كوكب الصبح

نادى الشيخ قرشي على إبراهيم سيف النصر عبر ميدان الخمس فوانيس. ابتدره ليطمئنه وهو يمسح النوم من عينَيه: خيرًا.

النهار في أوله.

الشمس لامست أسطح البيوت. أنفاس الصباح رطبة، وإن انتشرت رائحة البحر في الجو، وتشبعت الرطوبة بالملح. بدأ المستلقون لصق جدار أبو العباس ينهضون، ويطوون أغطيتهم، ووارب علي تمراز بابه المطل على شارع رأس التين، وفتحت نوافذ مصاريعها بما لم يعهده في هذا الوقت، وترامى نداء بائع الفول المدمس والبليلة، وعلا إيقاع جياد السراي المنتظم في عودتها من جولتها الصباحية.

قال: أذاع الجيش بيانًا في الراديو، يعلن فيه عن قيام حركة سماها البيان مباركة.

ازدرد ريقه: هل تظن؟

قال الشيخ قرشي: لا بد أن البيان سيُذاع ثانية. دعني أستمع إليه.

دفعته اللهفة إلى الخروج.

جلس في قهوة المهدي اللبان. فتحت الراديو على آخره. تتوالى المارشات العسكرية. يتخللها إذاعة بيان الجيش. سبقه — ولحقه — رواد القهوة. حتى الذين اقتصر جلوسهم على فترة ما بعد المغرب. كان نجاتي ينظف داخل القهوة، وأمامها، من آثار السهر إلى منتصف الليل، ويرتب الكراسي والطاولات، ويساعد عنتر عامل النصبة، في تسخين الحليب، وصف الزبادي والرز باللبن، في الثلاجة ذات الواجهة الزجاجية، وغسل الفناجين والأكواب.

قال إبراهيم سيف النصر: حدث ما كان يجب أن يحدث.

رنا إليه الشيخ أبو دومة بنظرة ود: لعل الحركة تستهدف إعادة الوفد إلى الحكم.

قال المهدي: لعل الإنجليز فعلوها لصالح الملك.

قال حمدي رخا: وأين أمريكا من الموضوع كله؟

قال المهدي وهو يعد الماركات: يا خبر بفلوس.

علقت النظرات بطريق الكورنيش.

لم يكُن ثمة ما يشي بتغير. لا جنود ولا سيارات عسكرية. الفلايك تصطاد في الميناء الشرقية، وصيادو السنارة أعطوا ظهورهم للطريق. أعداد قليلة يتمشون على الشاطئ، وأولاد التصقوا فوق سور الكورتيش، يتابعون صيد الجرافة. حتى عسكري خفر السواحل يمشي بخطواته المتمهلة، والبندقية تدلَّت من يده.

قال فهمي الأشقر متذكرًا: أمسك الولد الصغير حمامة ليست من البنية.

ومصمص شفتَيه في تصعب: أطلقها المغفل وقال إنها ليست ملكنا.

ورنا — بتلقائية — إلى السماء. تناثرت فيها غيوم بيضاء، صغيرة، متباعدة.

– لم أرَ مثل جمالها.

قال أحمد أبو دومة: ربما الملك أطار بنياته لحمايته.

قال فهمي الأشقر: الجيش أقسم يمين الولاء للملك. فلا شأن له بما يجري.

فاجأه أبو دومة بالسؤال: ماذا تكسب من هواية الحمام؟

قال فهمي الأشقر: إنها هواية. لا شأن لها بمكسب ولا خسارة.

قال حمدي رخا في شروده: ما أجمل أن يكون الإنسان حمامة ترى الدنيا من فوق.

قال إبراهيم سيف النصر: يكفيك النظر من سطح البيت!

قال أدهم أبو حمد وهو يستقر في كرسيه: علي ماهر رئيسًا للوزراء. تاني؟!

ووشى صوته بضيق: هذا الرجل مثل النبات الشيطاني. لا طعم ولا ثمر!

أزمع، في مرات كثيرة — بينه وبين نفسه — أن يغيِّر حياته كلها، لكنه كان يلتقط ملابسه، عقب صلاة العصر. ينزل إلى طريق الكورنيش. يميل من إسماعيل صبري. يُلقي التحية على الجالسين، أو يكتشف حضوره الباكر، فينتظر.

يداخله إحساس أن أيام جلوسه على قهوة المهدي اللبان قاربت على الانتهاء. اعتاد التأخُّر عن موعد اللقاء بملاغاة عبد الرحمن، طفله الصغير. ربما الأجدى أن يظلَّ معه في البيت. ليلة البيات في قسم الجمرك خلَّفَت في نفسه أثرًا، لم تفلح كلمات أصدقاء القهوة في إزالته، أو التخفيف منه. الحياة — أيام الإنجليز — في الجهاز السري والقتل والتعذيب والفرار والاختفاء، تختلف عما ينبغي أن يلقاه الآن. لم تزايله ملامح الضابط الشاب، شخطه، نطره، قوله الآمِر: ضعوه في الحجز!

هو لن يظل يتردَّد على القهوة إلى آخِر العمر. لا يتصور أنه يموت على كرسيه. لم تعُد ساقاه تتحملان نزول سلالم البيت، وصعودها، ولا المشي من البيت إلى قهوة المهدي اللبان. حتى القومة — في نهاية الجلسة — كانت مرهقة. يكتم حاجته إلى مَن يمد راحته، فيُعينه على القيام.

هؤلاء الجالسون معه أصدقاؤه. أخذ عليهم، وأخذوا عليه، وجد فيهم صداقة ومؤانسة ومودة، لكن النوم يعقبه اليقظة، والحياة تنتهي بالموت، والقطار له محطة وصول.

قال إبراهيم سيف النصر: لكن محمد نجيب أصبح قائدًا للقوات المسلحة.

قال الشيخ أبو دومة متذكِّرًا: محمد نجيب؟ أليس هو اللواء صاحب أزمة نادي الضباط؟

تبادلوا نظرات غير فاهمة.

قال أدهم أبو حمد: ولماذا علي ماهر؟

قال سيف النصر: لو جاءوا بسواه. فسنسأل: لماذا؟

قال المهدي اللبان: شاهدت هذا الصباح حافظ عفيفي في سيارة على الكورنيش.

رفع سيف النصر حاجبَيه: يتنزه؟!

قال حمدي رخا: لعله كان في طريقه إلى سراي رأس التين.

وهو يحك ذقنه بأصابعه: تصرف له احتمالاته.

قال حمدي رخا: أنا رأيت الملك وناريمان ومعهما الطفل في سيارة مغلقة على طريق الكورنيش.

قال سيف النصر: ربما ليس الملك. هل يتنزه وقت الخطر؟!

قال حمدي رخا: لا. هو. السيارة الحمراء لا يركبها سوى الملك.

قال سيف النصر: لعله انتقل من المنتزه إلى رأس التين. حرسه هناك!

تكرمشت ملامح أبو حمد: هل تتصوَّر أن بضعة ضباط يستطيعون أن يفعلوا شيئًا ضد الملك والإنجليز؟

وقال في نبرة متألمة: هل نسينا ما جرى لعرابي؟

قال زكي بشارة: إذاعة الشرق الأدنى أكدت أن الإنجليز والأمريكان لن يتدخلوا ما دامت أرواح الأجانب في سلام. وما دام الجيش الإنجليزي في القناة بعيدًا عما يجري.

قال أبو حمد: ماذا يفعل الجيش أمام السلاح البحري والحرس الملكي وسلاح الحدود؟

قال زكي بشارة بنبرة واثقة: واضح أنها حركة داخل الجيش.

ثم وهو ينقر بإصبعه على الطاولة: امتداد لمشكلة انتخابات نادي الضباط.

قال سيف النصر: البيانات وبرامج الإذاعة وتأليف علي ماهر الوزارة وتعيين محمد نجيب قائدًا للجيش. كل ذلك يؤكد احتمالات أخطر!

قال فهمي الأشقر: هذه حركة داخل الجيش. وإلا لما قبل صديق الملك علي ماهر رئاسة الوزارة.

وتنحنح ليزيل حشرجة في حلقه: لا أتوقع جديدًا. وافق الملك على طلب الجيش، فكلف علي ماهر بتأليف الوزارة.

ثم بلهجة مؤكدة: انتهى الأمر!

اتجه الشيخ أحمد أبو دومة إلى أدهم أبو حمد بنظرة مشاركة: يبدو أن ما كدت تفقد حياتك من أجله قد تحقَّق!

الفزع الهائل في العينين المتسعتين عن آخِرهما، انعكس بالارتعاشة في يده الممدودة، الخائفة. ترك السكين مغروسة في البطن المتفجرة دمًا، وجرى. مال من شارع اللبان. أخذته انحناءات الشوارع والحواري. لا يدري إلى أين. تلاحقه صفافير وصرخات وأصوات فتح نوافذ وومضات ضوء وتناهي أذان من مسجد قريب. عينا العسكري الإنجليزي المتسعتان تسبقانه، تطاردانه، تلحَّان عليه. طالعته ظلمة البحر بأنوارها المتناثرة، المتباعدة، وامتدادات الأمواج في الشاطئ الرملي. والبيوت الصغيرة، المتساندة، على الشاطئ أطفأت أنوارها. اطمأن — بالتلفُّت — إلى غياب المطاردة.

ابتلع إحساسًا بالمرارة: أنا لم أعُد أثق في كل رجال السلطة.

واتجه إلى سيف النصر بنظرة متسائلة: وهذا النجيب. هل كان الملك يتركه حتى رتبة اللواء لولا أنه من رجاله؟!

قال سيف النصر: صحف المعارضة أكَّدت أن الضباط اختاروه لرئاسة ناديهم رغم معارضة الملك.

قال حمدي رخا: مهما تكُن صورة المستقبل فإنه لن يكون أسوأ من أيامنا الحالية.

ثم في لهجة مطمئنة: فلنأمل خيرًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤