عالمية شيكسبير

١

إن سُئلتُ لماذا شيكسبير، فلا بد أن تكون الإجابة: ومَن سواه أمامي؟

كان النقد الرومانسي، من هازليت إلى والتر باتر وأ. سي برادلي ثم هارولد جودارد؛ يقول إن أهم ما يُهمنا في شيكسبير يشترك فيه مع تشوسر ودوستويفسكي أكثرَ مما يشترك فيه مع مُعاصريه مارلو وبن جونسون. فالنفوس الباطنة ليست كثيرةً في أعمالِ من أبدع تمبرلين [أي تيمورلنك] والسير مامون الأبيقوري [أي مارلو وبن جونسون على الترتيب]. وتقديم السياقات التي يشارك فيها شيكسبير مُعاصريه تشابمان أو توماس ميدلتون لن يكشفَ لك عن السبب الذي جعل شيكسبير، لا تشابمان ولا ميدلتون، ينجح في تغييرنا. ويتفوَّق الدكتور جونسون على جميع النقاد في تحديدِ تفرُّد شيكسبير. كان الدكتور جونسون أولَ من رأى وذكَر أن مَكْمن امتياز شيكسبير تنوُّع أشخاصه؛ إذ لم يحدث أنْ قدَّم أحدٌ قبل شيكسبير أو بعده هذا العددَ الكبير من النفوس المنفصلة.

لا بد أن يكون توماس كارلايل، ذلك النبي الفيكتوري المتشائم، أشد من نُبغضه من نقاد شيكسبير الذين كنا نحترمهم يومًا ما، ومع ذلك فإنه صاحبُ أهم جملةٍ مفيدة عن شيكسبير، ألا وهي «إن طُلب إليَّ تحديدُ ملكة شيكسبير، لذكرتُ أنه التفوق الذهني، وأظن أنني جمعتُ كل شيء في هذا القول.» كان كارلايل دقيقًا وحسب؛ إذ لدينا شعراءُ عظماء ليسوا مفكِّرين، مثل تنيسون ووولت ويتمان، وشعراء عظماء يمتازون بأصالةٍ نظرية مذهلة، مثل وليم بليك وإيميلي ديكنسون. ولكنني لا أرى أيَّ كاتب غربي، أو كاتب شرقي استطعتُ أن أقرأه، يُضارع شيكسبير في ذهنه، وأنا أُدرج في إطار الكُتَّاب الفلاسفة الكبار، والحكماء الدينيين، وعلماء النفس، من مونتانيْ، إلى نيتشه وفرويد.

ولكن هذا الحكم، سواءٌ كان قائلُه كارلايل أو كنتُ أنا قائلَه، لا يُمثل في نظري إعجابًا مطلقًا بشيكسبير، بل ربما لم يكن غيرَ تَكرار لما قاله ت. س. إليوت من أن غاية أملِنا أن نُخطئ بطريقةٍ جديدة بشأن شيكسبير. وأقول إننا لن نكفَّ عن الخطأ بشأنه إلا حين نكفُّ عن محاولة إصابة المرمى. فلقد عكفتُ على قراءة شيكسبير وتدريسه كلَّ يوم تقريبًا على مدى السنوات الاثنتَي عشرة الماضية، وأنا واثقٌ أنني لستُ أراه إلا رؤيةً مبهمة؛ فذهنه أعلى من ذهني: لِم لا أتعلم أن أُفسره بقياسِ ذلك التفوق، وما ذاك إلا الإجابةُ الوحيدة عن السؤال «لماذا شيكسبير؟» الواقع أن مظاهر تقدُّمنا المفترضةَ في الأنثروبولوجيا الثقافية أو في الأنماط الأخرى «للنظرية» ليست خطوات تقدم عليه.
فمن ناحية العلم والذهن والشخصية، يبدو صمويل جونسون الأولَ في نظري بين جميع نقَّاد الأدب الغربيين، وكتاباتُه عن شيكسبير لها بالضرورة قيمةٌ فريدة؛ فلقد كان أعظمَ المفسرين الذين علَّقوا على أكبر المؤلفين جميعًا، ومن المحال ألا نجدَ فيه نفعًا وأهمية دائمَين. كان جونسون يرى أن جوهر الشعر الابتكار، ولا يمكن أن يُنافس شيكسبير في الأصالة إلا هوميروس. وأما الابتكار بالمعنى الذي يقصده جونسون ونقصده أيضًا فهو جهد العثور على شيء أو اكتشافه. ويقول جونسون: إننا نَدين لشيكسبير بكل شيء، ويعني بهذا أن شيكسبير علَّمَنا أن نفهم الطبيعةَ البشرية. ولا يبالغ جونسون فيقول: إن شيكسبير ابتكرَنا [بمعنى اكتشَفَنا]، ولكنه يوحي بالدلالة الحقيقية للمحاكاة الشيكسبيرية قائلًا: «الأعمال القائمة على المحاكاة تأتي بالألم أو المتعة، ليس لأننا نتصور أنها حقائقُ واقعة؛ بل لأنها تأتي إلى النفس بالحقائق الواقعة.» ولما كان جونسون ناقدًا يقوم عملُه على الخبرة قبل كل شيء؛ فإنه كان يعلم علم اليقين أن الحقائق الواقعة تتغير، بل إنها هي التغيير عينُه. وأما ما ابتكره شيكسبير فهو طرائقُ تمثيل التغيرات البشرية وهي التغييرات التي لا تنجم فقط عن النقائص والذبول، بل التي تتسبَّب فيها الإرادة أيضًا، ويتسبب فيها ما يَشوب الإرادةَ من نقاط الضعف الزمنية. ويتمثل أحدُ طرائق تعريف الحيوية النقدية عند جونسون في رصد اتِّساق قدرته على الاستنباط؛ فهو دائمًا ما يتخذ موقعَه داخل مسرحيات شيكسبير إلى الدرجة التي تُمكِّنه من الحكم عليها مثلما يحكم على الحياة الإنسانية، من دون أن ينسى ولو للحظة أن مهمة شيكسبير تتمثَّل في إِطْلاعنا على الحياة؛ أي توعيتنا بما لا نستطيع أن نعثر عليه من غير قراءة شيكسبير. وجونسون يعرف أن شيكسبير ليس الحياة، وأن فولسطاف وهاملت أكبرُ من الحياة، ولكن جونسون يعرف أيضًا أن فولسطاف وهاملت قد غيَّرا الحياة. ويقول جونسون إن شيكسبير يُحاكي الطبيعة البشرية الجوهرية محاكاةً صادقة، وهي الطبيعة العالمية لا ظاهرة اجتماعية. ويقول أنطوني ناطول Nuttall [١٩٣٧–٢٠٠٧م] في كتابه الرائع الذي يتبع فيه منهج جونسون وعُنوانه محاكاة جديدة (١٩٨٣م) إن شيكسبير، مثل تشوسر «كان يطعن دون تصريحٍ في التصور التعاليِّ للواقع»، ولكن جونسون، ذا الإيمان المسيحي الثابت، لم يكن يسمح لنفسه بأن يقول هذا، لكنه كان يفهم المراد بوضوح، وقلقه إزاء ذلك من وراء الصدمة التي شعر بها بسبب مقتل كورديليا في نهاية مسرحية الملك لير.

لا يتمتع إلا الكتابُ المقدس بمحيط الدائرة الذي يشمل كلَّ مكان، مثل محيط شيكسبير، ومعظم الذين يقرَءون الكتاب المُقَدَّس يعتبرونه قائمًا على وحيٍ رباني، إن لم يكن تأليفه من الخوارق. ومركز الكتاب المُقَدَّس هو الله، أو ربما يكون صورةً لله أو فكرةً عنه، ومكانه بالضرورة غير ثابت. ولقد وُصِفَت أعمال شيكسبير بأنها كتاب مقدسٌ علماني، أو بتعبير أبسط، المركز الثابت للأدب المعتمَد الغربي. وأما ما يشترك الكتاب المُقَدَّس وشيكسبير فيه فهو فعلًا أقلُّ مما يفترضه معظمُ الناس، وأنا أظن أن العنصر المشترك الوحيد هو طابع عالمي معين، يتسم بالشمول وتعدُّد الثقافات. ولقد تخلت العالمية اليوم عن رَواجها السابق، باستثناء المؤسسات الدينية ومَن تؤثر فيهم تأثيرًا شديدًا. ومع ذلك فلا أرى كيف يمكننا النظر إلى شيكسبير إلا بالعثور على طريقةٍ ما لتفسير حضوره المتغلغل في سياقاتٍ لا يُحتمل وجوده فيها على الإطلاق؛ فهو هنا وهناك وفي كل مكان في الوقت نفسِه. إنه جهاز من الأضواء الشمالية، أو قُل إنه الشفق القُطبي الذي لا يُشاهَد إلا في أماكنَ لن يذهب إليها معظمُنا. فلا المكتبات العامة ولا المسارح (ولا دُور السينما) يمكنها أن تحتويَه؛ إذ أصبح روحًا، أو «سحرًا من الضوء» ذا مساحةٍ شاسعة إلى الحد الذي يكاد يستحيل معها إدراكُه. وما التقديس الرومانسي الرفيع لشيكسبير، الذي ينال ازدراءً شديدًا في جامعاتنا التي لوَّثَت نفسها بنفسها، إلا أشدُّ تعبير معياريٍّ عن ضروب إيمان العابدين له.

ولا يَشغَلني في هذا الكتاب كيف حدث ذلك، بل سببُ استمراره، فإذا قُدِّر لأحد المؤلفين أن يصبح ربًّا من البشر الفانين، فلا بد أن يكون شيكسبير. ومَن ذا الذي يمكنه التشكيكُ في سطوع نَجمه الجميل الذي لم يرفعه سوى فضلِه؟ كم كان الشعراء والنقاد الذين يُبجلون دانتي، وجيمز جويس وت. س. إليوت يودُّون أن يُفضلوا أحدَهم على شيكسبير، لكنهم لم يستطيعوا؛ فالقراء العاديُّون — ونحمد الله على أنهم لا يزالون بيننا — نادرًا ما يستطيعون قراءةَ دانتي، لكنهم يستطيعون قراءة شيكسبير ومشاهدةَ مسرحياته. ويُذكِّرنا أقرانُه القليلون — هوميروس، وكاتب العهد القديم [في الكتاب المُقَدَّس]، ودانتي، وتشوسر، وسرفانتيس، وتولستوي، وربما ديكنز — أن تصوير الشخصية الإنسانية وطباعها يظلُّ على الدوام متميزًا بأعلى قيمة أدبية، سواءٌ كان ذلك في الدراما، أو في الشعر الغنائي، أو في القصص. وتدفعني سذاجتي إلى مُداومة القراءة، ما دمتُ عاجزًا وحدي عن معرفة العدد الكافي من الناس معرفةً عميقة. وكان روَّاد مسرح شيكسبير أنفسُهم يُفضلون شخصيتَي فولسطاف وهاملت على جميع شخصياته الأخرى، مثلما نُفضلهما؛ لأن «المحتال البدين» وأمير الدنمارك يتجلى فيهما أشملُ وعي إنساني عرَفه الأدب كلُّه؛ فهو أكبرُ من وعي كاتب العهد القديم، ومن يسوع — عليه السلام — الذي يُصوره إنجيل مرقس، ومن دانتي الحاج وتشوسر الحاج، ومن دون كيشوت وإستر سمرسون، ومن الرواية عند بروست، ومن ليوبولد بلوم. وربما يكون فولسطاف وهاملت، لا شيكسبير، هما اللذين يُعتبران من الأرباب البشرية، وربما يكونان أعظمَ الأذكياء وأعظم الأذهان التي تُشارك في إضفاء الربوبية على مَن أبدعها.

ما أهمُّ صفة يشترك فولسطاف وهاملت فيها مشاركةً دقيقة؟ لو استطعنا إجابةَ هذا السؤال فربما استطعنا النَّفاذَ إلى داخل شيكسبير، وهو ذو لغزٍ شخصي في نظرنا، يكمُن في أنه لا يبدو لغزًا على الإطلاق عندنا. فإذا نحَّينا الجانبَ الأخلاقي وجدنا أن فولسطاف وهاملت يتفوَّقان تفوقًا ملموسًا على كلِّ من يُقابلانه ونقابله في مسرحياتهما. وهذا التفوق تفوقٌ معرفي، ولُغوي، وتخيُّلي، ولكن الجانب الحاسم كونه تفوقًا في الشخصية. أي إن فولسطاف وهاملت أعظمُ من يتمتعُ بسحر الشخصية [الكاريزما] فهما يُجسدان معنى «البركة» blessing وهو المعنى الديني الأول؛ أي «التَّمتُّع بحياة أكبر في زمن بلا حدود» [بمعنى أن مَن يُبارك الله له في عمره، بجعله أكثرَ ثمرًا وأطول] (كما سبق أن ذكرتُ يومًا ما). فالأبطال من ذوي الحيوية١ ليسوا أضخمَ من الحياة، بل إنهم ضخامةُ الحياة نفسها. والواقع أن شيكسبير لم يكن، فيما يبدو، قد فعل ما يدلُّ على «الحيوية» أو «البطولة» في حياته اليومية، ولكنه رسم فولسطاف وهاملت باعتبارهما تبجيلَ الفنِّ للطبيعة. ويتفوَّق فولسطاف وهاملت حتى على جميع الشخصيات الشيكسبيرية الرائعة — روزاليند، وشايلوك، وياجو، ولير، ومكبث، وكليوباترا — في أنهما يُمثلان ابتكارَ كِيان الإنسان، أو تدشينَ الشخصية (personality) على نحوِ ما أصبحنا نعرفها.٢
للفكرة الغربية عن الشخصية الأدبية؛ أي تصوير الذات (self) باعتبارها الفاعلَ الأخلاقي؛ مصادرُ كثيرة، فلدينا هوميروس وأفلاطون، وأرسطو وسوفوكليس، والكتاب المُقَدَّس، والقديس أوغسطين، ودانتي وكانط، وكل من تودُّ إضافته. وأما الشخصية الإنسانية، بالمعنى الذي نقصده فهي من ابتكار شيكسبير، وليست السببَ وحسبُ في أصالته الكبرى بل أيضًا السبب الحقيقي في انتشاره الدائم. وحينما ننزع إلى تقديرِ قيمة شخصياتنا الإنسانية ونُبدي الأسى عليها، نكون من وارثي فولسطاف وهاملت، وجميع الأشخاص الآخرين الذين يَعمُرون مسرح شيكسبير الذي يُقدم ما يمكن أن يُسمَّى ألوان الروح.
وأما احتمال تشكُّك شيكسبير نفسِه في قيمة الشخصية الإنسانية؛ فشيءٌ لا نستطيع أن نعرفه؛ إذ كان هاملت يرى أن الذات هُوةٌ سحيقة أو عَمَاء من العدم الفعلي، وكان فولسطاف يرى أن الذات كلُّ شيء. وربما ينزع هاملت في الفصل الخامس إلى تجاوُز عدميته، وإن كنا غيرَ واثقين من ذلك، عندما نشهد تلك المذبحةَ الغامضة التي تجعل القصرَ الملكي في إلسينور مقصورًا على الغندور أوزريك، وبعض الأفراد الكومبارس، وهوراشيو الذي ينتمي إلى القصر ولا ينتمي إليه. هل جرَّد هاملت ذاته من جميع ضروب سخريته في النهاية؟ لماذا يُصوت وهو يُحتضَر لصالح الغلام البلطجي فورتنبراس الذي يهدد أرواحَ جنوده في معركة حول احتلال قطعة أرض جَرداء لا تكاد تتَّسع لدفنِ جُثثهم؟ أما فولسطاف الذي يُكابد النبذ والدمار فيظل ذا حيويةٍ فياضة، إذن إن شخصيته الإنسانية الرفيعة التي تُمثل لنا قيمةً هائلة لم تُنقذه من جحيم الخيانة وحبِّه لمن لا يستحقُّ الحب، ومع ذلك فإن صورته الأخيرة التي ترسمها لنا السيدة كويكلي في مسرحية هنري الخامس، تظل قيمةً عليا، تُذكرنا بالمزمور الثالث والعشرين، وبطفل يلعب بالزهور. ومن الغريب، فيما يبدو لنا، أن يُتيح شيكسبير لأعظم شخصياته الإنسانية «موتًا كريمًا» وهي مفارقةٌ ولكن كيف نصفُه بغير هذا التعبير؟
هل توجد شخصيات إنسانية (بهذا المعنى) في أية مسرحية كتبها مُنافسو شيكسبير؟ إن مارلو تعمَّد رسم صورٍ كاريكاتورية، حتى صورة باراباس، أخبثِ اليهود، وتعمَّد بن جونسون أيضًا الاقتصارَ على أشخاص تُمثل أفكارًا، حتى في شخصية فولبوني [أي الثعلب] الذي نحزن لعقابه في النهاية. وأنا شديد الإعجاب بجون وبستر، ولكن بطلاته وأشرارَه على حدٍّ سواء يختفون حين يُقارَنون بنظرائهم في شيكسبير. ويحاول الباحثون أن يؤكدوا لنا المزايا الدرامية لجورج تشابمان وتوماس ميدلتون، ولكنَّ أحدًا منهم لا يقول إن أيًّا من هذين يستطيع أن يمنح دورًا دراميًّا سريرةً إنسانيةً. إنني أواجه مقاومةً شديدة من الباحثين عندما أقول إن شيكسبير اخترعَنا، أما إن زعم أحدٌ أنه لولا ما كتبه جونسون ومارلو لاختلفَت شخصياتنا الإنسانية لكان ذلك زعمًا بالغَ السخف. ومن فكاهات شيكسبير الرائعة أن يجعل الملازم بيستول، أحد أتباع فولسطاف في مسرحية هنري الرابع، الجزء الثاني، يقول إنه تيمبرلين عند مارلو، والأخبث من هذا ما يرسمه شيكسبير من صورةٍ ساخرة ومُخيفة لمارلو حين يوازيه بإدموند، الشرير صاحب الغواية البارعة في مسرحية الملك لير. وأما مالفوليو في مسرحية الليلة الثانية عشرة فهو محاكاةٌ ساخرة لبن جونسون، وشخصية إنسانية مقنعة إلى الحد الذي يُذكِّر الجمهورَ بما لا يمكن أن يُنسى، ألا وهو أن مسرحيات بن جونسون تخلو من الشخصيات الإنسانية الكاملة التصوير. لم يكن شيكسبير بارعَ اللماحيَّة في نفسه فقط، بل دافعًا إلى تميُّز الآخرين باللماحية؛ فلقد استوعب منافسيه حتى يُلمح إلى أن أشخاصهم الإنسانية تفوَّقَت إلى حدٍّ كبيرٍ على الشخصيات التي أبدَعوها، وإن لم تتفوَّق على ما فهمه شيكسبير منها. ومع ذلك فإن الذهن العدمي عند إدموند، مثل ذهن ياجو، يتضاءل أمام ذهن هاملت العدمي، والروعة الفكاهية القلقة عند مالفوليو لا تَزيد عن قطرةٍ إن قورنَت بالمحيط الكوني لضحكِ فولسطاف. ربما كنا نُولي انتباهًا أكبرَ مما ينبغي للاستعارات المسرحية عند شيكسبير، أو لِوَعْيه الذاتي السافر بكونه كاتبًا للدراما وممثلًا على المسرح، فالواقع أنه كان يستمدُّ نماذجه من مجالاتٍ تختلف عن مجالاته. ومع ذلك فربما لم يكن «يُحاكي الحياة» بل يخلقها في معظم أعماله الجميلة.
ما الذي جعل فنَّ رسم الشخصيات عنده ممكنًا؟ كيف يمكنك أن تخلق كائناتٍ تعتبر «من الفنانين الأحرار بطبعهم»، وهو وصف هيجيل لشخوص شيكسبير؟ لا بد أنَّ أفضل إجابة، منذ رحيل شيكسبير، هي «محاكاة شيكسبير». من المحال أن نقول إن شيكسبير كان يُحاكي تشوسر والكتاب المقدَّس بالمعنى الذي نقصده حين نقول إنه كان يُحاكي مارلو وأوفيد. لقد التقط لمحاتٍ من تشوسر، وكانت أهمَّ من مصادره في مارلو وأوفيد، على الأقل بعدما وصل إلى مرحلة خَلْق فولسطاف؛ إذ توجد آثارٌ كثيرة للشخصيات الإنسانية الجديدة عند شيكسبير قبل فولسطاف، مثل النَّغْل فوكونبريدج في مسرحية الملك جون، ومركوشيو في روميو وجوليت، وبوطوم في حلم ليلة صيف. ولدينا أيضًا شايلوك الذي يُعتبر وحشًا خرافيًّا والمثل الحي لليهودي وكذلك، وفي الوقت نفسِه، إنسانًا مثيرًا للقلق يرتبط بالوحش ارتباطًا قلقًا، ولكننا نرى اختلافًا نوعيًّا بين هؤلاء أنفسِهم وبين هاملت، واختلافًا في الدرجة فقط بين هاملت وفولسطاف. إن دَخيلة الإنسان تُصبح قلبًا من النور والظلمة بطرائقَ أعمق ممَّا كان الأدب قادرًا على احتماله.
ربما كانت قدرةُ شيكسبير الغريبة على تصوير الشخصية الإنسانية تستعصي على الشرح. لماذا تبدو شخصياتُه الإنسانية حقيقية إلى هذا الحد في نظرنا، وكيف تَمكَّن من إبداع هذا الوهم بهذه الدرجة من الإقناع؟ إن الاعتبارات التاريخية (والمتوسلة بالتاريخ) لم تُساعدنا كثيرًا في الإجابة عن هذه الأسئلة. وربما كانت المثُل العليا، المجتمعية منها والفردية، أشدَّ شيوعًا في عالم شيكسبير عن شيوعها فيما يبدو في عالَمِنا. ويقول ليدز بارول إن المثُل العليا في عصر النهضة، المسيحية منها أو الفلسفية أو الروحانية، تميل إلى تأكيدِ حاجتنا إلى الارتباط بشيءٍ شخصي لكنه أكبرُ من أنفسنا، ألا وهو الله أو الروح. وتلَتْ ذلك رنَّةُ قلق، وغدا شيكسبير أعظمَ أستاذ تمكَّن من استغلال الفجوة بين الأشخاص والمثل الأعلى الشخصي. هل كان اختراعه لما نُدرك أنه «الشخصية الإنسانية» ناجمًا عن ذلك الاستغلال؟ لا شك أننا نسمع تأثير شيكسبير في تلميذه جون وبستر عندما نسمع فلامينيو يقول ساعةَ احتضاره في مسرحية الشيطانة البيضاء لوبستر:
بَيْنَا نَمُدُّ الطَّرْفَ للسَّما نكونُ قد خَلَطْنا
ما بينَ معرِفةٍ ومعرفَة.
نستطيع أن نسمع عند وبستر، حتى في أفضل أعماله، تَكرارًا للمفارقات الشيكسبيرية تَكرارًا ينمُّ على موهبة، ولكن الناطقين بها لا يتمتعون بخصائصَ فردية، فمن ذا الذي يستطيع أن يدلَّنا على الاختلافات في الشخصية الإنسانية بين فلامينيو ولودوفيكو في مسرحية الشيطانة البيضاء؟ إن التطلُّع إلى السماء والخلط بين معرفةٍ ومعرفة لا يُنقذهما من كونهما أسماءً على الصفحة. وأما هاملت الذي دائمًا ما يُسائل نفسه فلا يدين بكِيانه الحقيقي الغلَّاب إلى الخلط بين المعرفة الشخصية والمعرفة المثالية؛ إذ إن شيكسبير يُقدم لنا هاملت الذي يتسبَّب في صدام المعرفتين لا ثمرة هذا الصدام. ونحن نقتنع بتفوُّق الحقيقة عند هاملت؛ لأن شيكسبير حرَّره بأن جعله يعرف الحقيقة، وهي حقيقة لا تُحتمَل ولا نقدر أن نُكابدها. فالجمهور الشيكسبيري يُشبه الأرباب عند هوميروس؛ فنحن نتابع الإبصار والإنصات من دون إغراء بالتدخُّل. ولكننا أيضًا نختلف عن الجمهور الذي يُمثله أربابُ هوميروس، فنحن بشر، ونخلط المعرفةَ بالمعرفة. ونحن لا نستطيع أن نستخلص — من زمان شيكسبير أو من زماننا — معلوماتٍ اجتماعيةً قادرةً على أن تخلق «أشكالًا ذواتَ طابع حقيقي أكبر من حقيقة البشر الأحياء» بتعبير الشاعر شلي. لقد كان منافسو شيكسبير يخضعون لظواهر الانفصام نفسِها ما بين مثُل الحب والنظام وبين الباقي جلَّ وعلا، ولكنهم قدَّموا لنا أشكالًا كاريكاتورية فصيحة، في أحسن الأحوال، لا رجالًا، ونساءً.
لا نستطيع أن نعرف مِن قراءة مسرحيات شيكسبير ومشاهدتها في المسرح إن كان لديه إيمانٌ خارجَ الشعر أو تكذيب، ويؤكِّد ج. ك. تشيسترتون، الناقدُ الأدبي الرائع، أن شيكسبير كان كاتبًا مسرحيًّا كاثوليكيًّا، وأن هاملت أقربُ إلى الإيمان التقليدي منه إلى الشك. ويبدو كِلا الحالَين مستبعَدًا تمامًا، ومع ذلك فلا أدري، ولم يكن تشيسترتون يدري هو الآخر. إننا نجد عند كريستوفر مارلو أقوالًا غامضة وعند بن جونسون ما يُفيد الشيء وضدَّه، لكننا نستطيع أن نحدُسَ الموقفَ الشخصي لكلٍّ منهما أحيانًا، وأنا حين أقرأ شيكسبير أستطيع أن أفهم أنه لا يحبُّ المحامين، وكان يُفضل الشراب على الطعام، وكان على ما يظهر يحبُّ الجنسين معًا، بيْدَ أنِّي لا أقدر أن أعرف قطُّ إن كان يُفضل البروتستانتية على الكاثوليكية أو لا يُحب أيَّهما، ولا أستطيع أن أعلم إن كان مؤمنًا بالله والبعثِ أم لا، ويُفلت مني مذهبه السياسي مثلما يُفلت مذهبه الديني، لكنني أعتقد أنه كان يحذر الالتزامَ بأي مذهب. كان مُحقًّا في خوفه من الغوغاء، كما كان يكره الثورات، لكنه كان يخشى السلطة، وكان يطمح إلى أن ينتميَ إلى السادة ويُبدي الأسى للعمل بالتمثيل، وربما كان يُفضل قصيدته القصصية اغتصاب لوكريس على مسرحية الملك لير، وهو حكمٌ يظلُّ مقصورًا (بصورةٍ منفِّرة) عليه، وربما لم يشاركه فيه إلا تولستوي.
كان تشيسترتون وأنطوني بيرجيس يؤكِّدان حيوية شيكسبير، وأودُّ أن أتخذ خطوةً أبعدَ من ذلك فأقول إنه كان يؤمن بمذهب الحيوية [انظر الحاشية ١ أعلاه] مثل فولسطاف عنده، والمذهب الحيوي الذي كان وليم هازليت يُسميه «عشق الحياة» (gusto) ربما يمنحنا المِفتاحَ الأخير لقدرة شيكسبير الخارقة في إضفاء الشخصية الإنسانية على شخوصه، واختصاص كلِّ واحد منهم بأسلوبٍ كامل التفرُّد في الحديث. فأنا لا أعتقد أن شيكسبير كان يُفضل الأمير هال على فولسطاف، مثلما يرى معظم الباحثين. فالأمير هال انتهازيٌّ وأما فولسطاف فهو مثل بن جونسون نفسِه (وربما مثل شيكسبير) مُفعَمٌ بالحياة. ويتَّصف بهذا بطبيعة الحال كلُّ القتلة من عظماء الأشرار عند شيكسبير: هارون المغربي، وريتشارد الثالث، وياجو، وإدموند، ومكبث. وينطبق هذا على أشرار الكوميديات مثل شايلوك ومالفوليو وكَالِيبان. فالحيوية الفياضة التي تتَّقد حماسًا كأنها رؤيا الغيب، بارزةٌ عند شيكسبير مثلما نراها عند رابيليه، وبليك وجويس. فالواقع أن شيكسبير الإنسان كان لطيفَ المعشر حادَّ الذهن، لكنه لم يكن يشترك مع فولسطاف في صفاتٍ أكثرَ مما يشترك فيه مع هاملت، ومع ذلك فإن شيئًا ما في باطن قُرائه ومُشاهدي مسرحياته يربط ما بين الكاتب المسرحي وهاتين الشخصيتَين. ولا يَعلَق بأذهاننا من غير هذين سوى كليوباترا، وأقوى الأشرار — ياجو وإدموند ومكبث — إذ يتشبَّثون بذاكرتنا بنفس قوةِ اللامبالاة عند فولسطاف، والعمق الفكري عند هاملت.

عندما تقرأ مسرحيات شيكسبير، وإلى حدٍّ ما عندما تشهدها على المسرح، فالعقل يدعوك وحسبُ إلى الانغماس في النص وفيمن ينطقون به، وأن تسمح لِفَهمك أن ينطلق إلى خارج ما تقرؤه وتسمعُه وتشاهده قاصدًا أيةَ سياقات توحي بعلاقتها بذلك كلِّه. وكان هذا ما يحدث منذ زمنِ الدكتور جونسون والممثل ديفيد جاريك، ومن زمنِ وليم هازليت والممثل إدموند كين، حتى عهد أ. سي برادلي والممثل هنري إيرفنج، وعهد ج. ويلسون نايت والممثل جون جيلجود. ولكن وا أسَفاه! إن هذا السلوك المعقول، بل و«الطبيعي»، أصبح يُعتبر من الطرُز البالية، واستُبدلت به سياقاتٌ تعسفية تفرضها الأيديولوجيا، وهي الوجبة الرئيسية لزمننا الرديء. ففي «شيكسبير الفرنسي» (وهو الاسم الذي سأواصل إطلاقَه على هذه الظاهرة) [أي تطبيق النظرية الأدبية الفرنسية على شيكسبير] تبدأ العمل بموقفٍ سياسي خاص بك، بعيدٍ كلَّ البعد عن مسرحيات شيكسبير، ثم تعثر على موقعٍ لقطعة هامشية من التاريخ الاجتماعي في عصر النهضة الإنجليزية حين ترى أنها تدعمُ موقفك. وبعد أن تتسلَّح بهذه الشذرة الاجتماعية تدخل من الخارج إلى شيكسبير المسكين، وتجد صلةً ما، بغضِّ النظر عن أسلوب إقامتها، بين حقيقتك الاجتماعية المفترَضة وبين كلمات شيكسبير، سأسعد لو أقنعني أحدٌ أنني أسخر ممَّا يفعله الأساتذة والمخرجون بما أسمِّيه «الاستياء» — أقصد أولئك النقاد الذين يُعلون قيمة النظرية على قيمة الأدب نفسِه — ولكنني أقتصر على الوصف المجرد لما شاع وتفشَّى، في قاعة الدرس أو على خشبة المسرح.

دعني أستشهد بما يقوله وليم بليك، مستبدلًا «شاعرنا» باسم «يسوع»؛ إذ يقول:

كلِّي ثقةٌ أنَّ الوصفَ المذكورَ لشاعِرنا
لَن يَصلُحَ لابنِ إنجلترةِ … ولَنْ يُسْعِدَ أيَّ يهوديِّ.

أما ما يعيب «شيكسبير الفرنسي» فليس أنه ليس «شيكسبير الإنجليزي»، ناهيك بأنه ليس يهوديًّا، أو مسيحيًّا أو مسلمًا، ولكن أنه ليس شيكسبير وحسب، وهو الذي لا يمكن أن يُدرَج بسهولةٍ شديدة في «أرشيفات» فوكوه، وذو الطاقات التي لم تكن في المقام الأول «اجتماعية». لك أن تأتيَ بأي شيء مهما يكن إلى شيكسبير وسوف تُلقي المسرحياتُ الضوءَ عليه، وذاك يفوق كثيرًا ما يمكن لأي شيء أن يُلقي الضوءَ على المسرحيات. وعلى الرغم من أن «المستائين» المحترفين يؤكدون أن الموقف الجمالي يعتبر أيديولوجية في ذاته، فإنني أختلف معهم، ولا آتي هنا إلا بالمذهب الجمالي «في لغة وولتر باتر»، يختص بالمدرَكات والأحاسيس. أي إن شيكسبير علَّمنا كيف نُبصر وأي شيء نُبصر، ويعلمنا أيضًا كيف نُحس، وما نحس به، ثم نشعر بذلك الإحساس. ففي سعيه لتوسيع مَداركنا — لا باعتبارنا مسيحيِّين بل باعتبار كلٍّ منا وعيًا — تفوَّق على جميع أصحاب النظريات في إمتاعنا. أما أصحابنا المستاءون، الذين يمكن أن نصفهم (دون خبثٍ من جانبنا) بأنهم مشغولون إلى حد الهوس بقضية المرأة وقضية السلطة، فلا يجدون في المسرحيات متعةً كبيرة.

وعلى الرغم من أن ج. ك. تشيسترتون كان يحبُّ أن يعتبر شيكسبير كاثوليكيًّا، روحيًّا على الأقل، فإن براعة هذا الناقد منَعَته من أن يُرجع عالميةَ شيكسبير إلى المسيحية. ولنا أن نتعلم من هذا ألا نُشكِّل شيكسبير وفقًا لمذاهبنا السياسية الثقافية. وعندما قارن تشيسترتون شيكسبير بدانتي، أكَّد الناقدُ رَحابة نظرة دانتي في معالجته للمَحبة المسيحية والحرية المسيحية، في حين أن شيكسبير «كان وثنيًّا ما دام يصل إلى ذروة العظَمة عندما يصفُ أعظم الأرواح بأنها مغلولةٌ في الأصفاد.» وليست هذه «الأصفاد» سياسية، كما هو واضح، إنها تُحيلنا إلى المذهب العالمي، وإلى هاملت قبل الجميع، أعظم الأرواح قاطبة، وهو يتعسَّف طريقه إلى الحقيقة، ويَفنى فيها. والفائدة القصوى لشيكسبير أن تدَعَه يُعلمك فضل التفكير الأعظم، للوصول إلى أية حقيقة تحتملها من دون أن تَفنى.

٢

ليس من قَبيل الوهم أن القرَّاء (وروَّاد المسرح) يجدون من الحيوية في كلمات شيكسبير وفي الشخصيات التي تقولها؛ أكثرَ مما يجدون عند أي مؤلف آخر، وربما عند جميع المؤلفين الآخرين مجتمعين. فاللغة الإنجليزية الحديثة في عهدها المبكِّر قد شكَّلها شيكسبير، ووُضِع معجم أوكسفورد للُّغة الإنجليزية على صورته. ولا يزال البشر اللاحقون من المحدَثين يُشكلهم شيكسبير لا باعتبارهم إنجليزًا أو أمريكيين، بل بطرائق يزداد تجاوزُها للحدود القومية والفوارق بين الجنسين. لقد أصبح المؤلفَ العالمي الأول، بحيث حلَّ محل الكتاب المُقَدَّس في الوعي العلماني. ولا تزال محاولاتُ ربط سُطوع نَجمه بالتاريخ تتحطَّم على صخرة تفرُّد تفوقه؛ إذ إن العوامل الثقافية التي يربط النقَّاد بينها وبينه هي العوامل نفسُها التي تعرَّض لها توماس ديكر وجورج تشابمان. وأما الشروح العجيبة المبتدَعة لشيكسبير فلا تُقنعنا لأن البرنامج المضمَر فيها يعني التهوينَ من الاختلافات بين شيكسبير وأمثال تشابمان.
والذي يفشل عمليًّا هو أيُّ طراز نقدي أو مسرحي يُحاول استيعاب شيكسبير في سياقات تاريخية أو راهنة. وتقنية «إزالة الغموض» تقنيةٌ ضعيفة عند تطبيقها على الكاتب الأوحد الذي لم يُصبح ذاتَه حقًّا، فيما يبدو، إلا بتمثيل الآخَرين. إنني أشرح موقف هازليت من شيكسبير، على نحوِ ما يدلُّ العنوانُ الفرعي لهذا الكتاب عليه، وأنا أقتفي آثارَ هازليت هانئًا إذ أسعى إلى ما يختلف فيه شيكسبير، وهو الذي يتجاوز كلَّ حدود بين الثقافات وداخل الثقافات أيضًا. ما الذي أتاح لشيكسبير أن يصبح أعظمَ أستاذٍ للتلاعب (magister ludi)؟ كان نيتشه، مثل مونتاني عالمًا نفسانيًّا يكاد يُضارع طاقة شيكسبير، وكان يقول إن الألم هو الأصل الحقيقي للذاكرة الإنسانية. ولما كان كلام شيكسبير أشدَّ ما يلتصق بالذاكرة من كلام الكتَّاب، فقد يجوز لنا أن نقول إن الألم الذي يُحدِثه لنا شيكسبير لا تقلُّ أهميته عن المتعة التي نجدها عنده. لا حاجة للمرء أن يكون الدكتور جونسون حتى يخشى قراءةَ مسرحية الملك لير أو مشاهدتها على المسرح، خاصة الفصل الخامس حيث تُقتَل كورديليا، ويموت لير حاملًا جثمانها بين يدَيه. وأنا نفسي أخشى مسرحية عطيل أكثرَ من الملك لير؛ فإيلامها يتجاوز كل حد، بشرط أن نقدم (مع مخرج المسرحية) عطيلًا بصورته المهيبة وقيمته الرهيبة؛ فذلك وحده ما يجعل تدهوُرَه مرعبًا رعبًا شديدًا.
لا أستطيع أن أحلَّ لغز تمثيل شايلوك ولا حتى تمثيل الأمير هال/الملك هنري الخامس. فإن ازدواج الدلالة الأوَّليَّ (primal ambivalence) [أي الدلالة على شيئين متضادَّين أصلًا في وقتٍ واحد] الذي أشهَره سيجموند فرويد؛ عاملٌ أساسي في شيكسبير، كما كان كذلك بصورةٍ كاشفة من اختراع شيكسبير الخاص. فالألم الملتصقُ بالذاكرة، أو الذاكرة التي يولدها الألم، ينشأ من ازدواج الدلالة معرفيًّا وعاطفيًّا، وهو ازدواجٌ ما أيسرَ أن نربط بينه وبين هاملت! ولكن شايلوك هو الذي يُمهد الطريقَ إليه. ربما كانت صورة شايلوك في البداية صورةَ شرير هزلي، وكنت أظنُّ ذلك يومًا ما لكنني أشكُّ اليوم في صحة هذا الظن. فالمسرحية مسرحية بورشيا لا مسرحية شايلوك، ولكن شايلوك أولُ بطل شرير «باطني» عند شيكسبير، على عكس روَّاد هذا الدور الذي يُمثل بطولةً شريرة «خارجية»، مثل هارون المغربي وريتشارد الثالث. وأفترض أن الأمير هال/الملك هنري الخامس هو الهوَّة «الباطنية» التالية بعد شايلوك، ومن ثَم فنحن نجد بطلًا شريرًا آخَر، فهو ماكيافيلي ورع وطني، ولكن الورَع والصفة الملكية من الصفات العارضة، والجوهر هو النفاق. وحتى لو صحَّ هذا فإن شايلوك العنيد المطالب بالعدل يعتبر في جوهره طالبًا للقتل، ويُقنعنا شيكسبير إقناعًا مؤلمًا بأن بورشيا، المنافقة الممتعة الأخرى، تَحول دون وقوعِ إحدى الفظائع بحَصافتها. أتمنى أن تكون تاجر البندقية مسرحيةً مؤلمة لغير اليهود، ولكن أمنيتي قد تكون وهمًا.
أما ما ليس وهمًا فهو القوة المُخيفة لإرادة شايلوك؛ أي مَطْلبه بتحقيق نصِّ العقد. ولا شك أننا نستطيع أن نتكلم عن القوة المخيفة لإرادة الأمير هال/الملك هنري الخامس في أن ينال عرشه، وفي فرنسا، والسلطة المطلَقة على الجميع، بما في ذلك السيطرة على قلوبهم وعقولهم. وترجع عظَمة هاملت؛ أي تجاوزُه لدور البطل الشرير، في جانبٍ كبير منها إلى نَبذِه للإرادة، بما في ذلك إرادة الثأر، وهو مشروعٌ يتفاداه بالنفي (negation)، وهو الذي يصبح لديه أسلوبَ مراجعةٍ يُخضع كلَّ شيء لمقتضيات المسرح. وتعتبر عبقرية شيكسبير المسرحية أقربَ إلى هاملت منها إلى ياجو. إن ياجو ناقدٌ ناقم، ولكنه، على أقصى تقدير مجرم جماليٌّ عظيم، وتخونه بصيرتُه خيانةً تامة فيما يتعلق بزوجته إميليا. أما هاملت فإنه الفنان الذي يتمتع بحريةٍ أكبر، وبصيرته لا يمكن أن تخذله، وهو يُحول المسرحية الصغرى التي يسميها «مصيدة الفأر» إلى مسرحية تُمثل العالم. ففي حينِ نرى أن شيلوك مستمسكٌ برأيه، وأن الأمير هال/الملك هنري الخامس جاحدٌ للفضل عاجزٌ عن إدراك تفرُّدِ فولسطاف، بل وأن ياجو نفسه لا يكاد يستطيع أن يتجاوز جُرح ذاته، (أي: تخطِّيه في الترقية إلى الرُّتبة العسكرية الأعلى)؛ فإن هاملت يقبل تحمل عبء سر المسرح بعد أن زادته قوةُ شيكسبير. كما أن هاملت يتوقَّف عن تمثيل ذاته ويُصبح شيئًا آخَر غيرَ ذاتٍ مفردة، قل إنه يصبح شخصًا عالميًّا لا مجموعةً هانئة من الذوات. لقد أصبح شيكسبير متفردًا بتمثيله غيرَه من البشر، ويعتبر هاملت الاختلافَ الذي أنجزه شيكسبير [أي إسهامه الذي يُحسب له]. وأنا لا أقصد أن الحياد الجميل الذي يُبديه هاملت في الفصل الخامس كان أو أصبح يومًا ما إحدى الصفات الشخصية لشيكسبير، بل إنني أقول إن موقف هاملت الأخير يُجسد القدرات السلبية (negative capabilities) على نحوِ ما أطلق عليها الشاعرُ جون كيتس [أي القدرة على التأمُّل والإحساس من دون المشاركة في الفعل]؛ إذ لا يغدو هاملت في النهاية شخصًا حقيقيًّا كتب عليه أن يُعاني في داخل مسرحية، بل وفي مسرحية لا تُناسبه، بل إن الشخص والمسرحية يذوب كلٌّ منهما في الآخَر حتى لا نجد أمامنا غيرَ الموسيقى المعرفية في جُملتَي «فليكن» و«فلتكن».

٣

من العسير أن نصفَ طرائق شيكسبير في التصوير من دون اللجوء إلى التناقُضات الظاهرية، ما دامت معظمُ هذه الطرائق تقوم على ما يبدو لنا متناقضًا، وهكذا يوحي بنفسه ما يُسمى ﺑ «الوهم الطبيعي» ردًّا على تعليق فيتجنشتاين الذي ينمُّ على الضيق، قائلًا إن الحياة ليست مثل شيكسبير. وكان أووين بارفيلد قد ردَّ مقدمًا على فيتجنشتاين قائلًا (١٩٢٨م):

… تبدو لنا الحقيقةُ من زاوية معينة، مهما يظهر لنا من إهانتها لنا، وهي أن الذي نُغامر بصفةٍ عامة بوصفه بأنه مشاعرنا نحن؛ يعتبر في الواقع «معنى» شيكسبير.

لقد أصبحَت الحياة نفسُها وهمًا طبيعيًّا، ويرجع جانبٌ من السبب في هذا إلى شيوع شيكسبير. وكونه ابتكر مشاعرَنا يعني أنه تجاوز تحليلنا نفسيًّا. لقد جعلنا شيكسبير مسرحيين حتى ولو لم نشهد عرضًا مسرحيًّا واحدًا، أو لم نقرأ أية مسرحية. فبعد أن يوقف هاملت المسرحية، من دون مبالغة — ليتفكَّه على «حرب المسارح»، ويأمر الممثِّل الذي يلعب دور الملك بأن يُمثل المشهد العبثي الذي يحكي فيه إينياس قتل بريام، وينصح الممثلين بقدرٍ من الانضباط — نكون قد اعتبرنا هاملت، أكثرَ مما كنا نعتبره، واحدًا منا، وأنه هبط بطريقةٍ ما ليلعب دورًا في مسرحية، وهي مسرحية لا تُناسبه أيضًا. إن الأمير وحده حقيقي، والآخرون كلهم، والحدث كله، يُشكلون المسرح.

هل نستطيع أن نتصور أنفسنا من دون شيكسبير؟ وأنا أعني ﺑ «أنفسنا» ما يزيد على الممثلين والمخرجين والمعلمين والنقاد؛ أي إنني أعني بالتعبير أن أُشير إليك وكل من تعرفه. إن تعليمنا في العالم الناطق بالإنجليزية، بل وفي أممٍ أخرى أيضًا، كان شيكسبيريًّا. ويَصدُق هذا القول حتى على الواقع الراهن، بعد أن تدهور التعليم عندنا، وتعرض شيكسبير للضرب والتقطيع على أيدي الأيديولوجيين الحديثي الطراز، بل إن هؤلاء أنفسَهم صورٌ كاريكاتورية لطاقات شيكسبير؛ إذ إن مبادئهم «السياسية» المفترَضة تتجلى فيها مشاعرُ الشخصيات عنده، وإن كانت لديهم طاقاتٌ اجتماعية على الإطلاق فإن تصوُّرهم الخفيَّ للمجتمع شيكسبيري، على ما في هذا من غرابة. كنت أُفضِّل شخصيًّا أن يكونوا مكيافيليِّين و«مستائين» وفقًا لنموذج باراباس، يهودي مالطا، عند مارلو، ولكن النماذج الأيديولوجية عندهم يُمثلها ياجو وإدموند.
هل تنم طرائقُ التصوير عند شيكسبير، في ذاتها، على أي توجُّه أيديولوجي، سواءٌ كان مسيحيًّا، أو متشككًا، أو رهبانيًّا أو غير ذلك؟ إن هذا السؤال الذي يصعب صَوغُه ذو دلالات مضمَرة ملحَّة: هل يعتبر شيكسبير، في مسرحياته، محتفلًا بالحياة في نهاية المطاف، متجاوزًا المآسيَ، أم يعتبر عَدميًّا برجماتيًّا؟ ولما كنتُ أنا نفسي مؤمنًا بالتعاليَّة المُهَرطِقة، وذا توجُّهٍ غنوصي؛ فإن أشدَّ ما يُسعدني هو أن أرى أن شيكسبير يستمسك، فيما يبدو، بمذهبٍ تعاليٍّ علماني؛ أي برؤيا جليلةٍ للجلال، ولكن هذا لا يتمتع فيما يبدو بصحةٍ مطلقة؛ ﻓ «الأناشيد» الشيكسبيرية الأصيلة تتغنَّى بتنويعاتٍ على لحن «العدم»، وغرابة العدمية عفريت يسكن كلَّ مسرحية، حتى الكوميديات العُظمى التي لا تختلط بها نسبيًّا لمساتُ الجِد، فإن شيكسبير — باعتباره كاتبًا مسرحيًّا يتمتع بقدرٍ من الحكمة لا يسمح له بأن يؤمن بأي شيء حتى وهو يُحيط علمًا، فيما يبدو، بكل شيء — يحرص على أن يُبْقي هذه المعرفة متخلفةً عن التعاليَّة بعدةِ خطوات. ولما كانت فصاحته شاملة، وكان بناؤه الدرامي لا يكاد يضطرب؛ فإننا لا نستطيع القول بالسبق حتى للعدمية الظاهرة في مسرحياته، وبالإحساس الواضح بلا مبالاة الطبيعة إزاءَ القوانين البشرية والمعاناة الإنسانية جميعًا. ومع ذلك فإن لهذه العدمية أصداءَ ذبذباتٍ عجيبة. إننا لا نتذكر ليونتس في مسرحية حكاية الشتاء بسبب توبته الختامية، حيث يقول «أرجوكما/أن تصفَحا عني لأني كنتُ أستريب يومًا ما/بكل نظرةٍ بريئة وطاهرة … تُبودِلَت بينكما!» ولكننا نذكره بسبب نشيد الحمد العظيم للعدم:
هل هذا عَدَمٌ؟
وإذَنْ هذي الدُّنيا عدَمٌ وجميعُ الأشياءِ بها عَدَمُ!
فسماءُ الكَونِ عدَمْ! بل بوهيميا عَدَمٌ،
وقَرينتُنا عَدَمٌ … والعَدَمُ إذنْ لا شيءَ به غَيرُ العَدَمِ
إنْ يَكُ هذا عدَمٌ.
إن جنونه الذي يدفعه إلى العدم يُهمنا، وعودة رُشده لا تُهمنا، ما دام الشعر الصادق ينتمي إلى حزب الشيطان، ولقد قام ناحوم تيت بتعديل مسرحية الملك لير بإعادة الرُّشد لها، فصاغ خاتمةً سعيدة لكورديليا بزواجها من إدجار، وجعل الملك لير يُشرق بابتساماته على ابنته وزوجها، وهو ما أسعد قلبَ الدكتور جونسون، لكنه يحرمنا مما يسمَّى الخَوَاء (kenoma)؛ أي الفراغ الملموس أو الأرض الخراب التي تختتم بها المسرحية الفعلية التي كتبَها شيكسبير.

٤

ليس بيننا عددٌ كبير من المؤهَّلين للحكم فيما إذا كان الرب حيًّا أو مات أو كان يتجوَّل في مكانٍ ما في المنفي (وهو الاحتمال الذي أفضِّله). ولا شك أن بعض المؤلفين ماتوا، ولكن وليم شيكسبير ليس من بينهم. وأما بخصوص الشخصيات الدرامية، فأنا حائر أبدًا؛ لا أعرف كيف أتلقَّى توكيدات نُقَّاد شيكسبير المعاصرين (وضروب عتابهم)؛ إذ يقولون لي إن فولسطاف وهاملت وروزاليند وكليوباترا وياجو؛ أدوارٌ للممثلين والممثلات وليسوا «أناسًا حقيقيين». ولما كنتُ (أحيانًا) أقتنع بهذه المزاعم، فإنني دائمًا ما أصارع الأدلة الملموسة على أن مَن ينتقدونني أقلُّ إثارةً للاهتمام من فولسطاف وكليوباترا، بل ولا يتَّسمون بما يُقنعنا بأنهم أحياءُ مثلما تُقنعنا الشخصيات الشكسيبرية، وهي التي نراها «مفعَمة بالحياة» (كما يقول بن جونسون). وعندما كنتُ طفلًا وشاهدت رالف ريتشاردسون يقوم بدور فولسطاف، تأثرتُ تأثرًا عميقًا إلى الحد الذي جعلني لا أشاهد ريتشاردسون بعدها في المسرح أو في السينما إلا وأرى فيه فولسطاف، على الرغم من تنوُّع العبقرية الفذة لهذا الممثل. لم أتخلَّ يومًا عن اعتبارِ فولسطاف شخصًا حقيقيًّا، وكان ذلك، منذ نصفِ قرن، نقطةَ انطلاق هذا الكتاب. فإذا كان الممثِّل المسكين «يزهو اختيالًا أو يثور زاعقًا/لساعةٍ له على المسرح! وبعدها يَغيب صوته إلى الأبد» فلنا أن نقول إن الممثل العظيم تتردَّد أصداؤه عمرًا كاملًا، خصوصًا إذا لم يكن يمثل دورًا قويًّا وحسب، بل شخصية أعمق من الحياة، وذكاءً لا يُضارعه أيُّ فرد حقيقي وحسب يمكن أن نعرفه يومًا ما.

لا بد أن نتحلَّى بالنظرة الصحيحة إلى هذه الأمور، فليست غايتنا هنا أن نُصدر أحكامًا خُلقية على فولسطاف؛ فإن شيكسبير يضع منظوراتٍ معيَّنة لمسرحياته بحيث نتعرض لإصدار حكم علينا مُعادل للحكم الذي نُحاول إصداره على العمل. فإذا قلت إن فولسطاف جبان عجاج، ومُخاتل مِهدار، ومهرج طُفيلي للأمير هال؛ فنحن نعرف شيئًا عنك لكننا لا نعرف أي شيء جديد عن فولسطاف. وإذا قلت إن كليوباترا عاهرة تقدمَت بها السن، وإن حبيبها أنطونيو يريد أن يتشبَّه بالإسكندر في ولَعِه بها؛ فسوف نحيط بمعرفةٍ جديدة محدودة عنك، وبأقلَّ منها عمق مَن ينبغي أن نعرفهم. إن الممثلين الذين يُخاطبهم هاملت يوجِّهون مرآةً للطبيعة ولكن شيكسبير مرآةٌ داخل مرآة، والطرَفان مَرايا لها أصواتٌ كثيرة. ليس فولسطاف وهاملت وكليوباترا وغيرُهم صورًا للصوت (مثلما يستطيع الشعراء الغنائيون أن يكونوا)، وهم لا يتحدثون بلسان شيكسبير أو باسم الطبيعة. إن تصوير شيكسبير فنٌّ يكاد يكون غيرَ محدود؛ فهو لا يُقدم لنا الطبيعة ولا طبيعةً ثانية؛ أي لا الكون ولا الكون الآخر (heterocosmos)؛ «فالفن نفسه هو الطبيعة» (حكاية الشتاء)، وتلك مقولة بارعة الغموض. فإذا أصبت في العثور على شخصيةٍ شيكسبيرية حقة أولًا في فوكونبريدج النَّغْل في الملك جون وأخيرًا في العاصفة؛ فإن معنى ذلك تنحية مسرحياتٍ رائعة تتميز بفنونٍ بالغة الاختلاف في رسم الشخصيات، تتراوح ما بين الثلاثية الحائرة في طرويلوس وكريسيدا، والعبرة بالخاتمة، ودقة بدقة، وبين الشخصيات الكهنوتية في النبيلان القريبان، ومفاد ذلك أن رسم الشخصيات عند شيكسبير منوَّعُ الأساليب بحيث لا نستطيع أن نقول في النهاية إن أيًّا منها «صادق».

٥

لا يكاد يوجد فرق، من الناحية العَملية بين الحديث عن «هاملت باعتباره شخصيةً مسرحية» وبين الحديث عن «هاملت باعتباره دورًا لممثِّل». ومع ذلك فإن أسبابًا تتعلق في معظمها بخصائص النقد الحديث العجيبة، أدَّت إلى أنْ دار الزمن دورتَه وأصبح من المفيد أن نعود للحديث عن «الشخصية الأدبية والدرامية» (literary and dramatic character) حتى نرفع مستوى فَهمِنا لرجال شيكسبير ونسائه. لا نكاد نكسب شيئًا على الإطلاق إن تذكَّرنا أن هاملت مخلوقٌ من الكلمات وبالكلمات، وبأنه «مجرد» مجموعة علامات على الصفحة. كلمة character تعني أحدَ حروفِ الهجاء وأيضًا «جِماع خُلُق» (ethos)؛ أي أسلوب الحياة المعتاد لشخصٍ ما. فالشخصية الأدبية والدرامية محاكاةٌ للشخصية الإنسانية؛ أي human character أو قُل إن هذا ما كنا نعتقده انطلاقًا من القول بأن الألفاظ تُشبه البشر بقدرِ ما تشبه الأشياء. والكلمات تشير بطبيعة الحال إلى كلمات أخرى، ولكن تأثيرها فينا ينبثق كما يقول مارتن برايس، من المكان التجريبي الذي نعيش فيه، والذي ننسب فيه القيمَ والمعانيَ لأفكارنا عن الأشخاص. وهذه القيم والمعاني المنسوبة تُعتبر نوعًا من الحقيقة (fact) على غِرار انطباعاتنا بأن بعض الشخصيات الأدبية والدرامية تدعم أفكارَنا عن الأشخاص وبعضها الآخر لا يدعمها.

أمامنا طريقان متناقضان لتفسير سطوع نَجم شيكسبير. فإذا كان الأدب يعني لك اللغةَ في المقام الأول، فإن تفوُّق شيكسبير مجردُ ظاهرة ثقافية، أنتجَتها عواملُ اجتماعية سياسية مُلِحَّة. وطبقًا لهذا الرأي، فإن شيكسبير لم يكتب أعماله، بل إن الطاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في عصره هي التي كتبَتها. ولكن ذلك ينطبق على كل ما عداه، في الماضي والحاضر؛ لأن بعض الخارصين في باريس، من عهدٍ قريبٍ نسبيًّا، قد أقنَعوا عددًا كبيرًا من النقاد الأكاديميِّين (إن لم يكن معظمهم) بعدم وجود مؤلِّفين على أية حال.

وأما الطريق الآخر لاستكشاف تفوق شيكسبير المستمر فهو ذو طابَع عمَلي تجريبي؛ فلقد حكَم العالم بأنه أصدقُ من صور عالم الواقع، متفوقًا بذلك على من سبقه ومن تلاه جميعًا. وقد ساد هذا الحكمُ منذ منتصف القرن الثامنَ عشر على الأقل، وهو يبدو باليًا بسبب كثرة تَكراره، ومع ذلك فلا يزال صحيحًا وحسب، وإن وجده المستاءون من أصحاب النظريات مبتذَلًا. إننا دائمًا ما نعود إلى شيكسبير لأننا نحتاج إليه، فلا يفوقه أحدٌ في تقديم هذا الجانب الكبير من العالم الذي يراه معظمُنا واقعيًّا وحقيقيًّا. ولكنني، فيما يتلو من هذا الكتاب، لن أقتصرَ على أن أبدأ من افتراض أن شيكسبير كان فعلًا أفضلَ كثيرًا من أيِّ كُتَّابٍ عرَفناهم أو سوف نعرفهم، بل إنني سوف أدلِّلُ بالأمثلة على أصالة شيكسبير في رسم الشخصيات، كما سوف أثبت أيضًا ما أقوله من أن شيكسبير أعاد ابتكارنا من الزاوية العملية إلى حدٍّ بعيد، بل إلى درجةٍ مذهلة. فالواقع أن أفكارنا عمَّا يجعل الذاتَ (self) إنسانيةً أصيلة، تدين إلى شيكسبير بأكثرَ مما ينبغي أن يتسنَّى لها، ولكن أعمال شيكسبير قد اكتسبَت مكانةً مقدسة، ولا يعني هذا أن يقرأه الناس مثلما يقرَءون الكتاب المُقَدَّس أو القرآن الكريم أو مبادئ وعهود جوزيف سميث [مُنشئ المذهب المورموني في القرن التاسع عشر]، بل ولا يعني أن يقرأه الناس مثلما يقرَءون سيرفانتيس أو ديكنز أو وولت ويتمان. بل ولنا أن نقول إن الأعمال الكاملة لوليم شيكسبير يمكن أن تُسمى كتاب الواقع، على إغراقه في الخيال إلى الحد الذي يتعمَّد جانبٌ كبير من كتابات شيكسبير الاستغراقَ فيه. ولقد كتبتُ في غيرِ هذا المكان أقول إن شيكسبير لا يُمثل في ذاته وحسبُ عِمادَ الأدب الغربي، بل إنه أصبح عمادَ الأدب العالمي، وربما يكون الوحيدَ القادرَ على النجاة من الانحطاط الراهن لمؤسساتنا التعليمية، هنا وفي الخارج. من الجائز أن يَسقط كلُّ كاتب عظيم آخَر وينتهي، وأن يحلَّ محله المستنقَع المُعادي للنخبة الذي يُسمى الدراسات الثقافية. لسوف يبقى شيكسبير، حتى ولو نبذه الأكاديميون، ولو أن ذلك في ذاته غيرُ محتمل. إنه يَغْذو اللغةَ التي نتكلَّمها على نطاقٍ واسع، وأصبحَت شخصياته الرئيسية من أساطيرنا، وأصبح عالِمَ النفس الخاصَّ بنا، لا فرويد الذي اتبعه على الرغم منه. وقوة إقناعه ذاتُ جوانبَ مؤسفة، فربما كانت تاجر البندقية تحضُّ على معاداة السامية أكثرَ من كتاب بروتوكولات حكماء صِهيون، وإن كان هذا أقلَّ مما نجده في إنجيل يوحنا. إننا ندفع ثمن ما نكسبه من شيكسبير.
١  مذهب «الحيوية» vitalism يعني الإيمان بحياة الكون الباطنة والمشاركة فيها، وهو مبنيٌّ على فكرة الدافع الحيوي élan vital عند برجسون. انظر كتابي المختار من شعر د. ﻫ. لورنس، ٢٠١٨م.
٢  يبدأ المؤلف هنا التمييزَ بين مصطلح character بمعنى الشخصية التي يُصورها الأدب، وهي التي تُمثل الطباع التي تُحدد السلوك والأخلاق، وتميز فردًا في المسرحية عن سواه (وكان المترجمون العرب في أوائل القرن العشرين يشيرون في بداية ترجماتهم الأدبية إلى أخلاق الرواية؛ أي characters of the play قبل أن تستقرَّ ترجمة الكلمة الأولى إلى الشخصيات، والثانية إلى المسرحية) وبين مصطلح personality التي تعني جوانبَ الشخصية البشرية كلها، ويعتمد المؤلف في ذلك على استعمالِ الكلمتين في اللغة الإنجليزية؛ فأنت تصفُ الأولى character بأنها صالحةٌ (good) أو منحطَّة (bad)، وأحيانًا ما تصف شخصًا غريبَ الطباع بأنه quite a character، وأما personality فلها خصائصُ أخرى يدرسها علماء النفس، ولا توصف بالصلاح أو الانحطاط (فهذه أحكام خُلقية)، ولكنها تشير إلى مجمل الكيان النفسي للفرد (انظر كتابي مصطلحات علم النفس التحليلي عند يونج، ٢٠١٩م). والمؤلف يتكلم عن الشخصية الحياتية للشاعر بكلمة personality وعن الأشخاص بكلمتي person وpersonage. وحينما يريد الجمعَ بين الدِّلالتَين يقول the representation of human character and personality؛ أي تصوير الشخصية الأدبية والشخصية الحياتية، والتمييز بينهما عسيرٌ في العربية مثلما هو عسيرٌ في الإنجليزية؛ لأن العناصر التي تجمع بينهما أكثرُ من العناصر التي تَفصل بينهما، ولكن المؤلف يُصر على التمييز الذي ذكرتُه في مطلع هذه الحاشية، بل إن أحد مقاصده إثباتُ تميُّز شيكسبير بسبب ابتكاره لما يُسميه the human ومعنى اللفظة أقربُ للطابع البشرى الكامل the all round human منه إلى لفظ الإنسان الذي يرتبط استعمالُه في اللغة بالقيم الإنسانية العُليا، ونقابل بينه في اللغة أيضًا وبين البشرية mankind/humankind، وأحيانًا ما يستخدم شيكسبير kind أو kindly وحدها للدلالة على بني آدم؛ فالبشرية تجمع بين بني آدم وبين غيرهم من الأحياء؛ إذ يشترك الجميع في غرائز وصفات أساسية، بيولوجية في أصلها، وتنمُّ على إشكالية كلِّ تعريف يغفل مثل هذا الارتباط. وقد تستخدم human بالدِّلالتَين في سياقاتٍ مختلفة؛ فالضعف البشري نُسميه human frailty/weakness وأحيانًا ما نشير إلى أبناء البشر جميعًا باسم humanity ونُترجمها «الإنسانية» حتى ونحن نعي دلالتها الأخرى على الصفات الخاصة بالإنسان؛ مثل الشفقة والعطف humaneness أو احترام كل إنسان ومراعاة حقوقه بسبب انتمائه إلى البشر (خذ human rights مثلًا؛ أي حقوق الإنسان)؛ فالتمييز بين الشخصية الأدبية، ترجمةً للإنجليزية character  والشخصية الإنسانية (بمعنى البشرية) ترجمةً للإنجليزية personality كفيلٌ بإيضاح الدِّلالتَين اللتين يرمي إليهما المؤلف. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥