انكشاف السر

اقتحمت غرفته أصوات متداخلة.

مشى — بين اليقظة والنوم — إلى النافذة المطلة على ميدان الخمس فوانيس. نفض رأسه. أغمض عينَيه، وفتحهما. تبيَّنَ أمام سيدي علي تمراز رجالًا لا يعرفهم، أحاطوا برجل عارٍ إلَّا من سرواله الخارجي. حتى الحذاء خلعه، ووقف حافيًا. أمسك شاب يرتدي بنطلونًا وفانلة صيفية، بما لم يتبيَّنه في وقفته خلف النافذة. ويدفع — بأصابع اليد الأخرى — صدر الرجل العاري، والغضب البادي في وجهه يبين عن قسوة الكلمات المتلاحقة.

هتف بالمفاجأة: مَن؟

بدا تردُّده على سيدي علي تمراز مفاجأة للكثيرين. لم يعرف عنه أنه يؤدي الصلاة. علا إيقاع المفاجأة في حرصه على صلاة الفجر. لم تصدق الأعين المتشككة ما رواه عن صدق توبته، واستعداده للسفر إلى الحجاز، والعودة كيوم ولدته أمه. لمحت انتقال «الصنف» من البلقطرية إلى فرن التمرازية، ثم إلى وقت صلاة الفجر داخل الجامع.

واصل التردُّد على الجامع. يؤدي الصلاة في أوقاتها. حتى صلاة الفجر يؤدِّيها حاضرًا. يستمع إلى الكثير من دروس الغرب. ربما أطال البقاء بعد الصلاة. يكتفي من الشيخ جابر برغوت بإجابات مدغمة، أو بالصمت. أفزعه قوله المفاجئ: هذا بيت الله. أهمل الالتفات ناحيته. يسحب مصحفًا من المكتبة الخشبية الصغيرة. لا يتركه إلا لمحادثة أصدقاء، يطيلون القعدة، أو ينصرفون حالًا. يغادر الجامع إلى الفرن. يغلق عم سلطان الخادم أبواب الجامع وراءه، ويمضي إلى بيته.

يتنقَّل بين المعجنة والفرن وبنك الماركات. يسأل، ويجيب، ويأمر ويشخط، وينطر. عهد إليه الحاج عنتبلي بالفرن، قبل عشر سنوات. لما آلَ الفرن إلى وحيده، أبقى عليه حمادة بك. اكتفى بالتردُّد على الفرن كل حين ومين. يتسلَّم الإيراد — في نهاية اليوم — من فؤاد أبو شنب.

عرف — بطلوع الضحى — أن البوليس ضبط أبو شنب يبيع المخدرات داخل الجامع. أشد ما يكون البيع عقب صلاة الفجر. يخلو الجامع من المصلين، وتخلو حركة الطريق. يسهل تبين الأعين الراصدة. المرشد نبه إلى أن الرجل يُبقي قطعة الحشيش في قبضته. يقتطع منها حتى تنفد. إذا دهمه الخطر، قذف بها. نفي التهمة أسهل مما لو أن البوليس وجد الحشيش في جيبه. لكنه كان يحمل في لفافة مغطَّاة بقطعة قماش خضراء، قطعة كبيرة من الحشيش، قُسِّمت إلى أجزاء، وأُعِدَّت للبيع.

قيل إن البوليس شم الخبر من عم سلطان. هو الذي وشى به. أدهشه أن الرجل يؤدي صلاة الفجر في وقتها، ولم يكُن يدخل الجامع من قبل، ولا عرف أنه يؤدي الصلاة. لاحظ الهمسات، والأيدي التي تتبادل ما لم يتبيَّنه.

همس بما تيقَّن منه للشيخ ربيع المنسي، إمام الجامع، فأبلغ البوليس.

قال المعلم أحمد الزردوني: الفرن إذَن واجهة لتجارة المخدرات.

زفر عباس الخوالقة في ضيق: أنفق حمادة بك أموال أبيه في الانتخابات والمسخرة!

سأل قاسم الغرياني: هل يقبضون على حمادة بك؟

علا صوت عبد الوهاب مرزوق: ألقوا القبض على أبو شنب بالمخدرات داخل الجامع.

أضاف بنبرة واثقة: لا شأن لحمادة بك بما حدث.

أشفق عليه انشغاله في التهيؤ للانتخابات. قال حمادة بك: إنه لا شأن له بالفرن والبيوت إلَّا في تسلُّم الإيراد. ترك لفؤاد أبو شنب حق التوقيع على عقود البيع والشراء. إذا واجه مشكلة، حلَّها بنفسه، لا شأن له هو بها.

•••

غادر أدهم أبو حمد قسم الجمرك بعد المغرب. المفاجأة تحاصره بالذهول، وعبارات ضابط مباحث قسم الجمرك تناوشه. ألقى السلام على فؤاد أبو شنب، والعساكر يقتادونه خارج الجامع. خمَّن ضابط المباحث أنه ربما يشارك أبو شنب تجارته. صحبه إلى القسم. أمضى النهار في سين وجيم، حتى اقتنع الضابط أن الجيرة وحدها، صلته بأبو شنب، فأفرج عنه.

لقيه جلساء قهوة المهدي بالتهليل.

قال إبراهيم سيف النصر: نزلت النصف في أقل من يوم!

اغتصب ابتسامة: هم وقلة مم!

وتقلَّصَت ملامح وجهه: منه لله أبو شنب الكلب. آذى نفسه، وآذاني.

رنا إليه إبراهيم سيف النصر بمشاركة: جارنا أمين عزب أمضى في السجن ثلاثة أشهر بوشاية كاذبة، فلم يشكُ، ولا ألقى حتى على الواشي مسئولية ما حدث.

ثم وهو يتحسَّس الكلمات: قضاء يوم في سين وجيم لا يعني نهاية العالم!

فارق بين دخوله السجن من قبل، ودخوله إليه هذه المرة. واجه الشتائم والإهانات والتعذيب. لكن الأسئلة عن تهمة حقيرة، آذته. صعبت عليه نفسه، وتمنى الموت.

كان المهدي اللبان أول مَن عرف ما حدث.

بعد أيام من حريق القاهرة، شاهد رجالًا يرتدون الثياب المدنية، يصحبون أمين عزب إلى سيارة سوداء أمام باب البيت. تعالت صرخة من الطابق الثالث، أسكتتها نظرته الزاجرة. مضت السيارة في شارع إسماعيل صبري، ثم مالت في طريق الكورنيش.

نادى المهدي على الولد طاهر وهو في طريقه إلى المدرسة: ماذا جرى؟

غلب الارتباك على الولد، وسكت، وترقرقت الدموع في عينَيه. شخط المهدي في الجرسون نجاتي لما قال إن أمين عزب يقرض زواره بالربا.

ظلَّ ما حدث مخفيًّا، حتى وقف التاكسي أمام باب البيت، ونزل منه أمين عزب. طرأ على جسمه هزال، وتداخل عنقه بين كتفَيه، وبدا وجهه هضيمًا، مصفرًّا، وأطلَّت من عينَيه نظرة ساهمة.

قال أمين عزب وهو يشرد في المدى: جاءوا ببلاغ أني آويتُ فدائيين في بيتي.

هتف المهدي: أنت؟!

وهو يغتصب ابتسامة: هذا ما أخبروني به عند استضافتهم لي. لم يتبينوا خطأ البلاغ إلا بعد ثلاثة أشهر!

لم يكُن مَن يجلس أمامه أمين عزب، الذي طرد الرجل الغريب من قهوة الزردوني. بدا ضعيفًا، ومتخاذلًا، ولا حول له. حتى فنجان القهوة دفعت به إليه يد من وراء الباب الموارب. قدمه بيد مرتعشة.

– أين كنت أيها الرجل؟ ماذا فعلوا بك؟

هرش المهدي ذقنه — في حيرة — بطرف إصبعه: نصيحتي أن تمتنع عن استقبال أحد في بيتك.

خنق الانفعال صوته: وما ذنب الناس لأمنع عنهم صداقتي؟

– أثق أن مقدم البلاغ من المترددين على بيتك. ربما لم تستطع قضاء مصلحة له.

قال أمين عزب في انفعاله: هذا ليس دافعًا لعزلتي عن الناس!

لزم البيت ما يقرب من الشهر، لا يغادره، ولا يستقبل الزوار. ثم عاش مألوف حياته. يعود من زاوية خطاب، عقب صلاة العشاء. يقرأ، ويستقبل زواره، ويُنصت إلى المشكلات، ويُسدي النصائح. يُعيد المرأة الناشز إلى زوجها، والرجل الآبِق إلى زوجته، ويساعد — بهباته الشخصية، وصدقات الميسورين من أبناء الحي — اليتامى والمطلَّقات والذين يقصدونه لعوز. ربما أغلق على نفسه باب حجرته، في خلوة لا يعرف أهل بيته، ولا أي أحد كيف يقضيها.

قال أدهم أبو حمد: أسئلة الضابط الشاب في القسم، كانت أقسى من حُكم الإعدام.

تكلف إبراهيم سيف النصر ابتسامة: السجن للجدعان!

زفر في ضيق: ذلك زمن مضى. السجن الآن لفؤاد أبو شنب!

استطرد فهمي الأشقر: وللولية إخلاص.

قطَّب حاجبَيه: مَن هي؟

قال الأشقر: الحركة الوطنية مدينة لها بما لا يتصوَّرُه أحد.

وتصنع الجدية: قتلت المرأة من عساكر الإنجليز، بما كانت تحمله من مرض، أضعاف مَن قتلهم المسلحون!

طرف الخيط في استعادة الذكريات: لما كنت في السجن. ثم تومض مفردات: الثورة، وسعد زغلول، والمظاهرات، والعمل السري، وعمليات الاغتيال. ربما فوجئ بالسؤال — بعد ما حدث — أي سجن؟! هل يقوى على تحمل السؤال، المفاجأة، الصدمة؟ وهل يرد، أو يصمت؟

•••

في المساء، روى عباس الخوالقة لأم محمود ومهجة ما حدث.

قال في لهجة متشفية: الله يمهل ولا يهمل. دفع ثمن أذيته لنا!

وقال بنبرة متأثرة: لما شكوت إلى حمادة فعلة الرجل مع مهجة اكتفى بالاعتذار. وفور علمه بما حدث اليوم، زار مأمور قسم الجمرك، وأخبره أنه قد فصل أبو شنب.

والْتَمعَت عيناه ببريق: طالب المأمور ألا يكتب في المحضر صِلة الرجل بالفرن حتى لا يُسيء إلى سمعته.

وبصق في الفراغ: كلب!

ورنا إلى مهجة بنظرة حانية: أنت صغيرة. والمستقبل أمامك.

ومسح بالمنديل المحلاوي عرق وجهه: سيعوضك الله خيرًا!

ثم اعتدل في جلسته كالمتنبه: لا تتركي البيت كثيرًا يا مهجة. أولاد الحرام لا يدعون أحدًا في حاله.

وأطلق «أف» منغَّمة: حتى حكاية المرحوم هشام يرددون عنها كلامًا سخيفًا.

•••

قال سيد الفران: الظروف أجبرتني على السكنى في البلقطرية.

ولوَّن صوته: أما أبو شنب. فقد عرفت الآن سر حرصه على أن يسكن الشارع!

واستطرد كمَن يحدِّث نفسه: هذا جزاء العيش المسلوق!

وأنصتت أنسية — في دهشة — إلى روايته عن دفع أبو شنب له، كي يُلقي الأرغفة في الفرن والحرارة زائدة. يحمر وجه الرغيف، يبدو مستويًا. لكن الرطوبة تظلُّ عالية داخله، ويظلُّ ناقص النضج، وإنْ زاد وزنه، فلا تشغله كبسات مفتشي التموين.

•••

لم يصدق الشيخ عبد الحفيظ في البداية. زاره إبراهيم سيف النصر في جامع القائد إبراهيم، وروى ما حدث.

هل كانت الصلاة واجهة لتجارة المخدرات؟ والأسئلة في الدروس، وقراءة القرآن، ولزوم الجامع. هل كانت ضحكًا على الذقون؟ هل كانت ضحكًا عليه هو بالذات؟

عامل الرجل بما ظهر به. لم يعُد عنده رئيس عمال في فرن حمادة بك. رأيه في صاحب الفرن مُعلَن. وكان انحيازه في الانتخابات معلنًا لمرشَّح الوفد.

•••

قال إبراهيم سيف النصر: خدعني الرجل. كنت أحسده على إصراره بصلاة الفجر في موعدها.

قال أدهم أبو حمد: مثله كثيرون!

استطرد متذكرًا: سمعت من الراديو أن حسين سري قدَّم استقالته.

قال الشيخ قرشي: صحف المعارضة أكدت أن استقالته؛ لأنه رفض حل مجلس إدارة نادى الضباط دون الرجوع إليه.

قال سيف النصر: الهلالي بدأ في تأليف الوزارة.

طوَّح أبو حمد يده: تاني؟!

وخالط الانفعال صوته: لماذا ذهب. ولماذا جاء؟ وهل يرفع — ثانية — شعار التطهير.

وعدل النظارة فوق أنفه: أثق أن الناس لن يذكروا له فعلًا حسنًا!

قال إبراهيم سيف النصر، وهو يتأمل ملاية لف قادمة، تتأود، من شارع فرنسا: دعونا نتابع لعبة الوزارات الموسيقية!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤