الدخول في دائرة النور

ألقى حافة الطراحة على كتفه الأيمن، وأمسك الشبكة بيده اليسرى. على شكل مخروط، يتصل برأسه حبل.

ثبَّت قدمَيه بالأرض. مال بجسمه إلى الوراء، وقذف الشبكة بآخِر ما عنده، والحبل في يده يمنع انسياقها إلى الداخل.

تابع الطراحة في انتشارها على صفحة الماء، وغوصها — بقطع الرصاص الملتصقة بها — إلى داخل الماء.

أغلق حافة الشبكة، على ما لمته الطراحة من سمك، وسحبها إلى الشاطئ.

ذكره محيي قبطان: يا عم رجب، أنت تكتفي بنشر الطراحة.

أضاف في لهجة محرضة: اطرق سطح الماء بعصًا أو ألقِ حجرًا.

وقال للدهشة المتسائلة في عينَيه: هذه حيلة لاجتذاب السمك إلى الطراحة.

واتسعت ابتسامته: حاول، وادعُ لي.

تبين صعوبة الإمساك بالطراحة، وتحريك الماء. أزمع أن يصحب — في المرات التالية — أحد أولاده، يحرك الماء بعصًا في يده.

لاحظ فرار السمك من خلال الطراحة. قرَّر اختيار الليل للخروج إلى الصيد، فتختفي الظلال. لمح في جانب الشبكة ثعبان المارينا ذا الأسنان الحادة. هل يُلامسه فيُواجه خطر الموت؟

حرك الغزل لإنزالها. ثم حاول تهشيم أسنانها بشيء صلب.

أخفق، فألقى بالطراحة في البحر، لا يريدها، حتى لا يؤذيه ثعبان المارينا.

ألقى بالمشنة على كتفه، وتسلَّق السور الحجري، إلى الطريق.

لقيه حمودة هلول في مدخل السيالة بعين ذاهلة: الجد السخاوي مات!

ردَّد العبارة في غير تصديق.

كان يتوقع موت الكثيرين: الحاج قنديل، عباس الخوالقة، المعلم الزردوني، عم محجوب، عبد الوهاب مرزوق، جابر برغوت. لكنه ألِف وجود الجد السخاوي في حياته، مثلما ألِف طلوع الشمس والقمر، ووجود البحر، وأضرحة الأولياء، وتوالي النوات. وعى عليه وعرف — من أبيه — أن هذه هي الصورة التي عرفه فيها.

كان الرجال يعلنون استغرابهم من العمر الذي طال به. يدخلون الأمر في دعابات، لكنهم لم يفكروا في أن الجد السخاوي سيموت بالفعل، يغيب عن حياتهم. كانوا يتركون له أمرهم منذ يطلق الصيحة: ألسطة. يعرف التيارات البحرية، وأماكن الصيد، وتوقعات الرياح، والنوات، والأمواج، والمد والجزر.

ألن يقود الجد السخاوي الرجال في رحلات البلانس إلى البحار البعيدة؟ هل تخلو منه قهوة الزردوني؟ تظهر الشمس فلا يسترخي على الكرسي أمامها؟

قال الجرسون ياقوت: تصورت أن سيدنا عزرائيل نسي في طريقه الجد السخاوي، فنسيت فكرة أنه سيموت!

حتى أولاده الثلاثة، فاجأهم ما حدث. لا يتصورون الحياة بدونه. يركب البحر، أو يجلس في قهوة الزردوني، في مواجهة الشمس حتى تنتقل إلى الناحية المقابلة. وفاجأهم الرجال بأنهم أعدوا كل شيء: حياكة الكفن، واستخراج تصريح الدفن، وحفر القبر، وليالي المأتم، وإن رفض النعش التحرُّك حتى جاء أولاده.

رفع الرجال الكراسي. كوَّموها على ناصية صفر باشا. الأعداد الهائلة من المشيعين أجبرت الجميع على الوقوف فيما يشبه المظاهرة، من شارع صفر باشا إلى كورنيش الأنفوشي، وإلى شارع رأس التين والشوارع المتفرعة. امتدت الجنازة الهائلة إلى أبو العباس. خَلْق يبكون، وتعلو أصواتهم بالدعاء. رجال ونساء. بدا كأن أبناءه يتعرفون إلى أبيهم للمرة الأولى، كأنه والد الجميع، يشاركونهم حبه، ويشاركونهم الحزن عليه. ذابوا في بحر البكاء والصراخ والصوات.

عصر النبأ المفاجأة، شكا إلى الحاج محمد من تنميل في يده.

قال الحاج مداعبًا: هذه آخرة جلوسك في الشمس.

اربدَّ وجهه بالغضب: أجلس في الشمس قبل أن تولد. فلماذا الآن؟

عاد الحاج محمد من داخل الدكان بعلبة مستديرة من الصفيح: ادهن بهذا المرهم قبل النوم. وسيزول التنميل!

مضى — ساعة المغرب — ناحية الأنفوشي.

وقف بالقرب من سراي رأس التين، في انحناءة الطريق إلى الميناء الغربية. نظر إلى قرص الشمس المتوهِّج في نهاية الأفق. تناثرت الحزم الضوئية. زاد اتساعها في دوائر متتالية. غمر الأفق ضياء لم يسبق له رؤيته. انعكست الأشعة القانية على وجهه. بدت بشرته مُشرَبة بالحمرة. فضَّ ما بنفسه. روى كل ما يشغله. ما لم يبُح به للرجال في البحر، وفي القهوة. أعطته الشمس — في كلامها — إشارات. علَت الصخرة في مدى الأفق. صارت جبلًا عاليًا، تداخلت فيه سحب وتكوينات شفافة. تشابكت الألوان القزحية بما بدَّل زرقة السماء وانعكاساتها على مياه البحر. حل المكان والزمان في ملامح غائبة التفصيلات، وإن وشت في عمومها بعذوبة مُطلَقة، ولحظات ممتدة إلى غير انتهاء، وهتف: هنية، لرؤية وجه المرأة يتصاعد من تكاثف السحب البيضاء، واستعادت الذاكرة ما تصوَّرَ أنه نسيه، وخاطب أصدقاء طفولة وراحلين. عرف أن أوان الموت قد اقترب. عاد إلى البيت ليعدَّ نفسه. فاجأته نفسه بأنه يحيا مع المرأة، يناديها، يسألها، يجيب عن أسئلتها، يتذكران أيامًا مضت. اختلط الزمن، فهو لا يدري متى حدث ما حدث على وجه التحديد: تتسع ابتسامته لخجل أبدته ليلة الزفاف، يوبِّخها لوقوفها على الشاطئ — في غبشة الليل — حين تأخر البلانس عن موعد أوبته، يظهر الضِّيق لقولها: كل زوجة عندما تغضب، تذهب إلى بيت أبيها، وبيت أبي في الصعيد، فأين أذهب؟ يحزنه انخراطها في نشيج مفاجئ، بعد أن تزوَّج ثالث الأبناء: هل أحيا لأرى أبناءهم؟

فاجأه نداؤه باسمها «هنية». يناديها «أم عودة» منذ أنجبت للمرة الأولى. قال: أنت قد ذهبت عند الله. وأنا أعدُّ نفسي.

وخرجت الكلمات من فمه بطيئة، متعثرة: مرَّت حياتي، كما مرَّت حياتك من قبل.

وخالط صوته ارتجافة: هل نلتقي في اﻟ…

بدل الكلمة: الآخرة!

عانى جسمه حُمى غريبة. فتح عينيه على رؤية الحور العين، تتوسطهن أم العيال في شبابها القديم. ابتسم لعرائس البحر يراقصن جمعة العدوي وسباعي سويلم والمليجي عطية وحودة التيتي. حتى البهاء إسماعيل سعفان جلس تحت قدميه، وسأله عن أبيه. تعالى الأذان بالصلوات الخمس في مئذنة لا نهاية لارتفاعها، وانتقلت مقابر العامود إلى حدائق أجمل من أنطونيادس والمنتزه والشلالات.

لم يركب الرجال البحر، ومضى اليوم في الحلقة بلا بيع ولا شراء، واختفت العربات والفريشة من الساحة المقابلة. وأغلقت دكاكين وقهاوي السيالة أبوابها، وانصرف المصلون في الجوامع إلى تلاوة القرآن.

داخل قاسم الغرياني شعور مُبهَم، حزين ومقبض. الجد السخاوي شيخ، والموت حق. الشعور أقرب إلى الذنب. ناقش الجد السخاوي، ورفض آراءه، وضايقه، وسخر منه، وتمنى موته. صدَّق الجد السخاوي مواجهته للوحش داخل البحر، وقتله. رفض أن يركب البحر بدونه، هو السكوندو، يجب أن يلازمه. وحين خذلته عافيته أوصى بالغرياني مكانه.

هل يغفر له الجد السخاوي ما فعل؟

فاجأ الرجال بأنه لن يركب البحر.

كان يحب الجد السخاوي، وإن مال إلى مشاكسته. ربما دفعه عناد الجد السخاوي إلى الغضب والشجار، لكن مكانة الرجل ظلَّت على حالها، لم تتبدل. لم يتصور أنه يصعد البلانس، فلا يسبقه الجد السخاوي، توقعاته، وملاحظاته، وأوامره، وذكرياته التي لا تنتهي. لم يكُن يشغل نفسه بتجهيز البلانس قبل الإبحار، إمداده بالتموين من الماء والطعام والشاي والسكر والجاز والبنزين وألواح الثلج وصناديق الدخان والأدوية، التأكد من متانة الدفة، وسلامة الشراع، وطريقة فكه، ونشره، في مواجهة الرياح واتجاهاتها. وكان الجد السخاوي يجيد التنبؤ بأحوال البحر: تيارات المد والجزر، وارتفاع الموجة، وسرعة الرياح، والنوات وسحب الأمطار، وحرارة المياه، وكمية الرطوبة، والضوء، ومواعيد السفر، ومناطق الوفرة والجدب، والتطلُّع — بفهم — إلى الأفق.

أطلق شعر رأسه ولحيته، وأهمل نظافته الشخصية، ولم يعُد يتردَّد على حمام الأنفوشي، وغلب الحزن عليه في جلسات القهوة، وأسرف في المشي — بلا هدف — في شوارع بحري.

قال عبد الوهاب مرزوق: الموت علينا حق!

تقلَّصَت ملامحه بالتأثر: ضايقت الرجل كثيرًا في حياته.

قال حمودة هلول: كلنا كنا نشاكسه. ولم يكُن يغضب.

وربت كتفه في إشفاق: هل تقطع عيشك بيدك؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤