الوقوف على باب الولاية

قال أبو الحسن الشاذلي:

«كنت أنا وصاحب لي نعبد الله في مغارة، ونقول: في هذا الشهر يفتح الله علينا. في هذه الجمعة يفتح الله علينا. فوقف على باب المغارة رجل عليه سمات الخير، فقال: السلام عليكم. فرددنا عليه السلام، وقلنا له: كيف أنت؟ فنهض علينا، وقال: كيف يكون حال مَن يقول: في هذا الشهر يفتح الله … في هذه الجمعة يفتح الله … لا فتح ولا فلاح … هلا عبدنا الله كما أمرنا؟ ثم غاب عنا، ففهمنا من أين أخذنا، فرجعنا على أنفسنا باللوم، ففتح الله علينا.»

قال ابن عطاء الله:

«لا يكُن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبًا ليأسك، فهو يأمن لك الإجابة فيما يختاره لك لا فيما تختاره لنفسك، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد. لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك، فكيف يرفع غيره ما كان هو له واضعًا، من لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه، فكيف يستطيع أن يكون لها عن غيره رافعًا؟ ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك.»

بدا له الجامع في غير الصورة التي تركه عليها. كأنه قد مضت على مغادرته الجامع أعوام طويلة. الباب الخشبي الضخم ذو الضلفتين بدا أصغر مما اعتادته عيناه، والصحن أضيق مما تركه عليه.

منع قلبه من الأمور الدنيوية، وجميع ما سوى الله. قطع علائقه، وفارق ما ألِفَه من العادات، واكتفي بالله مطلقًا. ظلَّ على وحشته عن الخلق، ورغبته في الفرار منهم. أصمَّ أذنَيه عن سماع كلماتهم. سد أنفه عن شم رائحتهم. أغمضَ عينَيه عن رؤيتهم. داوم على ملازمة القرب، ومنع قدمَيه من السير في غير الطريق التي حدَّدها له سيدي ياقوت العرش.

ضاقت به السبل. ركبه شعور بالعزلة والوحدة وفقدان الحيلة، وأدركه اليأس والقنوط من أن يرى فرجًا. لم يعُد أمامه إلَّا أن يأمل في ظهور ولي الله الأنفوشي. يبلغه بما كان، وما يجب عليه اتخاذه، تعلو هواتف الحقيقة، ترفع الهمة عن الأكوان، وترقى به مقامات الفناء في الأفعال، والفناء في الصفات، والفناء في النفس. يستشرف الفتح الذي هو جزاء السائرين، ويهيئ له أولياء الله التنعُّم في جنات المعرفة.

لو أنه تعلم اللغة الخفية، وأدرك السر، وتكشف له ما يصعب فهمه؟

الإشارات والأسرار والرموز، لن يفهمها إلَّا بالتلقي عن أولياء الله. أودعت الإرادة الإلهية فيهم أنفس الأسرار، وهم معصومون من الخطأ. قلوب الأولياء مرايا، يرون فيها ما غاب عن سواهم. تشرق الأنوار الإلهية على قلوب الأولياء، تنعكس في أورادهم وأحزابهم وأقوالهم. لهم الولاية الكبرى، والمكاشفة العظمى. يُدركون العلوم والمعارف من الظن واليقين والشك وملامسة الحقيقة.

أجهده البحث عن سيدي الأنفوشي، في داخل قلعة قايتباي، وفي مدرسة البوصيري، وجامع سيدي علي تمراز. استبطأ وجود الإقبال. لم يبلغه سيدي الأنفوشي بما نذر المتبقي من حياته لأجله. لم يلتقط الإشارة ولا الوميض. أهمل وجوب اقتصار تلقِّي الأوامر على القطب ياقوت العرش. كلماته هي الجسر بين ما تطلبه الإرادة السماوية وبين الناس. اتجه بدعواته، وأمله، إلى الأوتاد الصالحين، ثلاثون وتدًا، لا يراهم، ولا يراهم أحد، وإن كان بيدهم أمور المسلمين، لكن الأيام ظلَّت على وتيرتها الواحدة، وإن لم يتخلَّ عنه إصراره في أن يلتقي بسيدي الأنفوشي، يفصح له عن مقام نوره، في مكان لا يعرفه. يثق أن اللقاء حتم. يُنصت لتوجيهات ولي الله، يهبه القدرة على المواصلة، تتكسَّر له قوانين الوجود.

هذا زمان أشهب لا يراه إلَّا البصير. القول الفصل في عزم أولياء الله الصالحين وإرادتهم. أولياء الله هم أئمة العارفين، وخلاصة الصالحين، وقدوة الواصلين، والمقربون من الحضرة الإلهية. فرُّوا بقلوبهم وعزائمهم من دنيا الخلق الزائلة. طلبوا الفناء عن أنفسهم، والفطام عن شهوات الحياة، والزهد في ملذاتها، والابتعاد عن مظاهرها، والصيام عن حرماتها، والإخلاص في مشاهدة الحق، حتى اتسعت لهم ميادين الأسرار، وأشرقت أنوار الحضرة. لم يرَهم إبليس في الدنيا، ولا حاسبهم منكر ونكير، ولا فتح لهم رضوان أبواب الجنة. هم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

غاب الزمان والمكان والمرئيات والتوقُّعات. لم يعُد إلَّا الحق الموجود الثابت. الأقطاب باب الله الأعظم، واليد التي تأخذ بأيدي الداخلين إلى الحضرة. سفن النجاة، والأنوار الهادية. يفرح بهم أهل السماء، وأهل الأرض، والطير، والأسماك في البحر. حصلوا على مفاتيح العلوم يهتدون بها إلى الطريق السالكة. يفيدون من خزائن العلم، وخفايا الحكمة، فيستنقذون الناس من الضلالات، ويقضون بما يرون أنه الصواب. الظفر مقرون ببنودهم، والنصر معقود بألويتهم.

راعه أن الناس لا يزالوا واقفين مع ظواهر الأشياء. اغتروا بعاجل الدنيا، ولم يعنوا بما تخفيه الآفاق. ولا عرفوا قدر أنوار الملكوت، أو شعروا بها. طوَوْا بساط العبادة، لا يقربوه، واستطابوا الدعة، فخصَّهم الله بخذلانه، وصرف قلوبهم عن ابتغاء رضوانه. أسندوا ظهورهم إلى أموالهم، فخذلتهم، واحترقت.

الدنيا هرج ومرج، والسبل مقطوعة، والمسالك مسدودة، والمهالك كثيرة، والفتن لا نهاية لها، تنتهي لتبدأ، تتواصل وتتشابك وتمتد. اختنقت أهازيج السحر. تعثَّرَت الكلمات على شفتَيه فلم ينطق بها. تصاعدت الأشكال الهلامية إلى فوق، إلى حيث لا يراها أحد، وتغيب. ارتفعت الريح السوداء، كنست أمامها مروج العنبر، وآكام القرنفل، وميادين الصندل، وتضوع المسك الأذفر والكافور، وتغريد الطير، وإشراق الحور العين، والأنوار المتدفِّقة من بحار الجبروت والإمداد الرباني والعظمة والرفعة والجلال والبهاء. خلت الصواري من الأشرعة، طيَّرَها الريح إلى مدى الأفق. بدت مئذنة علي تمراز مائلة، توشك على السقوط. صرخ، وجرى في اتجاه شارع فرنسا.

أسرف في التحذير من الفتنة، والتخويف من المحنة الوشيكة، والأهوال الشديدة، الأليمة، والأمور الصعبة، والكرب، والبوار، والكشف عما هو مستور. عمي الخلق عن شهود الحقيقة. ماتت قلوبهم كما تموت الأبدان. ركنوا إلى اختيار الدعة، وآثروا طلب الدنيا على الزهد فيها، وجاهروا بالمعاصي، وقارفوا الجحد، وأصروا على الغيَّ، وتطوحوا في متاهات التفرقة، وتعودوا الإعراض عن الإيمان، واحتالوا في موجبات التخلف. استولى الباطل على الحق، واستولى الحرام على أموال الناس، وضلوا عن دينهم، فلم يعودوا يأبهون بتواتر الفتن، وتقارب الأمور، وإحياء البدع، وإضاعة حقوق الله، وإماتة سنة الرسول، وإهمال المجردات المقدسة، والملائكة المكرمة، وإهدار الدماء والفروج والأموال. تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. استباحوا الحرام والفواحش والظلم، وحرَّموا على أنفسهم كل ما افترضه الله من الفرائض، وبدا عوار الدنيا واضحًا، فازدادت إدبارًا، وازداد الناس شحًّا، وانطوى بساط الشرع بالكلية.

كلما تصوَّر انقضاء الفتن، عادت كأشد ما تكون. لاحت نذر مخيفة. انطمس نور الحقائق، واشتد حجابها، وذهب المعروف، وفشا المنكر، وقبض العلم، وتقارب الزمان، وظهرت الفتن، وكثر الهرج، وعظم الكرب، وعم الرعب، واشتدت المشقات والأنكاد، وسقط الناس في وهدة ضيق التدبير، ومحنة الغفلة، والغيبة من شهود التقدير. طلعت الشمس من المغرب حالكة السواد، وبدَت الدنيا مثل الفضاء قبل ظهور الشمس، تملؤه الظلمة.

ثمة فارق بين أنوار النجوم الضعيفة، وأنوار القمر التي تخفف ظلمة الليل، وأنوار الشمس الساطعة. أنوار الأولياء دائمة لدوام ظهور نور رسول الله فيهم. أوقاتهم ليس لها طرفان، وبحورهم بلا ضفاف، فهم ورثة العلم الذي للرسول دون الخلق. أولياء الله ماتت أهويتهم، وخلصت أرواحهم، وتجردوا من الريب، وسلموا من العيوب، وتجاوزوا مراتب الحجج والبراهين، واستقامت بواطنهم وظواهرهم لله، ووصلوا إلى مرتبة الكشف الإلهي، واختصت أرواحهم بشهود عظمته تعالى، وبالحقائق والأحوال والمقامات، وتخمَّر في بواطنهم صريح العلم، وانكشفت لهم الآخرة، وتبينوا الحشر والصراط والميزان وتطاير الكتب وأحوال الجنة والنار.

الله وحده يعلم خواص عباده، ويسترهم عن الأجانب. لا يعرفهم إلا أهل الحقيقة. أولياء الله — لهم المقام الأكمل — أفضت مجاهداتهم الشرعية إلى المقامات المحمودة في دار الآخرة. اجتباهم الله، فأكمل لهم النعمة. يملكون رجاحة الذهن، وصحة النظر، وصدق الرؤية، وهو ما لا يثق أنه يملكه، أو يثق أنه لا يملكه. وهبهم الله شراب العشق والمحبة، وعرفهم علوم الباطن، وفَّقهم علوم الظاهر، ويسَّر لهم معارف وأسرار ومنازل وأحوال وأذكار وأوراد وأقوال وكرامات، فتحقق لهم المحو والفناء، حالة لا يعرفها إلَّا أرباب المجاهدات والرياضات والذوق والمشاهدة من صرعى العشق الإلهي، وهيأ لهم الكرامة، وميَّزَهم بالقدرة على استجلاء غوامض المعاني والأحوال، فبلغوا مقام المعرفة، وانتهوا إلى مقام الوصول. يشاهدون في اليقظة الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون كلمات عنهم، ويكتسبون منها الفوائد، تهيأت أسرارهم لحمل أعباء العرفة، ومسئولية التبليغ، وقدرة المتابعة، فهم يصدرون آراءهم عن تدبر. ويجاهدون في الله حق جهاده، ويحيون السنن التي أميتت، وينفخون الروح في الجذوة الخامدة، ويستدفعون الشر، ويستجلبون الخير. الحق أعينهم التي يبصرون بها، آذانهم التي يسمعون بها، ألسنتهم التي ينطقون بها، أيديهم التي يبطشون بها. يتقاصر نور الشمس في المقابل من أنوارهم. يطهرون البلاد من الأدناس، ويسترون — بعدلهم وبركتهم — قلوب المؤمنين. يفتح الله على أيديهم حصون الضلالة، والقلوب المغلقة، ويطهرون وجه الأرض من الطغاة، والبغاة، والساعين في الأرض بالفساد. تنعدم الغارات، ويحل الأمن والأمان، ويكثر الخير، وتعمر الأرض، وتعظم البلاد، وتشرق الصحبة، والأسرار الصافية.

متى يغيثه الأقطاب العظام، زينة الأرض. زينة الجنة. ورثة الأنبياء، القائمون بالقسط، المعتصمون بكتاب الله، المجتهدون في متابعة الرسول. يمدُّونه بزيادة زيت المدد. يظل مصباح القلب متقدًا إلى غير نهاية، لا تطفئه النوات، ولا العواصف. يهبونه الكلمات التي طال تشوُّقه لها، فتنقطع همته عن المتعلقات، ويفتحون عليه بابًا من المعاني؟

متى يأتون، أو يأتي الدجال، وينزل عيسى، فيقتل الدجال، ويخرج يأجوج ومأجوج، ودابة الأرض، ويذوب قلب المؤمن كما يذوب الملح في الماء، وتطلع الشمس من المغرب، ويقبض الله الأرض، ويطوي السموات كطي السجل للكتب؟

•••

لمح بقعة مضيئة، كأنها نجم، ظهرت في أفق الميناء الشرقية، ثم اختفت. أثارت خلفها ذيلًا من الألوان. هتف: هذا إنذار من السماء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤