الشمس في أفق المغيب

دخل قهوة البحر، وأغلق الباب وراءه.

قصد الكرسي المجاور للنصبة. وضع «الغلق» أمامه، وطلب كوبًا من الشاي.

تبادل الرجال نظرات الدهشة، وبدوا غير مصدقين.

كانوا يلتقون به في وداع البلانسات المسافرة، وفي الشاطئ، وفي شوارع بحري، وفي المساجد والزوايا وحلقات الذكر والدكاكين. لكنهم لم يعودوا يرونه في القهاوي، ولا يجلس مع الرجال، بعيدًا عن البلانس.

قال له محيي قبطان يومًا: أريد أن أرى نقودك!

أطلق الجد السخاوي ضحكة مبتورة: نقودي أولى بها كفني، وإلَّا دُفنت عريانًا!

أصبح فمه بلا أسنان. تبدو الكلمات مدغمة، ويأكل على لثته، أو يمضغ الطعام في جانب فمه، أشبه بالكلب عندما يضع بين أضراسه قطعة لحم. وكان يحرص أن يكون الطعام طريًّا.

رويت حكايات عن صداقته لأهل الباطن، فهم — منذ وفاة زوجته — يلبون ما يطلبه، فلا يحتاج من الناس شيئًا.

انسحبت نظرات الدهشة، وعادوا إلى المناقشات والنرد والكوتشينة.

بدا وحيدًا في جلسته، يرشف من كوب الشاي. ترك نفسه للشمس تمامًا. عرَّى صدره ذا الشعيرات البيضاء القليلة. وظلَّ رأسه بلا غطاء في مواجهة شمس الصيف الملتهبة.

ألِف العزلة في أيامه الأخيرة. لا يشغله إن أخذ الآخرون وأعطوا، أو لم ينصتوا إليه.

قال في نبرة هادئة: أنا ماشي.

هدأت الأصوات، واتجهت الأعين إليه. حتى عبد البصير، عامل النصبة، توقفت الماشة في يده قبل أن يضع الحجر في الجوزة.

قال موضِّحًا: أتأهب لسفر طويل.

وأسبل جفنَيه على عينَيه: سأنام في قبري بعد ستة أيام.

عبر الصمت الذي حلَّ فجأة: ربما استطعت أن أحمل منكم كلمات إلى الغائبين.

بدت لهجته أسيانة بما لم يعهده الرجال. كأنه يرى النهاية في مدى الأفق. ولتساقط أسنانه، كان ينطق السين ثاءً.

انطلقت من حمودة هلول ضحكة، حاول كتمها، فأخفق. قال: قل لأبي إني أحسده على الآخرة!

أنَّبَه قاسم الغرياني بنظرة مشفقة، ومال على الجد السخاوي: هل تشكو مرضًا؟

صدَّق الجد السخاوي طلوعه للوحش داخل البحر، وقتله. أصرَّ أن يظل السكوندو في رحلات البلانس، واختاره — بدلًا منه — في قيادة البلانس، حين خذلته عافيته.

هز الرجل رأسه بثقة: صحتي جيدة والحمد لله.

قال الغرياني: فلماذا تخشى الموت؟

هز رأسه: أنا لا أخشاه. وإنما أتوقعه.

وتهدَّج صوته: أعرف أني سأموت خلال أيام.

قال الغرياني: وكيف عرفت؟

أغمض عينَيه: أعرف!

وضع الغرياني وجهه بين يدَيه: المسألة أنك تريد العودة إلى البحر.

أضاف في مرح مُتكلَّف: أنت الريس وأنا السكوندو في الرحلة القادمة.

لاحظ أن الدوخة كانت تدهم رأسه، وقدمَيه لم تعودا تساعدانه على الوقوف، أو المشي. إذا مشى، يجرُّ خطاه. يعلو صوت احتكاك مداسه بالأرض. يبطئ من خطواته، لا يقعد أو ينهض إلا إذا امتدت إليه يد تُعينه، والرعشة تُضايق حركة يديه. حتى عيناه، غامت الرؤية أمامهما فلا يتأكد إلَّا إذا اقترب. وحين زادت آلام جسمه، قال له الطبيب في مستشفى رأس التين: أكلك الروماتيزم يا رجل. ولاحظ أنه يتردَّد في عبور الطريق من السيالة إلى سور الأنفوشي. يتأكد من غياب السيارات العابرة. كان يعبُر الطريق، دون أن يشغله التلفُّت.

همس محيي قبطان: ربما زاره عزرائيل فطلب مهلة!

جاراه حمودة هلول في الهمس: وربما أخبرته الشمس التي يصاحبها.

تداخلت في صوته بحة غريبة: مَن يريد أن يبلغ موتاه شيئًا مهمًّا، بوسعه أن يقوله لي.

انفسح السبيل للضحكات. انطلقت بلا قيد، حتى قاسم الغرياني داري فمه براحته، وأهمل الجميع ما بأيديهم.

مع تقدُّم أعوام الجد السخاوي، فإنهم لم يتصوروا أنه يُصاب بالخرف. وكانوا يلجئون إليه في مشكلاتهم، وفي مواعيد الطلوع إلى البحر، والهروب من النوات. حتى في المرض، كانوا يفضلون نصائحه على الذهاب إلى الحاج محمد صبرة، أو إلى مستشفى رأس التين.

لاحظ الرجال تغيُّره، منذ موت زوجته.

عاد من البحر. فوجئ بنسوة يعرفهن ولا يعرفهن. غطين البيت بالسواد: الباب الخارجي، والسلم وحجرات الشقة التي فتحت عن آخرها، وزوجات أبنائه، يتنقلن داخل الشقة، ويبكين.

فتش — بالذهول — عن امرأة بالذات، عن وجهٍ بالذات. انتفض لصوات امرأة في وجهه. تبعها بقية النسوة بنحيب وبكاء وصراخ وصوات. جلس إلى أبنائه الثلاثة في زاوية الزواوي الملاصقة. عرف أن ذلك هو اليوم الثالث لوفاة زوجته. صرف الجميع — عقب صلاة العشاء — وأغلق الباب عليه، وعليها. يجدها في أنحاء الشقة، تمشي، وتقعد، وتنام، وتصحو، وتقف في المطبخ، وتؤدي الصلاة، وتنادي — من البلكونة — على ولد ليأتي لها بما تحتاجه. لازمته ذكريات أكثر من خمسين عامًا، حتى طرق أبناؤه الباب في ضحى اليوم التالي. شاركهم الفطور. حادثوه. بدا في وضع المنصت، لكنه كان قد أسلم نفسه لذكريات قريبة وبعيدة، لأخذ وعطاء، ودعابات، وضحك، وخصام، وأيام صفو ومرض وتوقع، وزيارات، وقعدات في صالة الشقة، وفي البلكونة، وداخل حديقة رأس التين، وعلى شاطئ البحر.

سأل: هل كانت بمفردها؟

قال أكبر الأبناء: حرصت في الأيام الثلاثة الأخيرة أن تترك باب الشقة مفتوحًا.

علا حاجباه: لماذا؟

– لم تقُل السبب.

قال بنبرة متشككة: كنتم معها؟

– جلست معنا يومًا كاملًا.

في لهجة مشفقة: هل تعبت؟

– همست بالشهادتَين عند أذان المغرب. ثم …

وخنقه البكاء، فسكت.

صحبوه — فجر الخميس الأول — إلى مقابر العامود، والسؤال يلح عليه: هل رحلت المرأة بالفعل، فلا تعود؟

كان — إذا خلا إلى نفسه — في البلانس، أو في القهوة، أو في الشقة، أخرج من جيبه صورة صغيرة متهرئة. يُطيل تأمُّلها، ويشرد، يدقِّق فيما يراه هو، ولا يراه أحد. استغرق في حياته معها. التفاصيل الصغيرة والمنمنمات. تكرر نسيانه، فأعاد ما روى مرات. ورأى زوجته، فيما يرى النائم. كانت جالسة مغطاة بالورود والرياحين. ترتدي ما لم يرَه في حياته. سألها عن أحوالها. قالت: إنها على خير، وإنْ طال انتظارها له. ورأى المرأة معه في مركب، صاريها ذهب، وقلعها حرير، وحبالها حرير، وفرشها سندس أخضر، وفيها كنب مبطَّن بريش النعام.

قيل إنه اشترى كفنًا، دسَّه تحت مرتبة السرير. أحزَنَه أنه يموت دون أن يسافر إلى الحج، ويزور قبر الرسول. في إحدى المرات القليلة، المتباعدة، التي كان يزوره فيها أكبر أبنائه، أوصاه بأن يؤدي فريضة الحج بدلًا منه.

روى قاسم الغرياني عن حمادة بك. إذا شاهد جنازة في الطريق، لاذ ببيته. يدسُّ جسمه في الفراش، ويغطِّي حتى رأسه، خشية الموت!

قال قاسم الغرياني وهو يربت — بودٍّ — كتف الجد السخاوي: هذه فرصة ليتحدث كلٌّ منا عن وصيته بعد الموت.

قال محيي قبطان: أوصى جميعي حميدة أن تُلقَى جثته في البحر بعد موته.

قال حمودة هلول: هل يريد الفرار من حساب الملكين؟!

قال الغرياني: بل هو يفرُّ مما توعدته به امرأته.

وعبر بيديه: أعلنت أنها سترقص فوق قبره.

قال خميس شعبان: زوجة هلول تزمع اختصار المسافة، فتبصق على كفنه!

وتنهَّد: عندما أحس مختار زعبلة بنهايته، نزل البحر، ومات فيه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤