لم يبقَ إلا البحر

بسمل الحاج محمد صبرة، وحوقل، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم.

– أعوام لم ألامس بالمقص رأس زبون.

قال المعلم حنفي قابيل: أريد البركة ولا أريد الحلاقة.

رأى في منامه سيدنا الخضر راكبًا على جواد أبيض. بيده سيف أبتر، لم يستقر ولا تحرك. ظهر كالومضة، واختفى كالومضة أيضًا.

قال في تأثر: لذلك قررت أن أنهي حياتي بالحج.

– متعك الله بالعمر المديد، زيارة الكعبة وقبر الحبيب واجب على كل مسلم.

رأى بنفسه أيام فتونة الرجل، قبل أن تغرب شمس الفتوات، ويقنعون بالجلوس على القهاوي، والتجارة، ويُصدِرون الأوامر من نافذة المجد القديم.

كان أعوانه يتقدَّمون موكبه، يُفسحون الطريق بأيديهم وبالنداءات والشتائم. يبدأ معركته وسط الصهبة. يقذف كرسيًّا في الكلوب القريب، فتصمت الأغنيات والزغاريد. تنهال من بعده الكراسي، وتتمطى الفوضى، وتختلط الصرخات والصيحات والضربات الموجعة. وكان إذا نطح برأسه، كسر رأس الذي يعاركه.

وصحت السيالة — ذات صباح — على حبل يسد الشارع، لا يواصل أحد السير إلَّا إذا دفع قرشين.

لم يُخفِ غضبه عندما شكا الحاج قنديل علي الراكشي في نقطة الأنفوشي.

قال بتأسُّف: وهل قصَّرت حتى يلجأ إلى النقطة؟!

كان يعتز بأنه لم يدخل القسم في مشكلة. حتى لو أذية غدر، يتماسك، فلا يُبلِغ القسم. هو الذي أوذي وليس الحكومة. عليه أن يأخذ ثأره بيده.

حتى بعد أن قنع بالجلوس في قهوة الزردوني ظلَّ ملتفًّا بالمهابة. كانت له ملاحظاته، وآراؤه، وأوامره النافذة.

وحين غادرت الست جمالات السيالة، ذاع أن الرجل أمَرَها بترك الحي. أغضبته حكاياتها مع الأسطى فتحي. ثم شدَّد على فتحي أن يترك السيالة هو أيضًا.

ظلَّ على حاله، لا يعبأ برجال الإدارة، ولا يُظهر لهم اهتمامه. حتى الصاغ قرة إذا وقف الرجال لمروره أمام القهوة، ظلَّ هو في مكانه. لا يغادر مبسم الشيشة شفتَيه، ولا تتحوَّل نظراته.

قال المعلم حنفي قابيل: ليس في الأمر حتى الآن مشكلة. ولكن ما الذي يمكن أن أفعله عندما يتقدَّم العمر، وأُصاب بالْتِهاب المفاصل والسكر، وأواجه أول أزمة قلبية؟!

سعى إلى صلاة الجمعة في أبو العباس، وإلى أوقات الصلاة في المساجد القريبة، وحمل مسبحة. وألف الناس تمتماته بآيات وأدعية. واختار الجلوس على قهوة الزردوني. يرد على السلام، أو التحية. لا يلح — كما الزمن القديم — في ضرورة الاستضافة، ربما مضت ساعات وهو جالس — بمفرده — إلى النرجيلة يحتسي دخانها، ويتأمَّل المدى، ويجترُّ في ذهنه ما يبين بالتأثر في ملامحه.

•••

البداية لا يذكرها أحد. ربما قبل الحرب العالمية الأولى، وربما بعد انتهاء الحرب مباشرة. طافت المعارك بالأحياء، لترسو — في كل حي — على برِّ الفتوة الواحد: الشاطر فتوَّة رأس التين، السكران فتوَّة السيالة. لم يكُن حنفي قابيل فتوة منطقة بالذات. قدم من الصعيد إلى بحري في شبابه. رفض البلطجة، وإن عمل له الجميع ألف حساب. امتدَّت معاركه إلى كل أحياء الإسكندرية. لا يحمل سلاحًا، حتى لا يقبض عليه البوليس ومعه ما يدينه. خاتمه الضخم يلتف حول إصبعه يكفل تكسير الأنف أو الأسنان. يُحسِن الملاكمة، واستعمال المقص والروسية؛ يحيط بخصر عدوه، فيعصره، تكاد روحه تطلع من فمه، ينهال على رأسه وصدره بقبضة حديدية، قد يلوي الذراع، ويضرب الركبة في أسفل البطن، إذا مرَّ على قهوة، انتتر الجالسون وقوفًا لتحيته، لا يعودون إلى أماكنهم إلَّا بعد أن يميل في شارع جانبي.

قبض عليه البوليس، في خناقة مع عساكر إنجليز بالمنشية، عافر، وعصلج، وأوعز الضابط الإنجليزي للمُحتجَزين، فاتهموه بسرقة أموالهم.

قال عبد الرحيم، فتوة اللبان، للضابط الإنجليزي: أضربه، فتخلي سبيلي؟

وافق الضابط، مشاغبات قابيل ومعاركه همٌّ يومي لأقسام الإسكندرية. لو أن فتوة — مثله — يذل أنفه؟‍

دُفع الاثنان داخل زنزانة مغلقة.

أذهلته المفاجأة لما فتح الزنزانة. خرج حنفي قابيل بمفرده. سعى إلى ركن القاعة، وجلس.

من يومها، ألف حنفي قابيل التردُّد على أحياء الإسكندرية. يدخل معركة مع فتوة كل حي. يغلبه، ويعود.

•••

طرف خيط البداية، في افتعال خناقة. اصطياد الرءوس الكبيرة، ومرمغتها في التراب. ما تكاد المعركة تبدأ، حتى تغلق أبواب الدكاكين والبيوت، وتغلق النوافذ، وتخلو الشوارع من الجالسين والمارة. تبدو المساحات متسعة، باقتصارها على المتعاركين. يعمق من الصمت ارتطام الشوم بالشوم، وبالرءوس والأجسام والصيحات والتأوُّهات والصرخات. يسير الفتوة في شوارع بحري، يتبعه أعوانه، حاملين العصيَّ والأسلحة. موكب له هيبته. كلما كان الأثر طيبًا، سارت خطوات الأيام القادمة في أرض صلبة. المبالغات تنقل تفاصيل التفاصيل إلى الأحياء البعيدة، تصنع أسوار المهابة حول أطراف الحي. يفكر أبو حمدات الأحياء الأخرى قبل أن يحاولوا اجتيازها.

كان الفتوات يحيون بين الناس. يخالطونهم في الأسواق والشوارع وعلى القهاوي. يزوون الأهل والأصدقاء، يصلون في مساجد الحي، يعقدون الصفقات، يشاركون في حلقات الذكر وليالي السمر. لا يعتدون على الجيران، أو على النساء، ولا يتردَّدون على كوم بكير، ولا يفرضون الإتاوات، وإن استحلُّوا سرقة معسكرات الإنجليز، وسياراتهم، وتحدي السلطة. يرفضون السحت والمال الحرام. مَن خالف ذلك، ينظرون إليه بسخط، ربما توسلوا لجره في خناقة.

الاعتراف بالسيطرة شرط أول، مطلوب. النظر إلى الغلابة بعين التعاطُف جزء من الصورة. الوقوف في وجه الحكومة أجزاء واجبة أخرى: كبس طربوش مأمور القسم على أذنَيه، تحدى الأوامر ببيع المخدرات، وتعاطيها — ولو للمظهرية — في عز النهار، تمزيق محاضر الضرب، كسب الأتباع والمساعدين خطوة تالية. كلما تزايد العدد، تأكَّدَت السيطرة. حتى أقواله وتصرفاته، لا بد أن تشي بانتمائه إلى دنيا الفتونة.

روى الناس عن تصدي السكران لهجوم مساعدي النجرو، فتوة حي المنشية.

كان جالسًا في قهوة البوستة، يرفع — بيد — كرسيًّا، يتلقى به الضربات، في حين تواصلت ضرباته بالعصا الغليظة التي لم تكُن تفارقه، فقضى عليهم تمامًا.

حملت الإسعاف الجرحى عدة مرات، والسكران في مجلسه، ينفث دخان النرجيلة.

رُوي أنه كان يقود عربة حانطور. ينتظر جنود الإنجليز، عند خروجهم من كازينوهات الكورنيش. يقلهم إلى أماكن بعيدة. يقتلهم، ويعود.

لما حلَّ أجلُه، انتهت حياته بصورة لم يكُن يتوقَّعها أحد، ولا توقعها هو نفسه: حدث له مرض شديد، ألزمه الفراش ما يزيد على العامَين. لحقه سرساب، وتشوَّشَت ذاكرته، ولم يعُد يتعرَّف على زواره. وصوَّت أهل بيته في وجهه وهو ينتزع أنفاسه الأخيرة.

•••

صارح الجد السخاوي حنفي قابيل برأيه، في قهوة مخيمخ.

كان قد مضى على قدومه من قريته في الصعيد ثماني سنوات، وكان في عزه. كانت تصرُّفاته تُرضي الجد السخاوي. الأبو حمد الحقيقي يرفض الغدر. ربما نادى على خصمه ليواجهه قبل أن يبدأ خناقة. يُلقي سلاحه إذا كان الخصم بلا سلاح. يحترم المسالم والضعيف، ويحتقر الجبان، يرفض أن يوجه إليه كلمة.

لم يكُن لحنفي قابيل صِلة بالصيادين، وإن قيل: إنه تزوَّج جنية، لا يقوى على مضاجعتها إلا في الشتاء؛ لشدة السخونة في جسمها، إذا انتهى منها، أسرع إلى البحر، يستحم فيه، ليُذهب عنه الحرارة الشديدة.

لأن العروسَين اللذين ينتقلان من حيِّهما إلى حيٍّ آخَر، لا بد أن يستأذنا فتوة الحي الجديد، اختار منطقة أبو العباس مجالًا آخر لسطوته. بركة الطواف حول المرسي واجبة لكل عروسَين ليلة زفافهما. يتناثر أعوانه حول الساحة الواسعة، يسألون عن الموافقة. الموافقة لها معلوم. مَن يغامر لقاء الرفض ليلة زفافه؟‍

قيل إنه صاحب فكرة الزفة الإسكندراني. اخترعها ليتقدم الزفة، ويتقدَّم الجميع. إن لم يحدث ذلك، فلا أحد يدري مصير الزفة، ولا مصير المشاركين فيها. حتى العريس قد يواجه الموت بضربة شومة.

يسبق أعوانه أهل العروسين بالهتاف:

يا عريس يا حلو يا بن الناس.

يا وردة محطوطة في الكاس.

هنزوَّرك لأبو العباس.

يصحب أعوانه موكب العروسين، حتى يغادر بحري. يتسلَّمه أبو حمدات الأحياء الأخرى. العصا الغليظة تتقدَّم الموكب. لا تشرع عصى الأعوان إلا لضرورة. ربما هُوجم الموكب المتقدِّم، فيثور غبار الأقدام والأجساد المتلاحمة والشوم والخناجر.

لما جرَت النقود في يد عبد الرحيم استأجر حجرة للدعارة في حارة الشيخ سلامة الراس، وثانية تطل على سيدي المغاوري، وثالثة في حارة مدورة. اعتبرته المعلمة إنصاف منافسًا. أبلغت البوليس بزهري أصاب واحدة من نسائه.

تناقضت التوقُّعات.

قيل إن عبد الرحيم أمَرَ أعوانه بإغلاق بيوت إنصاف في كوم بكير، وفي أحياء الإسكندرية. وروى سيد الفران عن حديث هامس في قهوة مخيمخ، بين حنفي قابيل وأحمد قاسم ضابط مباحث الجمرك، تردَّد فيه اسم إنصاف. امتدَّت التوقعات، وتشابكت، ثم فاجأ حنفي قابيل الجميع بزواجه من إنصاف.

•••

تكاثر الفتوات كالجراد. كل مَن لطشه السلك، وصار بلا مهنة، أعلن نفسه فتوة، يخوض المعارك، أو يرشو الأقوى لقاء تغاضيه. هجر حنفي قابيل الفتونة، وفَرْض الإتاوات، والدخول بالمعلوم في معارك الأحياء. استهوته تجارة الممنوعات، ومسروقات السلطة العسكرية. يتسلَّل أعوانه إلى معسكرات مصطفى باشا وكوم الدكة ورأس التين. يتسلَّق أحدهم سيارة نقل عسكرية، يقذف ما فيها إلى الباقين، الذين يعدون خلف السيارة. زادت جرأته، فباع ملابس العساكر الإنجليز وهم يرتدونها. يشك العسكري مقلبًا، يضربه روسية، يعرِّيه من ثيابه بالقوة. لم يحمل السلاح أبدًا لعلمه بخطورته. تسلل الأعوان — ليلةً — إلى معسكر رأس التين، فسرقوا صندوقًا هائلًا. أذهلتهم المفاجأة لما وجدوا بداخل الصندوق جثة. خطف توتو الرشيدي — أقرب أعوانه — كرتونة معلبات من سيارة جيب إنجليزية في شارع إسماعيل صبري. لمَحَه السائق، فجرى إلى الخلف — دخل وراءه — دون أن ينزع الحذاء، وسط المنتظرين صلاة الجمعة، خارج علي تمراز. أقعده إلى جواره، وانطلق بالسيارة. وشى الرشيدي بمعلمه وبقية الأعوان. عادوا — في اليوم الثالث — تسبقهم تأكيدات بحماية السلطة.

شكا الأهالي من أن البوليس يخشى الفتوَّات. يرفض تحرير محاضر الضرب والتعدِّي. يبتعد عن الخناقات حتى تنتهي.

•••

ساعدت إنصاف حنفي قابيل بمعارفها من ضباط البوليس. خلت المحاضر من حادثة ضده، أو ضد أعوانه. تكاثر أعوانه مدفوعين بإحساس الطمأنينة. انطوى بحري في إرادته، الأنفوشي والسيالة ورأس التين، فرض سيطرته على الميادين والشوارع والحواري والقهاوي والدكاكين، صبيانه يرصدون له تحركات الفتوات الآخَرين ووجهاء الحي. حتى حفلات عقد القران والحنة والزفاف يعرف مواعيدها بالساعة. امتدت السيطرة إلى داخل البيوت. صبيانه يطرقون الأبواب — في الليل والنهار — يبلغون السكان بما يطلب، مَن يرفض أو يتأخر عن التنفيذ، يُفاجئه قذف حجر في زجاج نافذته، أو طعنة خنجر وهو يتلمَّس طريقه — ليلًا — في مدخل البيت، أو حريق داخل الشقة غاب مصدره. كان يعتز بأنه يملك الشوارع من صلاة العشاء إلى ما بعد الفجر، ويعتز بأنه يملك بحري في كل الأوقات. أعوانه المبثوثون يفرضون سطوته على البيوت والدكاكين وروَّاد القهاوي. ثم جاوزت سطوته بحري إلى أحياء أخرى قريبة. قيل إنه عقد صفقات لشراء مخلفات المعسكرات البريطانية، قبل جلائها عن المدينة.

تلاشى صغار الفتوات، وإن أوصى حنفي قابيل صبيانه بتجنُّب الخصومة ما أمكن. لم تعُد الإتاوات مقصورة على بحري فقط. تقاضى إتاوات في المكس وأبو قير. وأتاه مرعي بيبي بحمولة — هدية — من كفر الدوار. زاد، فأمر فرق الصوفية — عندما تخرج في الموالد — أن تمر بزقاق العماوي — رغم ضيقه — وتتوقف أمام بيته. يستضيفهم بأكواب الماء المثلج والقرفة والشاي.

•••

حدث ما كان يتجنَّبه حنفي قابيل.

اقتحم الشاطر مجلسه في قهوة النجعاوي. يرتدي جلابية من الحرير، ويضع على رأسه طاقية بيضاء، ودس قدمَيه في مركوب أصفر.

رماه بنظرة متحرِّشة: تركتَ البلد لكلابك يَبُولون فيها، حتى اقتحموا بيتي.

انتزع حنفي قابيل مبسم النرجيلة من شفتَيه في قلق: مَن يجسر يا أخي؟

– الولد مرعي بيبي، تعرَّض لكبرى بناتي في طريق عودتها إلى البيت.

مسح مبسم النرجيلة بباطن يده، وقال في هدوء: أعدك بتوبيخه.

غالب انفلات أعصابه: أنا الشاطر!

في لهجة ذات مغزى: وهل أنكرت ذلك؟

وهو يضغط على الكلمات: هذا الكلب لا يدخل الأنفوشي.

ظل حنفي قابيل على هدوئه: مبلغ علمي أن الأنفوشي مِلك الحكومة.

صرخ في صوت محترق: وأنا فتوته!

طوح بمبسم النرجيلة ناحيته: دافِع عن شرفك إذَن، وامنعه من الحي.

لوح الشاطر بسبابته: سأمنعه من الحياة نفسها.

تحسَّس طرف شاربه، وغمز بعينه: لا تُسرف في توهُّم حماية الإنجليز.

اقترب منه، فلامست سخونة أنفاسه وجه حنفي قابيل: قبضتي تحميني!

أذنَ حنفي قابيل لمرعي بيبي بنظرة موافقة. قفز أمامه، ووضع أصابعه على جنبيه: أتحداك يا عرة الأبو حمدات!

جز الشاطر على أسنانه: لا تُحسن الظن بفتوتك، فحاميته امرأة!

النظرة السريعة إلى الأعوان المحيطين، وشَتْ برد الفعل. اهتزاز ساقه وشى بالانفعال الذي يغالبه. أحسَّ بما يشبه الخدر يغيبه عن العالم من حوله. قال في صوت يرعشه الغضب: أمنحك فرصة وداع أهلك!

•••

النهاية يذكرها الجميع.

بعد هزيمة هتلر بأقل من شهرين. خناقة ميدان الخمس فوانيس: شك مقالب، ضرب روسيات، شلاليت، كراسي متطايرة، شوم، خناجر، سكاكين، بلط. لاذ مَن فاجأتهم المعركة بمقام سيدي علي تمراز، قبل أن يغلق الجامع أبوابه. أطلَّت الوجوه من النوافذ والشرفات، ومن فوق الأسطح، وإنْ ظلَّت أبواب البيوت مغلقة. حتى باب سيدي علي تمراز المطل على ميدان الخمس فوانيس ظلَّ مغلقًا، ودخل الناس لصلاة العشاء من الباب الجانبي بشارع رأس التين، قبالة محطة الكهرباء.

وقفت عربة لوري أسفل الفوانيس الخمسة، المحطَّمة. نزل منها العساكر، على رءوسهم الخوذ، وفي أيديهم الهراوات. أحاطوا بالميدان الذي خلا تمامًا إلا من المتعاركين. ماجد العطوي ضابط المباحث الجديد — بين دهشة الناس، وتردُّد العساكر والمخبرين — دفعهم بعصاه واحدًا واحدًا، إلى عربة البوكس. انطلقت بين الأعين المندهشة التي كانت ترقب من بعيد.

مضى العساكر والمخبرون وراء بقايا المعركة من الفتوات، في الشوارع المتصلة بالميدان والحواري والأزقة ومداخل البيوت. قلبوا عربات اليد، ربما تُخفي تحتها مَن يريد الفرار. قبضوا على العشرات من الذين شاركوا في المعركة، أو لمجرَّد الاشتباه. لفظهم قسم الجمرك بعد ثلاثة أيام، إلى الشوارع والأزقة والقهاوي، لا معايرة بكلمة، أو جر لخناقة، أو محاولة لفتونة. جرت بعدها معارك صغيرة في قهوة الزردوني، في ساحة المعهد الديني، في المسافرخانة، في الباب الخلفي لجامع البوصيري، على ناصية شارع الميدان. صفافير العساكر تعلو في كل مرة. يأتي ماجد العطوي بعصاه التي لم تكُن تفارقه، يطيح في المتعاركين دون تمييز. يعاونه العساكر والمخبرون بالشوم وكعوب البنادق. يدفع المتعاركين — في النهاية — إلى البوكس.

شاهد صبيًّا في سوق الترك يردِّد: الشاطر ضَرْبه قاسي، ياما كسَّر بالكراسي.

مات الولد لما ناداه: أتعرفه؟

في خوفه: مَن؟

– الشاطر.

– سمعت الأغنية.

لكزه في كتفه: لا ترددها!

حين أصدرت الحكومة قانون إلغاء البغاء، طالبت إنصاف زوجها بأن يحمي أعوانه بيوتها السرية. خافت النسوة من القانون. تسرَّبْن من البيوت التي استأجرتها إنصاف في كامب شيزار والشاطبي والإبراهيمية. لم يعُد إلَّا أربع نساء، اضطررن — للظروف القاسية — إلى البقاء في البيوت.

لم يعُد هو الفتوة القديم، يشخط، وينطر، ويتقاضى الإتاوات، ويفرض المعلوم، ويدخل ويخرج، فلا يُصاب بخدش. تطلب منه شراء حاجاتها من سوق راتب، أو شارع الميدان، مرافقة النسوة إلى بيوت الزبائن فرارًا من ملاحقة البوليس. لم تكُن تأذن بلقاء أحد داخل بيوتها. حتى الحساب يجري بعيدًا، فلا يأخذ البوليس باله. وكان يحمل حقائبها إذا غادرت البيت في مشوار. أدرك المهانة التي وصل إليها. اعتبره الناس مجرد زوج لإنصاف. حتى اسمه يغيب إذا جاءت سيرة الفتوات.

رمقها بنظرة سخط: تحرص على إخفاء الشَّعر الأبيض بخضاب ظاهر، توصي به في سوق الدقاقين. يتألَّم لرؤيتها وهي تصحو. لا تستطيع أن تحرك مفاصلها، تعاني لأقل حركة. تبحث يدها عن دواء الضغط فوق الكومودينو، قبل أن تنزل من السرير. تقضي وقتًا طويلًا في تجلية وجهها؛ تدلِّكه باللبن، أو بالزيوت العطرية، أو ماء الورد، أو قشر الخيار. تجمِّله بمعجون الحسن يوسف، يأتي به مرعي بيبي من زنقة الستات.

قال في تسليم: انتهى زماننا، رأيي أن نفكر في مهنة جديدة.

علا حاجباها الرفيعان: دعك مني، هل تقوى صحتك الآن على العمل؟

ثم في صوت كالدندنة: مرات العليل شافت بلا جوزها، نطت من الحيطان.

فوت المعنى: يمكنني العودة إلى الصعيد، وشراء أرض نحيا من إيرادها.

فهمت ما يقصده، فقاطعته: لا أنتقل من الإسكندرية، ولا أغير الكار الذي أعرفه.

حاولت أن تفتح بيوتها لألعاب القمار، أو لتعاطي المخدرات. لم يأتِ الإيراد بهمِّ المغامرة.

غالَبَ انفعاله: كار الشؤم!

خبطت صدرها في تحسُّر: كأنك لم تكسب منه!

ارتعشت أهدابه: تتهمينني بالقوادة؟

لوَّنَت صوتها: العفو يا سيد الشرفاء!

جاهد حتى لا يفتضح انفعاله: من حق الرجل أن يصحب زوجته إلى حيث يقيم.

بصقَت في عب فستانها: فإن رفضَتْ؟

اربدَّت ملامحه: يطلقها!

ألقت برأسها إلى الوراء: عين المراد؛ طلقني!

وانتهى عهد الفتوات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤