ملامح ضائعة

الصياد يبتعد عن المنطقة التي تخلو من السمك، والأرض المالحة يهجرها الفلاح. اعتادت سماع كلمات لم تكُن تعرفها، ولا سمعتها من قبل. فهي امرأة متعوِّقة، وهي عندها السقط. الجنين لا يستقر في أحشائها، وينزل قبل موعده، وهي مصارينها ناشفة، وهي امرأة جلد، وهي مدكرة، وهي كالبيت الوقف، كالأرض البور، كالنخلة الذكر، كالشجرة التي بلا ثمار، كالشيخ المقطوع نذره!

أعادت السؤال، حتى ملَّه أطباء مستشفى الملكة نازلي. حتى الحكيمات والممرضات وجَّهَت إليهن سؤالها القلق: لماذا يسقط الحمل في كل مرة؟ لماذا لا يستمر؟

اعتادت دلائل الحمل: انقطاع الدورة الشهرية، تضخُّم الأنف والشفتَين والصدر، الميل إلى أكل ما لم تتصوَّر أنها تأكله. تعرفت حتى إلى تخلُّق الجنين، منذ يبذر فيها سيد نطفته. الأشكال التي يتحوَّل إليها، فيسقط قبل أن يكتمل.

ألِفَت المستشفى ذا الطابقين، المطل — من واجهته — على الميناء الشرقية، وينفتح بابه — من الجانب الأيسر — على الحديقة المستديرة، ويطل — من خلفه — على سيدي البوصيري. يُفضي الباب الحديدي الواسع إلى حجرة الاستقبال ومكاتب الموظفين. الطرقة الطويلة تنتهي بالسلم. تتسلَّم البطاقة الزرقاء الصغيرة. تصعد إلى العنابر. صفت الأسرَّة على جانبيها، واختلطت التأوهات والنداءات وصراخ الأطفال ومعاطف الممرضات ورائحة الأدوية والبرمنجنات والصابون والقيء والجدران المتسخة بالنشع والصديد وبقع الدم. تضايقها نظرات الحكيمات والممرضات. تظهر التعرف والألفة. تقول — حين تقع عليها داخل المستشفى: هذا أنت.

قال الطبيب: حالتكِ نادرة. توجد أجسام مضادة في الدم تقلِّل مناعة الجسم.

أضاف لنظرتها المتسائلة: لكل جسم مناعة. قوة. ومناعتك ضعيفة.

ضربت على صدرها: أنا آكُل جيدًا.

– هذه مسألة لا شأن لها بالطعام.

ومدَّ يده إلى مكتبه. خطَّ على الدفتر الصغير أمامه كلمات. فصل الورقة عن الدفتر، ودفعها إليها: هذه الأدوية، ستحقِّق لك المناعة.

•••

لمَّا أخبرها الطبيب أنها خالية من موانع الإنجاب، هتفت: أنا أحمل. لكن الجنين يسقط.

مطَّ شفتَيه: ربما العيب في زوجك.

قالت بلهفة: دعك من زوجي. ماذا أفعل لأحتفظ بالحمل؟!

•••

قال الطبيب: هل أصيب زوجك بالزهري، أو بأي مرض جنسي؟

أطرقت إلى الأرض: لم يكلمني في ذلك.

– اسأليه. لعل هذا هو السبب.

هزَّت رأسها بالموافقة، وإن غاب عن بالها التصوُّر أنها تسأل سيد ما إذا كان قد أصيب بمرض جنسي. لن يفوِّت السؤال. ربما لمَّز إلى أن المرض أشد احتمالًا فيها.

•••

فاجأها الطبيب: لو أنك كنتِ تزوَّجتِ من غير زوجك، وتزوَّج زوجُكِ امرأةً أخرى. ربما أنجب كلٌّ منكما.

– سيد؟!

النساء بالزوفة. يستطيع أن يقترن بمَن يشاء. الماضي الملتصق بلحمها، يقذف بزواجها من سواه خارج دائرة التوقُّع.

هل تظهر — في حياته — مَن تعِدُه بما لم تحقِّقه؟ توغر صدره عليها. تلزم البيت، ويتركه إلى الكشك، وإلى جلسات القهاوي، وعلى شاطئ البحر، والشوارع، وما يغيب عنها تصوِّره. يصعب عليها تصوُّر يومه، منذ تركه للبيت حتى العودة.

•••

استأذنت سيد.

حضرت حفل زار في بيت بقبو الملاح، صحبتها إليه الكودية نظلة. تطوَّحَت في مكانها، ورددت ما استطاعت تقليده من الأصوات الصارخة. لم تقف، ولا أقدمت على حركات عنيفة حتى لا تتأثر بطنها.

همست نظلة بخوفها من أن تكون أنسية مسكونة بالجن، فهي لن تأذن لها بأن تلد من بني آدم. حتى الزار قد يذهب بالجن، لكن التأثيرات التي أحدثها ستظل داخل جسمها. إذا كان الجن مسلمًا، فإنه يفي بوعده، وإذا كان يهوديًّا، فإنه يفر من الوعد.

•••

حدَّثَها سيد عن زوجة محيي قبطان. شالت بعد أيام من دخلتها. رمقها بجانب عينه، يبحث في عينَيها عن المعنى الغائب.

لم تعُد حياتهما كما كانت. في عينَيه نظرة غريبة، لم ترَها فيهما من قبل. شيء غير واضح، يلتمع في عينَيه، يصعب عليها تحديده. وثمَّة حزن غامض وفتور يرين على كلِّ تصرفاته، لا يتكلم إلَّا إذا طلب شيئًا، ويردُّ على أسئلتها بكلمات مقتضبة. وربما ظلَّ على صمته، لا يتكلَّم إلَّا إذا ناوشته، ولا يدخل البيت إلَّا لينام. حتى الأكل يعتذر — في الأغلب — عن تناوله. لم يعُد يأذن لها بأن تدخل الحمام معه، ولا تدلك ظهره. يدخل الحمام عقب عودته إلى البيت، يغلقه عليه. تستمع — في جلستها بالصالة — إلى صَب الماء على جسمه.

كان يُشقيها الشرود الذي يسلِّم نفسه إليه عندما يجلس في البيت، شرود حزين يتأمل ما لا تراه، ويحيا في دنيا غير الدنيا. لم يُعايرها بعدم الخلفة، وإنْ غاب الود القديم والمؤانسة والمناغاة. يتذمَّر لأقل سبب، وبلا سبب. يلاحظ، ويعيب، ويشكو، ويشخط. يبحث عن منفذ للخناق، قال في صوت كالزعيق: لا تضعي الخبز مقلوبًا على الطبلية، حتى لا يحلِّق الشيطان فوق البيت!

ومنعها من رتق الخيط في سرواله. نزعه من جسمه، ودفع به إليها: رتق السروال وأنا أرتديه يجلب الفقر.

وارتفع صوته بضيق: لا تكنسي البيت في الليل. قد تهدمين بيتًا لإخواننا دون قصد!

ونبَّه عليها ألَّا يعلو صوتها، حتى لا تزعج الأرواح الساكنة في البيت. قد يبدر منها ما يؤذي.

وصرخ: يا ولية. كفاية دق الهون حتى لا تؤذي رءوس الملائكة!

وقال لرؤيتها تقتل عنكبوتًا بالشبشب أعلى الجدار: أنتِ بهذا تجلبين النحس!

وهزَّ إصبعه: لا تصفِّري، هذا يجلب الشؤم!

– لكنك دائم الصفير.

بحلقَتْ عيناه: أنا رجل، صفير المرأة شؤم!

– هل في الصفير رجل وامرأة؟!

أشاح بيده: هذا ما أعرفه.

وهي تتهيأ للبكاء: كل ما أفعله كان يستهويك.

تحس بالتخاذل. تفاجئها الرغبة في البكاء، لا تقوى على كتمها. يغلبها النشيج، ويهتز جسمها. تلين مشاعره، يلاطفها، يجري بأصابعه على شَعرها وخدها ورقبتها وظهرها. يجتذبها في حضنه. هو يثق أنها هجرت حياتها القديمة تمامًا، لكن الطرقات الخافتة علت بغياب حلم الإنجاب. يثق من بذرته. التوقد، والفعل، والرجفة التي تلفهما تمامًا، فهل العيب في الأرض المستهلكة؟ مَن لم ينشئ علاقة معها من رجال الحي؟ غازلها، أو شتمها؟ كيف يتناولون سيرته في الحمام، والحلقة، وقهوة كشك، وقهاوي الحي؟

لم يعُد سيد القديم. الإنجاب شاغله الوحيد: أنا بلا أهل. أريد طفلًا يطيل عمري بعد موتي.

وهي تخمِّس في الهواء: أطال الله عمرك.

وشى صوته بتأثُّر: أطاله أو قصره. مَن ينجب لا يموت!

وزفر في ضِيق: أنا مقطوع من شجرة. ومن حقي أن يصبح الفرع شجرة لها أغصان وأوراق.

أظهرت التألُّم: تعبت من كثرة الإجهاض والعمليات.

رماها بنظرة مشتعلة: كله دون فائدة.

خرجت الكلمات من فمها مبحوحة، متعثرة: تعاطيت الأدوية. ونفذت كلام الأطباء. فماذا أفعل؟

نطقت نبرات صوته بالسخرية: بطون النساء تمتلئ بهبة هواء. وأنت …

وسكت.

هزمتها الرغبة في البكاء: أنت تظلمني.

ملأت الدهشة ملامحه: أظلمك لأني أطالب بحقي في الأبوة؟

تغيرت ملامحها: حتى المومس تطمع في الأمومة!

وتهدَّج صوتها: أنت تريد طفلًا. وأنا أيضًا. ولست وحدي المسئولة عن هذه المشكلة.

أشاح بوجهه بعيدًا: الأرض المالحة لا تنبت.

عقدت يدَيها فوق صدرها: والماء المالح لا يروي.

غمغم: ماذا تقصدين؟

شوَّحَت بيدها: فسِّره كما تريد.

فاجأته صفقة الباب، أذهلته.

هل هذه أنسية؟!

داخل الطمأنينة قلق في قول زمزم: ربما الرجل دمه غير نقي. فالسبب لا يعود إليها، ولكن: كيف تخبر سيد بهاجس المرأة؟ وكيف ينقِّي الإنسان دمه؟

نسي — في تطلُّعه إلى الولد — أنها تحنُّ إلى الإنجاب. يتألَّق الحلم بالصور الجميلة. أشهُر الحمل أجمل سِني حياتها. تسرح في الآتي. تتصوَّر ملامحه. تنظر إلى صدرها. تتخيل امتصاص الطفل — أو الطفلة، لا يهم! — حلمة الثدي.

نادت على الطفل.

نظر إلى الأطفال حوله. في حوالي السادسة. له وجه دقيق الملامح. ينسدل حوله شعره الأصفر اللامع، يتناقض مع العينَين السوداوين. يرتدي بنطلونًا أزرق قصيرًا، وفانلة حمراء عليها صورة قلب، بلا أكمام، وبلا رقبة. في قدمَيه حذاء كاوتش، وجورب أبيض يمتد إلى نهاية الساقين.

– تعالَ.

نظر إلى البرتقالة في يدها. تناول البرتقالة. رفع نظرته إلى عينَيها، ثم قذف البرتقالة، وجرى.

هل حذَّره أهله ففعل ما فعل؟

قال سيد: لا تحمِّلي الأمور أكثر مما تحتمل. إذا كانت جارة الشقة العلوية تعرف، فإن بقية الجيران في حالهم، أو مشغولون بأنفسهم!

رفعت عينَين مخضلتين بالدمع: سيد!

أومأ برأسه يستحثها على الكلام: لو طال الانتظار. هل تتغير؟

رمقها بنظرة متسائلة.

وهي تمسح الدمع بظاهر كفها: ألن تتغير نفسك؟

ضغط شفته السفلى في تأثُّر. لزم صمتًا، واكتفى بالنظر إلى قدمَيه.

تساءلت في حيرة: لماذا تخلى عنها سيدنا السلطان؟ كيف يرفض أن تنجب، فتظل زوجًا لسيد، ويظل سيد زوجًا لها. يستطيع المرسي أن يتشفَّع لها، ويستطيع ياقوت العرش، مثلما وهبها الشقة، أن يتوسط فيثبت الحمل في بطنها.

أغثني يا سيدي ياقوت العرش. خاطرك معي!

لو أن الله أطعمها، لن تنال الأمومة وحدها. ستتمكَّن من سيد، فلا يصبح تطليقها سهلًا. ولا تظل العلاقة هواء. تكلمه، تختلق كلامًا، فيشيح بوجهه. تداعبه فينهرها. حتى إذا لامست أصابعها يده، أجفل. اغتصبت ابتسامة، ومالت تقبِّله، فدفعها بيده.

تهز رأسها للسؤال: هل تسكت عن تصرفاته، وتسترضيه، لأنها تريد الحياة معه، أو لأنها تخاف الحياة بعيدًا عنه؟

لاحظت أنها تكلِّم نفسها. لا أحد سوى الجدران والنوافذ المغلقة والصمت. يعلو صوتها. تسأل وتجيب، تأخذ وتعطي، تنفعل وتحرك رأسها وعنقها ويديها، تشيح وتطوح وتفشل في السيطرة على انفعالها، وتعاني القلق والخوف.

هل هذا هو الجنون؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤