انتقال إلى الأسمى

رفع المخطاف من الماء.

كان الموج الهادئ يتدافع في موجات قصيرة، بطيئة، نحو الشاطئ، تتداخل بالمياه، وتنحسر. يبهت التألُّق، وتخلف مساحات غير مستوية من الرمل المزبد. وكان الموج يرتطم بجانب الفلوكة فيتناثر الرذاذ. يعلو، ويتسع مداه. تتشكل غلالة شفيفة. وترامت أصوات قريبة لنوارس.

الصخرة، الجزيرة، الحلم، ملأت عليه صحوه ومنامه. ما قاله الجد السخاوي عفو الخاطر، وأثاره الرجال في جلسات الزردوني، تعاظم في داخله. ناقشه بينه وبين نفسه. تشكلت صور وتكوينات وألوان وظلال. بدت هدفًا يستحق بلوغه المجازفة.

انتقل الحديث على أفواه الرجال — إلى حمام الأنفوشي — نفاه عم محجوب. علا الصخب بالتعليقات. هدأ الصخب في أذنَيه بعد أن غادر الحمام، وإن ظلَّ داخله. ينداح ويتشكَّل ويهب ملامح.

قال الجد السخاوي: الجزيرة تحيط بها طلاسم تحمي كنوزها. يكفي الإنسان ما ينوي فعله لتفعل هذه الطلاسم أفعالها.

قال بيومي جلال: ألا أردِّد قراءات أو أدعية؟

قال الجد السخاوي: لا شيء. إلَّا أن تسقط من بالك كل ما تسعى إليه.

ووشى صوته بطيبة: الناس يذهبون إلى الجزيرة، ويجلسون فوقها، فلا يواجهون الخطر.

ثم وهو يزيح بقايا زعانف علقت بظهر يده: إذا أفلحت في إسقاط التدبير من رأسك، فلن ينالك أذى.

تمنى الزواج — وهو طفل — من جنِّية بحر.

علا صوت أمه: لا تذهب بعيدًا. فقد تخطفك جنية البحر.

سأل: هل تقتلني؟

قالت للفزع في عينَيه: لا. لكنها قد تغوص بك لتحيا في مدينتها تحت البحر.

فكر لحظات: أتمنى أن تخطفني جنية البحر.

دفعت الأم أمامها بأصابعها الخمسة: الشر برَّة وبعيد. أمك تريدك.

الكوة الصغيرة، المغلقة، خلف الصخرة، تضع فيها عرائس البحر من كنوزها. ما يدخرنه للبشر إذا أردن إغوائهم للغوص في البحر. تهمل العرائس حراسة الكوة. ساعة محددة، صعب على الغرياني تحديدها. يرقصن فوق المياه، وفي الْتِماعات أشعة الشمس، يعلو معها نثار الأسماك ويهبط. لكن سطوة المعلمين، وسلف الشتاء، والتسديد في الصيف، وكثرة المناطق الممنوعة. ذلك كله — وغيره — يستحق المجازفة. يجدف بالفلوكة، يطمئن إلى خلو المكان. غياب الأصوات والطرطشات وتحرك الموج. يرصد الكوة قبل أن يقترب منها. يقترب منها في لحظات، ويعود في اللحظات التالية، يحصل من داخل الصخرة — دون أن يتعرض لأذى العرائس أو الجنيات — على كنوز وأموال ونفائس وجواهر. يحيا بها إلى آخِر العمر.

همس للجد السخاوي بما يشغله، فقال في تأكيد: البحر مِلك لعرائسه.

وشردت نظراته: في قاع البحر أسرار يصعب على البشر رؤيتها أو فهمها؛ فهي تتصل بالقدرة العلوية.

قال محيي قبطان: حتى إذا استطعت الحصول على ما تريد، فلن تستطيع بلوغ الشاطئ.

وهمس بالتأثر: البحر يعطي ويأخذ. يُعطي الرزق ويأخذ — إن أخذ — الحياة نفسها.

وعلا صوته في تحذير: حتى إذا عدت إلى بيتك بما يعينك على الحياة، فلن تستطيع الاقتراب من البحر ثانية.

وواجهه: هل تقوى على الابتعاد عن البحر؟!

هذه الأخشاب الصغيرة، المتناثرة، كثيرًا ما تطفو على الشاطئ. بقايا مراكب، أهمل ركابها النصيحة، واقتربوا من الجزيرة بنية الصعود إليها. فاجأتهم الأمواج العالية، فابتلعتهم، وحطمت ما كانوا يركبونه من فلوكات ودناجل. وثمَّة مَن تضطرب الأمواج حوله، وتثور. تصبح جبالًا صغيرة، تتقدح منها النيران. تحرق القارب بمَن فيه، حتى تأتي عليه تمامًا. قد تقترب من القارب أسراب كأنها النورس، ما تلبث أن تثقب القارب كأسماك المنشار، حتى يتفكَّك ويغرق، أو تظلم السماء لهبوط طائر هائل الحجم، ينقض على القارب بمخالبه، ويرتفع به، ثم يبصقه، فتتلقَّفه المياه الشديدة الحرارة، كأنها إناء كبير يغلي. ربما اجتذبته الصخرة الزلقة إلى هوَّة يسقط فيها، لا يجد ما يأكله أو يشربه، حتى يموت. وربما هب إعصار، يرفع الأمواج، وتثور الرياح والعواصف، وتهب النوات على البحر والشاطئ. تؤدي جنِّيات البحر رقصات، ترافقها أصوات تغنِّي بما لا يقوى على احتمال صخبه. تنهشه — إذا حاول الفرار — من مؤخرته، يهوي به الألم في قاع البحر، أو يعوم وهو ينزف، فلا يصل إلى الشاطئ. في الليل، تخرج مخلوقات سوداء، تصعد إلى المركب، وتصحب — قبل أن يأتي الصباح — كل من فيه، إلى حيث لا يعرف أحد. وربما لحقه الموت قبل أن يصعد إلى باب الجزيرة. الأعشاب الخضراء تتشكَّل في ثعابين وحيَّات تتقافز عليه، وتدخل عينَيه وأنفه وفمه وأذنَيه، لا تتركه حتى يغيب عن نفسه، وعن الحياة كلها. الحيات الهائلة الحجم، تظلُّ في مواضعها، تطيل النظر إلى الإنسان الذي تواجهه حتى يفقد الوعي، ويسقط في مياه البحر، فتصعد إليه أسماك متوحشة، تنهشه، وتلتهمه. الأعشاش الساكنة في الواجهة، تنطلق منها غربان سود، تخترق حدقة العين، وتبتلع ما بها. وتنطلق من الثقوب طيور تضرب الإنسان بأجنحتها. كل ضربة تخلف نارًا في الموضع الذي تلامسه. لا تهدأ حتى تنتشر النار في الجسم، وتأتي عليه. الأسنان الحادة المتناثرة في الصخرة، تمزق لحمه، تقطعه. يفقد توازنه، فيسقط في الأمواج الدائمة الفوران حول الصخرة. يعجز عن الصعود على الطحالب الزلقة.

قال الجد السخاوي: لا خوف على مَن يكتفي بالكوَّة ويظلُّ بعيدًا عن الباب.

همس بيومي جلال: الباب؟

قال الجد السخاوي: للصخرة باب. وراؤها أضعاف ما في الكوة من كنوز.

قال خميس شعبان: اتجه إلى الجزيرة دون أن تضع في بالك أنك تتجه إليها. العرائس يعلمن بما يشغل النفس. يأمرن الأمواج فتثور، ربما اجتذبتك دوامة لا تفلح في التخلُّص منها.

همس بيومي بالتهيب: سمعنا عن غياب مَن تزوجوا عرائس البحر.

وداخل صوته توتر: هل سمعت عن أحد مات عند الصخرة؟

قال حمودة هلول: لأن الجميع يعرفون خطورة الاقتراب منها.

قال خميس شعبان: هناك روايات عن رجال فكُّوا الطلسم، وأفلحوا في النفاذ إلى باب الجزيرة.

وشوَّح بيده: ولكن هؤلاء الرجال ليسوا في زمننا.

همس بالتوتر: لا أحد من العائلات التي نعرفها؟

قال خميس شعبان: هم من بحري. ثلاثة أو أربعة. يذكر الجد السخاوي أنه عاصر واحدًا منهم. المعلم سباعي سويلم مات في شباب الجد السخاوي.

فكر لحظات، ثم قال: سأكون رجل هذا الزمن!

لا شأن له بكل ما تفضي إليه الصخرة من عوالم جميلة: الأسماك المضيئة، الأعشاب الخضراء تتشكل في سندس. البرتقال المسحور بذره من الياقوت، النوارس تحمل في مناقيرها حبات لؤلؤ.

ارتخت قبضتاه على المجدافين. أطال تأمُّل ما حوله.

تناثرت على الشاطئ مزق أوراق وملابس، وفردة شبشب، وقطع خشبية، وعلب سجائر فارغة، وبقايا لعب أطفال. الْتَمع زبد الماء تحت انسكابات أشعة الشمس، والصخور في القاع مغطَّاة بالأعشاب الخضراء، والأسماك الصغيرة تتقافز على السطح الرائق. وثمَّة نسائم هادئة تلامس جريد النخيل في الجانب المقابل من الطريق، فتصدر صوتًا كالوسوسة.

تناهى الأذان من أبو العباس بما لم يستمع إلى عذوبته. تجلت — في السماء — أشكال كأنها السحر. ترامت — فوق الأمواج — أصوات غناء غامضة. غابت الكلمات، وإن بدا اللحن سماويًّا. اصطبغت المياه بألوان قوس قزح. حلقت طيور بيضاء، ابتعدت عن الشاطئ، وعادت إليه. اختفت الظلال بتقاطُع الألوان، وتشابكها. تضوعت رائحة مازجت بين الياسمين والقرنفل والعنبر. انثالت على الذهن رقصات عرائس البحر، وملاطفات حور العين، وسحر جواري الحكايات القديمة.

اعتدل في جلسته. أمسكت قبضتاه بالمجدافَين، وبدأ يحركهما، يدفع بهما الماء، يحاول الوصول إلى الْتِقاء زرقة السماء بزرقة البحر.

حين الْتَفتَ — بعفوية — إلى الوراء، بدا الجانب المقابل للشاطئ صفًّا طويلًا من البيوت المتلاصقة. شحبت، وذوت. تحوَّلَت إلى خط رمادي، متماوج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤