سكوبا

أما لماذا عرضت عليك أن تغوص معي، أو نغوص مجموعة، فذلك ما لم أطلبه من قبل.

الهمس بأني أهملت الجسارة القديمة، وأصبحت خوافًا، منذ لقي زميلنا طه ملوخية مصرعه. نسي ماسك الأنف المطاط، فواجه الخطر في عدم معادلة الضغط. أصابته الطلعة المفاجئة بالشلل، وظلَّ في المستشفى الأميري ثلاثة أيام، ودعناه بعدها. يصلني في جلستي في قهوة الزردوني، أو في الحلقة، أو في ورش المراكب. ربما الْتَقيت على الكورنيش بمَن يواجهني بالهمسة الشائعة. يغلف الابتسام كلماته.

لا يشغلني الغوص — كما تعلم — في المناطق الزرقاء، العميقة. أهمل الْتِماع عينَيك بالخوف وراء النظارة. غُصت ما يزيد على العشرين عامًا. تنقلت في أعماق البحر من رأس التين إلى السلوم. واجهت مشكلات ومتاعب، أنقذني منها الزملاء، أو أنقذت نفسي، ولم أتحدَّث عنها. طلعت بكميات لا أذكرها من الإسفنج.

لم أتنبَّه — ذات يوم — إلى الأمتار التي غُصتها. أذهلتني رؤية درفيل ضخم. انتترت — بالذعر — إلى أعلى. أحسستُ — حالًا — بميل إلى النوم. أنقذتني صيحة حكيم منيب، وإمساك يده بساعدي نحو البلانس.

ظللت راقدًا ثلاثة أيام لطلوعي المفاجئ، عرفت بعدها أن الدرفيل صديق الغطاسين. هكذا قال لي الخواجة نيقولا. وهو ما أكده الجد السخاوي، وأنا مستلقٍ — في البيت — على ظهري.

وحين شكوتُ ألم أذني إلى الطبيب في المستشفى الأميري، وضع أذني أمام عينَيه، وسلَّط ما يُشبه البطارية فيها. ثم قال وهو يرفع مرآة مستديرة، صغيرة، على جبهته: أنت تُعاني تهتُّكًا في طبلة الأذن.

ثم وهو ينقر بإصبعه على خدي: دخل الماء الأذن الوسطى.

أضاف للتساؤل في ملامحي: إن لم تحرص على الدواء، ربما أُصبتَ بالصمم!

وعلا صوته في تحذير: قد يُفضي الإهمال إلى تعرُّضك للشلل!

لم يكُن الخوف في بالي، ولا عرفته. أتأكد من وضع النظارة بما يمنع تسرب الماء، الشنوركل في الفم، الزعانف في القدمَين. آخِر ما أضعه فوق بدلة الغطس حزام الأثقال وأسطوانة الهواء. ربما استخدمت بدلًا من الشنوركل أنبوبة خفيفة، مستقيمة، ومفتوحة، دون صمام. هذا ما يفعله معظم الغواصين، ويفضلون عدم استخدام أدوات معقَّدة تخونهم وقت الحاجة إليها. أقرأ الفاتحة. لا أستخدم الأربطة قبل أن ألتقط شهيقًا من الأنف، وأحبس أنفاسي. تسبق يدي بسكين الغطس نزولي في الماء، أو أربطها حول ساقي. لا يشغلني إلا الصعود بالإسفنج. لا أعطي انتباهي للروايات المفزعة عن غواصين أخطأوا، ففقدوا السمع، أو قضوا بقية حياتهم مشلولين، أو ماتوا.

فتحي عبد ربه … هل تذكره؟

زاملنا في الغوص إلى أعماق بعيدة. من العجمي — غربًا — حتى السلوم. صعد من الماء مشلولًا. نزل إلى الأعماق ما يزيد على الأربعين مترًا. واجه شيئًا لم نتبينه. بعد أن أخرسه الشلل، شيئًا قاسيًا، مفترسًا. دفعه إلى الطلوع من المياه بسرعة. نسي الحقيقة التي نعرفها. بتأثير الفزع نسيها. طلوع الأربعين مترًا مرة واحدة، أضاع توازن الدم، فشل الجسد.

تعلمت كيف أهتدي إلى الإسفنج، ملتصقًا بالقاع، والصخور، والطحالب والأعشاب الغائصة في الأعماق.

أفضل الأنواع ما أعثر عليه في المياه العميقة. أتفادى أعلام الغطس والعوامات المتناثرة. أحرص على مسافة كافية، فلا أواجه الإصابة دون قصد، وأتجنَّب قناديل البحر، والشعاب المرجانية الملونة، والأخاديد والنخور العميقة، المتعرجة، والتشكيلات الصخرية، والأسماك الكبيرة. لا أستعمل السكين. أضرب الحيوان — بقوة — من أسفل. أنتزعه، أو أخلعه ببطء، من المحيط الخارجي إلى مركز التثبيت. أنتزعه برِقَّة، فأضمن الحصول على الحيوان كاملًا، وغير ممزَّق. التقطيع — كما تعلم — يقلِّل من رتبة الإسفنج. أضيف إلى ما اصطاده الزملاء، يوضع كومات على الشاطئ، حتى تتعفَّن أنسجة الأجزاء الرخوة. تعصر الهياكل المتبقية. تغسل بمياه البحر. تربط في حزم، ثم تجفف في الهواء، وتظل منشورة حتى تتحلَّل بأشعة الشمس. تنظف جيدًا، ثم تبيض. يخلو الإسفنج من الحصى والرمال والأصداف والأعشاب. تقص الجذور والتفريعات والزوائد. قد يأمر الخواجة نيقولا، فتصبغ باللون البني.

أتنبَّه لنصائح الجد السخاوي: حتى لا يؤذيك الضغط، اتبع الفقاعات. ولا تصعد بسرعة أكبر من سرعة ارتفاعها.

ويعتدل في مواجهة الشمس: الغوص يحتاج إلى فن. القاع مليء بالصخور التي تشبه الصدف.

ثم وهو يهز إصبعه: أقل خطأ يعرِّضك للشلل أو الموت.

يسبق استعداد النزول، تعرف إلى طبيعة المكان، مساحات الغوص، الصخور المخفية تحت الماء، اتجاه التيار وقوته، حركة الرمال بالقاع.

أطلع من الماء.

أتابع — بعين مُتعَبة — عملية التجهيز: دوس الإسفنج بالأقدام، أو عصره لقتل الحيوان، وطرد المادة الحية والسوائل، تجميعه في كومات، تغطيته بأكياس مبللة. يتحلَّل الإسفنج، ويحمل — مغسولًا — إلى البلانس. تستمر عملية التنظيف، للتخلُّص من الرمال والحصى والطحالب والأعشاب.

بداية المشكلة، لما اشترت الشركة جهاز سكوبا، وطالبتنا باستخدامه. يستطيع الغواص أن يظل به تحت الماء ثلاث ساعات. يسمح بالتنفُّس من أنبوبة مطاطية، أحد طرفَيها في فم الغواص. الطرف الثاني يتصل بأسطوانة تحمل هواء غير مضغوط. تستخدم الجهاز مراكب يونانية، تأتي من جزر الدويكانيز. تصيد الإسفنج في مرسى مطروح والسلوم والسواحل الليبية.

قال لي الخواجة نيقولا: لا أريد أي إسفنج. التعاقُد على تصدير أغلى الأنواع.

وافترَّ فمه عن أسنان سوَّدَها التدخين: إنها شركة يابانية تطلب تركي كب أو ملاتي نمرة واحد.

وأضاف بلهجة مؤكدة: إذا أحببنا أن نبيع محصول الإسفنج. فليكُن ذلك الآن.

ثم وهو ينقر بإصبعه على طرف البلانس: ما لم نبِعه الآن … سنؤجل بيعه إلى العام القادم.

وقطب جبهته، فتكرمشت بشرتها: العادة أنهم يتركون موسمًا بأكمله حتى ينمو الإسفنج ويكبر وتتوفَّر كمياته. فيشترونه في الموسم القادم بسعر الموسم الحالي.

حين أضع الإسفنج على أرض البلانس، أخمِّن الجهة التي سيذهب إليها. التركي كب تطلبه مصانع مستحضرات التجميل. ناعم وجيد الخامة، ويتألف من خمس درجات. الكباتجة يشبه خلية النحل، يستعمل في أدوات الحمام، وتلميع حروف الطباعة. الزيموكا تحتاجه صناعة المعدات الحربية.

قلت: الزيموكا لا يوجد إلَّا في أبو قير.

قال: أريد التركي كب. ولا يهمني منطقة صيده.

أظهرت القلق: لكنها منطقة خطِرة.

علا صوته بالدهشة: هل يتحدَّث الغواص عن الخطر؟

نصحني الخواجة نيقولا أن أضع ثقلًا من الرصاص في الحزام الملتف حول بطني. أنزل البحر، وأطفو، مثل السمك. أغوص — دون خوف — في الأعماق التي أريدها. أصعد دفعة واحدة إلى سطح الماء. لا أخشى انفجار المخ، أو الشلل.

كنت أخشى تشوُّه العمق.

رفضت عرضًا من الخواجة نيقولا بأن أرتدي نظارة تُعالج تأثيرات التكبير، وتقريب المسافات تحت الماء. أفضِّل رؤية الأشياء كما هي، بالنظارة العادية. يبدو كل ما أراه في صورته الحقيقية، وإن زاد حجمه — تحت الماء — إلى الثلث. تعلمت — بتكرار الغوص — تصحيح أخطاء التكبير والمسافات.

أفضل الغطس ساعات الصباح، أو ساعات بعد الظهر. أفضل من ساعات الظهر. حين تميل أشعة الشمس على السطح. يبدو رائقًا، وشفافًا.

عندما أغوص إلى أكثر من خمسة وأربعين مترًا تحت سطح الماء، أشعر أني أستطيع أن أغوص أعمق وأعمق. أتنفَّس في الماء. أستغني عن جهاز سكوبا.

مع أني أحذِّر نفسي — قبل الغوص — من الشعور بالسكوبا. يلفني، يدفعني إلى النزول في الأعماق أكثر. أتذكَّر تحذيري لنفسي، فأصعد إلى سطح الماء. أعاود التذكر.

أما لماذا عرضت عليك أن تغوص معي، أو نغوص مجموعة، فلأني أخشى أن يسرقني الشعور بسهولة الغوص إلى الأعماق التي أريدها، بجهاز، أو بدونه. أهمل حتى التحذيرات التي تصلني من البلانس بأن أتوقَّف عن الغوص.

إذا كنت معي، أو كنا مجموعة، فإن مَن تسرقه سهولة الحركة ينقذه زملاؤه، نتنبَّه إلى الخطر لحظة اقترابه، قبل أن يغويه جهاز سكوبا.

الرفقة والصداقة والمؤانسة، كلمات نتبادلها في القهاوي، وأثناء سيرنا على الكورنيش، وفي القعدات الخاصة، ولحظات الاسترخاء فوق البلانس. نلتقي بها في الأعماق. دنيا واسعة من الأسماك والأعشاب والطحالب والصخور والكهوف والتوقعات. لا تقطع دقائق الغوص والطلوع صِلتي بالحياة فوق الماء. الوحدة تقذف بي في دوامة التردُّد، وربما الخوف. إذا رافقني زميل، تصوَّرتُ المساندة في مواجهة ما لا أتوقعه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤