ويحكم! فأنا أعلم منكم بالأزهر وأعرف بمعالمه، وإنَّا لم نأت لنلقى منكم هذا الرفق، وإنا لنفضل أن تلقونا بما كان يلقانا به أسلافكم من ذلك العنف الذي كانت تحبه نفوسنا وإن أظهرنا منه النفور. أين الجبلاوي وأعوان الجبلاوي؟ أين تلك العصي التي كانوا يهزونها فتُسمَع لها أصوات خفيفة ولكنها مخيفة؟ أين الغراب وأيام الغراب؟ أين رضوان وجنود رضوان؟ أين الجندي وأعوان الجندي؟ أين هؤلاء جميعًا وما كان يحيط بهؤلاء جميعًا من جلال كنا نزدريه وكنا نضيق به، وها نحن أولاء نذكره الآن فتذهب نفوسنا في أثره حسرات؟ ولست أدري مَن هذا الذي عرفنا فأسرع بأسمائنا إلى رجل كريم من أصحاب الفضيلة المفتشين، وإني لأطوف مع صاحبي في الأزهر يتحدث إليَّ وأتحدث إليه بهذا الصوت الهادئ الخافت الذي نصطنعه إذا خلا أحدنا إلى صاحبه، كأنما نحن في دار من الدور أو في بيعة من البيع التي يحسن فيها الهمس لا في الأزهر الذي لم يكن يحب إلا الجهر ورفع الصوت، وما راعنا إلا صاحب الفضيلة وقد أقبل علينا طلق الوجه باسم الثغر مبسوط الأسارير يحيينا تحية الرجل الكريم، ويدعونا إلى ضيافته ويلح علينا في أن نصعد معه إلى حيث يُتلَى القرآن ويشرب الشاي.

وكنا نود لو استطعنا أن نخلو إلى هذه العمد القائمة لنجدد عهدنا بها، ولنبثها ذكرى الأيام، ولنسألها عما ألمَّ بها من الحوادث واختلف عليها من الخطوب منذ فارقناها، ونظفر منها بهذا الصمت الذي هو أفصح من الكلام وأبلغ منه أثرًا في النفوس، ولكن الشيخ دعا فلم يكن بد من أن نستجيب، فمضينا مع الشيخ إلى حيث أراد، وصعدنا معه إلى غرفة من تلك الغرفات التي كنا نذكرها أيام الصبا فتمتلئ قلوبنا لذكرها مهابة وإجلالًا ورهبةً وإكبارًا، في تلك الغرف كان يستقر شيخ الأزهر ومفتي الديار، وفي تلك الغرف كانت تُدبَّر أمور الأزهر وتُصرَّف شئون العلماء والطلاب، وحول تلك الغرف كانت تتطاير طائفة من الأحاديث والأساطير عن حياة الشيوخ وأقوالهم وأعمالهم، وكانت هذه الأحاديث تصل إلينا فنعجب بها ونبسم لها ونلتمس فيها العبرة والعظة والفكاهة، وكنا نتنقل بهذه الأحاديث إلى بلادنا في الريف فنقصها على آبائنا وإخواننا فيعجبون بها ويكبرون أصحابها ويتخذونها ذخرًا لما يعقدون من مجالسهم إذا أشرق الصبح أو أقبل المساء.

صعدنا مع الشيخ إلى تلك الغرفات ونحن نسأله عن الأزهر ما خطبه، وعن هذا الصمت ما مصدره، والشيخ صامت كالأزهر لا يستطيع رجع الجواب، ثم انتهينا مع الشيخ إلى طائفة من أصحابه كرام مثله لقونا لقاءً حسنًا، وحيونا تحية حسنة، كما لقينا الشيخ وكما حيانا، ونسألهم عن الأزهر ما خطبه؟ وعن هذا الصمت ما مصدره؟ فإذا هم صامتون كالأزهر، وإذا هم صامتون كالشيخ، وإذا هم لا يستطيعون رجع الجواب.

ثم تدور علينا أكواب الشاي، ثم تتلى علينا آيات الله في صوت عذب ولهجة حلوة وقراءة صحيحة مستقيمة نقية تصل إلى أعماق القلوب، ولكن من القارئ؟ من أين جاء؟ ما شكله؟ وما زيه؟ إنه رجل مطربش قد اتخذ زيًّا غير زي الأزهر، لأنه ليس من أهل الأزهر وإنما هو من عمال العنابر. تبارك الله! رجل من غير الأزهريين يتلو القرآن بين الأزهريين! هذا خير، هذا خير كثير ولكنه غريب لم نكن نقدر أن نلقاه في أيامنا تلك، وكنا نحب أن نلقاه الآن والأزهر معمور يموج بالناس وترتفع فيه أصوات الشيوخ بقراءة القرآن، ولكن الأزهر ساكن صامت، وهذه الطائفة الكريمة من العلماء الواعظين قد استمعوا وأنصتوا لتلاوة القرآن الكريم تخرج من رأس عليه طربوش، هذا خيرٌ ما في ذلك شك، ولكن هذه الصورة ما زالت غريبة في أنفسنا، وما زال موقعها من قلوبنا شاذًّا قلقًا، ومع ذلك فقد يقال إن الشيوخ محافظون، وإننا نحن من أصحاب التجديد.

ثم انصرفنا محزونين مستيئسين، جئنا نزور الأزهر فلم نر الأزهر، وإنما رأينا أطلاله ولم نستطع أن نطيل عندها الوقف. قلت لأصحابي: ولكن ما هذا الصمت وكيف انتهى الأزهر إليه؟ وأيكم كان يظن أن ذلك الصوت العظيم يُقضَى عليه في يوم من الأيام أو في ليلة من الليالي بهذا الخفوت المنكر المخيف؟ قال أصحابي: فإنك تنسى أن الأزهر قد كان جامعًا فأصبح جامعة، وإنك تنسى أن الجامعة إن استيقظت في النهار فهي تنام في الليل، وإنك تنسى أن للجامعة نظامًا يحد حظها من الحركة وحظها من النشاط، فاذكر هذا كله واذكر أنك تخطئ أشد الخطأ إن ظننت أن التجديد مقصور على الجامعة وأصحاب الجامعة، فالتجديد أقوى وأنشط وأوسع سلطانًا مما تظن. انظر إليه كيف وصل إلى الأزهر فعلَّمه كيف يكون الكلام في النهار والصمت في الليل، وقد كان الأزهر متصل الكلام في الليل والنهار. قلت لأصحابي: يا بُؤسى للتجديد إذا انتهى بالأزهر إلى هذه الحال! كم كنت أوثر أن يظل الأزهر جامعًا وألا يُمسَخ جامعة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤