تنافر السبل

افترقا على صيحة عم محجوب.

حدَّق ليتأكد مما رأى. الأنوار داخل الحمَّام مُطفأة، فيما عدا لمبة وحيدة أمام الباب الموارب.

ضغط على زر النور القريب. تأمَّلَ العصا في يد الولد، والحبال كتَّفَت يدَي الرجل وقدمَيه، والملابس الملقاة في ركن المربع.

خمَّنَ ما حدث، فصرخ: يا أولاد الأبالسة. هل خلت الدنيا من النسوان؟!

فاجأته سحنة حمادة بك. غالب ارتباكه: ما هذا يا حمادة؟ ماذا يفعل هذا الولد معك؟

الْتقطَ حمادة بك ملابسه من ركن المربع، ارتداها بلهوجة. دفع عم محجوب بأصابعه، وجرى خارج الحمام.

•••

كان قدوم الليل يُخيفه.

تصدُّه الظلمة عن السير في الشوارع الضيقة، المُفضِية إلى شارع إسماعيل صبري.

الحكايات تغادر به القهوة خائفًا من الأشباح والموتى والجان والعفاريت، يُعطي لها انتباهه، لا يشارك فيها، فهو لم يرَ ما يتحدَّث الرجال عنه، لكنه يثق — من خلال التأكيدات — بوجودها، ويخاف مطاردتها. يتصوَّرُها في أشكال وتكوينات، يتوقَّع ترصُّدها له في الأماكن المُظلِمة والخرابات والبيوت المهجورة، حيث تفضِّل العيش. قد تُفاجئه في حنية السلم وهو يصعد إلى الشقة، يستعيذ، ويبسمل، ويتمتم بعدِّية يس. يتوقَّع زوالها، وإن ظلَّ الخوف هاجسًا يُناوشه.

كان يفضِّل الشوارع ذات فوانيس غاز الاستصباح على جانبَيها، في طريقه بين البيت والمسافرخانة والحجاري وقعدة محمد صبرة وقهاوي الزردوني والمهدي اللبان وفاروق وجوامع المرسي أبو العباس ونصر الدين والبوصيري وياقوت العرش وعلي تمراز ومقامات أولياء الله.

حاول أن يطرد الخوف بقراءة سورة يس، وآيات من جزء عم. اصطنع الغناء بصوت مرتفع. استدعى إلى لسانه ما لم يحاول اختياره.

قبل أن يتجه من ميدان الأئمة إلى الموازيني، لحقه صوت الشاب: كيف أصل إلى حمام الأنفوشي.

وهو يشير إلى ناحية شارع التتويج، شده في الشاب ما لم يتبينه على وجه التحديد. في حوالي الثامنة عشرة. أميَل إلى النحافة والطول. شعره مجعَّد، له قُصَّة تنزل على جبينه، وعيناه ساجيتان مطمئنَّتان، وشاربه خفيف فوق شفته العليا. يرتدي جلبابًا أزرق، له فتحة في الصدر، تبرز منها فانلة متآكلة الأطراف، ومثقوبة، ويدس قدمَيه — لاحظ اتساخهما — في حذاء كاوتش ثنى جزءه الخلفي. يُداري مظهره الأنثوي بصوت ينتزعه من حنجرته.

قال مدفوعًا برغبة في أن يأخذ ويُعطي: الحمام لا يفتح ليلًا.

همس الشاب: أعرف.

– هل تقصد مكانًا بالقُرب منه؟

قال الشاب في صوته الهامس: أنا أقيم فيه.

في نبرة مُبطَّنة بالود: تقرب لعم محجوب؟

غالب الشابَّ ارتباك، ولم يُجِب.

توقف حمادة بك عن المشي، واتجه ناحيته.

قال لمجرَّد أن يحدِّثه: ماذا تعمل؟

فرَدَ راحتَيه: أقصد وجه الله.

وهو يُعيد نظرته: لماذا لا تعمل في الحمام؟

رفع إليه عينَين مرهقتَين: الحمام لا يحتاج إلا إلى خفير.

رسم ابتسامة متودِّدة: المكيساتي مهنة مُربِحة.

ران على صوت الشاب تخاذُل: لا أعرفها.

ثم وهو يعتصر كفَّيه: الحمام لا يحتاج إلا إلى خفير.

قفز الخاطر الجهنمي إلى ذهنه دون تفكير، وبلا تدبُّر. قذف البركان حممه في غير موعد، وتوالى وميض البرق، كأنما سواد الليل تحول إلى نثار، وقصف الرعد، وهطل المطر في صفاء الجو، وتراقصت الأشباح والتهاويل، وهزت الريح — في امتداد الشاطئ — أوراق الشجر وسعف النخيل، وساخت القدمان في الرمال الساخنة، الناعمة، واختلط صياح الديكة في الأسطح القريبة، وتتابعت الأمواج، وتلاحقت، والُتَمعَ زبد الماء تحت انعكاسات أشعة الشمس، وتصاعدت رائحة الشواء فوق جمرات الفحم المتقدة، وترامى صوت فرقعة سوط حوذي، وحفَّت أفانين اللذات والأغاني.

داخلت صوته ارتعاشة واضحة: أنا أحتاج إلى مكيساتي يساعدني في استعادة عافيتي.

إلحاح الخاطر أرعشَ صوته وجسمه. كانت الرغبة تُفاجئه بمناوشتها. تُحيطه الغابة المسكونة بالصراخ والبكاء، والأصوات الهامسة، والصاخبة، والمتلاغطة. يتصاعد في داخله ما يصعب فهمه، ولا يقوى على كتمه. تسيطر على نظرات عينَيه. تفتِّش عن المعنى في قعداته، وفي نظرات ناس الطريق. ربما تجتذبه عينان تشيان بانفراجة الباب إلى غابة السحر والنشوة.

لم يكُن قد تردَّد على الحمام منذ الزيارات الجماعية لتلاميذ مدرسة راتب باشا الابتدائية. المربعات التي يصل ارتفاعها إلى طول القامة، يتصاعد منها البخار الساخن، ووشيش نزول الماء من الأدشاش، ووَقْع القباقيب على الأرضية، والأصوات المتلاغطة تترامى بما لم يكُن يعرفه، ولا استمعَ إليه.

كانت دلائل البلوغ تُدهشه، حين رآه الجد السخاوي يتأمل الرجال الواقفين تحت الأدشاش: انجر من هنا.

ذوَت النشوة في داخله. لم يعُد إلى الحمَّام من يومها، وإن تعرف إلى عم محجوب من تردُّده على فرن التمرازية، وقهوة الزردوني.

غياب الرخام الساخن عوَّضَه بالتمدُّد على البسطة المُفضِية إلى داخل الحمام. بدا الشاب متحيِّرًا: ماذا يفعل؟

أشار برأسه: هات ليفة وصابونة وماءً فاترًا.

همس باللذة: كُن قاسيًا. لا تخجل من إهانتي.

•••

قال الشاب: لا ذنب لي. هو الذي …

تحيَّر عم محجوب بين مواجهة الشاب، وملاحقة حمادة بك الذي اختفى في الظلمة.

واجه الشاب بعينَين جامدتَين: ماذا؟ هو الذي ماذا؟

ارتعش أنف الشاب بالخوف والارتباك: الْتقيتُ به في ميدان أبو العباس، فصحبني إلى الحمام.

تنمَّرَت ملامحه: هذه أول مرة أراه هنا. أما أنت فتُجازي إيوائي لك بكبيرة؟!

تقطَّعَت شهقات الشاب في نشيج مرتفع: سألني أين أقيم. أصرَّ أن يصحبني.

ثم وهو يُخفي وجهه براحتيه: عرف ظروفي، فعرض تشغيلي …

قاطعه عم محجوب: في الكومبانية؟!

•••

عندما وقف الشاب على باب الحمام، قال عم محجوب: الحمام بالمجان. والمبيت ممنوع.

وهو يهز رأسه: أعرف!

تهيَّأ لإغلاق الباب: الحمد لله.

قال الشاب في مداهنة: أطمع في كرمك. ثلاث ليال. أحضر فيها مولد أبو العباس.

رمقه بنظرة باردة: هذا مولد. لا أحد يسأل عن أحد.

عاود الشاب إلحاحه: جئت بمفردي. ولست مريدًا في طريقة.

نبَّه عليه الصاغ عاطف شوقي مأمور نقطة الأنفوشي بألَّا يأذن لمخلوق بالمبيت في الحمام، حتى مَن يأذن لهم بمجرَّد الدخول، عليه أن يتثبت أنهم من أبناء الحي. كلَّمَه عن الفارين من الجماعات السياسية. مَن يشك فيه يُغلق الحمَّام عليه، ويُبلغ نقطة الأنفوشي القريبة.

كانت الشوطة أصعب أيامه.

أملَت عليه الأوامر أن يقتصر دخول الحمَّام على الموظفين وتلاميذ المدارس. غاب عن الحمام قاسم الغرياني وحمودة هلول ومحيي قبطان وخميس شعبان. من ألف قدومهم قبل أن يطلع الصبح. توالى قدوم تلاميذ المدارس، وطلبة المعهد الديني، والسحن الغريبة لرجال يرتدون البدل والجلابيب والجبب.

نظر الرجال إلى الشاب في ريبة، وتهامسوا بأسئلة، ولمَّحوا إلى جلسته على باب الحمام، بالقرب من عم محجوب.

قال — ليُسكت فضولهم — إنه قريبه.

قال قاسم الغرياني: أخيرًا. ظهر لعم محجوب أهل!

لم يكُن من أهل بحري، ولا من أهل الإسكندرية. السنوات التي أمضاها في الحمام، وتردُّده على الجوامع والقهاوي، ومعرفة الصيادين، جعلَتْه من أبناء المدينة. لم يعُد يذكر العسيرات إلَّا أن يلتقي — كل حين ومين — بأحد أبنائها عند أبو العباس. عرف مواعيد النوَّات، وموالد الأولياء، وأنواع السمك، وحكايات البحر. وكان يروي للرجال ما يعكس لذة المتابعة في عيونهم: أبو زيد والزناتي والسندباد والجازية وسيف بن ذي يزن والزيبق والسفيرة عزيزة، وشخصيات أخرى يخترعها، ويُضيفها إلى السيرة والحكاية، يُبالغ في روايته حتى يأخذ انتباههم تمامًا.

•••

لم يكُن عم محجوب يتردَّد على البلدية إلَّا ليقبض راتبه. لم يُستدعَ لمساءلة ولا تحقيق. حتى عهدة الصابون والفوط يتسلَّمها عامل الغلاية والتبخير. ينصرف العامل في الثانية بعد الظهر. يغلق عم محجوب الحمَّام، لا يأذن بالدخول إلَّا لمَن يعرفه.

قال الرجل ذو الشارب الكثِّ الأبيض، والعينَين الجاحظتَين: أنت تؤجِّر الحمَّام للمبيت.

حدجه عم محجوب بنظرة مندهشة: وهل الحمَّام لوكاندة؟

قال الرجل: أنا الذي أسألك: هل الحمَّام لوكاندة؟

خالط صوته استياء: قهوة كشك بقرشَين. هل آخذ قرش صاغ؟!

كرَّر عم محجوب السؤال: لماذا؟ حين أمره مفتش الصحة أن يسلم عهدته، آخِر زيارة إلى الصعيد منذ ثماني سنوات، ثم لم يعُد يغادر الحمام ولا الإسكندرية.

قال في نبرته المستاءة: هل كنت أتركه مع الولد؟

قال عبد الوهاب مرزوق: إذا اعتذرت لحمادة بك. أثق أنه سيعفو عنك.

عاود الصراخ: هل كنت أتركه؟

ومَضَ في الذاكرة ما نقله الولد عن حمادة بك: أنا الملك في بحري … فتِّش عن مهنة مناسبة، واترك لي الأمر.

قال قاسم الغرياني: لولا إشفاقي على صحتك لطالبتُك بالمشاركة في اللعبة.

نطق الغضب في ملامحه. غطَّاها بقناع من الخطوط والتجاعيد: اخرس يا قليل الأدب.

•••

تقدَّم الليل، وتناقص عدد روَّاد قهوة الزردوني. أُطفِئَت أنوار الداخل. لم تعُد إلا اللمبة المُدلَّاة من السقف، أعلى الرصيف. انشغل عبد البصير، عامل النصبة، بالتنظيف، وإعادة «العدة» إلى أماكنها.

اقترب ياقوت من عم محجوب الجالس بمفرده.

قال يتحسَّس الكلمات: هل تقبل استضافتي هذه الليلة … يحصل لي الشرف؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤