إلى القارئ

كانت الشخصية الأدبية قبل شيكسبير ثابتةً نسبيًّا؛ فالصور التي تُمثل النساء والرجال كانت تُصور أفرادًا يتقدمون في السن ويموتون من دون أن يتغيَّروا؛ لأن علاقتهم بأنفسهم، لا بالأرباب ولا بالله، قد تغيرَت. أما في شيكسبير فإن الشخصيات تتطور بدلًا من أن تتكشَّف لنا وحسب، وهي تتطور لأنها أعادت تصوُّرَ ذَواتها، وهو ما يحدث أحيانًا لأنها تسترقُ السمع إلى نفسها أثناء كلامها، سواءٌ كانت تُخاطب أنفسها أو تُخاطب غيرها. واستراق السمع الذاتي هو الطريق الملكي للتفرد، ولم يحدث من قبل، قبل شيكسبير أو بعده، أنْ حقَّق كاتبٌ ما يُشبه هذه المعجزة؛ أي خلق أصوات تختلف اختلافًا كاملًا، وتتَّسم في الوقت نفسه بالاتساق مع ذاتها للشخصيات الرئيسية التي يربو عددُها على مائة، إلى جانب مئاتٍ كثيرة من الشخصيات الثانوية التي تتميز كلٌّ منها عن الأخرى.

وكلما ازدادت قراءةُ المرء لمسرحيات شيكسبير وازداد تأملُه لها؛ ازداد إدراكُه أن الموقف الدقيق الذي يتخذه إزاءها موقفُ الرهبة. أما كيف كان ذلك فلا أستطيع أن أعرف، وبعد عَقدَين قضيتُهما في تدريس هذه المسرحيات، ولا شيء يُذكر سواها، أجد أن اللغز لا حلَّ له. وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يأمُل أن يكون مفيدًا لغيري، فإنه إقرارٌ شخصي من جانبي، أو تعبيرٌ عن غرام مَشبوب طال عليه الأمدُ (وإن لم يكن فريدًا)، أو ذروة عمل استغرق عمري كله في قراءةِ ما أصرُّ على تسميته الأدبَ الخيالي، والكتابةِ عنه وتدريسه. والحقُّ أن تقديس شيكسبير أو عبادته ينبغي أن تتخذ المزيدَ مما تتمتَّع به حاليًّا من كونها الدينَ العلماني. ولا تزال المسرحيات تُمثل الحد الأقصى للإنجاز الإنساني: جماليًّا ومعرفيًّا، بل وأخلاقيًّا من زوايا معينة، وحتى روحيًّا، فهي تسكن منطقةً لا يصل إليها الذهنُ مهما مدَّ يده، ونحن لا نستطيع اللَّحاق بها، وسوف يواصل شيكسبير شرح حقيقتنا؛ وذلك لأنه، إلى حدٍّ ما، قد اخترعَنا، وهذه هي القضية الرئيسية التي يُقدمها هذا الكتاب. ولقد كرَّرتُ القول بهذه القضية في تضاعيف الكتاب لأنها سوف تبدو غريبةً في أنظار كثير من الناس.

وأنا أقدم تفسيرًا شاملًا إلى حدٍّ معقول لجميع مسرحيات شيكسبير، موجَّهًا إلى عموم القراء ومرتادي المسرح. وعلى الرغم من وجود بعض النقاد الأحياء لشيكسبير، ممن أُبدي إعجابي بهم (وأقتبس أقوالًا لهم، مشيرًا إليهم بأسمائهم)؛ فيحزُّ في نفسي جانبٌ كبير مما يُكتب اليوم باعتباره قراءاتٍ لشيكسبير، أكاديميةً كانت أو صحفية؛ إذ إنني أسعى، أساسًا، إلى أن أُمثِّل امتدادًا لتقاليدِ التفسير التي تضمُّ صمويل جونسون، ووليم هازليت، وأ. سي برادلي، وهارولد جودارد، وهي تقاليدُ غالبًا ما يقال إنها عفا عليها الزمن. إن شخصيات شيكسبير أدوارٌ يلعبها الممثلون، وهي أيضًا أكبرُ كثيرًا من هذا؛ فإن تأثيرها في الحياة هائل، ويكاد يُضارع تأثيرَها فيما كُتب من أدبٍ بعد شيكسبير؛ إذ لا يُبارى مؤلفٌ عالمي آخر ما أنجزه شيكسبير من الخلق الظاهر للشخصيات، وأقول «الظاهر» هنا على مضضٍ إلى حدٍّ ما؛ فإعداد قائمة بأعظم مواهب شيكسبير يكاد يُصبح ضربًا من العبث، فأين نبدأ أو أين ننتهي؟ لقد كتب أفضل ما كُتب من شعر ونثر بالإنجليزية، وربما بأية لغةٍ غربية أخرى. وذلك لا ينفصل عن قوته المعرفية، ما دام فكره أشدَّ شمولًا وأصالةً من فكر أي كاتب آخر. ومن المذهل وجودُ إنجاز ثالث يتجاوز ما ذكر، لكنني أنضمُّ إلى التقاليد الجونسونية فأقول، بعدَ ما يقرب من أربعة قرون على حياة شيكسبير، إنه تجاوز كلَّ من سبقه (حتى تشوسر) واخترع الطابع الإنساني حسبما نعرفه إلى اليوم. فإذا وضع أحدٌ صيغة محافظة للتعبير عن ذلك فسوف تبدو لي قراءةً ضعيفة لشيكسبير: قد تقول تلك الصيغةُ إن أصالة شيكسبير تكمن في تمثيل المعرفة والشخصية والطبع. ولكن المسرحيات تَفيض بعنصرٍ معين يتجاوز التمثيل، ويعتبر أقربَ إلى التعبير المجازي الذي نُسميه «الخلق». فالشخصيات المهيمنة في شيكسبير — فولسطاف، وهاملت، وروزاليند، وياجو، ولير، ومكبث، وكليوباترا من بينها — نماذجُ فذَّة لا تقتصر على أن تُبين لنا كيف ينشأ المعنى، بدلًا من تَكراره، بل تُبين لنا أيضًا كيف تنشأ طرائقُ وعيٍ جديدة.

قد نرفض الاعترافَ بمقدار الطابَع الأدبي الذي كانت ثقافتنا تتَّسم به، وبخاصةٍ اليوم بعد أن تكاتف عددٌ كبير من المؤسسات التي تُقدم الأدب لنا، فأعلنَت في جذلٍ أنه مات. والواقع أن عددًا لا يُستهان به من الأمريكيين الذين يعتقدون أنهم يعبدون الله، لا يعبدون في الحقيقة إلا ثلاثَ شخصيات أدبية؛ أولهم يَهْوه، كما صوَّره أحدُ كتَّاب الكتاب المقدَّس (أول مؤلفٍ لأسفار التكوين والخروج والعدد)، وثانيهم يَسوع — عليه السلام — في إنجيل مرقس، وثالثهم الله في القرآن الكريم. وأنا لا أقترح استبدال عبادة هاملت، ولكن هاملت هو المنافس العلماني الوحيد لأسلافه العِظام من حيث الشخصية. وعلى غِرارهم لا يبدو أنه مجردُ شخصية أدبية أو درامية، بل إن تأثيره الشامل في الثقافة العالمية يستعصي على الحصر؛ إذ يحظى بعد يسوع — عليه السلام — بأكبرِ عدد من الإحالات إليه والاستشهاد به في الوعي الغربي، وإذا لم يكن أحدٌ يُصلي له، فلا أحد يتجاهله مدةً طويلة. (لا يمكن اختزاله في دورٍ يلعبه مُمثل؛ فلا بد أن يبدأ المرء في الحديث عن «أدوار الممثلين» على أية حال؛ إذ توجد أعدادٌ من هاملت تفوق أعدادَ الممثلين القادرين على أداء تلك الأدوار). وإذا كان لغزُ هاملت مألوفًا إلى حدٍّ بعيد على الرغم من الجهل الدائم به، فإنه رمزٌ للُّغز الأكبر لشيكسبير نفسِه؛ إنه الرؤيا التي تُعتبر كلَّ شيء ولا شيء، وهو شخص يعتبر (في نظر بورخيس) كلَّ واحد ولا أحد، وهو فنٌّ وسع كلَّ شيء حتى احتوانا، وسوف يواصل احتواءَ من يحتمل أن يَخلُفونا.

ولقد حاولتُ في تناولي لمعظم المسرحيات أن أكون مباشرًا قدْرَ ما تسمح به «غرائب» الوعي عندي، في حدودِ ترجيحي الشديد للشخصية على الحدث، كما حاولتُ تأكيدَ ما أسمِّيه «التصدير» [أي إيلاء الصدارة] مفضلًا إياه على ما يُسميه «الخلفية» أرباب المذهبين التاريخيَّين؛ القديم منه والجديد. وأما القسم الأخير، وهو «التصدير» فالمقصود به أن يُقرأ في إطار أية مسرحية ويمكن أن يُطبع في أي مكان في هذا الكتاب. ولا أستطيع أن أزعم أنني اتبعتُ المنهج المباشر فيما يتعلق بالجزأَين من هنري الرابع، حيث ينصَبُّ تركيزي «القهري» على شخصية فولسطاف، الرب الأخلاقي لتصوراتي. وأما في كتابتي عن هاملت فقد اتبعت نهجًا تجريبيًّا، مطبقًا تناولًا دائريًّا، بمعنى أنني أختبر الأسرارَ الغامضة للمسرحية وبطلها بالعودة دائمًا إلى فرضيتي (اتباعًا للمرحوم بيتر ألكسندر) التي تقول إن شيكسبير نفسَه، في شبابه، لا توماس كيد، هو الذي كتب النصَّ المبكر لمسرحية هاملت الذي كان قائمًا قبل هاملت التي نعرفها بأكثرَ من عَقدٍ من الزمان. وأما في تناولي مسرحيةَ الملك لير، فقد تابعتُ ما يجري لأشدِّ الشخصيات إثارةً للقلق — المهرج، وإدموند، وإدجار، ولير نفسه — ابتغاءَ متابعة مأساة هذه المسرحية التي تفوق جميعَ المآسي في فواجعها.

وإذا كان هاملت (أستاذ فرويد) يُحرض كلَّ ما يقابلهم على الكشف عن أنفسهم، فإن هذا الأمير (مثل فرويد) يَروغ مِن كل مَن حاول أن يكتب سيرته. والذي يفعله هاملت مع زملائه من الشخصيات نموذجٌ لتأثير مسرحيات شيكسبير في نقَّادها. لقد بذلتُ جهدًا، في حدود طاقتي، للحديث عن شيكسبير لا عن نفسي، لكنني واثقٌ أن المسرحيات قد فاضت فأغرقَت وعيي، وأن المسرحيات «قرأَتني» خيرًا مما قرأتُها. كنتُ كتبت ذات يوم إن فولسطاف لن يَقبل منا أن نُضجِرَه إذا تنازل وقَبِل أن يُمثلنا. وينطبق هذا أيضًا على أقران فولسطاف، سواءٌ كانوا من أهل الخير مثل روزاليند وإدجار، أو من أهل الشر المستطير مثل ياجو وإدموند، أو كانوا ممن يتجاوزون حالنا نحن تجاوزًا كاملًا مثل هاملت ومكبث وكليوباترا؛ إذ تعيش فينا دوافعُ لا نستطيع أن نأمرها، وتقرؤنا أعمالٌ لا نستطيع أن نُقاومها. فنحن نحتاج إلى أن نبذل أكبرَ جهدٍ ممكن في قراءة شيكسبير، مدرِكين أن مسرحياته سوف تقرؤنا بجهدٍ أكبر. قُل إنها تقرؤنا القراءةَ المطلقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥