وقائع ظهور قناديل البحر

١

سكن الموج، والرمل، والنخيل المتناثر على الشاطئ. صيحات النورس تعمق من الصمت السادر. مد الموج متكاسل، حصيرة. يقترب من الشاطئ أشبارًا — في رتابة — ثم ينحسر. الجو حار، وموسم صيد المياس في ذروته.

كان يتمشى على الشاطئ. قدماه تغوصان في الرمال، تنثران الماء حولهما. وعلى امتداد الشاطئ تناثرت أعشاب البحر، والطحالب، والحصى اللامع المسنون. وثمة — في السماء — ندف متفرقة من السحاب الأبيض تتجه إلى الأفق، وأسراب النورس تغادر مكامنها بين حنايا الصخور المتلاصقة على الشاطئ، تطلق أصواتها العالية، تبين لصيادي السنارة والجرافة والطراحة عن وجود الأسماك، تنقنق، تلعلط الأسماك في المناقير. تعلو بها النوارس، ثم تلقيها. تنزل ثانية فتأكلها.

لمح جسمًا يسبح في الماء، منتفخًا، ورخوًا، وشفافًا، كأنه لمبة مضاءة. شاطه بقدمه، فأحسَّ في القدم ألمًا حادًّا. ظهرت — بعد لحظات — فقاعات موضع اللسعة، كأنها انسكاب زيت مغلي. قاوم هرشها، ثم جرت أصابعه، يحكها، فنزف الدم.

٢

قال عادل عبد الوهاب مرزوق لطبيب العيادة الخارجية بمستشفى رأس التين: لامس ساقي فكأنها لسعة كرباج!

أضاف، وهو يحاول كتم ألمه: شاهدته وهو يلسعني. أطرافه طويلة مؤذية.

قال الطبيب بثقة: قنديل البحر.

ثم وهو يقلب في الصيدلية الصغيرة، المثبتة على الجدار: إنه يأتي وينتشر مع ارتفاع درجة الحرارة.

ومسح بالمرهم على موضع اللسعة: القنديل لا يهاجم الإنسان إلا إذا لمسه.

قال عادل في صوت مرتعش: لم أكُن أعرفه.

٣

قال الحاج أحمد الزردوني لعبد الوهاب مرزوق، وهو يهز رأسه: لا دواء لابنك عند الطبيب. خذه إلى البحر، وضع على موضع اللسعة قطرات من الخل.

ظلَّ عادل يحس بالألم أربعة أيام، دون أن يبدو على جسمه شيء. ثم ظهرت بقع زرقاء، مصحوبة باحمرار في خطوط منتشرة، حول القدم والركبة.

٤

صحت حارة الشاروني — ذات صباح — على صراخ في شقة أم الطاهر. وضعت راحتها على فخذها، وأطلقت صرخات متشنِّجة، وهي تنظر إلى قنديل البحر الذي لم يكُن فارق السرير.

علَت — في الساعات، فالأيام، التالية — صرخات الألم من شوارع الأنفوشي وحواريه. يتوقَّع الناس أن تكون لقرصة قنديل. نسوا الأسباب الأخرى، كالصوات عند الوفاة، أو خلف الجنازات، أو الخناقات بين الجيران. القنديل توقعات اليوم من بدايته: أحاديث القهاوي، وخطب الجمعة، والدروس بين صلاتي المغرب والعشاء، وتحذيرات الاقتراب من الشاطئ، وحرص الصيادين على الذهاب إلى المناطق البعيدة.

تناثرت على سطح المياه، في امتداد الأنفوشي، آلاف الأجسام الجميلة، المنتفخة، تبرق كاللمبات، أرجوانية مشوبة بالأزرق. مَن يصطدم بها تفرز على رجله سائلًا حارقًا.

قيل إن خطر القنديل لا ينتهي عند لسع مَن يلمسونه. الأسماك تهرب حين تشعر بالمادة الكاوية التي يُفرزها. إذا استمر قدومه وانتشاره، فإن الأسماك ستغيب عن الشواطئ، ويدوخ الصيادون.

٥

أمر الحاج عباس الخوالقة رجاله. نصبوا حاجزًا من الشباك داخل المياه، على امتداد الشاطئ. ثبَّتوها بأثقال، هلب وعوامات، لكن الشباك لم تفلح في صيد القناديل. كان المطلوب شباك ذات أطراف طويلة، تحيط بالقناديل، فلا تتيح الاقتراب من جسم الصياد أو ملامسته. ربما كانت سامة، فيموت المرء في دقائق.

توقفت الأيدي عن العمل، حين علا صوت الجد السخاوي الغاضب: هل تملكون تكاليف إقامة الحاجز من القلعة إلى سراي رأس التين.

اقترح عبد الوهاب رزق أن يرش الشاطئ بالمبيدات ضد القناديل.

صاح الجد السخاوي: ستقضي عليها. وعلى الأسماك أيضًا!

ثم تسلَّلَت القناديل تحت الشباك، ومن بينها، ولسعت ناسًا آخرين.

٦

تعددت محاولات العلاج من لسعات القناديل: الماء، والخل، والرمال. وكتب طبيب المستوصف بشارع الجمرك القديم، دواء تركيب، صرفه أهالي المصابين من صيدلية الإسعاف بالمنشية. لما زادت الإصابات، أعدَّ الحاج محمد صبرة تركيبة خاصة، أكَّد جدواها: خليط من الكحول والخل والبول البشري. ونصح الطبيب الأرمني في عمارة أمين عزب، بغسل أماكن الألم بالخل، فيزول حالًا.

انشغل الناس برفع القناديل من الشواطئ، تختفي وتعود، وتختفي وتعود، وتعود. ولأنها تأتي من خارج المياه، طلب الحاج قنديل تحديد أماكن التجمعات التي تفد منها.

نفى الصيادون أن يكون قدوم القناديل مع الشباك، فيلقون بها على الشاطئ. نحن أبناء الشاطئ، فهل نؤذي أنفسنا؟!

طافت السيارات في الميادين والشوارع، تدعو الناس إلى عدم النزول في البحر، أو الصيد فيه. وضع العساكر طابورًا طويلًا أمام رصيف الكورنيش، يرفضون الإذن حتى لمَن يطلب البحث عن قريب في مساكن السواحل، أو ورش المراكب، بالنفاذ من الحائط الذي أحكموه بأجسامهم.

٧

قال أمين عزب: زادت قناديل البحر لأنكم تصرون على صيد الترسة.

قال عباس الخوالقة: وما شأن الترسة بالقناديل؟

قال أمين عزب: الترسة هي العدو الأول للقناديل، لكننا نصطادها.

قال الخوالقة في عجب: تنصحنا بعدم صيد الترسة؟!

قال أمين عزب: أو تتحملوا أذى قناديل البحر!

قال الخوالقة: هل رأيت زحام النسوة، وبأيديهن الأكواب لشرب دم الترسة؟

قال أمين عزب: تخريف! زوال العقم بإرادة الله، ثم بعلاج الأطباء. وليس بشرب دم الترسة.

قال الخوالقة: من يشرب دم الترسة يصبح في قوة الحصان.

قال الشيخ عوض مفتاح: حُرِّمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير.

همس الخوالقة بالدهشة: تفتي ببطلان شرب دم الترسة؟

قال خميس شعبان: دم الترسة يشفي من أمراض كثيرة.

أسرع كر الشيخ عوض مفتاح بحبات المسبحة: ألست مسلمًا؟

قال خميس شعبان: بالطبع يا مولانا.

قال الشيخ عوض: فعليك أن تؤمن بما أحله الإسلام، وما حرمه.

اتسعت عينا عم سلامة: فهل أصبح كل الذين شربوا دم الترسة من الكفرة.

قال الشيخ عوض: إذا لم تكُن تعلم، فلا تثريب عليك. وهل يعلم أحدكم أن لحم الحوت حرام؟!

ثم وهو يبعد ما بين يدَيه في تأكيد: لا يحل للمسلمين أن يأكلوا أو يبيعوا من السمك ما ليس له قشر!

قال محمد صبرة: على المعلمين أن يمنعوا ذبح الترسة في الحلقة.

قال عباس الخوالقة: وماذا عن خارج الحلقة؟

قال محمد صبرة: أعرف أن الحلقة هي المكان الوحيد لذبح الترسة.

استطرد عم سلامة: والصيف هو موسم التكاثر.

٨

وزع الشيخ عبد الحفيظ على المصلين في علي تمراز مصاحف، يتلون منها عقب صلاة العشاء. زادت أعدادهم، فضاق بهم صحن الجامع، يتلاغطون بالقراءات المرتلة، العالية، والهامسة، والمتباطئة، والمتلعثمة. لا يترك أحدهم المصحف إلا بعد أن يتم جزءًا من القرآن، ثلاثين يومًا متصلة، أتموا فيها الأجزاء كلها.

٩

عجزت كل المحاولات عن رفع القناديل من امتداد الشاطئ.

قال الجد السخاوي: لا تتركوا الشاطئ مهجورًا أو هادئًا. اشغلوه بالحركة. عندما يشعر القنديل بالحياة من حوله، فإنه يفرُّ إلى بعيد.

ارتفعت الطبول والدفوف، وجرت الحركة في امتداد الشاطئ. بدا مميزًا هتاف المتظاهرين في ميدان محمد علي باشا. اختلط بهتافات المتظاهرين في الميادين والشوارع الأخرى. وزاد المشجعون في استاد البلدية من هتافاتهم. حتى مُشيِّعو الجنازات إلى العامود والمنارة، علَت تكبيراتهم. تعالى الأذان في غير موعده من مآذن الجوامع والمساجد والزوايا، ودقَّت أجراس الكنيسة المرقسية، وأطلقت المراكب في الميناء الغربية صفافيرها، وارتفعت تهليلات حلقات الذكر، ودعوات رجال الطريق. وصخبت النداءات في زحام شارع الميدان. علَت الصيحات من النوافذ والشرفات، وفي الدكاكين والقهاوي، ومن فوق الأسطح، وترامى نباح كلاب ومواء قطط، وأجفلت طيور النورس، فأطلقت صيحاتها على امتداد الشاطئ، وتقافزت الأسماك فوق المياه.

١٠

لا أحد يدري من أين، ولا متى انطلقت الشائعة.

قاسم الغرياني هو أول مَن همس بها إلى حمودة هلول في قهوة الزردوني. علا صوت هلول بالخوف. عرف الجالسون ما حدث. ردوه إلى آخَرين، وهم يسرعون الخطا إلى البيوت. قيل: إن مئات الألوف من قناديل البحر طفت فوق المياه على امتداد الساحل بأبو قير، وإن التكاثر يتسع، فلا بد أن تجاوز القناديل البحر والشاطئ.

١١

صعد جابر برغوت إلى مئذنة سيدي علي تمراز. دعا: «اللهم، وقد دعاك هذا النفر من عبادك، الساعون إلى ثوابك، المجتمعون ببابك، فزعًا من عقابك، وطمعًا في ثوابك، وقِبَلهم من الذنوب ما قد أحاط به علمك، وأحصاه حفَظَتُك، فعُد عليهم في موقفهم هذا برحمة تُوجِب لهم جنتك، ونجيرهم بها من عذابك. آمين، يا أرحم الراحمين!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤