الآن … عرفت

«اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي. إلى مَن تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملَّكتَه أمري؟ إن لم يكُن بك عليَّ غضب، فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل على سخطك. لك العقبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.»

من حزب النور لأبي الحسن الشاذلي:

«يا ألله، يا نور، يا حق، يا مبين. افتح قلبي بنورك، وعلمني من علمك، وفهمني عنك، وأسمعني منك، وبصرني بك، وأقمني بشهودك، وعرِّفني الطريق إليك، وهونها عليَّ بفضلك، وألبسني التقوى منك. إنك على كل شيء قدير. اللهم اذكرني وذكِّرني، وتب عليَّ، واغفر لي مغفرة أنسى بها كل شيء سواك، وهب لي تقواك، واجعلني ممَّن يحبك ويخشاك، واجعل لي من كل هم وغم وضيق وهوى وشهوة وخطرة وفكرة وإرادة، ومن كل قضاء وأمر فرجًا ومخرجًا. أحاط علمك بجميع المعلومات، وعلت قدرتك على جميع المقدورات، وجلت إرادتك أن يوافقها أو يخالفها شيء من الكائنات. حسبي الله، وأنا بريء مما سوى الله. الله لا إله إلا هو. عليه توكَّلت، وهو رب العرش العظيم.»

طالت وقفتها أمام المجيرة الملاصقة لبيت أمين عزب.

كان الليل قد جاوز منتصفه، والأضواء انطفأت في النوافذ، أو أغلقت عليها، ومصابيح غاز الاستصباح تلف شارع إسماعيل صبري برمادية، وإن استطاعت تبين أحجام البنايات والظلال. قهوة فاروق، البعيدة، وحدها، ترامت منها أنوار، ونداءات، وأغنية لعبد الوهاب:

يا اللي نويت تشغلني طاوعني وابعد عني.

كانت تقلب الرأي فيما قررت، عندما أخبرها سيد بخروجه مع الرجال في رحلة صيد. لم يكُن قد ركب البحر من قبل. وافق على دعوة قاسم الغرياني، لطرد الضيق من نفسه. ما حدث يساوي صلاة استخارة. الله أعلم بحالها وما تعانيه.

هل تستطيع؟

والتوبة، وظهور السلطان، وليلة الحلم، وياقوت العرش، وزواجها من سيد، وبيت البلقطرية، والحياة المستقرة؟

هي حاولت. بذلت كل ما استطاعت. فتحت الكتاب. ذهبت إلى المشايخ البعيدين: الشاطبي والقباري والسمك والسماك وجابر الأنصاري. حتى سيدي العجمي لجأت إليه. دعت أولياء الله بفك كربتها. تحمل، وتلد. لا يتكرَّر قتلها بالسقط المفاجئ. ابتلعت ما لطم اسمه أذنها للمرة الأولى من أعشاب نصح بها الحاج محمد صبرة، الكافور وبصل العنصل والكمون التركي والشمر وشوك الجمل والبردقوش. طحنتها، وصحنتها، وخلطتها، وابتلعتها، مغلية، أو في سفوف. علقت في رقبتها سلسلة تحمل حجاب دم من الزجاج الأخضر الشفاف، يمنع النزيف ويوقفه. سعت إلى شاطئ الأنفوشي في الصباح الرمادي، رمت حجابًا حشته الشيخة نبيهة بالآيات والأدعية والطلاسم. حتى ما لم تكُن تتصوَّر أنها تفعله رضيت به: شربت، وأكلت، ما تقرفها رائحته، لحست بطن الترسة، مشت في دم الحمامة المذبوحة، الساخن، خاضت مياه البحر وهي لا تحسن العوم، تحممت بالماء المتخلف من حلاقة سيد لذقنه، أكلت قطعة خبز مغموسة في بول سيد، جرعت كوبًا من دم الترسة الساخن، تغسلت بليفة ميت، دخلت قبرًا مهجورًا، تمددت في نعش، أمضت الليل مع المساخيط في المتحف البطلمي برأس التين، تلقت في حجرها فأرًا ميتًا، وثعبانًا منزوع الأنياب.

طلاقها من سيد هو ما لا تريده، وتخشاه. قد لا يطلقها، لكنه سيتزوج عليها. تعلم أنه لن يرزق بأبناء، وإن كانت تثق أنها لن تصبح سيدة بيتها. ستشاركها أخرى البيت، وحياة سيد.

لم تعُد تحتمل، وإن كتمت الرغبة في أن تترك البيت، وتمضي.

إلى أين؟

يا سيدي السلطان: هل أخطأت فتخليت عني؟ يعلم الله أني — منذ زواجي — ألزم البيت. لا أعرف غير حضن سيد. حتى البيت المهجور، لم أعُد أذهب ناحيته.

هل يرضيك خراب بيتي؟

يا سيدي ياقوت: لا قيمة لشقة أسكن فيها بمفردي. هل تقيم المرأة في شقة بلا رجل؟ وهل أعود إلى ما نسيته؟

الصراخ في أعماقها، والعمر يجري، والمعايرات لا تنتهي، والإنجاب أمل تدفع حياتها ثمنًا لتحقيقه. الثمرة تشغلها، ولا تهمها الوسيلة.

الشيخ حماد!

تخايل أمامها: الجسم الضخم، والقدمان الحافيتان، والصوت الزاعق، والقميص الخيش، والعصا الغليظة.

هل يكون؟

في ليلتها الخامسة ببحري، لم تكُن عرفت البيت المهجور. غاب محمود عباس الخوالقة. دس الرجل عشرة قروش في يدها، وفتح باب الشقة.

دهمها خوف: أوصاك محمود أن أظل إلى الصباح.

قال وهو يلكزها بيده: لا شأن لي بمحمود. جئتِ لعمل، وأخذتِ أجرك.

وصفق الباب وراءها: مع السلامة!

نزلت السلالم إلى حارة أبو شال. طالعتها المجيرة في شارع إسماعيل صبري. بدت أملًا في فضاء الليل. لمحت شبحًا يدخل من الباب: قامة ضئيلة، ينفرج ما بين ساقَيها، فصاحبها يرتدي بنطلونًا. صرَّ الباب للانفراجة التي أحدثها الرجل بما يكفي لدخوله. غاب في العتمة. لدقائق، ثم ترك المجيرة، دون أن يُعنى بإغلاق الباب. خمنت أنه دخل لفك حصره.

تسللت — تعاني الخوف — من الفتحة الطولية، الضيقة، في الباب الخشبي. فاجأها دفع العصا لباب الكوخ الصفيح ناحية الشارع الخلفي. أيقظها الصرير، فانتترت من نومها. كتمت الصرخة لرؤية العصا، والخوف من الفضيحة، واتجاه الشيخ إلى الخارج.

ظلَّت في مكانها، متكومة حول نفسها. ترقب الباب الموارب، حتى تسلل نور الصباح.

تركت الكوخ على أطراف أصابعها.

فوجئت بنومه أمام الكوخ، بالقرب من الباب الموارب. أسند رأسه على بقايا جوال فارغ، ووضع العصا أمامه.

قضت اليوم في البحث عن مكان تلجأ إليه إذا حل الليل، حتى تبينت البيت المهجور بشارع سيدي داوود. دفعته برفق، فانفتح. جاست داخله. اطمأنت — لخلوه من الأثاث — بخلوِّه من السكان.

تردَّدَت على البيوت، واستقبلت في بيت سيدي داوود. التباهي بالفعل يلغي كتم السر. إذا سكت الشيخ حماد، فهو ما تأمله، وإذا تكلم، فمَن يصدقه؟

نفذت من الفتحة الطولية، الضيقة. طالت وقفتها وسط تلال الجير والرمال والزلط، وشكاير الأسمنت والقفف والأجولة الفارغة، وضوء خافت أعلى مئذنة علي تمراز، وكشافات السيارات تومض في شارع إسماعيل صبري، وتختفي.

قال لها سيد وهو يغادر البيت: بيت سليم البشري بدءوا في هدمه.

حدجته بنظرة متأملة: أي بيت؟

قال بلهجة محايدة: البيت الذي كنتِ تسكنين فيه.

قالت لمجرد أن تناقشه، تعطي وتأخذ، تدفعه إلى الكلام معها: البيت في شارع سيدي داود.

أشاح بيده: لا أحد يعرف سيدي داود. إنه جزء من سليم البشري.

– ياه!

اكتفت بالأحرف الثلاثة، وإن لم تجِد ما تقوله. تقلص داخلها بانقباض لم تدرك سببه.

مدَّت أصابعها المرتعشة.

دهشت للارتباك في داخلها. تسللت تحت القميص إلى البطن. لامست خشونة الجلد. انتفض جسمه، فاستعادت أصابعها، وأغمضت عينَيها.

ظلَّت في مكانها. لا صوت إلا أنفاس الشيخ كالشخير. لاحظت استجابته الهادئة، الساكنة.

فرج ما بين ساقَيه.

نفضت الملاءة عن جسمها، وتسحَّبَت. وخز القميص الخيش ساعدها. ثم زادت من الْتِصاقها. بقي في سكونه. فتسللت أصابعها إلى بطنه.

بآخِر ما عندها، جذبته إلى صدرها، وتمدَّدَت تحته.

غاب في تصرفاته الهادئة، خوفها من التصرفات الصاخبة. حرص فلم يضغط بجسده الضخم عليها. حتى اللعاب المتخلف من فمه على كتفها، مسحه بأصابع مترفقة.

•••

حين نفذت من الفتحة الطولية الضيقة، إلى شارع إسماعيل صبري، رأت — من بعد — جرسونات قهوة فاروق، يرفعون الكراسي والطاولات، ويغسلون الرصيف.

مالت من الشارع الخلفي لعلي تمراز، ومنه إلى شارع الشوربجي.

مضت — بخطواتها المهرولة — نحو البلقطرية.

•••

في هذه اللحظات، التي يطلع فيها الصباح، كان الشيخ جابر برغوت يغادر جامع علي تمراز. يحدوه إصرار في السفر إلى القاهرة.

أدى صلاة الفجر، واستأذن من مقام سيدي الأنفوشي.

مضى عليه ما لم يحصره من الأشهر والأيام، منذ اجتباه ولي الله ياقوت العرش، واصطفاه لحضرته، وخصَّه بالسير حتى يقبض المعنى، ويتمكَّن منه. تطهَّر من جنابة الغفلة. عادى حظوظ الدنيا، وأحب حظوظ الآخرة. رفض الدنيا بحذافيرها، وغاب عن نفسه وجنسه. فرَّغ قلبه مما سوى ربه. اكتفى بورد واحد: إسقاط الهوى، ومحبة الولي، فيستحق تبليغ ما يأمره به ولي الله لإصلاح النفوس والأحوال. استبطأ تأخُّر الفتح، وانبساط أنوار العناية، ووجود الإقبال، وتحصيل المعارف والأسرار والأنوار والمواهب والفتوحات والكرامات والمكاشفات، إشارة السماء للخروج من المحنة.

السفينة تغرق، ولن يكون بوسع أحد — بعد تمام الأمر — حتى أن يُبدي الندم.

إذا كان السلطان قد حذر الناس، فأهملوا التحذير. لم يحل وجود ياقوت العرش والبوصيري وعلي تمراز ونصر الدين ومكين الدين والأنفوشي وغيرهم من أولياء الله في الحي، دون ارتكاب المباذل والشرور. التفَّت القلوب إلى ما سوى الله، والتعلق بالأغيار، وغرق الناس في الغفلة، وانغمسوا في الذنوب والشهوات والعوائد. تشوهت النفوس بأفعال المعاصي، تساقطت الأهِلَّة من المآذن، ومالت المآذن كأنها تهم بالسقوط، وطمست الآيات وأبيات البردة في الزوايا، وتآكلت المقرنصات، وانطفأت الشموع فوق الأضرحة والمقامات، وعلا الأذان في غير وقته، وتمكنت الخيبة، وغلب اليأس، وحدث القنوط. عاد الدين غريبًا، كما كان.

إذا كان ذلك ما حدث، فإن الأمر يجاوز الأئمة، لهم وقارهم. لم يعُد من ملجأ إلا أقطاب الأقطاب. معادن أسرار الذات الإلهية، والمميزين بطوالع أنواره. فضَّلهم الله في الدرجة، وفي الرسالة واللطائف والخصائص. أقامهم في مقام الولاية العظمى، وكشف لهم حقائق الأشياء بنور الاسم. صفوا من كدورات البشرية، ورقوا إلى مجال المشاهدات، فصفت أحوالهم بالتجرُّد، وزكت أعمالهم بالإخلاص. بشَّرَتهم الملائكة بأنهم أولياء الله، يحفظونهم من أمره — سبحانه — حتى يدخلوا الجنة. أَلَآ إِنَّ ‌أَوۡلِيَآءَ ‌ٱللَّهِ ‌لَا ‌خَوۡفٌ ‌عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ * ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ.

عليه أن يظل قائمًا بما ألزمه أولياء الله بأمره. يلجأ إلى رئيسة الديوان والأقطاب الأربعة: سيدي إبراهيم الدسوقي، سيدي أحمد البدوي، سيدي أحمد الرفاعي، سيدي محيي الدين عبد القادر الجيلاني. سلاطين العارفين، ملوك الحضرة الإلهية، أصحاب الكرامات الخارقة، والأنفاس الصادقة، ذوي المحل الأرفع من مراتب القرب، والتقديم على سائر خلق الله، والمنهل العذب من مناهل الوصل، والقلوب الممتلئة بالمعارف والأسرار، وغوامض العلوم التي يعجز عنها فهمه. أحبهم الله، ودعاهم إليه، فرأوه بنوره، نور ذاته. لا كيف، ولا أين. امتلأت قلوبهم بمراقبة جلال الذات الإلهية، وحظوا بمناجاة ربهم من وراء الحجب النورانية. يعرض ما انتهى إليه الأمر. يذكر الأسماء والتفصيلات. يجتهد في التذكُّر. لا يفلت حتى ما قد يبدو تافهًا وبلا معنًى. يعطي انتباهه لسادة الديوان، خصهم الله من أنواع الكرامة والمكاشفة والفضل. يتحرون الأمر، يناقشونه، يقلبونه. ثم يقضون بالصواب. تمضي به الطريق إلى معارج النور. تحل الواردات الإلهية، فيحتضنها بالإقبال والتعظيم. يموت الجور وأهله، ويتطهر الثوب النقي من الدنس، ويصلح الزمان: يغاث الخلق، تفتح حصون الضلالة ومدائن الشرك والقلوب الغلف. تُزال البدع. تُقام السنن والحدود والتعزيزات. يُقبِل الناس على العبادة والشرع والديانة والصلاة في الجماعات. تأمن السبل. تظهر البركة والعدل. تؤدي الأمانة. يُرد كل حق إلى أهله. تنعم الأمة، وتطول الأعمار، وتتضاعف البركات. يذهب الشر، ويبقى الخير.

أخذ الدستور من سيدي ياقوت العرش.

أذن له ولي الله في صحو كالمنام، أو منام كالصحو. قال: سافر على بركة الله! ستنال مبتغاك بإذنه.

اللهم بثبوت الربوبية، وبتعظيم الصمدية، وبسطوات الإلهية، وبقدم الجبروتية، وبقدرة الوحدانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤