خاتمة
١
إذا كان حدسي صحيحًا، فإن شيكسبير عندما ابتكر أكثر الأشكال قبولًا لتمثيل الشخصية الأدبية والإنسانية تمثيلًا لغويًّا، ومن ثم ابتكر الشخصية الإنسانية على نحو ما نعرفها اليوم، يكون قد عدَّل تعديلًا هائلًا أفكارنا الخاصة بالحياة الجنسية. كان المرحوم جويل فاينمان يحاول أن يفهم ما يسميه «التأثير الذاتي»، فاكتشف في السونيتات نموذجًا لجميع رؤى الثنائية الجنسية عند شيكسبير (وفي الأدب). وإذا نَحَّيْنا انغماس فاينمان في الطرز النقدية التي تنسب كل شيء إلى «اللغة» لا إلى ذات المؤلِّف، وجدنا أنه يقدم إلينا نظرة عميقة أصيلة في العلاقة بين الصور التي رسمها شيكسبير للذات الباطنة التي ما تفتأ تنمو، وبين الوعي الخارق عند شيكسبير بالثنائية الجنسية والصور التي تتخذها.
وكان نيتشه يحذو حذو هاملت في عبارته الغامضة القائلة إننا لا نستطيع أن نجد ألفاظًا إلا لما سبق أن مات في قلوبنا، بحيث يَتضمَّن فِعْلُ التَّكلُّم دائمًا نوعًا من الاحتقار. وقبل أن يُعلِّمنا هاملت ألا نثق في اللغة ولا في أنفسنا، كان وجودنا الإنساني أبسط كثيرًا، لكنه لم يكن يثير اهتمامنا الحالي، وهكذا استطاع شيكسبير، من خلال هاملت، أن يجعلنا نُتشكَّك في علاقاتنا بأي أحد؛ لأننا تَعلَّمنا أن نستريب بالقدرة على الإفصاح في مجال الحب. فإذا عَبَّر لنا أحد بيُسر شديد أو بفصاحة بَيِّنة عن مدى حبه الكبير لنا، فإننا نميل إلى عدم تصديقه؛ لأن هاملت قد استولى علينا مثلما كان يسكن نيتشه.
وقُدرَتنا على أن نضحك من أنفسنا بالسهولة التي نضحك بها على الآخَرين تَدين بالكثير إلى فولسطاف، فهو الذي كان سبب اللماحية عند الآخَرين مثلما كان ذا لماحية هو نفسه. وإذا أردتَ أن تكون سبب اللماحية عند الآخَرين، فلا بد أن تَتعلَّم كيف يضحك الآخرون منك، وكيف تَستوعِب ذلك، وكيف تنتصر أخيرًا على ذلك، بروح التَّفكُّه الرفيع. وقد امتدح الدكتور جونسون فولسطاف بسبب مرحه الذي لا يكاد يَتوقَّف، وذلك، على صحته، يتجاهل رغبة فولسطاف السافرة في التعليم. والذي يعلمه فولسطاف لنا هو الطابع الشامل للتفكه الذي يَتجنَّب القسوة التي لا لزوم لها؛ لأنه يؤكد ضَعف كل «أنا»، بما في ذلك الأنا الخاصة بفولسطاف نفسه.
لو كان شيكسبير قد قُتل في التاسعة والعشرين من عمره، مثل كريستوفر مارلو، لكانت حياته العملية قد انتهت بمسرحية تيتوس أندرونيكوس أو ترويض الشرسة، ولكانت أروع مسرحياته هي ريتشارد الثالث. كان يمكن للعمليات الاجتماعية أن تواصل انطلاقها، تحت حكم الملكة إليزابيث ثم الملك جيمز الأول، ولكن المسرحيات الخمس والعشرين التي تَتمتَّع بأقصى أهمية لم تكن قد أُنْتِجَت في بريطانيا إبان عصر النهضة الأوروبية. وكان من الممكن فعلًا أن تنشغل الشعرية الثقافية [أي المبادئ الفنية ذات الجذور الثقافية] بكاتب؛ مثل جورج تشابمان، أو توماس هايوود، ما دامت الطاقة الاجتماعية مُجرَّد طاقة اجتماعية إن كان ذلك معيارك للقيمة أو للأهمية. كان من الممكن أن نَظلَّ جميعًا نتواثب ونتراقص، ولكننا لو حُرِمْنا شيكسبير الناضج لاختلفنا اختلافًا كبيرًا، وذلك لأن تفكيرنا وشعورنا وكلامنا سوف يختلف. وسوف تختلف أفكارنا، وخصوصًا أفكارنا عن الشخصية الإنسانية؛ لأنها كانت في حالات كثيرة أفكار شيكسبير من قبل أن تصبح أفكارنا. ولهذا السبب ليس لدينا تشابمان النِّسْوي، وتشابمان البِنْيَوي، وتشابمان داعية الحِفاظ على البيئة، ولكن ربما أصبح لدينا، للأسف، شيكسبير داعية الحفاظ على البيئة الطبيعية.
٢
ظل شيكسبير يتمتع بمكانة الكتاب المُقَدَّس العلماني على امتداد القرنين السابقين، وتكاد الدراسة العلمية لنصوصه تُماثِل دراسة نصوص الكتاب المُقَدَّس في النطاق والعمق، وأما حجم النقد الأدبي المخصص لشيكسبير فيُنافس التفاسير اللاهوتية للكتاب المُقدَّس. ولم يَعُد في طوق أحد أن يقرأ كل شيء ذي قيمة أو طَرافة مما يُنْشَر عن شيكسبير. وعلى الرغم من وجود نقاد لشيكسبير لا غناء عنهم — مثل صمويل جونسون، ووليم هازليت، وربما صمويل تايلور كولريدج، وقطعًا أ. سي برادلي — فإن معظم التعليقات على شيكسبير، في أفضل حالاتها، تفي بحاجات جيل مُعيَّن في بلد من البلدان. وتتفاوت هذه الحاجات: إذ لا يسعى المخرجون والممثلون، ومُشاهِدو المسرح والقراء، والباحثون المعلمون والطلاب، بالضرورة إلى طلب الأشياء نفسها لمساعدتهم على الفهم. وشيكسبير يمتلكه المجتمع الدولي؛ إذ يتجاوز حدود الأمم واللغات والمِهن. ويتمتع شيكسبير بموقع فريد في الثقافة العالمية، لا في المسارح العالمية فقط، وهو موقع يَفوق مكانة الكتاب المُقَدَّس الذي يُنافِس القرآن الكريم، ويُنافِس الكتابات الدينية الهندية والصينية.
وهذا الكتاب — شيكسبير: ابتكار الشخصية الإنسانية — عمل تأخَّر ظهوره، فقد جاء في أعقاب نقاد شيكسبير الذين أُكِنُّ لهم أشد الإعجاب — جونسون، وهازليت، وبرادلي وتلميذهم هارولد جودارد الذي ينتمي إلى منتصف القرن العشرين — وهكذا استفدتُ من التأخير مزية طرح سؤال دائم يقول: لماذا شيكسبير؟ لقد سبق له تمثيل الأدب الغربي المُعتمَد، وقد أصبح الآن ذا مكانة مركزية في الأدب المُعتمَد المُضْمَر على مستوى العالم. وعلى نحو ما أقول في أثناء الكتاب كله: من الواضح أن هاملت، وفولسطاف، وروزالند، وياجو، ولير، وكليوباترا، أكبر من مُجرَّد أدوار عظمى للممثلين والممثلات. ومن الصعب أحيانًا ألا نفترض أن هاملت ليس بطلًا قديمًا؛ مثل أخيليس أو أوديب، أو ألا نَتصوَّر أن فولسطاف كان شخصية تاريخية مثل سقراط. وعندما يخطر الشيطان ببالنا فمن المحتمل أن نَتأمَّل ياجو مثلما نَتأمَّل إبليس، وأما كليوباترا التاريخية فليست غير ظل للساحرة المصرية عند شيكسبير، المرأة الفَتَّاكة المُجسَّدة.
والواقع أن تأثير شيكسبير الشديد في الحياة أكبر حتى من تأثيره الهائل في الأدب، وغدَا مِن ثَمَّ يستعصي على الحصر بل إنه، فيما يبدو، يزداد شدة في الآونة الأخيرة؛ إذ يتجاوز تأثير هوميروس وأفلاطون، وينافس الكتب السماوية في الغرب والشرق معًا في تعديل صورة الشخصية الأدبية والإنسانية. والباحثون الذين يريدون حصر شيكسبير في سياقه — التاريخي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعقلاني والمسرحي — قد يُلْقُون الضوء على جوانب مُحدَّدة من عمله لكنهم يَعجزون عن شرح تأثير شيكسبير فينا، وهو فريد، ومن المُحال اختزاله في موقف شيكسبير الخاص، أي في عصره والمكان الذي عاش فيه.
إذا كان من الممكن أن يَتمتَّع العالَم بثقافة عالَمية تُوَحِّدُه، وبأية درجة بارزة، فلا يمكن أن تنبثق هذه الثقافة من الدِّين. فاليهودية والمسيحية والإسلام تشترك في جذر واحد، ولكنها أقرب إلى التَّنوُّع منها إلى التماثل، وأما التقاليد الدينية العظمى الأخرى، المرتكزة في الصين والهند، فإنها بعيدة بعدًا شديدًا عن سلالة إبراهيم الخليل — عليه السلام — وتزداد مُشارَكة العالَم في التكنولوجيا نفسها، وهي التي يمكن على مر الأيام أن تصبح حاسوبًا واحدًا هائلًا، ولكن ذلك لن يكون ثقافة بالمعنى المفهوم. لقد أصبحت الإنجليزية لُغة العالَم فعلًا، ونفترض أن عالميتها ستزداد في القرن الحادي والعشرين، مثلما أصبح شيكسبير، أفضل وأهم كاتب بالإنجليزية، المؤلف العالمي الوحيد الذي تُقَدَّم مسرحياته على المسارح وتُقْرأ في كل مكان. وليس هذا التفوق تعسفيًّا على الإطلاق، فأساسه مُجرَّد موهبة واحدة من مواهب شيكسبير، وهي أجملها وأشدها إلغازًا، ونعني بها حشد الرجال والنساء الذين لا مثيل لهم في الأعمال الأدبية الأخرى. كانت أيريس ميردوك ذات طموح رفيع وإنْ يكن مستحيلًا، ألا وهو أن تصبح روائية شيكسبيرية، وقالت ذات يوم في مقابلة شخصية إنها «تواجه، بطبيعة الحال، المشكلة الكبرى — أي القدرة على أن تكون مثل شيكسبير — وهي التي تعني خَلْق جميع أنواع الأشخاص المختلفين الذين لا يشبهونك.»
وأما طبيعة شيكسبير الحقة فالواضح أننا لن نعرفها أبدًا. قد نخطئ إذا اعتقدنا أننا نعرف طبيعة بن جونسون، وكريستوفر، مارلو، ومع ذلك فيبدو أن لدينا إدراكًا واضحًا لشخصيتيهما الإنسانيتين. ولكننا في حالة شيكسبير لا نعرف إلا عددًا معقولًا من الأمور الخارجية، من دون أن نعرف أساسًا أي شيء مطلقًا. كان شيكسبير يتعمد ألا يكتسب أي لون، وقد يكون ذلك أحد الأقنعة الكثيرة التي تُخْفِي الاستقلال والأصالة الفِكرِيَّتَين والشاسعتَين إلى الحد الذي يجعل مُعاصريه، بل وسابقيه ولاحقيه، يفقدون بَهاءهم بالقياس أو بالمُقارَنة به. ومن الصعب أن نُبالِغ مَهما أكَّدْنا ما يَتمتَّع شيكسبير به من حرية باطنة، فهي تتسع اتساعًا يشمل أعراف عصره وأعراف المسرح أيضًا. وأعتقد أن علينا أن نَتعمَّق في إدراك هذا الاستقلال تَعمُّقًا يزيد عمَّا فعلناه حتى الآن. تستطيع أن تثبت أن دانتي أو ملتون أو بروست كانوا نواتَج مُحْكَمَةً للحضارة الغربية، على نحو ما وَصلَتْ إليهم، بحيث يمكن اعتبارهم قِممًا ونماذج مُوجزة للثقافة الأوروبية، في أوقات مُعيَّنة وأماكن مُحدَّدة. ولكن مثل هذا الإثبات مُحال في حالة شيكسبير، من دون أن يكون ذلك بسبب أي «تَعالِيَّة أدبية». فإن عند شيكسبير شيئًا يبقى في كل حالة، قل إنه شيء فائض يظل قائمًا، مَهما يَكُن الأداء المسرحي فائقًا، ومَهْما تكن براعة التحليل النَّقدي، ومَهما يَكُن حجم البحث العلمي المُفصَّل، سواء كان بالأسلوب القديم أو الأساليب المُستحدَثة، وشرح شيكسبير جهد لا ينتهي، فالإجهاد يصيب المرء قبل أن تفرغ المسرحيات مِمَّا فيها. والمُعالجة الرمزية لشيكسبير، أو تحليل تَورِياته الساخرة بتطبيق الأنثروبولوجيا، أو التاريخ المسرحي، أو الدين، أو التحليل النفسي، أو السياسي، أو مذهب فوكوه، أو ماركس، أو النقد النِّسْوي، لا ينجح إلا بطرائق مَحدودة. فمن الأرجح لو كنت حصيفًا أن تكتسب نظرات شيكسبيرية عميقة في العمل الذي تهواه، ولكن احتمال حصولك على نظرة عميقة فرويدية، أو ماركسية، أو نِسْوية من شيكسبير احتمال ضعيف، فإن طابَعه العالمي سوف يَهزِمُك، ومسرحياته أكثر مما تَعْرِفه أنت، ومعرفتك سوف تتعرض من ثَمَّ لخطر التضاؤل إلى حدود الجهل.
هل يمكن أن توجد قراءة شيكسبيرية لشيكسبير؟ إن مسرحياته يقرأ بعضها بعضًا، وقد استطاعَت حفنة مزدوجة من النُّقاد أن تتابع المسرحيات في ذلك المشروع. وأَوَد أن أعتقد أنه لا يزال في طَوْقنا أن نقوم بإخراج مسرحي شيكسبيري لشيكسبير، ولكنني لم أُشاهِد مثل هذا الإخراج منذ زمن طويل. ويُقدِّم هذا الكتاب ما يعتزم أن يكون قراءة شيكسبيرية لشخصيات مسرحياته، وذلك إلى حدٍّ ما باستخدام شخصياته في تفسير بعضها بعضًا. وكنتُ أحيانًا ألجأ إلى شخصيات أخرى أَبْدَعَها مؤلِّفون آخرون، وخصوصًا تشوسر وسيرفانتيس، ولكن الخروج من شيكسبير لِفَهْم شيكسبير فهمًا أفضل عَمَل خطر، حتى وإن اقتصرت على حفنة أو أقل من الكُتَّاب الذين لا تُحطِّمُهم مقارنَتُهم بمَن ابتدع فولسطاف وهاملت. ووَضْع شخصيات شيكسبير إلى جوار شخصيات منافسيه من كُتَّاب المسرح المعاصرين له يثير الضحك، على نحو ما أشرتُ إليه في هذا الكتاب. إن التعاليَّة الأدبية قد أصبحَتْ طرازًا عفا عليه الزمن، ولكن شيكسبير مُتعالٍ عن زملائه من كُتَّاب المسرح إلى الحد الذي يجعل السُّخف النقدي يحوم بالقرب منا حين نسعى إلى حصر شيكسبير في زمنه ومكانه ومهنته. لم يَعُد النقاد في هذه الأيام يُحِبُّون أن يقفوا في رهبة من شيكسبير، ولكنني لا أعرف سبيلًا آخَر للبداية معه. فالتَّعجُّب والامتنان والصدمة والدهشة تُمثِّل الاستجابات الدقيقة التي ينبغي للمرء أن ينطلق في عمله منها.
لم يَذكُر جيكوب بوركهارد، صاحب المذهب التاريخي القديم، شيكسبير إلا مرة واحدة في كتابه العظيم حضارة النَّهضة في إيطاليا (١٨٦٠م) ولكن الكِتاب بالِغ القسوة على حضارة إيطاليا وعلى سادتها الإسبانيين. ولا بد لنا أن نُسَلِّم بأن شيكسبير كان ذا حظ عظيم لوجوده في تلك الحقبة وذلك المَوقع، ولكن عدة عشرات من كُتَّاب المسرح الآخرين المنتمين إلى جيله كانوا يتمتعون بتلك المزية. وأما الفكرة الحقيقية التي يقدمها بوركهارد فهي «إن مثل ذلك الذهن من أندر مواهب السماء». وهكذا فإن بوركهارد، مع زميله الأصغر سنًّا في بازل، أي فريدريش نيتشه، قد اشتركَا معًا في إحياء الحس اليوناني بالنضال، أي رؤية الأدب باعتباره كفاحًا مستمرًّا ولا يتوقف. فعلى الرغم من أن شيكسبير كان عليه أن يبدأ باستيعاب مارلو ثم الكفاح ضده، فإنه قد اكتسب قوة جبارة بابتداع شخصيتي فولسطاف وهاملت، إلى الحد الذي يَتعَذَّر معه علينا أن نَتصوَّر أنه ينافس أي أحد، عندما وصل إلى مرحلة التفرد الكامل، وهكذا، واعتبارًا من مسرحية هاملت فصاعدًا، كان نضال شيكسبير يدور في المقام الأول مع نفسه، والأدلة التي توفرها المسرحيات وتاريخ تأليفها تشير إلى أنه كان مدفوعًا إلى التفوق على نفسه.
لا شك أنه من قبيل الانحراف أن نجد أن الرَّغبة في إحراق المسرح من خلال نصوص شيكسبير يَعترِضُها يأْس مُعَيَّن من المسرح؛ أي من المسرح الذي يُغْوِي النصوص والمسرح الذي تُغْوِيه، وهو يأس محفور في لَذَّة اختلاس الاستماع التي تتجاوز بها اللغة المنطوقة سامعيها، ملقية تفَّاحَات ذهبية في الطريق ابتغاء الانحراف بالأذن الشرهة التي تتوق إلى التهام خطابها.
من المفترض أن ذلك الانحراف الساخر ينشأ من اللامبالاة الظاهرة عند شيكسبير ببقاء نصوص مسرحياته؛ إذ إن الثراء الحي الخلاق عند شيكسبير قد أوحى باللامبالاة لبن جونسون الذي يَهْتَم بنصوصه اهتمامًا فائقًا، على الأقل في بعض حالاته النفسية، ولكنه ينبغي ألا يُوقِعَنا في الحيرة. والحق أنه يوجد تيار سيئ اتَّخذ شكل الطراز الشائع بين بعض الباحثين في شيكسبير وهو حصر عمل الشاعر وكاتب المسرح في بعض النصوص غير المُنقَّحة التي يمكن اعتبارها أصلية حقيقية. وقد احتج السير فرانك كيرمود احتجاجًا بليغًا ضد هذا العمل الهدام، والذي يمكننا أن نراه في أسوأ حالاته في طبعة أوكسفورد التي حرَّرها جاري تيلور. وتؤيد روزالي كولي تأييدًا بشوشًا ما يقوله تشارلز لام، إذ تُذكِّرُنا بالنصيحة التي أدلى بها مُحرِّرَا طبعة الفوليو الأولى؛ وهما: هيمنجز، وكونديل اللذان كانَا من الممثلين من زملاء شيكسبير، وتقول «اقرأه إذن، المرة تلو المرة». وأضافتْ كولي تذكيرًا جميلًا لنا قائلة: «لا توجد ذريعة لمعاملة نصوص تشوسر معاملة المادة المقروءة على الرغم من معرفتنا أنه كان يقرؤها بصوت عالٍ، باعتبارها أداءً، في ذلك الوقت.»
وقيام شيكسبير بإخراج شيكسبير، في مسرح الجلوب، لا يعني إشرافه على عَرْض هاملت أو الملك لير عَرْضًا يفي بكل تعقيدات النص المُحيِّرة؛ إذ إن المُخرج، حتى وإن كان شيكسبير، كان عليه أن يختار توكيدَ مَنظورٍ ما، وهو ما يُمثِّل أحد أوجه قُصور كل مُخرج وكل مُمثِّل. أي إن شيكسبير، ما دام يُواجِه مسرحيات ذوات نطاق يكاد يكون لا نهائيًّا، كان عليه (مَهما تكن مُعاناته أو مَهما تكن لا مبالاته) أن يُقلِّل من مدى التفسير الممكن. ولا بد أن القراءة النقدية لشيكسبير، لا من جانِب الأكاديميين، بل من جانب المُتحمِّسين الحقيقيين في الجمهور، قد بدأت باعتبارها انشغالًا معاصرًا، ما دامت طبعات الكوارتو المُبكِّرة — الجيد منها والرديء — كانت مُتاحة لمن يشتريها، وكانت تُشتَرى وتُعاد طباعتها. وقد ظهرت ثماني عشرة مسرحية لشيكسبير في مجلدات مُنفصِلة قبل نشر طبعة الفوليو الأولى عام ١٦٢٣م، ابتداء بمسرحية تيتوس أندرونيكوس عام ١٥٩٤م، الذي شهد أول عَرْض لها، عندما بلغ شيكسبير الثلاثين من عمره. وكان قدوم فولسطاف (باسمه القديم أولدكاسل) في عام ١٥٩٨م، مصحوبًا بطبعتين من طبعات الكوارتو، وإعادة الطبع في عام ١٥٩٩م، و١٦٠٤م، و١٦٠٨م، و١٦١٣م، و١٦٣٩م. وأما هاملت، المنافس الوحيد لفولسطاف في إقبال الجماهير المعاصرة، فقد ظهر في طبعَتَي كوارتو في غضون عامين من أول عرض مسرحي له. ومعنى هذا أن شيكسبير كان يعرف أن لديه قراء مُبكِّرين، أقل عددًا إلى حدٍّ بعيد من جمهوره المسرحي، لكنهم كانوا أكثر عددًا من الصفوة المختارة. كان يكتب أساسًا من أَجْل العرض المسرحي، بلا مراءٍ، ولكنه كان يكتب أيضًا حتى تقرأه مجموعة مختارة أكثر تحديدًا. ولا يعني هذا وجود شيكسبيرين اثنين، بل المقصود أن نُذكِّر أنفسنا أن شيكسبير الواحد كان ذا دلالات أَدقَّ وطابع أشمل مما لا يحرص بعض المختزلين المسرحيين على الاعتراف به.
كتب وليم هازليت في عام ١٨١٤م مقالًا قصيرًا عنوانه «عن الشهرة بعد الموت: هل تأثَّر شيكسبير بحبها؟» وللمرء أن يعجب من الخاتمة التي انتهى هازليت إليها، وهي أن شيكسبير كان مُتحرِّرًا تحرُّرًا كاملًا من مثل هذه الأنانية. ويحب كثير من النقاد أن يَتصوَّروا أن شيكسبير كان أندرو لويد ويبر [أشهر مُؤلِّف موسيقي مسرحي] في عصره؛ إذ يسك النقود ويسمح للخلق بأن يهتموا بشئونهم، ولكن هذا يبدو مشكوكًا فيه إلى حدٍّ بعيد، فإن شيكسبير لم يكن بن جونسون، وإن يكن كثيرًا في صحبة جونسون، وربما كانت لديه نظرة صادقة إلى حدٍّ بعيد في طاقاته الخاصة، إلى الحد الذي مَنعه من مُشارَكة جونسون أو جورج تشابمان بواعث قَلَقِهم على البقاء الأدبي. وسونيتات شيكسبير تتخذ موقفًا شديد الانقسام إزاء ذلك، وإزاء مُعظَم الأمور، ولكن طموحه إلى الخلود الأدبي يظهر بقوة فيها. ربما كان كولريدج، في عمقه التَّعالِيِّ، أفضل مَن عَبَّر عن ذلك قائلًا: «إن شيكسبير هو الرَّب الذي يصوره سبينوزا، أي الطاقة الخلَّاقة الموجودة في كل مكان.»
كان سبينوزا يقول إننا ينبغي أن نُحِب الإله، من دون أن نَتوقَّع من الإله حبًّا في مقابل حُبِّنا إياه. وربما إذا كان شيكسبير يُعْتَبر ربًّا كان عليه أن يَتقبَّل حب جماهيره من دون منحهم أي شيء في مقابل ذلك، وربما يكون هاملت بالفعل البديل الحقيقي عن شيكسبير، مثيرًا لحب الجمهور لأن هاملت، على وجه الدِّقَّة وبصورة ملموسة لا يحتاج إلى حُبِّه ولا يريده، لا حب الجمهور ولا حب أي أحد. ربما كان شيكسبير يَتمتَّع بالقوة التي تكفل عدم الحاجة إلى ما يُعادِل الحب عند الشاعر المسرحي؛ أي التصفيق له على مدى الدَّهْر. ومع ذلك فإن هذا المُؤلِّف المُولَع بالتَّجريب بلا هوادة، والذي يزداد رفضه لتكرار نفسه، والذي يَستعمِل القديم في كل حالة تقريبًا لِصُنع شيء ذي جدة جذرية، يبدو لنا — بصفته كاتبًا مسرحيًّا — طالبًا بانتظام ما يثير اهتمامه الباطن، حتى أثناء حرصه على التَّفوُّق على منافسيه. ويرى الدكتور جونسون أن جوهر الشِّعر الابتكار، ولا يُوجَد بين أيدينا شِعْر يُقارِب مسرحيات شيكسبير باعتبارها ابتكارًا، وخصوصًا ابتكار الشخصية الإنسانية.
ويرى برادشو أن إحكام شيكسبير للتورية الساخرة التي تَكفُل إقامة مسافة [تفصل بين القارئ وما يقرأ] من المواهب الرئيسية للشاعر المسرحي؛ إذ إن هذه المسافة تخلق شكًّا برجماتيًّا فيما يَتعلَّق بجميع مسائل «القيمة» الطبيعية. وأود أن أقدم تعديلًا لهذه النظرة بأن أنحرف مبتعدًا عن مثل ذلك الشك، مثلما أعتقد أن شيكسبير نفسه فعل، وذلك بأن قدم لنا جميع النظرات المتنافسة للطبيعة، من خلال قبول القول بلامبالاة الطبيعة. ونستطيع أن نحدس أن شيكسبير الذي يحمل في باطنه ضخامة الطبيعة، يشهد على لا مبالاة الطبيعة، وكذلك — أخيرًا — على لا مبالاة الموت. ومع ذلك فإن شيكسبير الذي يحمل في باطنه أيضًا ضخامة الفن الكبرى، لا يتخذ موقف لا مبالاة ولا موقف شك بالمعنى المفهوم، فهو ليس مؤمنًا ولا عدميًّا. فإن مسرحياته تقنعنا جميعًا أنها تبالي، وأن الشخصيات فيها ذوات أهمية وإن لم يكن ذلك من أجل الأبدية أو إلى الأبد.
لا نستطيع الاكتفاء بالمنظورات المتوافرة لهاملت، بل دائمًا ما نطلب المزيد؛ لأن ضخامة شخصيته ولا مبالاته لا تؤديان إلى مزجه بالطبيعة بقدر ما تخلطان بينه وبين الطبيعة، ومحيط دائرة الوعي المعادِل عند فولسطاف يوحي بأن الطبيعة لا تستطيع أن تحظى بالعقل إلا إذا ارتبطت بفولسطاف فاكتسبت بذلك قدرًا من لماحيته. ويخطئ إدموند حين يستلهم الطبيعة باعتبارها رَبَّتَه، في حين أن إنجازه الفعلي السلبي يَتمثَّل في تحويل الطبيعة إلى كيان شَرِه مُلْتَهم؛ أي إلى عقل (من نوع ما) يستبعد كلَّ مَشاعر الحب إلى حدٍّ بعيد. وأما ياجو فإنه أكثر دقة في استلهامه «ربوبية الجحيم»، وينجح بذلك في مشروعه المتألِّق الرامي إلى تدمير الواقع الأنطولوجي الوحيد الذي يعرفه، ألا وهو الحرب المُنظَّمة، فهو واقع يتلخص رمزيًّا في رب الحرب عطيل، ويرمي ياجو إلى الاستعاضة عنه بحرب دائبة فوضوية هي الحرب الشاملة بين الجميع. ويقوم ياجو بذلك باسم العدمية التي تستطيع تعويضه عن جرحه الخاص؛ أي إحساسه بأنه تَعرَّض للتجاهل والرفض من جانب القيمة الوحيدة التي كُتِب له أن يعرفها يومًا ما، أي المجد الحربي لعطيل.
٣
ولماذا شيكسبير؟ لقد أنجب مَن غَدَوْنا نتبناهم، ومن المُحال أن يكون قد قصد أن يجعل من شخصياته أو من أفراد جمهوره أطفالًا له، ولكنه كان والدًا لجانب كبير من المستقبل، لا من المسرح فقط، ولا حتى من الأدب وحسب. وأما الدِّين، في صورة الشعائر واللاهوت، فيكاد يكون الانشغال الإنساني الدائم الوحيد الذي يمكننا أن نقول إن شيكسبير لم يكن مُولَعًا بحبه. وعلى الرغم من حرصه على تَجنُّب السياسة والدين معًا، كي لا يُدَقَّ عنقُه، فقد أثر في السياسة تأثيرًا كبيرًا، وإن يكن هذا التأثير أقل كثيرًا من تشكيله لعلم النفس والأخلاق (على حذره فيما يتعلق بالأخلاق، على الأقل بأسلوبه الخاص). وباعتباره مبتدعًا للنفوس بقدر ابتداعه للغة، فيمكننا أن نقول إنه رقَّ ولان ثم أعاد تمثيل الذات لغويًّا ومن خلال اللغة. وهذه المقولة صلب هذا الكتاب، وأُدْرِكُ أنها سوف تبدو لكثير من القراء مُبالَغة أو مغالاة. ولكنها صادقة وحسب، ولم يحجب حقيقتها إلا أننا لا نقول إلا أقل القليل عن تأثير الأدب في الحياة، في هذا الزمن الرديء الذي يقوم فيه المعلمون الجامعيون بتعليم كل شيء إلا الأدب، ويناقشون شيكسبير بأساليب لا تكاد تختلف عن الأساليب المُستعمَلة في مسلسلات التليفزيون وفي الحديث عن المغنية الفذة مادونا. والذي يَجري في التليفزيون وحول مادونا يشبه عرض حصار الدببة [بكلاب تنهشها] ومشاهد تنفيذ الإعدام علنًا في العصر الإليزابيثي. لقد كان شيكسبير فعلًا، ولا يزال، يتمتع بالإقبال الجماهيري، ولكنه لا ينتمي إلى ما يسمى «الثقافة الجماهيرية [أو الشعبية]» لا في عصره ولا الآن، على الأقل بالمعنى الحالي الغريب الذي يجعل هذا المصطلح يزداد إيحاءً بالتناقض.
وأعني بالانتماء إلى الخيال فكرة شيكسبير عن المسرحية، وهي الفكرة التي عرضها بدقة وبراعة عدد من النُّقاد منذ أن قدَّمَتْها آن بارتون. فعندما ازداد قلق شيكسبير فأزال جانبًا كبيرًا من افتخاره بالمسرح، كانت ثقته المُضمَرة في قدرته الخاصة على رسم الشخوص قد حَلَّت، إلى حدٍّ ما، مَحلَّ صِلَته المتدهورة بجمهور المسرح. وكان انقشاع الوهم عند شيكسبير يربط ما بين التمثيل والدعارة، ولم يُؤدِّ نفوره من هذا المزيج إلا إلى أن تصور أن المسرحيات نفسها، باعتبارها خداعًا، ضروب من المحاكاة الشبحية لحقائق الواقع الكريهة. ولكن ما بال تلك الظلال العظمى، أولئك الرجال والنساء في «الكوميديات السوداء»، وفي التراجيديات الرفيعة، والتراجيكوميديات التي نطلق نحن عليها (لا شيكسبير) صفة «الرومانسيات الأخيرة»؟ إنك إذا انقلبتَ فأصبحتَ تُناهضُ التمثيل كنتَ تُجدِّد الحجة التي يسوقها أفلاطون ضد الشعراء، ومع ذلك فنحن لا نشعر بأي عنصر تَعاليٍّ في النفور الجدلي عند شيكسبير من الظلال. فالتَّعالِيَّة عند شيكسبير لا تُتاح لنا، فيما يبدو، إلا عند انسحابها ورحيلها، على نحو ما نسمع موسيقى الرب هرقل وهو يَتخلَّى عن حبيبه أنطونيو. وشيكسبير، حتى في أحلك لحظاته، يرفض التخلي عن أبطاله. ولا نستطيع أن نتصور شيكسبير، مثل بن جونسون، وهو يجمع مسرحياته في مجلد ضخم من ورق الفوليو عنوانه أعمال وليم شيكسبير ومع ذلك فإن بروسبرو لا يعتبر شخصية تمثل التضاؤل مهما تكن الخاتمة التي اختارها. ونحن لا نرى المجوسي الشيكسبيري بوضوح شديد على مسارحنا هذه الأيام، فالأغلب أن يقدم في صورة مُستعمِر أبيض البشرة يكابد الحيرة ولا يدري كيف يتعامل مع متمرد بطولي أسود (أو حتى اثنين إذا كُتبِ لوهم جورج سي. وولف، الذي يجعله يرى آرييل في صورة امرأة سوداء متمردة، أن ينتشر). ومع ذلك فإن بروسبرو يظل قائمًا باعتباره صورة لتباهي شيكسبير (ذي المعنى الملتبس إلى حدٍّ ما) بسِحْره الخاصِّ في خلق الأشخاص.
٤
يقول ليدز بارول، في تنقيحه المقنع لتواريخ كتابة مسرحيات شيكسبير، إن الشاعر كتب الملك لير، ومكبث، وأنطونيو وكليوباترا في نحو عام وشهرين، في ١٦٠٦-١٦٠٧م، ويضيف بارول إن هذه السرعة الفذة كانت مِعيارِيَّة عند شيكسبير؛ إذ كتب سبعًا وعشرين مسرحية في السنوات العشر من ١٥٩٢–١٦٠٢م، ومع ذلك فإن تَصوُّر كتابة المسرحيات الثلاث المذكورة في أربعة عشر شهرًا يصيبنا بما يشبه الصدمة. وعلى الرغم من ذلك فإنني كلما قرأتُ الملك لير أذهلني أن يستطيع إنسان فرد أن يُؤلِّف مثل تلك الفاجعة الكونية الشاسعة في أية فترة زمنية. وأظن أننا نعود إلى أساس عبادة شيكسبير الذي لم يعد الآن مقبولًا على نطاق واسع؛ إذ إننا نجد عند شيكسبير شيئًا خارقًا، مثلما نجد ذلك عند ميكيلانجلو وموزار. فالسهولة التي يتميز بها شيكسبير، والتي لاحظها معاصروه، تبدو لنا أكثر من ذلك. فمهما كانت العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي حَفَّزَتْه، فإنها لم تكن تختلف لا في النوع ولا في الدرجة عن العوامل الموازية تمامًا التي تأثر بها غيره، ولْنَقُل توماس ديكر، أو جون فلتشر. والمعنى المضمر في كلام بارول يقول إن لغز شيكسبير لا يكمن في أنه كتب ثلاث تراجيديات في ستين أسبوعًا، بل في أنها كانت الملك لير ومكبث وأنطونيو وكليوباترا.
لامني صديقي القديم روبرت بروستاين، مدير مسرح الريبرتوار الأمريكي في جامعة هارفارد؛ لأنَّنِي قلت إنني أُفضِّل تقديم قراءات جماهيرية لنصوص شيكسبير، على الشاشة أو خشبة المسرح. والحال المثالي بطبيعة الحال تقديم عرض تمثيلي للنص الشيكسبيري، ولكنه لما كان في كل الحالات تقريبًا يتسم بضعف الإخراج، وانخفاض مستوى التمثيل، فربما يكون الاستماع إلى إلقاءٍ جيد للنص خير من مُشاهَدة عرض سيئ له. فالممثل إيان ماكيلين يمكن أن يُؤدِّي دور ريتشارد الثالث أداءً رائعًا، ولكن إذا أصر المخرج على أن يؤدي ريتشارد في صورة السير أوزوالد موزلي [زعيم حزب اتحاد الفاشيين البريطاني] الذي كان يريد أن يصبح النسخة الإنجليزية من هتلر، فإنني أفضل في هذه الحال أن أستمع إلى هذا الممثل المرموق وهو يلقي كلام هذا الدور علينا. والممثل [الأمريكي الأسمر] لورانس فيشبيرن شخص مهيب الطلعة، ولكن انظر كم من الوقت يمكن أن يقضيه المرء في الاستماع إلى إلقائه دور عطيل. والحق أن نصوص شيكسبير تشبه النوتة الموسيقية إلى حدٍّ ما، وتحتاج إلى إلقاء ظلها عن طريق الأداء، ولكن ما دام جهازنا المسرحي قد خرب، أفلا يكون الإلقاء على الجمهور أفضل من المحاكاة السيئة غير المقصودة؟
من الحقائق المشهورة كثرة التعليقات على شيكسبير، بل وزيادتها على شروح الكتاب المُقدَّس. ويعتبر الكتاب المُقَدَّس أصعب كتاب في نظرنا اليوم، على عكس شيكسبير، فمن المُفارَقات أنه كتاب مفتوح أمام الجميع ويثير تفسيرات لا تنتهي. والسبب الأول لذلك، إن شئنا البساطة القصوى، ذكاء شيكسبير الذي لا نهاية له. فشخصياته الدرامية الرئيسية حافلة بصفات متعددة الأشكال، وتزخر مجموعة مختلطة منهم بالذهن الوَقَّاد؛ مثل: روزالند، وفولسطاف، وهاملت، وياجو، وإدموند. فهي أذكى منا، وهو قول قد يبدو للناقد الشكلي أو التاريخي مُجرَّد هُراء من جانب عابدي شيكسبير. ولكن المخلوقات يَتجلَّى فيها خالقها بصورة مباشرة؛ إذ إن ذكاءه أشمل وأعمق مما يتصف به أي كاتب نعرفه. ولا يمكن فصل الإنجاز الجمالي لشيكسبير عن طاقته المعرفية. وأتصور أن هذا يفسر لنا تأثيره المختلط في الفلاسفة؛ فإن هيجيل ونيتشه يحتفلان به، ولكن هيوم وفتجنشتاين يريان أنه يحظى بتقدير مُبالَغ فيه، وقد يكون ذلك لأن وجود إنسان يَتمتَّع بذكاء فولسطاف أو هاملت مُستبعَد. فإن فولسطاف يعتبر كونًا كاملًا وشخصًا أيضًا، وهاملت الأشد غموضًا شخص ويمكن أن يكون ملكًا. والأمير هال، مكيافيلي ملتبس الدلالة، وهو شخص بلا مراء، ويصبح ملكًا جبارًا، ولكنه لا يصل إلى أن يكون «عَالَمًا كاملًا في ذاته» مثل فولسطاف وهاملت أو حتى روزالند. وكل من ياجو وإدموند هوة سحيقة في ذاته يتحمس لخلق زائف.
ويقدم لنا أ. د. ناطول، الذي أعتبره من أعظم نقاد شيكسبير، عبارة رائعة تقول إن شيكسبير لم يكن حلَّالًا للمشاكل ولم يُذلِّل أية صعوبات «وقد يكون ذلك سبب عدم تقدير هيوم وفتجنشتاين لمُبدِع فولسطاف وهاملت التقدير الجدير به». فالواقع أن شيكسبير، مثل كيركجارد، يُوسِّع من نطاق رؤيتنا لألغاز الطبيعة البشرية، وأما فرويد الذي أخطأ فأراد أن يكون عالمًا فقَد أهدر عبقريته في مذهب اختزالي، ولكن شيكسبير لا يختزل شخوصه فيقصرها على أمراضها [النفسية] المفترضة أو رومانساتها الأسرية. ففي المنظور الفرويدي تَتعدَّد عوامل التحكم فينا، ولكنها جميعًا تسير في الطريق نفسه إلى حدٍّ كبير. وأما عند شيكسبير، كما يقول ناطول، فإن تَعدُّد عوامل التَّحكُّم فينا يعني وجود طرائق متنافسة وبَالغة الكثرة إلى الحد الذي يجعل ثراء ذلك التَّعدُّد في ذاته ضربًا من الحرية، ويعرض روجر بول نهج كيركجارد عرضًا رائعًا يبين أنه يقوم على الاتصال غير المباشر، وهو الذي تعلمه كيركجارد من هاملت. وربما يكون هاملت قد أتى إلى العالَم مثل كيركجارد للمساعَدة على إنقاذه من المذهب الاختزالي. وإذا كان شيكسبير يأتينا بحل علماني؛ فذلك لأنه يساعد من جانب مُعيَّن على استبعاد الفلاسفة الذين يريدون أن يَنتحِلوا الأعذار لحياتنا برمتها، كأنما كنا لا نزيد عن عقبات كثيرة مُحدَّدة تَتطلَّب اقتحامها وإزالتها.
ذكرتُ آنفًا أننا ينبغي لنا أن نَتخلَّى عن المسعى الفاشل لمُحاولة قول الصواب عن شيكسبير، أو حتى المسعى الإليوتي الساخر لمحاولة الخطأ بطريقة جديدة عن شيكسبير. نستطيع أن نواصل العثور على معاني شيكسبير، لا على مَعنًى أوحد، فإن ذلك يشبه البحث عن «معنى الحياة». نعرف أن فتجنشتاين، وجميع النُّقاد من أصحاب المنهج الشكلي، والمسرحيين والتاريخيين المعاصرين، يتكاتفون لإخبارنا أن الحياة شيء وشيكسبير شيء آخَر، ولكن الجمهور العالمي يرى غير ذلك بعد أربعة قرون، وليس من اليسير دحض رأيهم. كان بن جونسون، أذكى أصدقاء ومعاصري شيكسبير، قد بدأ بالإصرار على أن شيكسبير كان يريد الفن، ولكن جونسون شعر بغير ذلك بعد وفاة شيكسبير. كان جونسون يرشد العاملين إلى طريقة تحرير طبعة الفوليو الأولى، ولا بد أنه كان يقرأ نصف المسرحيات للمرة الأولى، ويبدو أنه انتهى إلى رأي شيكسبير نفسه الذي يقول «إن الفن نفسه هو الطبيعة». ويدافع ديفيد ريجز، كاتب سيرة بن جونسون، عنه نافيًا اتهام درايدن له بأنه يشتم شيكسبير؛ إذ يبين على العكس من ذلك أن الشاعر المسرحي الأقرب إلى الكلاسيكية الجديدة غير رأيه عندما أتيح له الاطلاع على جميع أعمال شيكسبير. فالذي اكتشفه بن جونسون واحتفل به هو الذي يواصل القراء العاديون والمشاهدون العاديون اكتشافه، وهو أن رسم شخصيات شيكسبير يتسم بقدر هائل من الفن الذي يجعلها تبدو طبيعية تمامًا.
٥
لا يواجه الباحثون في شيكسبير ما تزيد صعوبة فهمه وإدراكه عن طاقته المعرفية، فلقد تَفوَّق شيكسبير على كل كاتب آخر — شاعرًا كان أو كاتبًا مسرحيًّا أو فيلسوفًا أو عالمًا نفسيًّا أو لاهوتيًّا — في إعادة النظر في كل شيء بنفسه، وهذا ما يجعله الرائد الذي بَشَّر بكيركجارد وإيمرسون ونيتشه وفرويد بقدر إرهاصه بإبسن، وسترندبرج، وبيرانديلُّو وبيكيت. ولما كان شيكسبير يعمل كاتبًا مسرحيًّا في عهد الملكة إليزابيث، ثم في ظل حكم الملك جيمز الأول، كان لزامًا عليه أن يُقدِّم أفكاره بطريق غير مباشرة، وألا يسمح لنفسه إلا نادرًا باتخاذ بديل أو مُتحدِّث بلسانه من بين شخوصه الدرامية، وحتى عندما يظهر هذا البديل فنحن لا نستطيع أن نعرفه. وكان الروائي، المرحوم أنطوني بيرجيس، يقول إن السير جون فولسطاف هو البديل الأول لشيكسبير. وما دمتُ أنا من أنصار فولسطاف المخلصين، ناقمًا على الروائيين الذين ينكرون امتنانهم لفولسطاف، فإنني أود أن أظن أن بيرجيس كان على حق، وإن لم أستطع أن أقطع بذلك؛ إذ أميل إلى أن أرى شيكسبير في شخصية إدجار، ربما لأنني أرى أن كريستوفر مارلو يمثله إدموند، ولكنني لا أستطيع إقناع نفسي إقناعًا كاملًا. ربما يقول الواقع إنه لا توجد شخصية معينة — لا هاملت ولا بروسبرو ولا روزالند — تَتحدَّث «بلسان» شيكسبير نفسه. بل ربما يكون الصوت الفذ الذي نسمعه في السونيتات متخيلًا مثل أي صوت آخر نسمعه عند شيكسبير، وإن كان يصعب عليَّ كثيرًا أن أعتقد ذلك.
كان شيكسبير، في حرصه وفي شططه، يتلاعب بكل مفهوم «مقبول» متاح له، وإن لم يكن مقتنعًا بأي منها على الإطلاق. فإذا دأبت على قراءة مسرحياته المرة بعد المرة، وتفكرت في كل عرض مسرحي شاهدته، فمن المحتمل ألا تعتبره بروتستانتيًّا أو كاثوليكيًّا، أو حتى من أصحاب الشك المسيحي؛ إذ إن حساسيته علمانية، لا دينية. وأما مارلو الذي يوصف «بالإلحاد» فقد كان لديه طبع أقرب من طبع شيكسبير إلى التدين، وأما بن جونسون، فإنه على الرغم من علمانِيَّتِه المسرحية المماثلة لعلمانية شيكسبير، فإنه كان شخصيًّا أكثر إيمانًا بالدين (وإن يكن ذلك في فترات متقطعة، على أية حال). ونحن نعرف أن بن جونسون كان يفضل السير فرانسيس بيكون على مونتانيْ، ونظن أن شيكسبير ربما لم يتفق في ذلك مع بن جونسون. وقد يمثل مونتاني صلة واهية بين شيكسبير وموليير؛ أي إن مونتاني قد يمثل كل ما كان يمكن أن يشتركا فيه، ويصبح شعاره «ماذا أعرف؟» مقتطفًا استهلاليًّا للكاتبين المسرحيين معًا.
وتفصح السونيتات عن شجو عميق لمؤلِّفها بسبب عمله الذي نسميه ممارسة فنون التَّسرية أو الفُرْجة، ولكنني أعتقد أن شيكسبير كان يمكن أن يشعر بشجو أعمق إذا وجد أنه يُمارسُ ما نسميه الدعوة الأخلاقية. كان شيكسبير يريد أن يسيطر على الجمهور سيطرة أكبر من سيطرة مارلو، في حدود اعتباره سابقًا على شيكسبير. كان شيكسبير يهاجم الممثلين، لكنه لم يُهاجم الجمهور قط مثلما كان بن جونسون يفعل. لقد أُصِيب بن جونسون بصدمة أليمة عندما هاج الجمهور وماج مهاجمًا مسرحيته سيجانوس عند عرضها في مسرح الجلوب. ولما كان شيكسبير يقوم بدور في المسرحية فقد خطر له أنه لم يَتعرَّض لمثل هذه التجربة، ولم يَتعرَّض بالفعل لمثلها قط؛ إذ كان جمهوره يحب فولسطاف وهاملت منذ البداية، ولا شك أن فقراء المتفرجين أعربوا عن استهجانهم لمسرحية سيجانوس لبعض الأسباب نفسها التي أدَّت إلى استدعائه للحضور أمام المجلس [مجلس الخاصة الملكية] حيث وجهت إليه تهمة «ممالأة البابوية وتهمة الخيانة العظمى»، ولكن من المُحتمَل أنهم وجدوها مملة مثلما نجدها اليوم. كان جونسون كاتبًا مسرحيًّا لوذعيًّا للكوميديا، في مسرحياته فولبوني، والخيميائي، وسوق بارثولوميو، ولكنه للأسف كان متحذلقًا في كتابة التراجيديا. وأما شيكسبير، الذي لم يُضْجِر أحدًا قط، فقد كان يحرص أيضًا على عدم الإساءة إلى «الفضلاء» في بلده إنجلترا، وإن يكن ذلك قد حدث مؤخرًا، ووجَد مَن يُمجِّده الآن، في جامعاتنا التي لا تعرف الفكاهة. وكون شيكسبير لا يزال حاكمًا باعتباره مُقدِّم فنون التَّسلية العالمية، وذا التعدد الثقافي والطابع المُتغَيِّر الذي يثير الدهشة، يعود بنا إلى السر الذي لم يَتكشَّف بعدُ، تُرى ما الذي يتجاوز التاريخ عنده؟
لا يكفي أن نقول إن شيكسبير «خالق للُّغة» حسبما أسماه فتجنشتاين، بل ولا يكفي أيضًا أن نقول إنه «خالق شخصيات» أو حتى «خالق للفكر». فإن اللغة والشخصية والفكر تُعْتَبر جميعًا جزءًا من ابتكار شيكسبير للشخصية الإنسانية، ومع ذلك فإن الجزء الأكبر منها هو الكيان العاطفي. لقد ظل بن جونسون أقرب إلى نهج مارلو منه إلى نهج شيكسبير، وذاك لأن شخوص جونسون كرتونية أو كاريكاتورية تفتقر إلى الحياة الباطنة. ولهذا السبب لا نجد صراعًا بين الأجيال في مسرحيات جونسون، ولا شيئًا مما كان فرويد يسميه «الرومانسات الأسرية». وأما أعمق الصراعات عند شيكسبير فهي التراجيديات، والمسرحيات التاريخية، والرومانسية، بل حتى في كوميديات الدم. فعندما ننظر في الشخصية الإنسانية، فأول ما يخطر على بَالِنا الآباء والأطفال، والإخوة والأخوات، والأزواج والزوجات. ونحن لا ننظر في هذه العلاقات من زاوية هوميروس والتراجيديا الأثينية، أو حتى من زاوية الكتاب المُقَدَّس العبراني؛ لأن الأرباب والإله لا يشاركون فيها في المقام الأول. بل نحن ننظر في الأسرات باعتبار وجودها وحْدَها، مع بعضها البعض، بِغَضِّ النظر عن السياقات الاجتماعية، ومعنى هذا أننا نفكر من زاوية شيكسبيرية.
٦
التغيير — في الحظ وعلى مَرِّ الزَّمن — أكبر ما يشيع عند شيكسبير، والموت باعتباره الشكل الأخير للتغيير، يمثل انشغال شيكسبير السافر في التراجيديا والمسرحيات التاريخية، كما يُعْتَبر الشغل الشاغل الخبيء في كوميدياته. وتراجيكوميدياته — أو رومانساته، حسبما نسميها اليوم — تعالج الموت معالجة أشد أصالة من معالجة تراجيدياته الرفيعة له. وقد تميل جميع السونيتات، التي تتناول الحب في آخِر المطاف، إلى نَغَمة الرثاء، فظِلال شيكسبير تظهر في صورة الموت نفسها. وسَفير الموت الفريد إليه هو هاملت؛ إذ لا نجد شخصًا آخَر، مُتخيَّلًا أو تاريخيًّا، يشغله ذلك القطر غير المكتشف، إلا إذا رغبت في وضع يسوع — عليه السلام — جنبًا إلى جنب مع هاملت، وسواء وضعت شيكسبير تحت عنوان الطبيعة أو الفن، فإن له امتيازًا غريبًا سائدًا، ألا وهو أنه يعلمنا طبيعة الموت. ويقول بعض النقاد إن سبب هذا اقتراب شيكسبير من أن يغدو كتابًا مُقدَّسًا علمانيًّا. ويبدو لي أن معاملة شيكسبير (أو مونتانيْ) باعتباره كذلك أقرب للصحة من مُعاملة فرويد أو ماركس أو الهايديجريين الفرنسيين، أو النِّيتشِيِّين الفرنسيين باعتبارهم كذلك. ويكاد شيكسبير ينفرد بأنه يجمع بين أدب التَّسلية وأدب الحكمة. والحقيقة التي تقول إن أعظم مَن يَهَبُنا المتعة من الكُتَّاب يعتبر أيضًا أذكاهم حقيقة تكاد تبعث فينا الحيرة. لقد أذاب شيكسبير عددًا كبيرًا من «خرافاتنا الثنائية» (وفقًا لتسمية وليم بليك لهذه التقسيمات) إلى الحد الذي قد يفيدنا مُجرَّد وضعها في قائمة، وها هي ذي: العاطفي ضد المعرفي، والعلماني ضد المُقدَّس، والتسرية ضد التلقين، وأدوار الممثلين ضد الشخصيات الأدبية والإنسانية، والطبيعة ضد الفن، و«المؤلِّف» ضد «اللغة»، والتاريخ ضد الخيال، والسياق ضد النص، والهدم ضد المُحافَظة. فمن حيث الثقافة يُشكِّل شيكسبير أكبر كتيبة لنا، فشيكسبير هو التاريخ الثقافي الذي يضم العوامل المُتعدِّدة التي تَتحكَّم فينا. وتُؤدِّي هذه الحقيقة المركَّبة إلى إهدار جميع محاولاتنا لاحتواء شيكسبير في المفاهيم التي تُقدِّمها الأنثروبولوجيا، أو الفلسفة، أو الدين، أو السياسة، أو التحليل النفسي، أو «النظرية» الباريسية بشتَّى أنواعها. فالواقع أن شيكسبير هو الذي يحتوينا. فهو دائمًا ما يصل قَبْلنا، ودائمًا ما ينتظر وصولنا، سابقًا إيانا إلى مكان ما.
يشيع في الوقت الراهن اتجاه بين بعض الكتاب الأكاديميين حول شيكسبير، يحاول أن يجد تفسيرًا لتَفرُّده يقوم على وجود مؤامرة ثقافية، وفرض الإمبريالية البريطانية، ومِن ثَمَّ على اعتباره سلاحًا يستخدمه الغرب ضد الشرق. ويرتبط بهذا الاتجاه الشائع رأي يَتَّسم ببلاهة أكبر ألا وهو القول بأن شيكسبير الكاتب المسرحي والشاعر ليس أفضل أو أسوأ من توماس ميدلتون، أو جون وبستر. وبعد هذا يُلْقَى بنا في هُوَّة الجنون؛ إذ يقال إن ميدلتون كَتَب مكبث، وإن السير فرانسيس بيكون أو لورد أوكسفورد كَتَب أعمال شيكسبير كلها، أو إن لجنة كاملة من كُتَّاب المسرح كَتبَت أعمال شيكسبير، ابتداءً بمارلو وانتهاءً بجون فلتشر. وعلى الرغم من أن النقد النِّسوي الأكاديمي، والماركسية، واللاكانية [نسبة إلى لاكان]، والفوكولتية [نسبة إلى فوكوه]، والدريدية [نسبة إلى دريدا] وهَلُمَّ جرًّا، تَحْظى باحترام «في الجامعات» يفوق ما يلقاه أنصار بيكون ولورد أوكسفورد، فإننا نواجه الظاهرة نفسها، وهي لا تسهم بشيء في التقدير النقدي لشيكسبير. ولقد بدأ هذا الكتاب بالتَّنكُّر لمُعظَم الكتابات الأنجلوأمريكية الراهنة حول شيكسبير وطُرُق تدريسه، ولم أَكُن أشير إليها إلا لمامًا؛ لأنها لا تستطيع أن تساعد أي قارئ أو مُشاهد مسرحي يَتمتَّع بانفتاح الذِّهن والأمانة في سعيه للارتقاء بمعرفته بشيكسبير.
لا تَتوقَّف عجلة الحظ، ولا يَتوقَّف الزمن والتَّغيير عن الدوران عند شيكسبير، وينبغي أن يبدأ أي تَفهُّم دقيق له بإدراك هذه التغييرات التي تَستنِد إليها شخصيات شيكسبير، فإن شخصيات دانتي لا تستطيع التَّطوُّر عمَّا وصلَتْ إليه، وأما شخصيات شيكسبير فهي، كما ذكرتُ آنفًا، أشدُّ اقترابًا من شخصيات تشوسر، ويبدو أنها تَدِين إلى رُؤى تشوسر المُتغيِّرة للرجال والنساء بأكثر مِمَّا تَدِين به إلى أي مصدر آخَر، بما في ذلك صور البشر في الكِتاب المُقدَّس أو عند شاعر شيكسبير المُفَضَّل، أي أوفيد، الشاعر اللاتيني. ويقول لينارد باركان في دراسته التي يرصد فيها تأثير أوفيد في شيكسبير، وعنوان كتابه أرباب اكتسبت أجسادًا: «إن عددًا كبيرًا من كبار الأشخاص في قصيدة أوفيد يُعَرِّفُونَ أنفسهم بكفاحهم لابتكار لغات جديدة.» والتحوُّلات عند شيكسبير ترجع في كل حالة تقريبًا إلى مُحاوَلة الكاتب الدائبة للعثور على لغة مُميزة لكل شخصية رئيسية، بل والكثير من الشخصيات الثانوية، وهي لغة تستطيع التَّغيُّر عندما يَتغيَّر الأشخاص وأن تشرد وتَشتَطَّ عندما يَشردون ويَشتطُّون. والانقلاب عند شيكسبير كثيرًا ما يتخذ الصورة التقليدية للدَّوَران، فالعَجَلة الدائرة قد تَتَّخِذ صورة عَجلة الحظ التي ترمز إلى التطرف أو التجوال خارج الحدود.
كانت جماهير مسرح شيكسبير قد اختارت فولسطاف وأَحبَّتْه مُفضِّلة إياه حتى على هاملت، ولم تَكُن عَجَلة الحظ ذات صلة بالآخَرِين؛ إذ إن ما حطَّم فولسطاف كان حُبه الأبوي للأمير هال حبًّا يائسًا وفي غير محله. ويموت هاملت في الفصل الخامس الذي تَجاوَز فيه جميع هوياته السابقة في المسرحية. ومن ثَمَّ فإن فولسطاف ليس من «حمقى الزمن» بل من «حمقى الحُب»، وأما هاملت فلا يمكن اعتباره إلا ضَحِيَّة ذاته أو من «حمقى الذات» فقد حلَّ مَحل بديل والده، المُهرِّج يوريك. ومن المناسب أن الشخصيتين المتضادتين، لير وإدموند، يوحي كِلاهُما بصورة العجلة، وإن كان ذلك يحقق آثارًا وأغراضًا متضادة. إن مسرحيات شيكسبير عَجَلة حياتنا كلها، وهي تُعلِّمنا أن نعرف إن كنا من حَمْقى الزمن، أو من حمقى الحب، أو من حمقى الحظ، أو من حمقى الوالدين أو من حمقى أنفسنا.