ذلك النهار

صحا على طلعات الطائرات الحربية في سماء المدينة منذ الصباح.

قال زكي بشارة، إنه رأى — عقب الفجر — طابورًا طويلًا من الدبابات، يتجه إلى سراي رأس التين.

هل يبين الأفق عن جديد اختفت توقعاته؟

لم يكُن ثمة ما يعلن عن الثورة، سوى بيانات الراديو والأغنيات الوطنية، والدبابات المتناثرة في الميادين.

أحسَّ بغير المألوف في اقترابه من سراي رأس التين. الترام يعود في انحناءة الطريق إلى السراي. حشود من الناس، شكلوا حائطًا ممتدًّا من رصيف الكورنيش إلى محطة الترام النهائية. تداخلت الكلمات، واختلطت، وتشابكت، وهمست، وعلت. داخلها نداءات وضحكات ورنات سخرية وتعليقات مدغمة. تبين خلف الحائط البشري ثلاثة صفوف من الجنود. حملوا البنادق والرشاشات. عزلوا السراي — بمسافة — تمتد من قبل الحديقة الواسعة، إلى الشاطئ المطل على الميناء الغربية. خلَت المساحة إلى السراي التي أغلقت أبوابها ونوافذها، ومبنى الحرس الملكي المجاور، وقف فوق سطحه جنود، في أيديهم مدافع رشاشة وبنادق. حديقة السراي خالية، صامتة. حتى الأشجار المتناثرة لفها سكون، والمتحف البطلمي المجاور أغلق أبوابه، ومنع كردون الجنود المرور إلى نهاية خط الترام ومستشفى رأس التين. والْتفَّ القصر الصغير — على ناصية الطريق المُفضي إلى محطة الترام النهائية — بالسكون، وأغلق أبوابه ونوافذه، فيما عدا نافذة في الجانب المُطِل على الحديقة، وقف وراء ضلفتها المواربة وجه غابت ملامحه في تداخُل الظلال. حتى البيوت المُطلَّة على الساحة الواسعة، أغلقت نوافذها وشرفاتها، وإن أطلَّت أعداد قليلة من فوق الأسطح البعيدة.

تعرف إلى الكثير من جيرانه وأصدقائه، وقفوا وسط الناس: حمدي رخا، الشيخ قرشي، فهمي الأشقر، زكي بشارة، الشيخ أحمد أبو دومة، بائع الدندرمة أسفل البيت المجاور، كاتب المحكمة الشرعية بشارع فرنسا. كمال مصباح تاجر المانيفاتورة. وتعرف إلى وجوه ألف رؤيتها في جلسته على قهوة المهدي اللبان، وفي شوارع بحري، وبين المصلين في علي تمراز.

قال حمدي رخا: مَن كان يتصور؟

قال إبراهيم سيف النصر: بديهي أن مَن كتبوا ضد الملك كانوا يتصورون.

قال الشيخ قرشي: هذه إذَن نهاية أيام أربعة غريبة.

تخلى حمدي رخا عن شروده: ربما هي البداية. لكنها — بالتأكيد — ليست النهاية!

قال محمود عباس الخوالقة: حدث في الصباح تبادل لإطلاق النار. دقيقتان أو أقل. ثم سكت!

انطلقت — فجأة — رصاصات من ناحية قشلاق الحرس. رد عليها الجنود المحاصرون. ثم خرج من قشلاق الحرس يوزباشي يحمل علمًا أبيض، وطلب إيقاف الضرب.

كان حمدي رخا يتخيَّل ما وراء الأسوار، والباب العالي، والنوافذ المغلقة. إذا لمح سيارة حمراء في طريق الكورنيش، وضع انتباهه في عينيه، يتمنى أن يكون الملك داخلها. يقودها، أو يجلس في المقعد الخلفي. اللون الأحمر يقتصر على سيارات الملك وعربات المطافي. يجلس في الحديقة الواسعة، المواجهة لسراي رأس التين. يقرأ جريدة أو كتابًا تحت ظل الشجرة. يسترخي في القيلولة. تمسح نظراته الشاطئ، والصخرة في نهاية الأفق، والبيوت المتآكلة الحجارة، ومبنى الحرس الملكي، وباب السراي العالي. يتخيل ما يُروى عما بداخل السراي، ما لم يرَه في حياته، ولا خطر في باله. كالحواديت، أو كالخيال: الحدائق الممتدة إلى قلب البحر، تحوي من الورود ما لا يوجد إلَّا في الجنة. الرقصات العارية لسامية جمال، والنساء القادمات من السحر، والخمر، وأنفاس الحشيش، والأغاني والموشحات، والإيقاعات الهامسة والصاخبة، والمآدب، والأضواء الملونة، والخافتة، وأطباق الذهب والفضة، والملابس المبهرجة، والشماشرجية.

كان الناس يتصايحون لرؤية السيارات التي يأذن لها حصار الجنود بالمرور. مَن يتعرف إلى الجالس في السيارة ينطق باسمه: هذا الجالس بين حارسين في السيارة الجيب، بوللي شماشرجي الملك … هذا هو السفير الأمريكي جيفرسون كافري … هذا سليمان حافظ وكيل مجلس الدولة.

قال الشيخ قرشي: كنت أقرأ عن بوللي. لم أره إلَّا اليوم.

وتلون صوته بحيرة: صورته في بالي غير ما رأيته.

قال سيف النصر: كيف كنت تتصوَّره؟

قال الشيخ قرشي: تصورته بغلًا. فرأيته ضفدعة!

أشار ضابط في نحو الثامنة والعشرين إلى الجنود. دفعوا — بأيديهم — الصف الأول من الواقفين. توزعت الصفوف التالية، ثم عادت إلى الالتئام، وإن امتدت بينها انفراجة، تتيح للسيارات المضي داخل السراي وخارجها.

لمح عباس الخوالقة في عربة جيب رجلًا أسمر البشرة، يرتدي ملابس مدنية، يجلس بين ضابطين: هذا هو قريبك حلمي حسين.

قال عبد الوهاب مرزوق بسرعة: لم أقُل إنه قريبي؛ مجرد معرفة!

قال محمود عباس الخوالقة: إنه رأى الملك يقود سيارته الليلة الماضية بنفسه. معه زوجته وابنه والمربية، وإلى جواره شخص لم يعرفه. تلحقه سيارة أخرى بها بناته من الملكة فريدة.

قال خميس شعبان: هل يدبرون شيئًا ضد الملك؟

قال جميعي حميدة: لا أدري! إنهم هكذا من الصباح.

تساءل خميس شعبان: والحرس الملكي؟

قال جميعي حميدة: تبادل مع القوات المحاصرة بضع طلقات، ثم هدأ الموقف.

قال إبراهيم سيف النصر: هل يعزلون الملك؟

قال فهمي الأشقر: لن يتركهم الأمريكان أو الإنجليز يفعلون ذلك!

قال قاسم الغرياني لمنصور مكاوي: غدًا يخرج الإنجليز من معسكرات القناة، وتعود للعمل فيها.

قال منصور: أنا أخذت على حياة البحر.

نطقت ملامح إبراهيم سيف النصر بعدم التصديق لما روى عباس الخوالقة عن كوب عصير الدجاج الذي يشربه الملك كل صباح.

قال عباس الخوالقة في تأكيد: الملك لا يهمه الفلوس. يستطيع أن يصرف مائة جنيه في اليوم، فلا يتأثر جيبه!

قال الخوالقة: كانت الأبواب تفتح أمامنا لسيارات، يركبها سيدات شقراوات، أجنبيات الملامح، يرتدين ملابس كالعري.

قال عبد الوهاب مرزوق: الملك يطلب النساء من الألبوم.

قال جميعي حميدة: قيل إن الشيخ عبد الحفيظ عاد إلى علي تمراز من القائد إبراهيم، وأم المصلين أمس في صلاة الجمعة.

أطلقت المدفعية من خلف السراي طلقات منتظمة، واحدًا وعشرين طلقة، هلَّل لها الناس، ثم سكتت.

صحب إبراهيم سيف النصر حمدي رخا إلى بيته، في منتصف المسافة بين السلسلة ونهاية الميناء الشرقية. خلا امتداد أفق البحر — بامتداد الكورنيش — من عمليات الصيد، وإن تناثرت البلانسات والفلايك واللواتس والدناجل — ساكنة — في مساحات المياه. وكانت الساحة أمام دكان الحاج محمد صبرة خالية. حتى كراسي القعدة لم تكُن في موضعها، وأغلقت إحدى ضلفتَي الدكان. وبدا من تزايد الجالسين على القهاوي والأندية الشعبية والمطلين من النوافذ، في الناحية المقابلة للشاطئ، انعكاسات ما حدث. وتناثر — في نواصي الشوارع — جنود، وعربات عسكرية، ودبابات صغيرة.

نظر سيف النصر — من النافذة — إلى الميناء الشرقية.

كانت الشمس قرصًا أحمر في نهاية الأفق، وظلال الغروب زحفت على الجدران، وسعف النخيل في الرصيف المقابل للكورنيش يهتز بنسائم هادئة.

امتدت يد حمدي رخا إلى الراديو: ماذا جرى في السراي هذا النهار؟

سكتت الموسيقى العسكرية لصوت المذيع جلال معوض: «بني وطني؛ إتمامًا للعمل الذي قام به جيشكم الباسل في سبيل قضيتكم، قمت في الساعة التاسعة صباح يوم السبت ٢٦ يوليو ١٩٥٢، الموافق ٤ من ذي القعدة ١٣٧١، بمقابلة حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس مجلس الوزراء. وسلمته عريضة موجَّهة إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول، تحمل مطلبَين على لسان الشعب.»

هذا إذَن سر حصار السراي من الصباح، وسر السيارات الداخلة والخارجة، تحمل وجوهًا اعتاد رؤيتها في صفحات الجرائد.

هل اعتزل الملك الحكم فعلًا؟ وأين ذهبت به المحروسة؟

أعاد سيف النصر التطلُّع إلى الميناء الشرقية.

البحر حصيرة، والموج يلامس الصخور ببطء. الشمس تحولت إلى نصف برتقالة هائلة، في نهاية مدى البحر. وثمَّة مراكب متناثرة في حدوة المياه الواسعة، فردت أشرعتها، وصياد طراحة يرمي شبكته، قبل أن تسود الظلمة تمامًا. وحركة المرور هادئة، لا تشي بما جرى طيلة النهار. حتى طيور النورس اختفت، فأين تذهب؟ طيرانها فوق الشاطئ، فأين تذهب؟

تنبه لأذان العشاء من أبو العباس، تداخل بالأذان في البوصيري وياقوت العرش ونصر الدين.

مال — بعد الصلاة — علي المهدي اللبان.

فوجئ بزحمة الرواد على كراسيها.

قال المهدي اللبان: أعترف أني تصورت نجاح الجيش في الاستيلاء على الحكم نهاية الأحداث الغريبة، لكن خروج الملك ألغى تصوري.

كل ما جرى لا صلة له به، الجيش الإنجليزي يواجه المتظاهرين في ثورة ١٩١٩، والمتظاهرون يهتفون للجيش المصري في حصاره لسراي رأس التين. هو يحيا في غير زمانه.

قال إبراهيم سيف النصر: ما حدث كان متوقعًا. حتى الشيخ أبو دومة كان يتوقع ما حدث.

علا صوت أحمد أبو دومة بالغضب: ولماذا تسبقني بحتَّى؟ هل أنا أقل فهمًا من الآخرين؟

قال فهمي الأشقر: يقصد أنك مشغول بالتدريس عن السياسة.

قال سيف النصر: أثق أن خروج الملك كان مقررًا منذ البداية، لم يعزلوه في اليوم الأول لأنه كان بعيدًا عن القاهرة.

وتنهَّد: من حظ الإسكندرية أن تشهد خروجه!

•••

وفاة الملك السابق.

تقاضى البائع مقابل نسخ الجريدة، وجرى، يسبقه النداء.

مات الملك؟ كيف؟

داخل إبراهيم سيف النصر إحساس بالخيبة. أحسَّ بما يشبه الدوار، والميل إلى الإغماء، ونبتت في جبهته حبات عرق. ظلَّت الجريدة في يده، لا يحاول قراءتها. هل قتلوه؟ وهل بدأ الجيش حمام الدم؟

تنبه على ضحكة الشيخ قرشي: ابن الكلب سرق فلوسنا.

وأعاد قراءة الجريدة بصوت مرتفع: وفاة الملك السابق أدبيًّا ومعنويًّا.

هتف سيف النصر بالمفاجأة: قتلوا الرجل على الورق ليفوزوا بتعريفة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤