الاتهام

تناهى صوت مصطفى حجازي من شارع فرنسا: الساعة لم تبلغ العاشرة.

قال حسنين الدمنهوري وهو يُعيد فتح الباب، ثم يغلقه: مَن تطيعه نفسه على السهر؟!

القهوة على حالها: النصبة والطاولات والكراسي والبطاطين والجدران المتآكِلة والضوء الخافت. لكن الأنفاس الحزينة ملأت المكان، فغطَّتْه تمامًا. اختفت الضحكات، وقلَّت التعليقات والتعقيبات. حتى الأخبار لم يعودوا يُتابعونها، بعد أن صمت الراديو خلف قعدة المعلم كشك.

مَن أخطأ؟ ومَن يدفع الثمن؟

قال هشام: طالبتني بأن أحلق ذقني، أنا لن أحلقها إلَّا إذا تزوَّجتُ مهجة.

علا الغضب بصوته: نذر يا بن الكلب؟!

ولاحظ المعلم أن عينَيه أطالتا النظر إلى الجريدة بين يدَيه، لا يقلب صفحاتها: اللي واخد عقلك.

انتزع ابتسامة: مصلحة المواني كلها تحقيقات من باب الجمرك إلى بعد البوغاز.

قال عباس الخوالقة: هل أصدِّق أنك المسئول عن البحر؟

قال هشام: طبعًا لا. لكن الإدارة القانونية مهمة.

أنصتَ المعلم كشك — بعينَي الذهول — لِمَا رواه حسنين الدمنهوري. الْتَقط هشام همسات تبادلها مع مصطفى حجازي.

جلال هاشم.

الْتَقط الاسم. تناثرت المعلومات في سمعه، وأمام عينَيه، وهو يُتابعها من السيالة إلى مساكن السواحل. لمحَ جلال هاشم وهو يطلُّ من النافذة المواربة، وراء السور الممتد بواجهة المساكن. حدَّق في الجسد الواقف في تمازُج الضوء والظلمة. بدا في نحو الثلاثين. طويل القامة. يرتدي بيجاما مكويَّة، وإن لم يتثبَّت من لونها.

ثابر هشام على السؤال. حتى رأى الرجل — ذات صباح — يدخل مدرسة قاسم أمين. تأكَّد مما رُوي له من أن جلال هاشم مدرِّس في قاسم أمين. والده صول في السواحل. نقلَتْه المصلحة إلى السويس، فلحقته الأم وأختٌ صغرى، لم تتزوَّج، وظلَّ جلال — بمفرده — في الشقة.

لماذا تتردَّد على البيت؟ وما صورة علاقتهما؟ هل تحبه؟ وهل يحبها؟ وهل يصارح عباس الخوالقة، أو يحذرها؟

لمحته مهجة في وقفته أمام المدرسة.

كان ينتظر خروج جلال هاشم، فلم يبدِّل موضعه. حين قلَّب ما تخيله من ردود الأفعال، فطن لسخف ما اعتزمه، وانصرف.

هتف المعلم كشك: لماذا لم تروِ لي ذلك من قبل؟‎

ضرب الدمنهوري كفًّا بكف: هل كنا نتصوَّر ما حدث؟!

وبهمس مشفق: كان يحبها.

زفر الخوالقة في غضب: هل يحب امرأة فضَّلَت سواه عليه؟

وتهدَّج صوته: لو أني كنت أعرف، لنصحته بأن يبتعد عن طريقها.

•••

قيل إن الشيخ طه مسعود أصيب — عندما بلغه ما جرى — بأزمة قلبية. أدرك أنه أخطأ إذ لم يتبيَّن النبأ، قبل أن يصرَّ على فصم خِطبة الشاب للفتاة.

قال المعلم كشك: لو أننا زوَّجناهما.

قال عباس الخوالقة: نزوِّج أخوين في الرضاعة؟!

صرخت أم محمود: غير صحيح. مجرَّد افتراءات قالها الشيخ جابر زفت.

اعتبر المعلم كشك نفسه مسئولًا عن موت هشام. لو أنه وافق على عودته إلى مهجة؟ لو أنه لم يُنصت إلى الشائعات والوقائع الكاذبة؟ لو أنه ألحَّ على الخوالقة بأن يكمل الولد والبنت ما بدآه؟ لم يُعنَ حتى بأن يتأمل الولد وما آلَت إليه أحواله. سكت عن توبيخات الأم واتهامها وصراخها في وجهه. هو المسئول عن كل ما جرى.

تذكر عباس الخوالقة موت مصطفى. غالبَ — لأول مرة — دمعًا في عينَيه. يغيب هشام مثلما غاب مصطفى من قبلُ.

الموت؟

هو حق. لكن الفراق مما يصعب تحمُّله. مَن كان بيننا، تكتفي ذاكرتنا باستعادة أيامه؟!

بكت أم محمود في العزاء كما لم تبكِ امرأة. استدعت الغالي، فلا أحد يعرف مَن تقصد بتعديدها: هشام أم مصطفى؟ لم تعُد تعرف — منذ وفاة مصطفى — إلَّا الصمت، والحزن، والعزلة، ولزوم البيت.

وشَت لهجة عباس الخوالقة بإشفاق: هل ترتدين السواد طول العمر؟

أشاحت بيدها: أنا ست كبيرة.

وأجهشت في البكاء: هل نسيت مصطفى؟!

كانت تحدجه بنظرة متأمِّلة: هل يشعر الرجل بفقد ابنه؟ هل أثَّرَت فيه طبيعته الباردة، فنسب وفاة مصطفى إلى الماضي؟

لم يتزوَّج عليها، ولا يذكر أنه هدَّدها بالطلاق، أو أقدَمَ على أذيتها. حتى لحظات انفعالها كان يقابلها بابتسامة هادئة. هي العمر والعِشرة وأم الأبناء. أزمع أن يترك للزمن إقناعها بأن مصطفى ذهب، ولن يعود.

•••

قال جابر برغوت في جلسته المستندة إلى مقام سيدي علي تمراز: حلَّت اللعنة على الولد لأنه أراد الزواج من أخته في الرضاعة!

هل يظلُّ الناس على انهماكهم في الإباحة المُطلَقة، ورفع الحجاب، واستباحة المحظورات، وإنكار الشرائع؟ إلى متى يُقبِلون على عاجل الدنيا، ويُهمِلون نفيس الآخِرة، ويجنون على أنفسهم بالإضلال والإغواء؟

ركن الخلق إلى الغفلة، وانجروا إلى ما قادهم إليه الهوى، وأصرُّوا على العصيان، والزهد فيما هو مأذون لهم بالشرع. اغتروا بطول المهلة. غُشي على أبصارهم، وظلُّوا في ضَباب الجهل، واسترسلوا على الهوى، وأهملوا اعتناق أوامر الله، والانتهاء عن زواجره، فحُرموا من شهود الحقيقة، وحُرموا من استشراف يوم، لا يسمع لهم عذر، ولا تنفع لهم حيلة، ولا تُقبل فيهم شفاعة، ولا يُؤخَذ منهم فداء ولا عدل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤