النذير

«جَذْبة من جَذَبات الحق تُوازي عمل الثَّقَلَين.»

حديث شريف

قال أبو الحسن الشاذلي:

«المُحب على الحقيقة مَن لا سلطان على قلبه لغير محبوبه، ولا مشيئة له مع مشيئته.»

قال أبو الحسن الشاذلي:

«ومن أوصافهم تطهير النفس من كل خُلُق دنيء، وتحليتها بكل خُلُق سني، يتحملون الأذى ولا يُؤذون، ويحملون كل الناس ، ولا يحملون كلهم على أحد، ويعينون على أسباب البر، ويغيثون الملهوف، ويُرشدون الضال الجاهل، وينبِّهون الغافل، ولا يتخذون حجابًا ولا حُجَّابًا، وكل مَن طلبهم وجدهم، وكل مَن أرادهم وصل.»

علا صوت الشيخ أحمد أبو دومة في ترحيب: أهلًا بأبي الشهيد!

تبيَّن ضيقه في إغماض عينَيه، وتجعد جبهته، فسكت عن السيرة.

قال إبراهيم سيف النصر وهو يقذف بالجريدة جانبًا: وزارة التطهير!

وعلا صوته في أسًى: تطهير مصر من الفدائيين.

قال أدهم أبو حمد: العمل الفدائي الآن أكبر من الحكومة، ومن الإنجليز أيضًا.

تفِدُ إلى ذهنه كالأطياف مشاهد متداخلة، غير مكتملة: القفز من السيارة في انحناءة الطريق إلى معسكرات رأس التين. المبنى الصغير أعلى كوم الدكة. شخطة أبيه في الصرخة المنفعلة من فم أمه. امتزاج الفرحة بالقلق لصراخ الوليد في الغرفة المغلقة. أنت بطل، لا بد أن تنال جزاء الأبطال. البرد القاتل تلطمه به نوة العوة وهو يصعد الطريق إلى رشدي باشا. خوف الليلة الأولى في الزنزانة الرطبة. ادعُ للاستقلال، أنقذك من حبل المشنقة. الوجه الأبيض ذو العينَين الباسمتَين في نافذة الشقة المقابلة. رائحة ياسمين من حديقة قريبة تملأ نفس الليل. عساكر الإنجليز يقودونه إلى العربة أسفل البيت. المياه الراكدة والذباب والهاموش وروائح العطن. الرجل لا يعيبه سِنُّه ولا مكانته. البيوت — على البُعد — صغيرة، متناثرة، تتخلَّلها مئذنة مسجد، وقمينة لحرق الطوب، ونخيل، وأشجار. السير المتباطئ في زحام شارع الميدان، ومحطة الرمل … هواء الصباح المُشبَع برائحة البحر … ليلة المولد: البيارق والرايات والدراويش والمجاذيب والدعوات والابتهالات وحلقات الذكر ومجالس الإنشاد … تناهى بكاء طفل من نافذة مُغلَقة. الشوارع الخالية، المُوحِشة، يسودها الظلام، فيما عدا الكلوبات المتناثرة على أبواب الدكاكين وعربات اليد … جلسات النساء في مداخل البيوت … استاد الإسكندرية، ومبنى الإسعاف، والمشرحة، والكوبري المُفضِي إلى محرم بك.

قال فهمي الأشقر: ألم يكُن من المفروض أن يبدأ علي ماهر مفاوضاته مع الإنجليز؟

قال المهدي اللبان: هذا هو المفروض. لكن الرجل — لأسباب يعلمها الملك — حمل أوراقه ومضى.

قال الشيخ قرشي: الملك منذ إعلان انتسابه إلى آل البيت يعمل بالوحي.

قال المهدي اللبان: ربما تحول إلى وليٍّ يسقط التكليف، ويُطالبنا بالتجاوز عن جرائمه!

قال أدهم أبو حمد: ما يدهشني أن وزير الأوقاف الوفدي — بعد ثلاثة أشهر من إقالة حكومته — شارك في وضع تقرير مع نقيب الأشراف يثبت فيه بالكذب نسب فاروق إلى سلالة الرسول بالشهرة والتواتر!

قال الشيخ قرشي: أي شهرة، وأي تواتُر؟ نازلي حفيدة سليمان باشا الفرنساوي من نسل الرسول؟!

قال إبراهيم سيف النصر: الأغرب أن يُعلن هذا النسب بعد أن جرَّد الملك أمه من لقبها!

قال فهمي الأشقر: وما الفرق إذا كان المرء من الأشراف أو لم يكُن؟

أردف للنظرة المتسائلة: مجرد سؤال!

قال الشيخ قرشي: لا فرق! وإن كان انتسابه للأشراف يُعطيه قوة روحية!

قال أدهم أبو حمد: الوفد يأمل في العودة إلى الحكم.

وارتعشت شفتاه: ألم يرفعوا إلى الملك — بعد إقالة الحكومة — محضر جلسة مولد الأمير أحمد فؤاد على صفحتَين من ورق الغزال … والعنوان بماء الذهب!

قال الشيخ قرشي: الشيخ عبد الحفيظ سأل في خطبة الجمعة عن الفرق بين نجيب الهلالي وعلي ماهر؟

قال سيف النصر: هو الفارق بين توءمَين.

قال أبو حمد: بهذا المنطق، فإن التوائم في الحكومة بعدد رجال السياسة!

قال أبو دومة: يحسب لعلي ماهر تخفيض أسعار الكثير من المواد التموينية. السكر والغاز والأقمشة الشعبية وغيرها.

واتجه إلى إبراهيم سيف النصر بنظرة مجاملة: كلها زيادات قرَّرَتها حكومة الوفد.

قال أبو حمد: رفع الهلالي شعار التطهير. وهو أمر يطلبه الجميع.

فوت سيف النصر الملاحظة: ما شأن التطهير بفتح المعتقلات، وتعطيل الدستور، وتسريح مجلس النواب ذي الأغلبية الوفدية.

وعلا صوته: هل يتصوَّر أحد أن زعيمَين مُهمَّين في الوفد تُحدَّد إقامتهما؟

سأل فهمي الأشقر: مَن؟

قال سيف النصر: فؤاد سراج الدين وعبد الفتاح حسن.

قال حمدي رخا: وماذا عن وجود الإنجليز في القناة … هل عُدنا إلى البداية؟

رنا الشيخ قرشي إلى القادم بنظرة مودة: كيف حالك يا شيخ جابر؟

•••

حين ظهر جابر برغوت، بعد حادثة مدرسة البوصيري، كانت نظرات الناس قد تهيَّأَت لاحتضانه بمشاعر دافئة. أسكن الله القلوب حُبه. أدركوا أنه من أرباب الأحوال، واعتقدوا في ولايته. اعتبروه من أكابر الأولياء، وأرباب العلوم، والأسرار، والكرامات الهائلة.

أَلِف الناس رؤيته أمام مدرسة البوصيري.

يجلس على الرصيف المقابل، أو لصق الضريح. ربما جلس على مقعد في المكتبة الصغيرة المواجهة للمدرسة. يشغله أن يكون غاية في القرب من مقام سيدي الأنفوشي. هذا ما أوصاه به سيدي ياقوت العرش، ووصية الأولياء واجبة التنفيذ. ألِفُوا فترات صمته، سادرة عميقة. ينظر إلى ما يرونه، ويصيخ سمعه. ربما هَمْهَم بكلمات مُدغَمة، يخصُّ بها ناسًا مجهولين. ربما غادر مكانه، فيراه الناس في صحون الجوامع، وفي الشوارع، وعلى الكورنيش. يبذل همَّته في فعل الطاعات. يحرص على الفرائض والسُّنن، وصلاة الضحى، وطهارة النفس، والبدن، والثوب. يردِّد آيات القرآن، وأسماء الله الحسنى، والأدعية. يكرُّ حبات السبحة.

تواترت كراماته.

تلاقت روايات في أنه مُجاب الدعوة، كثير الإخبار بالمغيبات. وكان يوجد في أكثر من مكان في وقت واحد. ينزل الدرجات الخشبية بمسجد الشوربجي، يطوف بالمبخرة — وهو يبسمل ويحوقل — أمام المنبر والمحراب في سيدي عبد الرحمن. يمشي في زحام شارع الميدان، يتمدَّد على رصيف الكورنيش. ربما سعى إلى مسجد محمد كريم بالقرب من سراي رأس التين. يحلو له الجلوس تحت القبة الكبيرة، تحتها كمرات ضخمة من الخرسانة، تؤلف زخرفة نجمية. يدخل الضوء فيحيل التجويف كرة من النور.

قيل إن الرجل لم يعُد هو. انسلخ من حوله وقوته. لبسه سيدي الأنفوشي. ظهر له في المنام، وأنبأه بأنه سيركبه كما يركب الجواد. يتكلَّم باسمه، وينطق كلماته. وقيل: إن عباءته مُهدَاة من سيدي الأنفوشي. فرح بها الشيخ تبرُّكًا بآثار الولي الجليل. صارت له — من يومها — كرامات، وخوارق، وعادات، ومظاهر شطح، وكان إذا احتاج شيئًا دعا به، فاستجاب الله له. أكَّد ذلك قدرة الشيخ على معرفة المجهول، والتنبؤ بالغيب، ومعرفة ما سيظهر في المستقبل، والتطلُّع إلى مشاهدات لا يراها أحد.

عُرِف عنه النصح بأدوية للمرضى والممسوسين، والقدرة على إخراج الشيطان من نفوسهم، فهو مملوء بالمعارف الإلهية. كل شيء أشار باستعماله تحقَّق به الشفاء. ورآه صيَّادو الجرافة واقفًا على شاطئ الميناء الشرقي. لم يتأكدوا إنْ كان يُتابع صيدهم، أم أنه ينظر إلى ما لا يرونه. فاجأهم بالسلام، ثم مشى على الماء، حتى اختفى. وقيل: إنه يخبر الناس بما أكلوه وشربوه، وما فعلوه في بيوتهم، وما جرى بينهم وبين أزواجهم، ويحدِّثهم بما في ضمائرهم، وما ينوون فعله. ويمدُّ يده في الهواء، يستعيدها مملوءة بالمال الذي يُعطيه للفقراء، ثم يمضي. وكانت عصاه تُضيء له الطريق إنْ سار في الظلمة. فإذا لامس مريضًا بعصاه، فإن العصا تشفي من المرض حالًا. وكان يمرُّ على رأس المريض بيده، ويتلو آيات، ويقرأ أدعية، ثم يأخذه بيدَيه: قُم بإذن الله!

لجأ إليه الصيادون فيما يواجههم من شدائد البحر ومضايق البر. تسلَّل إليه نسوة حوامل في ظلمة الليل، يصعدن سلالم مدرسة البوصيري. يدفعن الباب الموارب. يضعن يد الشيخ على بطونهن، يسألنه عمَّا يحملنه إنْ كان ذكرًا أم أنثى، أم أنه — لا قدَّرَ الله — خنثى. وقيل: إن الساطور نزل على إصبع الأورمجي ياسين زغلول وهو يهوي به على الأورمة، فأطاره. لحق برغوت صراخه، وبصق على موضع القطع، ووصله باليد، فعادت إلى حالتها. وكان إذا أحسَّ العطش، نظر إلى سحابة عابرة. تهمي عليه قطرات، يفتح لها فمه، حتى يرتوي. ويميل بجسمه من فوق مكعب أسمنتي، أسفل الكورنيش. طعامه ما تخرج به راحته من الجندوفلي.

حصلت له من الله عناية. زالت الوحشة، وطابت الحياة، وحصل الجلال والهيبة. تضوَّعَت رائحة المسك الأذفر من تحت قدمَيه، وظهر النور من قلبه على وجهه. لم يعُد أحد يستطيع النظر إليه من النور والإجلال. مَن يلمح في عينَيه أمارات شك، يؤذيه في نفسه. يخبله، أو يقعده، أو يخسف به الأرض، فلا يعرف أحد له طريقًا. ورُوِي أنه إذا غضب على إنسان، سمَّرَه في مكانه. ورآه الناس يحمل سيفًا خشبيًّا يُحارب به مَن لا يراه أحد، يصرخ في وجهه وهو يوجِّه الضربات المتوالية: ما لكم لا تسمعون كلامي؟ إني لو كلمت أسفلت الطريق لتأثَّرَ من كلامي.

لمحَهُ أمين عزب من النافذة المُطِلَّة على سيدي علي تمراز. صعد السلم الدائري إلى المئذنة.

هل ترك الرجل مدرسة البوصيري؟ وأين ذهب الشيخ قرشي؟

تحلُّ عليه ألفة الوحدة — دون توقع — يملؤها الأسى. تظله سحب الوحشة. يُعاني الإحساس بالحنين والذبول والإحباط والعجز والغربة والوحشة والهزيمة والاضطهاد والقهر والجدب. تذوي دعاوى النفس، وتذهب أمارات كبريائها. يعيب على الخلق عدم المجاهدات، وغفلة القلوب، ولزوم الفساد. اختلفوا، وتنازعوا، وتفرَّقَت أحوالهم. سعوا إلى هلاك أنفسهم، فانهمكوا في المخالفة، وسلكوا في الخروج عن الطاعة مسلك مَن تقدَّمَهم. ذاقوا أذية النار في بيوتهم وأموالهم، نذيرًا بتذوُّقها في أنفسهم. عميت البصائر، وغامت الأفهام، فلم يتدبروا ما حدث. ظلَّ الأمناء على الدين في ضآلتهم، وكثر الحريصون على الدنيا، وقلَّ المتفقهون، أو أنهم تفقهوا لغير الدين. خلا السبيل للأشرار، وأصحاب البدع، والآفات الباطلة، وتاركي الفرائض، وفاعلي الحرام، والمجاهرين بالمعاصي. آلَت الأمور إليهم، والمراهنة في صالح بدعهم ونزواتهم، بعيدًا عن الإقدامات الإصلاحية. لم يخلصوا في مجاوزة الجهل إلى العلم، ولا الضلال إلى الهدى، ولا الشقاوة إلى السعادة. اضطرب البحر، وتلاطمت الأمواج، وأشرفت السفينة على الغرق.

حصلت له الرغبة في التصوف. لا يدري متى تيقَّظَت في داخله، ولا كيف امتلكت إرادته. تمنَّى أن يشهده الله المراقبة في خلواته، ويرى في مراقبته ما لا تراه الأعين. غذَّى القلب بتلاوة القرآن، وأدَّى الصلوات الخمس بوضوء واحد، ولم تكُن تأتي عليه لحظة إلَّا وهو يذكر الله. لم يعُد يسمع، أو يقرأ، شيئًا من العلم إلَّا حاول تثبيته في ذهنه، وحفظه. لازمَ ذكر عبارة «الولي جل جلاله» كل ليلة جمعة، ألف مرَّة. توسَّلَ أن يجد — بذكرها — تيسيرًا في أموره، ويصبح وليًّا من أولياء الله الصالحين. دفعه الشوق والانجذاب إلى ما لم يكُن يتصوَّر أنه سيُقبل على تعلُّمه. سقى قلبه بماء العرفان، فأورق، وأثمر، وإنْ غلبه التيقُّن بأنه ليس من أهل الولاية الخاصة، ولا أهل الكشف، أصحاب الحقائق، وأرباب التوحيد، الموسومين بأنوار القرب. هو من جملة السائرين إلى الله، لا من زمرة الواصلين. اختيار الله لعبده خير من اختيار العبد لنفسه، والأقطاب اختارهم العلي، ولم يختاروا أنفسهم. أعدَّهَم الله لأحوال مخصوصة، ووضع فيهم من إرادته، وخصَّهم بولايته، وأذاقهم حلاوة مناجاته. ليس في سماء أسرارهم غيوم، ولا في هوائها ضباب، فهم يتنزَّهون بالأسرار ومشاهد التسبيح في رياض الذكر. لم يعُد يطمع في مقام، ولا كرامات، ولا مكاشفات تبين عن نفسها بعد وفاته.

ثمَّة ما عجز عن فهمه، ووصفه، كأنما قُيِّدَت نفسه بالتهيُّؤ لتلقي الإشارة، فهي قد امتلأت بأنوار المحبة، وسلطان الاشتياق، وصنوف المواجيد. يشعر بالسر، وإنْ لم يلامسه، ولا سمع صوته. دعا الله أن يزيل عنه النسيان، والغفلة، وقساوة القلب، ويُعينه على أمور الدنيا. هو الذي يملك السمع والأبصار والقلوب والرزق والضر والنفع والحياة والموت والبعث والشفاعة والرحمة. أدركَ أنه يحمل ما لا يحمله سواه من البشر. الصفاء من حوله تحوطه سَكينة هادئة، وإن تناهت أصداء الألحان التي لم يسمع مثل جمالها، ولا فيضها، ولا إشراقها.

فاجأ الناس في شارع الميدان بعصًا ينهال بها كيفما اتفق.

علَت الصرخات، وتدافعت أقدام الزحام تفسح أمامه الطريق. لم يبدُ أنه تنبَّه إلى الصخب الذي أحدَثَه. صعد درجات جامع الشوربجي. أطلَّ على الأعين المتسائلة، الخائفة. قال: فكيف تواجهون عذاب يوم عظيم؟!

والْتَمعَت عيناه ببريق غاضب: لو أني أملك نزع جلودكم لفعلتُ. الْتَصقَت فيها الأحقاد والضغائن فلا تزول.

وتحسَّس بغلة على جانب الطريق، دسَّت بوزها في مخلاة العليق. قال: متى تحمل البغلة لتنتهي الدنيا؟

•••

قال حمدي رخا: سمعتُ خبرًا عن حملات اعتقال للفدائيين.

أردف للذهول في الأعين المحدِّقة: سمعتُ الخبر في محطة الشرق الأدنى!

قال أدهم أبو حمد: هذه محطة إنجليزية.

قال إبراهيم سيف النصر: استمعتُ إليها. هل تتوقَّع أن تقدِّم الإذاعة المصرية أغنية تقول: فتكلم فتألم فتعلم كيف تكره؟

تبدَّل سيف النصر في اللحظة التالية. تكلم، وناقش، وأطلق الدعابات، وضحك من أعماقه كمَن لا يشغله شيء.

قال الشيخ قرشي: لمَن نستمع إذَن؟

قال سيف النصر: رحم الله أيام عبد الله الكاشف. لم يكُن الراديو يُفارق أذنه.

انتظمت رسائل عبد الله الكاشف. مكتوبة بخط مشكول، جميل. بدا مطمئنًا إلى حياته الجديدة في بركة غطاس، وإن اختصر في عباراته. تباعدت رسائل الكاشف بقدر تكاسُله في الرد عليها. ثم انقطعت الرسائل تمامًا. يتذكَّره في جلسات القهوة، وإذا مشى أمام البيت المواجه لجامع سيدي البوصيري. ربما تذكَّرَه بلا سبب.

قال المهدي اللبان: الليلة الخميس الأول من الشهر.

رفع أدهم أبو حمد عينَيه الساجيتَين: ماذا تقصد؟

قال المهدي اللبان: أم كلثوم … هذه ليلتها.

قال أدهم أبو حمد: أنا لا أقوى على السهر … وإن كنت أحبُّ صوتها.

قال إبراهيم سيف النصر: أصارحكم بأنه إذا أصابني صداع عالجتُه بسماع أم كلثوم.

قال فهمي الأشقر: فلنأمل إذَن وجود صوت الست في الأجزاخانات.

قال سيف النصر: أم كلثوم بالنسبة لي مراحل حياة … كل أغنية تذكِّرني بأيام، بعضها جميل، وبعضها لا أعاده الله!

قال فهمي الأشقر: تعجبني شادية … صوتها طفل.

قال أبو دومة: ولكنه لا يطرب.

قال سيف النصر: دع الطرب لأم كلثوم.

قال فهمي الأشقر: في الفترة الأخيرة ظهرت أصوات أخرى لا بأس بها؛ شهرزاد، وهدى سلطان، وفايدة كامل …

قاطعه أدهم أبو حمد: ألا تعجبك سوى أصوات النساء؟

قال فهمي الأشقر: بالعكس. صوت عبد الوهاب يحتفظ حتى الآن بعذوبته.

علَت الصيحة بالنشوة، فاضطربوا.

ذاق لذة الإخلاص.

داعبت وجهه نسائم كأنها مسُّ الحرير، ورائحتها كالمسك. ملأه الشعور بأنه يملأ الكون. لحظات السكينة والصفاء والمناجاة، المُسربلة بالأسرار والخفايا والبواطن والرموز والإشارات. استيلاء الذكر، واطمئنان القلب، وسلطان الشهود، والإلهامات، والتجليات، وفيوض البحر الإلهي.

هل تنهتك أستار الريب، ويسطع فجر العرفان، وتطلع شموس التحقيق، فتنقشع سُحب الغيبة، وينجلي ضباب الأوهام، وتصفو سماء الحقائق مجلوَّة، مُشرِقة؟

مضى — دون أن يتلفت — ناحية إسماعيل صبري.

غاب في زحام شارع الميدان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤