الاستغراق

تفتح النافذة.

تطالعك الميناء الشرقية باتساعها في مدى الأفق، يقابلها سور الكورنيش. يميل من أول الشاطبي إلى شواطئ أخرى حتى المنتزه، ومن انحناءة الترام عند حلقة السمك إلى الأنفوشي ورأس التين، حدوة الحصان الهائلة، طرفاها — من اليمين — مبنى السلسلة. ومن الشمال قلعة قايتباي، يصل بينهما لسان حجري غير مكتمل، يصد الأمواج، وتأذن فتحته بدخول السفن وخروجها. لا سفن ضخمة للركاب، أو سفن حربية، بلانسات ولواتس وفلايك ودناجل، تدخل الميناء الشرقية، ثم تخرج إلى عرض البحر، أو ترسو في الركن القريب من متحف الأحياء المائية والقلعة. تستقر نظراتك على المنتصف تمامًا. يصعب تحديد المساحة، فهي مياه. يتصوَّرها الخيال ميادين وشوارع وبيوتًا وحدائق، مثل الإسكندرية تمامًا، وإن اختلف ناسها عن ناس الإسكندرية.

تغادر باب رقم ٦ في الثانية بعد الظهر. تمضي في شارع الجمرك القديم إلى نهايته، لا تتلفَّت. اعتدت بيوته ودكاكينه. اعتدت حتى البحارة والسياح وسيارات الأجرة وسيارات النقل الضخمة ولافتات الشركات فوق المباني. تستطيع السير مغمض العينَين. تميل إلى سوق راتب، تقلِّب وتُفاصل وتشتري. تراجع القائمة التي كتبتها فايزة. تتأكد من حصولك على ما أرادت. تعبر ميدان المنشية، وأول شارع فرنسا. يبدو سور الكورنيش الحجري في نهاية المدى. يبين البحر عن نفسه في شراع، أو ظهر صياد سنارة، أو المتطلِّعين إلى صيد الجرافة، أو بلا ملامح محدَّدة. زرقة السماء فوق البحر يصعب أن تتحقَّق إلا فوق مياه البحر، كأنما تمتزج الزرقتان في زرقة لها خصوصيتها الفريدة. تقطع شارع الترام. تخلف مبنى المحكمة. يطالعك البحر بتفصيلاته التي غيبها ابتعاد المرئيات: مبنى السلسلة، وحاجز الأمواج، وقلعة قايتباي، ومئذنة أبو العباس تتصاعد من فوق البنايات، وتعلوها، وفلوكات صيد المياس، وعمليات الصيد بالجرافة والطراحة، وصيادي السنارة المتناثرين على السور الحجري.

تدخل البيت المواجه لمنتصف المسافة. حاجز المياه غير المكتمل بين السلسلة والقلعة. هكذا قدرت، واطمأننت إلى تقديرك. تلقي التحية، وتمضي إلى النافذة المطلَّة على الشارع. تفتحها، وتتطلَّع إلى المشهد الثابت أمامك. تحوله — في خيالك — إلى مشاهد غير مترابطة، ولا منسجمة، تتصوَّرها، تريدها، تبدل ما في حياة الناس، وما في داخلك. ربما تمتد جلستك إلى ساعة الغروب، تتأمَّل ابتلاع الأفق لقرص الشمس الدامعي، تتطلَّع إلى المراكب المتناثرة، لا يشغلك شيء، ولا تفكر في شيء. تترك نفسك للحظات هادئة، تقطر صفاء.

لم تجِد ما تردُّ به على أسئلة جلساء القهوة، بعد أن لاحظوا شرودك. تخشى التعليقات الساخرة.

قال الشيخ أحمد أبو دومة: لولا أني أعرف استقامتك لظننتُ بك الحب.

علا حاجبا إبراهيم سيف النصر في استنكار: وهل الحب حرام؟!

قال أبو دومة: إنه رجل متزوج.

– هل الزواج جهنم الدنيا؟!

قال فهمي الأشقر: يقصد أن المتزوج يقصر حُبه على زوجته.

قال أدهم أبو حمد: تتكلَّمون عن رجل صامت.

ثم وهو يرنو إليك بنظرة مشفقة: هذه عادته. لا يتكلَّم إلا مرَّة أو اثنتين كل عام.

لم يكُن السحر يشغلك ولا عُنيت به. جاست بك حواديت جدتك، وأمك، عوالم غريبة عن الأخت التي لا تفارقك، وإن لم تترك موضعها تحت الأرض، وتحدث أبوك عن عفاريت القيالة، قد تصادف السائر على طريق الكورنيش عندما تتوسط الشمس قبة السماء، تظهر له في صورة البشر العاديين، ربما تسخطه، أو تجتذبه إلى داخل الماء. استمعت لذلك كله، وارتجف له جسمك، ونمت بالخوف في حضن أمك، لكنك لم تحاول الدراسة، ولا التعمق.

حين أكد أبوك حقيقة خاتم سليمان، وأنه ليس مجرد حكاية في حدوتة، شغلك المعنى.

أنت ألقيت بالسنارة في الماء. اجتذبت السمكة، سمكة عادية لا تختلف عن الأسماك التي طالما اصطدتها في الميناء الشرقية. وضعتها في الغلق إلى ما سبق لك صيده، وإلى أن امتلأ الغلق بما يمكن حمله إلى البيت. فايزة تتولى تنظيف السمك وقليه، لكنك — لا تدري لمَ — أعلنت رغبتك في أن تنظف السمك وتقليه، وتعد السلطة، وكل شيء.

– أنتِ ضَيْفتي يا فايزة هذه المرة.

تلتمع عيناها بالتأثر: لماذا هذه المرة؟

– أبدًا. محاولة للتعبير عن إعزازي لك.

تحتضنك بنظرة دافئة: أنا أعزك بلا سمك!

نظفت سمكة، وثانية، وثالثة. ومَض الخاتم تحت الزعنفة. تأمَّلتَه، قلَّبتَه، مسحته. حدث ما حدث بمجرد أن جريت على الخاتم بإصبعَيك. همس الصوت، فتلفتَّ — بتلقائية — مفزوعًا: شبيك لبيك. خاتم سليمان بين إيديك!

امتدت يدك المتسخة إلى فمك، تكتم الصرخة.

– لا تخَف. عثرتَ عليَّ لأخدمك لا لأوذيك!

كم من الوقت مضى، حتى استعدتَ نفسك، واستطعتَ أن تتيقَّن مما حدث؟

كان إخفاء الأمر عن فايزة هو أول ما فكرت فيه. تحملت المفاجأة، لكن التخمين صعب إذا واجهت فايزة المفاجأة نفسها. قلت، كأنك تخاطب شخصًا، كأنك تخاطب الخاتم: ليس الآن! ودسست الخاتم في جيبك. خلوت إلى نفسك، وإليه، في الحمام. وضعته أعلى السيفون. حرصت ألَّا يجري إصبعاك عليه، فتعلو الكلمات أمام فايزة، وأكلت — لا تدري كيف — وأجبت — بكلمات مختصرة — على أسئلة فايزة، وداريت انفعالك. وحين مضت إلى حجرة النوم قائلة: ألن تستريح؟

قلت: معي مذكرة. سأقرؤها أولًا.

هل ظهر الخاتم ليحقِّق الحلم، الأمل، التطلُّع، الذي يشغل حياتك؟ هل يُتيح لك مدينتك الجميلة، الجميلة؟

لم يكُن اختيارك لأبناء مدينتك الجزيرة، جزيرتك المدينة، عفو الخاطر ولا اعتباطًا، وإن رفضت التسميات. ليسوا حزبًا سياسيًّا ولا جماعة دينية أو اجتماعية، وليسوا صفوة: إبراهيم سيف النصر وعبد الله الكاشف والشيخ قرشي ونجيب المهدي والشيخ أحمد أبو دومة وفهمي الأشقر وأدهم أبو حمد وزكي بشارة. لا يختلفون عن أهل الإسكندرية. والمدينة الجزيرة ليست مطلقة. تظلُّ على صِلة بالإسكندرية، تتبعها ولا تنفصل عنها. تختلف عن الإسكندرية فيما يتطلَّع إليه ناسها، في أخلاقهم ومعاملاتهم. وفد آخَرون غابت ملامحهم، وإن ظلَّت الأمور في أيدي أصدقاء قهوة المهدي.

صحوت على وميض البرق، وقصف الرعد، ورخات المطر، تداخل معها صوت كالنداء، أو التحذير، أو الاستغاثة.

فتحت النافذة، فبدَت الميناء الشرقية مغموسة في الظلام، والسحب الكثيفة المتراكمة، حتى أضواء مصابيح الطريق انطفأت. تبينت — بالكاد — تصاعد أمواج في وسط الميناء الشرقية، عالية، متدافعة، متلاحقة، ترافقها أصوات لم تتبيَّن مصدرها، ولا مفرداتها. لما شفت الظُّلمة، بدَت الجزيرة، المدينة، إلى مدى الأفق، إلى ما بعد حاجز الأمواج بين السلسلة والقلعة. الحاجز اختفى، ولم يعُد إلَّا الأرض الممتدة، فوقها بنايات وحدائق وجوامع وميادين وشوارع واسعة، تظللها الأشجار على الجانبين، والأشجار مثمرة، لا يحتاج مَن يريد ثمارها إلَّا أن يمدَّ يده، والبيوت تتخلَّل الحدائق والأشجار والورود، والنافورات من الجرانيت والرخام والمرمر.

لم تقصر الصِّلة بين الجزيرة والإسكندرية على الفلايك. بنيت جسرًا حديديًّا يصل بين شاطئ الميناء الشرقية والجزيرة. وافقت على الزيارات بين الأهالي، وإن اقتصرت الجزيرة على سكانها متى حلَّ المساء. لا ترفض الإسكندرية، وإن رفضت ما في المدينة من أشياء يعيبها أبناؤها. بدا عبد الله الكاشف مطمئنًّا إلى الحياة في الجزيرة. يترك البيت إلى شاطئ البحر، وإلى الحدائق، والمساجد، والمكتبات. متى عاد الكاشف؟ هل يظلُّ في الجزيرة، لا ينزل إلى الإسكندرية، ولا يعود إلى قريته؟ قباب المساجد ومآذانها تشع الأنوار، تنعكس على مياه البحر. خلت المنابر إلَّا من الشيخ عبد الحفيظ. رأيته يخطب في كل المنابر. كلمات غير التي قالها في علي تمراز، يهبها الناس إنصاتهم، ويهزون الرءوس. كاد أدهم أبو حمد يدفع حياته ثمنًا لاشتراكه في التنظيمات السرية ضد الإنجليز، ولم ينَل حقه في المكانة الرفيعة. أوكل إليه أهل الجزيرة — في انتخابات مُعلَنة — ما يتصل بالقضايا السياسية، وعلاقات الجزيرة بالإسكندرية، المدينة الأم، وغيرها من المدن والقرى. واختاروا إبراهيم سيف النصر لحل المشكلات الشخصية. لا أقسام بوليس، ولا محاكم، ولا سجون. كل ما يعرض عليه، يقضي فيه بالرأي الصواب. يلتزم بما يراه الجميع، فلا مناقشة ولا اعتراض. مَن يصرُّ على الخطأ يعبر الجسر إلى شاطئ الكورنيش، فلا يعود. أبدى نجيب المهدي انبساطه للإشراف على الحدائق والمسرح ودار السينما. لم تعُد هواية فهمي الأشقر تقتصر على الحمام. امتلأت سماء الجزيرة بالطير من كل الأنواع، حتى التي لا تعرفها الإسكندرية. أسراب لا حصر لها، تحلِّق في تكوينات، وتشدو. غابت ملامح عمل الشيخ أحمد أبو دومة، وان ظلَّ في مدرسة لا كالكتَّاب، ولا حتى كمدارس الإسكندرية.

شققت الترع والقنوات. أقمت الكباري والخزانات. عبَّدت الطرق. أنشأت مدرستين للمرحلتين الابتدائية والثانوية. تركت للمستقبل صورة الجامعة بعد أن أنشأت مستشفًى ومسجدًا وكنيسة ودار سينما ومسرحًا، وزجاج واجهات الدكاكين يسمح بمد الأيدي، والحصول على ما تريده. لا حواجز، ولا أقفال، ولا استئذان من أحد. البيوت من طابقين أو ثلاثة. أعمدة البيوت من المرمر المرصَّع بالزمرد والياقوت والمرجان. لم تعُد الشقق لمجرد إتاحة الحياة بين جدران. الشقة مزودة بكل ما تحتاجه الأسرة. ما يطلبه المرء — أو يتمناه — يجده. خصَّص إبراهيم سيف النصر فترة الصباح لاستقبال الناس. يُنصت إلى آرائهم وشكاواهم، يفصل في المشكلات والمنازعات. تسير في الطرقات متخفيًا، تستطلع أحوال الناس. لا سجن، والمدرسة بلا أسوار، ولا أبواب. يرقب الآباء أبناءهم — دون تدخُّل — وهم يتلقون الدروس. يغادر الجزيرة حالًا مَن يسرق جاره، أو ينظر إلى امرأة ليست من أسرته، أو يتهيأ لنزال، أو يكذب. خلت المدينة من اللصوص والمتسولين والقوادين والمومسات والسماسرة. المغنيات يشدين بأنغام سماوية، والجميلات يؤدين رقصات كالسحر.

رنوت بعيدًا إلى سور الكورنيش، والبيوت المصطفَّة على الجانب الآخَر من الطريق. تتوقَّف عند بيت بالذات، ونافذة بالذات، هي الآن مغلقة، فلا أحد داخل الشقة. كنت تقف وراءها، تطيل النظر إلى الميناء الشرقية، وتحلم. حقق الخاتم وجان البحر كل ما أردت، لكن الحلم لم يتحقَّق. ظلَّ هاجسًا يشغل النفس، أو أنها يئست من تحقيقه. حتى أدهم أبو حمد نفد صبره، واستعاد ذكرياته القديمة.

امتلأت المدينة بالكلاب الضالة والقطط، وأطلَّت الثعابين من فجوات الأشجار، واختلطت في السماء أصوات الغربان والبوم والحدآت، وتقافزت الفئران في الشوارع والميادين، وانتشرت روائح عطِنة يصعب تنفُّسها.

تدس يدك في جيب البنطلون. تُخرج الخاتم بالبنصر والسبابة، تتأمله وتهز رأسك، تُلقيه في البحر بآخِر ما عندك، لا يشغلك التوقع. تسير إلى اللنش في مرساه. تنادي على سكان الجزيرة في الميكرفون المثبت داخله: انزلوا إلى الإسكندرية بلا عودة!

يسرع القريبون ناحية اللنش.

يقول إبراهيم سيف النصر: هل نتخلى عن الحياة في الجزيرة؟

تقول: لم يعُد هناك خاتم. وطبيعة الحياة هنا لا تختلف عن الحياة في المدينة.

قول عبد الله الكاشف آخر ما يصل سمعك: والأحلام التي جئنا بها؟

تدير مفتاح الموتور، فينطلق اللنش. تدير الدفة، تصبح في مواجهة النافذة التي تبلورت أمنياتك في العودة إليها. تنزل المدينة، تدخل الميناء. السفن الضخمة والأرصفة والرافعات والمخازن والحاويات والبحارة والمخلِّصين والمصدِّرين والمستوردين والشيالين والقادمين والمغادرين.

في الثانية، تغادر الباب الرئيس. تجاوز الشوارع والحواري والبيوت والدكاكين واللافتات. تفاصل وتشتري في سوق راتب. تمضي في الشوارع المستقيمة إلى طريق الكورنيش. تفتح النافذة، تطالعك الميناء الشرقية بملامحها الثابتة. تطيل النظر إليها، وتسرح. تهمل — بعد القيلولة — سؤالًا ثابتًا، يفاجئك به جلساء القهوة: أين أنت؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤