حقائق الاتصال

في زاوية البيت الفاصل بين شارع أبو وردة ورأس التين، اختلط الأمر، فغاب اتجاه السمانة. انطلقت — مفزوعة — في اتجاه الميناء الغربية، تلاحقها صيحات الأولاد.

كان موسم السمان قد بدأ. والباعة يحملون الأقفاص. ينادون: سمان. كواليا.

واصل الكثيرون اندفاعهم إلى رأس التين، في حين لحقت القلة بصيحة ولد، اتجه إلى أبو وردة.

تنبَّه محمد الراكشي للصيحة. لا بد أن الولد رأى السمانة، ومن اتجهوا إلى رأس التين، جروا بالاندفاع وحده.

ألقى بالغلق الفارغ على الأرض، وروى ما حدث.

قال عسكري السواحل: صيد هذه الطيور ممنوع.

تغيَّرَت ملامح علي الراكشي بالدهشة: لماذا؟

قال العسكري: الأوامر! هذه طيور معرَّضة للزوال.

قال في دهشته: كيف أترك رزقًا هبط عليَّ من السماء؟!

هجر صيد السمك والطير في أيامه الأخيرة. اجتذبه التصوُّف فلم يعُد يهجره. وحين حاول العودة إلى دنياه القديمة، أغرقته مياه البحر.

استوقفه أمام جامع نصر الدين. سأله عن السمانة في يده، هل اشتراها؟

قال: اشتريتها بقرشين من شارع الميدان.

أمسك بالسمانة لحظات، ثم أطلقها: طيري!

ذابت السمانة في الفراغ.

صرخ محمد: دفعت فيها قرشين.

رنا إليه بإشفاق: كفارة عن ذنوب عليك.

وهو يجز على أسنانه: حتى طعامنا تطيره؟!

– أمنعكم من أكل الحرام.

ومضى في سيره الذاهل.

كان يستعيد وقفة أبيه في ترقُّبه لأسراب السمان، في الساحة المقابلة لمساكن خفر السواحل، الشريط الساحلي الضيق، الممتد إلى ما بعد قلعة قايتباي، يتوازى في جانبيه مياه البحر وجدران البيوت. نشر بوظة الكلزة غزله في الموضع الذي كان يقف فيه علي الراكشي. طارت أسراب السمان فوقها، أو اصطدمت بها، فسقطت ميتة. خمَّن أن كرامات الراكشي تفقده رزقه. نقل غزله إلى الساحة الجيرية المطلة على خليج الأنفوشي.

خلا الموضع — فيما بعد — من الرماكة، شباك صيد السمان الطويلة، من المنطقة المقابلة لمساكن خفر السواحل.

بعد أن واجه مرعي بيبي، في الأرض المجاورة لمساكن السواحل، نصحه الحاج قنديل بأن يهمل عرضًا بحراسة وكالة درويش، ويظل في عمله بالميناء: مات أبوك على ولايته، فلا تجعل الفتونة مهنتك!

وضغط على الكلمات: حين اعتدى مرعي بيبي عليك. دافعت عن نفسك.

ودخل نبرته رنين: الآن. أنت مسئول عن إخوتك. وليس عن أموال الناس!

ارتفعت صيحات المطاردة، وتزايدت أعداد المطاردين. ظلت السمانة تطير. تميل كيفما اتفق. يشغلها الفرار، وليس اختيار الشوارع التي تتجه إليها.

قال قاسم الغرياني وهو يتابع المطاردة: أتمنى أن أطير مثل هذه السمانة في بلاد الدنيا.

وأطلق ضحكة منغَّمة: شريطة أن تصطادني شباك امرأة.

تنبَّه للمطاردة بحَّار يأكل فطيرة من أبو العزم الحلواني، على ناصية الموازيني.

لحق بالمطاردين.

كان الطيران قد أنهك السمانة. تخبطت في الفضاء، وسقطت. هوت فجأة، لم تمهد بالإبطاء في طيرانها، تقافزت تريح جناحَيها، ثم طارت ثانية.

نزع البيريه الأبيض المستدير من رأسه. ضربها بآخِر ما عنده، وتماسك حتى لا يقع. انتفضت السمانة، وقفزت إلى أعلى. توقَّع أنها ستواصل الطيران، لكنها دارت في نصف دائرة، ثم سقطت. ارتعشت في موضعها، وطارت.

كان علي الراكشي يصطاد السمان. هجر بلانسات الحاج قنديل، والسنارة، والبيع في الحلقة، إلى تلقف أسراب السمان في طيرانها الصاخب.

هل يعجز عن صيد سمانة؟

وضع محمد كل إصراره في الإمساك بالسمانة. يتوقف الآخرون بالتعب، أو الزهق. يظلُّ يجري، ويجري …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤